(يوميات برلينية)

عباس بيضون

أمور لا تقال بلغتين

1

تبدأ بمصادقة الدببة المجسمة على الأرصفة. إنها لا تتكلم الألمانية وتظن أنك تستطيع أن تترك غابتك مثلها. لن تفهم أنها
برلينات صغيرة ولن يساعدك الغيم الثقيل على أن تفهم. ثمة
أمور لا تقال بلغتين ه لن يفهموك إذا قلت انك أكلت ذاكرتك تقريبا
وتدفأت على النار التي أشعلتها في جمجمتك.
لن تفهم أنت لماذا ترغب في لمس الدببة، لماذا تحترق راحتك
بتلك الحاجة إلى اللمس، لماذا عليك أن لا تترك بصمات هنا.
ثمة أمور لا تقال بلغتين.

سوء تفاهم صحيح

2

لا تفهم الساقية ماذا تقول، تريد أن تطلب تارت تفاح لكن كلمة
التفاحة تبقى عالقة في زورك. تخشى أن تكون بصقتها في
وجهها، هناك سوء تفاهمات كثيرة لكن احدها لا يغدو مؤذيا. هذه
الكلمة لا تسقط في إذنها بل على الأرض، تسمع رنينها وتقول
إنها كالنقود النحاسية في جيبك لا تجروء على أن ترميها،
كالقشور المحنطة في غرفتك ولا تستطيع أن تخفيها عن
الخادمة. سوء تفاهمات كثيرة مع الساقية لكن في النهاية سوء
تفاهم واحد صحيح ويصل تارت التفاح.

كلمات زائدة

3

أوحلت السماء، تفكر أن الرائحة المحبوسة لا بد ستهرب من
البراد، إن عليك أن تحمل عارك بعيدا عن الغرفة. تقول بأي
سرعة تتكوم الصحف. لماذا وضعت طعاما على طاولة
الكومبيوتر؟ حيث على أسوأ الأفكار أن لا تترك اثر)؟
إنهم يعرفونك من قمامتك ونحن لا نملك سر) أمام الخادمات.
السماء أوحلت وهكذا يمكنك أن تهرب بجريمتك. الطبيعة تترك
بلا خجل قذارتها على الطريق، السماء تبصق بلا احتياط.
تستطيع أن تدفن بلا حرج قميصك الوسخ لكنك لا تقدر على أن
تتحرر من كلمة غير مناسبة.
أوراق كثيرة على الأرض، حتى لغتك تترك بقايا، ليس خ! إن
نثرتها. لكن الخادمة من بين كل الأشياء المرمية تعيد كل
كلماتك المكروهة.
على العكس ستجد فوق سريرك نقودك الصغيرة وبطاقاتك.
وحدك عليك أن تغرقها.
ثم أن أحدا لن يعرف أنك وضعت كلمات كثيرة زائدة قي
قصائدك. المعاني المسروقة بعناية، والتي كبدتك رحلات
طويلة، ضائعة بينها. هناك أيضا الطفيليات المتسللة من
حقول جيرانك، عليك وحدك أن تغرقها.

كلمة عربية

4

للخادمة اسم أخر بالألمانية لا اعرفه: هي بالتأكيد تقول عن
قمامتي إنها لغة لا تعرفها.
حين أرى الأوراق الصغيرة تتطاير فوقي أقول ما جدوى أن
تفهم. ما جدوى أن اسمع كلمة عربية في هذا المطر الذي يُسمع
بكل اللغات.

تعال إلى سريري

5

يصلني في الكومبيوتر"تعال إلى سريري "، اترك الشاشة
مضيئة وأفكر في أوراق الخريف التي تتطاير من دون أن تنتهي
الرسالة وبدون أن ينتهي المطر من توصيلها.
جملة الخريف التي لا تنتهي ستقع كلها في ليلة واحدة
وسيكون ذلك أكثر من فهمنا. إنها الحرية القاسية وعلى المرء أن
لا ينظر إلى بصاقه أو إلى بقايا لذته.
الحرية القاسية، ستسمع في لحظة دعوة الريح.
يجري نفض النهار من قشور جرائد كثيرة وغابة، كومة على
الأرصفة، فيما الطعام الذي تحجر في صحنك ينبئ عن ليال
كثيرة بلا متعة، فضلا عن تلك الدعوة التي قتلت اوفيليا "تعال
إلى سريري ".

