ماري طوق
(لبنان)

لماذا يصر الشاعر على تقشير كل المعاني من دون أن يرى قشرة واحدة في الفراغ؟ لماذا الإصرار على التعري الكامل والاحتفاظ في الوقت نفسه بالملابس كلها كالرسام الذي لا يجرؤ ان يرمي قوارير إصباغه الفارغة التي لا تُحصى أو ريشاته؟

"لا نرمي نواة
مرة بين قلبين ولا نلقي
قشوراً في الفراغ، فما يطلع من
خطأ صغير ليس شعرة
الحذر ولكن لسان اللاشيء
نتجنب أيضا ان نلقي قشوراً في
الفراغ فلا بد ان شراً يحصل عندما
ترمي حماقة كبيرة في خطأ "مجهول".

يخترق الشاعر نواحي المكان لينفذ الى الأشياء، يعرّيها كما يعرّي الأحاسيس، يلهو بها كما يلهو بالمعاني، يقشّرها كبرتقالة ثم يدخل سكينه الى قلبها متتبعاً آثارها الدامية في داخله، يبذر من حوله التفاصيل البسيطة لتنبسط رؤياه الى حد الملحمي.

لا نستطيع أن نعرف حقاً الحدود بين "المرثية السميكة" أو ان نتخلص من "أيدي الملهاة الكثيرة" أو ان نصمّ آذاننا عن سماع "بوق" "الملحمة"، ولا نعرف إن كان الشعر يصوغ "الكوميديا الألهية" الخاصة به. ولا نستطيع ان نعرف أيضا أين تبدأ الأحاسيس وأين تنتهي الأشياء ولا العكس. أو قد نشعر ان هناك فصلاً بين النفسي والانفعالي والحسيّ كما بين الحياتي والشعري، من دونه لا يمكن هذه الحياة ان تتابع رغم الصلب الدائم الذي يحدثه مثل هذا الفصل، وهذا الفصل - الربط هو في أساس اللجوء المتكرر الى الصور التي خلقتها عين أخرى أو يد أخرى، لا فرق، مما يجعل القصائد متقطعة أو متصالبة بالاحرى مع عوالم فنية بصرية وحافلة بالتلميحات، متنوعة في نبراتها رغم السمفونيا الوحيدة التي تعزفها. إذ ان غنائيتها من نوع آخر (مع ابقائها بعض النغمات المألوفة) من دون انتحاب أو رثاء مستعطف. فقط تتبع آثار أو بصمات أو علامات (وهي سيئة غالباً) أو كلمات والإشارة الى معانيها مثلما تدل الإصبع الى القلب المجروح النازف. الإشارة فقط ولا اي استحضار عاطفي أكثر من الإشارة لأن الشاعر متيقن تماماً (وإن كان اليقين أمرا صعباً لديه) من ان هذه هي الضريبة الغامضة التي يجب تسديدها للقدر. الخطأ مجهول و"الشر" حاصل لا بد، كما حصل في ديوان آخر:

"لا علامة أخرى
أصابعي مملوكة وما يجب سداده
لا أستطيع ان أدفعه من
بياض عيني
إذ لا يدري أحد من خنق هذه الشعرة
التي هي يوم طويل من حياة عباس بيضون
ولا من نفخ الشر
في عقدة الحاجبين". (من "لمريض هو الأمل")

إنه الشعور الكامل بعدم الأمان، بالشر الذي يمكن ان يحدثه حاجب أو دبوس أو مشبك، بالوسواس الذي يخلق من دون سبب ويجعل الحياة شعوذة كاملة والصور طلاسم:

"شعراء
البرد تدثروا بالأوراق، لكننا لن
نضع قناعاً حياً ولا
نتدفأ بقفازات حية، وإن
كان الثمن حباً كاملاً".

أي ضريبة يسددها الشاعر للقدر إن لم تكن القدرة على تحمل الصلب وتقبل الحقائق الأكثر رعباً وإيلاماً وكذباً ("حشروا حقيقتهم وهم يصارعون أكاذيبهم")، لأن كل شيء كاذب (وهذا لا يمنع العذاب الذي يحدثه فينا) وهذه الحياة ليست حية بل تتظاهر بالحياة، ومع ذلك نجعلها حقيقية بدم الكلمات، نكدس قشورها ولبابها القاتمة لنحظى بالنواة اي الحب.
وأيّ نواة:

"الحب ثمرة من الصحراء ومعناه
يقسو كالنواة التي لا
تعطش ولا تنكسر".

