تتسم قصائد مجموعة الشاعر اللبناني عباس بيضون "الجسد بلا معلم" بنوع من الحياة يسري خفيا في كل شيء سريان النسغ في النبات ويحمل معه لفحة دائمة من الحزن.
إنها سمة تبدو لنا في الوهلة الأولى "إحيائية" تشبه العامل المحرك الذي يزرع الحياة في ما يتصوره من الأشياء لكنها سرعان ما تظهر لنا في شكل آخر لعل الشاعر قصده.. أي في صورة قوة كاشفة عن حقيقة أساسية هي أن "الأشياء" تضج بالحياة شرط أن تكون للإنسان أذان للسمع وعينان للأبصار وان الحزن قد لا يكون عدمياً وحشياً بل "اخطر" من ذلك أكثر هدوءا إذ يتحول إلى صفة ملازمة للحياة المستمرة.
وفي شعر بيضون إذن مناخ دائم تعبق فيه رائحة الرحيل والوداع وألوان الأفول حتى في اللحظات التي تبدو مفعمة بشيء من الراحة.. فالسعادة فيها طائر مطارد يحط للحظة كالوهم ثم يولي هاربا.
ويبدو شعر بيضون هنا حالة "غريبة" زئبقية تخلو من الملامح "المحلية" الجغرافي منها واليومي العادي و"التعبيري" في غالب الأحيان فكأنه ليس ذا علاقة بمكان محدد خاصة في عالمنا العربي.
انه غالبا ما ينتمي إلى عالم فكرة أو عالم عمل فني فكان موطنه الإنسان نفسه وتجاربه التي تمور الحياة. ومع أن في القصائد خيوطا يمكن أن ترد إلى تجارب وتيارات فكرية وفنية وأدبية غربية فتطل أحيانا بوجوه منها الرمزي ومنها ما هو فوق الواقعي.. فيكاد يبدو لك أن في عمق هذا النسغ المستتر كثيرا من الصوفية الشرقية التي يتشكل منها ومن خيوط التجارب الغربية تلك نسيج غريب بمعنى الغرابة التي كثيرا ما أطلقت على أعمال فنية ليست من تلك التي تدخل ضمن التيار العام السائد.
وقد صدرت المجموعة عن دار "الآداب" في 95صفحة. يقول عباس بيضون المسؤول عن القسم الثقافي في صحيفة "السفير" اللبنانية والذي صدرت له حتى الآن عشر مجموعات شعرية ورواية بعنوان "تحليل دم" إن عنوان المجموعة أي الجسد بلا معلم "مدين لرينيه شار صاحب المطرقة بلا معلم".
المقدمة التي كتبها بيضون جاءت معبرة عن كثير من أجواء المجموعة. في كلمات شعرية قليلة قال "لن ابقي طويلا هنا لكن جميل أن تأتي".
اولى القصائد التي تبدو كأنها قصيدة طويلة واحدة ..حملت عنوانا هو "عاريات صالة الشتاء" في جو أعمال الفنان الفرنسي اريستيد مايول.
وجاء فيها "أوراق كثيرة يظنونها ميتة لأنها.. لم تسقط من السماء.. الأشجار العالية لا تلد نجوما.. بهذا الحجم.. كذلك كنت ارتجف أمام تمثال لمايول.. قائلا في سري ..هكذا يفعلون بورقة.. جميلة يظنونها ميتة. لقد جعلوا أجسادا خالية من الرغبة غير قادرة على أن تؤذي نفسها. لا يصح.. مع ذلك أن نخلط بين الأشجار والثريات بين النفوس الميتة وعاريات صالة الشتاء".
وفي الأجواء نفسها وتحت عنوان هو "أغنية الخمس بنات وفتيات الزقاق" يقول الشاعر مستقرئا بعض موحيات العمل الفني وصولا منه إلى الحياة نفسها "إلى لعبة الوجود والمشاعر التي تدفعها بعيدا رياح الرحيل.. أوراق كأخمص القدم أو الراحة.. المكفوفة لكنها أيضا وجوه كاملة.. القطرات كاملة في ضمير الجو ولا تسمع.. أنها اللحظة التي تتم فيها قصص.. وذكريات قبل أن تنفصل المعزوفة أما هذا الحب فيتعذب على الغصن.. دون أن يعرف كيف يتم".
وفي "بابا بيكون" يستطرد في الأجواء نفسها إلى القول "الأفكار وحدها تقدر على.. أن تبيت في.. ملاءات قذرة حيث بثوا عدما كثيرا على القماش.. يا للسخرية إذ نقف مع مسوخ سحرية لا تستطيع ان تطير فثمة اطراف ملائكية.. ننتقل بها لكن اللوحة بلا هواء".
وفي قصيدة اخرى تحمل ايضا عنوانا هو "ورقة جميلة يظنونها ميتة" تداخل بين الحياة والعمل الفني فكأنهما واحد بوجهين. يقول "شعراء البرد تدثروا بالأوراق لكننا لن نضع قناعا حيا.. ولا نتدفأ بقفازات حية وان كان الثمن حباً كاملاً. حياة المرثية طويلة والقطارات.. تحيي البرد بنفخة جميلة قبل ان تتقدم والنهايات تتلاعب خلفنا".
في "انفاس" يقول "يفضل.. ان يريح عينيه.. ان ينام كالنواة.. ان يتركهم يقصون الأجزاء الطرية من روحه.. اذ الحب ثمرة من الصحراء ومعناه.. يقسو كالنواة التي لا تعطش ولا تنكسر".
في "المنامات خفيفة آخر الشتاء" جو شتائي حزين في جردة حساب للعمر والاحلام والخيبات وفي رواقية صافية. يقول "المنامات خفيفة آخر الشتاء.. بعينين عاليتين لا نتعب من الوضوح ولا الارق فوق ونقول.. هكذا نشفى من خسارة قديمة.. هكذا نغفر بدون اهتمام.. آخر الشتاء نسهر هذه الليلة مع القدر وحده.. وننتظره على كتاب مفتوح".
قصيدة "الارق" مسكونة بأسى شفاف وجميل تعزيته انه يرتبط بفكرة عظيمة كما يقول "ايها المساء الجميل لتكن خفيفا علينا اذ النوم القرير.. قرب فكرة عظيمة هو وحده تسلية الشتاء بملابس كاملة على الاريكة نخدع.. هكذا بابا مواربا ينتظر ان تغلقه.. ايد امينة ولا ندخل الى الحجرة الفاغرة من عين الحوت.. او نصارع في ثيابنا ذلك الشيء الذي لن يخرج من اذاننا.. قبل وقت طويل اذ لا يمكن بالعادة ان نلين شكا مفترسا او نمنع اذى الاشياء التي جعلها.. الارق اكثر عدائية".
وفي "صليب العينين" يقول "لكن القلق.. بلا لون واذ تتنفس العينان قد لا يكون ذلك سوى حرير.. الوحشة اللماع". ومن قصيدة "اكذوبة بيضاء" يقول "الشمس موعدنا ولا نعرف ماذا تجمع الآن.. لقاء غرباء ولا نسأل لماذا.. يسوق العشق نفوسا.. حرة ويتركها تتفرق تحت المطر الغزير".
جريدة الرياض- الاثنين 29 رمضان 1424العدد 12939 السنة
رجوع