معطف غوغول

6

أتجول بمعطف غوغول بدون أن اتعب من قراءة الجسور، اسمع
شبح أوروبا القارص يعدو بفشخاته الكبيرة عبر الجليد. إنها
الحرية القاسية مع برد كاف دائما. هكذا تنظر بمسؤولية إلى
جلد الأشجار ليلة البارحة مع الثقل المتزايد لقدميك في الحذاء،
هكذا تفكر بمسؤولية بالقمامة التي هي سجل الخريف. بالوحل
الذي هو تاريخ الغيوم، لا تخف من الشبح الذي يطالب بمعطفك.
انه متجلد غالبا وعليك أنت أن تفكر بالموت كجنرال ألماني
يضع الآن عينه الزرقاء على الطاولة، ويرحل بساق عرجاء، إنها
الحرية القاسية.

إعلان

7

"تعال إلى سريري" دعوة مفتوحة في إعلان مع امرأة راقدة
وتلزمك ورقة شجر حمراء للدخول إلى سريرها.
ستكون يدك المثلوجة حيوانها القارض وستدس بأسنان
صغيرة ورقة تحت سوتيانها. بمخالب صغيرة ورقة تحت مطاط
سروالها. !
إعلان عن مغطس مع جسد متنمل وفمك المثلوج سيعب نماله
من الإبط تاركا جذورا وورقة شجر مأكولة فوق الماء.
"تعال إلى سريري "، ستضع صدرك البارد. فكرتك الباردة
على النهد وستسمع حسه وهو ينطبق، تنطفئ شاشة
الكومبيوتر وستسمع حسها وهي تنطبق.
ثمة إغراء حين تضع الورقة على جرح صدرك، حين تحلم
بأنك تق عها مجددا في المرأة أو أنها فقدتها حقيقة في بؤبؤ
جسدها.

كونسرت شتوكهاوزن

8

شتوكهاوزن ملأك كهربائي، يطير بيديه مسافة قصيرة إلى
الطاولة، مسافة قصيرة إلى الكرىسي ناقلا كتابا اسود تحت إبطه
وتقول انه لا يحتاج إلى مصباح ويستطيع أن يطير بجناح واحد.
وتقول أنهم يصطدمون بشيء أثناء المشي وأثناء الطيران.

يصطدمون بشيء أثناء الكلام إذا لم يصفر بلا معنى في
الحنجرة. شتوكهاوزن يطير بقدميه إنهما معاقتان تقريبا لكنه
يرتفع بما يكفي لنرى انه لا يحتاج إلى جرس ويستطيع أن
يطير بجناح واحد.
إن كان لا يقدر أن يغني بلا آلة فلا بأس ما دام ليس عصفورا.
يخيفنا أكثر ذلك الملاك الذي لم يصرخ في قصيدة ريلكه. يمكننا
أن نتحدث هكذا عن ملأئكة لا تطير ولا تغني وربما هي مقطوعة الأرجل في قاع الكنيسة.
لا شك أن هناك صوتا مستقبليا للندم والجريمة، علينا أن
نرحل خارج الزمن لنسمع الصوت المخيف والهالك للحب
البشري.
شتوكهاوزن يحرك مجموعاته على ارض الكنيسة. إنها نمال
كهربائية لكنها خرجت من القبو اللاتيني حاملة أبواق الدفلى.
ستتحرك ببطء لكننا نسمع كل حين الأصوات الطائرة تنزلق
عن جدار الزمن أو تصطدم بالقبر اللاتيني.
عملية تعذيب لا ندري أين تحصل، ربما هي الأشجار العارية
تجلد ثانية في الليل.

برودة

9

أغري امرأة بجرح في الصدر، بجرح في الساق واستدرجها
بأصبع مكسور إلى سريري، من الرائع لها أن تكون رخاماً وأن أدس إصبعي في فجوة أذنها. من الرائع أن إلا تتأثر برودتها
بيدي. وان تسري نعومتها الرخامية في جلدي ثم تعلقنني
بنظرة عينيا الزجاجية.
في النهاية نحن لا نتألم لكن ننام متعانقين وعاريين مع جرح.