لا يختلف الحب في هذا كثيراً عن حالاته السابقة إلا ربما في نبرة المتكلم والتلون الفيزيائي الكثيف للعاطفية الغرامية (إن كان يصح التعبير). ثمة ثلاثية جديدة في نبرة المتكلم: صوت الشاعر والشاعر الذي تحول ضميراً غائباً والمرأة المخاطبة:

"أنفاسك تبحث عنه لكن
يحزنه أكثر أن لا
يلمس رموشك ان لا
تكوني ورقة شافية
أنفاسك تبحث عنه ولا
يستطيع ان يتخطى خفقة قلبه التي قد
تتحول مع ذلك
الى قبضة".

لكأن الشاعر انفصل عن الغنائية المألوفة التي تربط الأنا بالأنتِ، أو لكأنه لم يعد قادراً على تحمل نفسه ويحتاج الى خلاص ما من غصات الحب عبر الازدواج (أو انه نوع آخر من فقدان الصبر الذي صار جنونياً)، هذا الازدواج يقابله أو يدحضه تمثّل كامل للأخرى، اي المرأة، امتلاء بها، متنصت الى أغفل تفاصيل الجسد:

"أسمع الوردة تصفر في قلبي
أدخل جلدك
أسمع الدم يصفر في شرياني
أسمع غرغرة بلعومك
ووجع أسنانك
ولا أغفو
من تكات رأسك
أجني صمغ أذنيك
وثمرة لعابك
وسواداً كثيراً من حلقك
اترك قميصي تحت جلدك
بصلتي تحت قلبك
ادخل في هليونك...".
لكن هذا كله لا يفضي الى شيء:
"لكن لا أصيب... "لا أتقدم"... "لا أنجو".

عاطفية الشاعر نفي دائم. "لا" دائمة. ورغم الوليمة التي يندفع إليها الشاعر بكليته ليأكل الحب "لأن الحب شيء يؤكل كما الجمال"، يبقى الحب نواة عصية لا تؤكل ولا تنكسر. يخترق الشاعر بعاطفيته الفيزيائية عوالم الحب، ليصف بطلانها، يتقبل الحب حتى آخر قطرة ويسكر ويصبح مدمناً. لكن ليتطهر منه. إنه السُكر الذي يشفي من تسمم السكر أو بالاحرى يزيل تسممه من دون ان يشفيه. ننتزع سر الحب لنتطهر منه في نزوع الى سلام معدم مستحيل لأن كل شيء مؤلم، كل شيء. نتلطخ بوحل الحب، "يدانا متسختان به، لكننا تركنا الوحل وراءنا"، كما يقول سانغينتي. لا يُستجاب الحب، لكن الحب غير المستجاب ليس كما لدى ريلكه شعلة لا تنطفئ وعذاباً مباركاً واحتفالاً بالحياة مبهجاً ومحرراً. انه احتفال المصلوب على نفسه، يغني أورفيوس لكن عازفاً على ضلع واحدة ويرسل ملاك الحب الأقواس لكن لترتد عليه:

"إذ نفضّل غالباً مفردة لا تنقسم، لكن
الحب يتعذب لأجل ذلك، والرغبة
التي لا تلاقي جسداً ولا تعرف
سوى مخيلة السهم
المرتدّ والضلع المخلوع".
أو:
"يمكنك ان ترى ذلك
على دينار ذهبي إذ الملكة
غالباً على الوجه الثاني
يمكنك ان تلعب أيضا على سلامياتك
وبياض عينيك أو ان تعزف
دون جدوى
على ضلع أملس".

غريبة قيثارة أورفيوس هذه وأغرب منها قوانين الحب حيث رحمة المعشوقة تكسر القوائم ورقتها تطيّر العصفور العاشق فزعاً وتجفله. الرحمة والرقة مضللتان كما الشعوذة ولا تستطيع المرأة ان تسمّي الشاعر ولا ان تفك بالتسمية السحر الأسود. يبقى عملاق الحب داخل قمقمه، ملكاً متوجاً على مملكة الأرق وحظائر اليأس. الجسد دون معلّم كالمطرقة دون معلّم، لا نستطيع أن نحدس أو نتحكم برعونة ضرباتها أو قسوتها أو عنفها. تضرب في كل مكان ولا تصيب شيئاً إلا جدرانها السميكة وليس لها أن تحطم أقفال القدر.
الجسد بلا معلم إن لم يكن العذاب ينزع في آخر ضرباته واختلاجاته الى موافاة العدم. لكن هذا النزوع لا يعدو هو أيضا ان يكون هو أيضا عذاباً. في قلب العدم ولا جدوى الأشياء كلها والأحاسيس، يبقى الوسواس مقلقاً ينتزع ورقة أخرى بظنونها ميتة من كتاب الحياة. تبقى الرغبة رغم ضآلة حاشتها تبث قلقاً حياً أي شغفاً يتابع تسديد ضرائبه:

"المعنى تحت أظافري
وما يولد في الراحة
ليس
كله عدماً".

ملحق النهار -الأحد 23 تشرين الثاني 2003

رجوع