وضاح يوسف الحلو
(لبنان)

غـمـوض له مـلامـح حـداثـة ثـانـيـة
اذا كان أعذب الشعر أكذبه فماذا نقول في مجموعة الشاعر عباس بيضون "الجسد بلا معلّم"(*). شعر ملء برديه الفتوة الخصبة، ومعه تتبادل الإعجاب العاطر، وتسقط في البلاغية الكبيرة والظليلة على أساس أن مرحلة شعر الحداثة الثانية لا تخضع لقوانين الانضباط كالأشجار المتراصة والعالية.
شعر مرحلة الحداثة الثانية ليس مجرد إفرازات عولمية لأن دعاة العولمة الشعرية يرون أن الاندماج بالعولمة لا يقتصر على اكتساب مهارات، وقدرات لغوية مثل تصميم البرامج وإجادة اللغات الأجنبية، وعلى الشعراء الذين يسعون إلى الإفادة من العولمة الشعرية، وجني ثمارها أن يندمجوا في منظومتها الثقافية.
والسؤال: هل أصبحنا أمام شعر كوني معولم مع الشاعر الصديق عباس بيضون؟
شعر عباس بيضون لا يرتبط بأي مكان ولا بأي زمان. انه تدفّق جمالي في لحمة متماسكة، وفي منهجية حيّة، لا يداجي مع تبدّل، وذو طبيعة تعبيرية سمحة، وتغيّر معان متسارع، يتقصّى الشاعر التعابير الجمالية، فكتابة الشعر في مرحلة الحداثة الثانية تزخر بتراكمات الصور المتزاحمة على أساس أن مرحلة الحداثة الثانية تشجع على مزيد من الكتابة الجميلة. ومن دون مبالغة، يعتبر شعر عباس بيضون أكثر إثارة للجدال وهو المنكب على تأصيل المفاهيم الجمالية ولو تحت ضغط الغموض، لأن الكلمة تسعى دائماً كمفردة إلى التواصل في عبارات ظمأى إلى المعنى. والسؤال: هل الغموض قدر جبري محتوم؟
بوصفه شاعر الثورة، كان "المستقبليّ" فلاديمير ماياكوفسكي ضد الغموض الجمالي في الفنون كافة. مع انه كتب شعراً غامضاً لصيقاً بالمتاهة لم يستسغه لينين، الكلاسيكي في إفراط. وحتى الحركات الدادائية المتنوعة كانت تعتبر نفسها واضحة حين كانت تكتب أو ترسم غموضاً. تلك كانت طفولة الفن في انسلاخه عن أمه الكلاسيكية. نحن اليوم مع الشعر، وتحديداً مع شعر عباس بيضون، في مرحلة الحداثة الثانية التي تسعى إلى ردم الفوارق بين الإحساسات البشرية لحركة الإنسان سواء في وعيه الكامل أو في غيبوبته اليقظة. يقول:

"الأفكار وحدها تقدر على
أن تبيت في
ملاءات قذرة حيث
بثّوا عدماً كبيراً
على القماش.
يا للسخرية، إذ نقف
مع مسوخ سحرية، لا تستطيع
أن تطير".

صحيح أننا في مرحلة الحداثة الثانية شعرياً، إلا أن ثقافة الممانعة الكونية تعمل على تذويب الخصوصيات والفوارق الثقافية وتسييلها بثقافة واحدة، هذا إن استطاعت. ليس سهلاً تحقيق ثقافة شعرية نمطية. ثمة جدار للكلمة تود أن تتخطاه إلى حالة التنوع. حتى طموح العولمة إلى ثقافة أحادية لن يتحقق.
"يشقلب" عباس بيضون العادي من الأحياء والأشياء للقبض على الإدهاش اللغوي من خلال دلالات تعبيرية خاصة إذ يترك الشاعر البيت الشعري مرتبطاً ببعضه لا من حيث المعنى بل من حيث المبنى. انه محاولة لكتابة الشعر في مرحلة الحداثة الثانية.
يقول الشاعر:

"ستلقي شايا أسود على تلك
الرحلة وتقول إنها
قصيرة وكثيفة كالدم. كرهنا
الشاي الذي يسوّد
سريعاً وتركنا
أزرار الاضاليا عائمة
في ماء الأطباق".

قصيدة عباس بيضون كأنها لا تبدأ ولا تنتهي. هي في تواصل مجنون. لا قيمة للعناوين. معاجم التعابير هي ما يسحر ويأخذ بالألباب. يُرجع التعبير إلى حسّه البدائي إذ يبغي الانفراد بالمفردة ليبثها لواعج الذات المرتبكة.
تحت مظلة ستة وثلاثين عنواناً في مجموعته الشعرية التي يقول عنها "إنني مدين لرينيه شار صاحب [المطرقة بلا معلّم] (...)" ولبيضون عشر مجموعات شعرية ورواية عنوانها "تحليل دم".

رجوع