جنرالى الشتاء

10

لن تبقى طويلا وسط الأشجار العسلية والصهباء.
لن تتأخر كثيرا في قفا النهار حيث الضوء المعكوس والمعلق
ساهر كذاكرة لا تنام. لن تبقى طويلا في العين نصف المطبقة
للأفق حيث كل شيء باكر دائما وقبل ولادته في العين نصف المفتوحة للشارع حيث كلى شيء بعيد قليلا وتسبقه نظرته.
حيث تجد دائما عينا فوق عينك. قلبا فوق قلبك عبر زجاج
السماء وسطح البحيرة وسياج الأشجار.
لن تبقى حيث جنرال الشتاء الأوروبي الخارج من قبره يصفر
شبحه بين الغابات. لن تبقى طويلا هنا.

نافذة في قطار

11

انظر إلى العالم من نافذة في قطار.
الشارع يصفر أمامي وأنا أرى كل شيء بدوني. الغابة ستهرب
أمامي وأنا أرى كل شيء بدوني.
في اللحظة ذاتها اختفي كمن يخرج من حلم. لا اصدق كل هذه
الأشجار، اتركها بلا تفكير تمر.
ارثي للعصافير التي غابت عن كل الشجر وأقول أكيد أن ألماً
سابقا لا يزال في الجو، وعلينا أن ننتبه حين تدهمنا أفكار سيئة.
قد تكون هناك حياة ما في الجرح ويمكن أن تتجدد بسبب البرد.
التذكر يتم بصعوبة تثير حنقا وربما يكون هذا سببا في عودة الاشباح إلى المدن.
افكو فجأة بأنني نم اهتم كفاية بموت أمي وأقول أن هذا عائد لوجع يدي. وأن هنالك أفكار غريبة بدأت مع جرح صدري
القطار يتجاوز النقطة الحساسة واستيقظ من كابوس السفر
بلا جواز او فقدان تذكرة السفر لحظة وصول الطائرة.

بطاقة

12

لمذا اخجل امام بوابة براندبورغ؟ افكر أن عليّ ان ابرز شيئاً
للتاريخ، أن جرحا في الصدر قد يكفي لكني لا اقدم ذلك للسائق
بالطبع. علّي فقط ان اخجل من الصعود إلى الحافلة أو اجلس
متلبكا كمن فقد بطاقته، ربما احتج بان ذلك غير مفهوم في لغتي
او اتخلص من جرحي إذا بقيت اتحسس في جيبي البطاقة
الضائعة واقدم خجلي لمفتشي القطار.

بقعة نبيذ

13

انها بقعة قوية. كلما غسلتها تجددت اكثر وانتشرت.
تعيش الأخطاء طويلا هنا وتترك بقعا اكبر. ثم انها طريقة
سيئة لصـناعة الذكريات ان ندس ايدينا في كل شيء.
يفعل النبيذ اقوى من ذلك، تقول الخادمة، إذا لم ننتبه ولا
يكفي ان تخاف من بقعة وسيكون قصدك اسوأ إذا حاولت ان
تخفيها.
ستبقى وراءك في هذا المكان الذي يسامحونك فيه على كل
شيئ ولا يغسلون كل بقعة.
ستبقى لبعدك ولا تعرف ماذا ستروي عنك للقادمين، سوى انك
لا تعرف متى تقلب الكاس سهوا اوتتحول حياتك إلى خطا كبير متى تفضل هنا إلى الأبد كبقعة في غرفة.
ربما لن تفهم ايضا انك تركت بقعا في كل مكان، ان افكارك
تلطخ اكثر من نبيذك. على صدرك بقعة الجرح التي تمتد اكثر
في جلدك ومهما ابتعدت فإن حياتك تستمر مكشوفة ومشبوهة
هنا.

حديقة ميشائيل

14

زرع ميشائيل في حديقته جزءا من جدار برلين نسي نفسه
في اللعب مع باولا والكلب الكفيف فلم يعد يتذكر. لم يحن أوان
دفنه بعد وترك لموسم أخر. ستكبر باولا وتغدو قادرة على ان
تطل من فوقه. سيرقد الكلب العجوز تحته، مع ذلك، يمكن ان يبدأ الجدار من كل بيت، فثمة دائما قطعة منه في الداخل. ميشائيل يمشي على آثاره في السيارة بصحبة كلبه و في أحيان
يغمض عينيه في كنبته ويمشي بالذاكرة لكن الجدار يسير
فجأة في ذاكرته ويقطعها نصفين.
يكون ذلك شيقا كاللعب بالمقص ورؤية الاشياء تتطاير من
جانبيه.
تكون شيقة رؤية الشيء نفسه من الجهتين، لكننا لا نقدر ان
نقطع اللغة بالسهولة نفسها، افضل ان نبنيها كجدار في
ذاكرتنا، افضل ان نلعب اكثر تحت الجدار فعمل الذاكرة الوحيد
هو النسيان.

صديقي بريخت

15

صديقي بريخت يجلس على كراس امبراطورية وينام في سرير ضيق ويرتدي زيا بروليتاريا بأقمشة غالية. لقد احسن ان يجلس وان يلبس وان ينام. احسن كل شيء تقريبا وليس مطالبا بأن ي!. م اي تضحية اخرى في هذا المكان الذممما لا نسمع فيه بيانو؟ لا يبتسم احد وليس الا الضحكة التي تصرص من تحت اسنان آلاته الكاتبة. كالنوا جميعا عمالا لا مغنين وما، الصعب معرا/ !ة من كان ربعه طووأ او الههم. لكنهم دخلوا باريائهم البرود لما!ية ليقوموالبا! ثمل ال!!ا اهماله ال! الو!!ا! فلأ!ممفلا! ا!طأش !، 11 تي حمال!ها كانت الدلساللأ الوحيدة ايتي يعر!ونها والسئدان اله ي جلبوه رفعوه إلى رأس الحكمة. كان علمهع! صفائح والر لاكا صبوا منها الالعاب التي صارت فيما بعد وحوشا. مع ذلك، ننسسى ان البروليق! اريين دخلوا 5 رة التاريخ. ان الحكماء الذين كانوا ايضا حواة وكهنة اوصلوا الا طرقة إلى راس المعبد.
صديقي بريخت ينام حرا تحت حجرتين تذكاريتين لقد ا حسن ا لرقاد.

لا تقل وداعأ مرتين

16

يا تقل وداعا مرتين.
لن تؤخرك موسيقى الردهة عن ان تغادر.
الصباح رصاصي وشفاف ولن تنتظر حتي يتسخ
الموسيقى عاليه فلأتلكلم كقيصملى
لن تصيح ايتها المدينة التيم غدرتني
وتختفي تحت عباءتك في الليل
اشرفي فنجانا كبيرا تحية للمكان
وضع مفتاحك الصغير على النافذة
لن ترجع إلى الردهة
فتجد الموسيقى اياها مستمرة
لن تحض بعناق أخر
ولن يستعيدك احد
كما يفعلون بالموسيقيين
بعد الأمسية
هنا لا نكرر امورا تقتل
ولا نسثم للنسيان
اشياء لايقوم بها عادة
لن تكون شبح البحيرة ولا المعهد
يمكنك فقط ان تودع الشباب
بإطلألة نبيلة من النافذة
وبلأ حداد
ولا بأص إذا امتلأ الخريف
برغبات مماثلة
او امتل! وجه البحيرة نفسه
بالدموع
يمكنك ان تلقى خجلك
في قطار غرنفالد
امام حائط لرلين\
او لودع لمسك
لكنك لن تلكلم كقيصر
لن تصيح ايتها المدينة التي غدرتني
وتختفي تحت عباءتك في الليل
لاتقل ود (عا مرتين

شهوة لم تتحقق

17

الاوراق التي تحمر بشدة قبل ان تسقط والرغبات التي تلتهب دوون ان تقع، نحكها في جلودنا فيما برد الخريف يتنفس في نسيج قمصاننا. نرى الأكوام لكننا لا نستطيع ان نرمي هكذا لذتنا في الشارع، نتعذب فقط من اجل الرماد الكثيف الذي سال من شهوة لم تتحقق.

 

طائرة كيفير
Kiefer

18

لا نعرف كيف عوجت طائرة كيفير ((Kiefer جناحيها
ووصلت هكذا كجندي بلأ اشلىطة ولا شوارب، لا بد انها سقطت
مرار) او كانت هدفا سهلأ للقناصين، لا بد انها تسولت بعد
الحرب ووقفت على ذيلها او رأسها مرارا لتسلية الاطفال. لقد
فعلت اشياء متعبة وسخيفة لذا انطعج انفها ورقدت تلهث كبجعة خال جة من مستنقع او حمال بلأ بردعة. نبت العشب على داخونها والكتب سكلى جناحيها فهل اشتغلت ايضا كمقبرة او ماوى. اكان افضل لها ان تمضي تقاعدها تحت جداربرلالن ام تبقى في الجيبة الداخلية لتاريخ المانيا.
الجنرالات يمضون تحت عباءاتهم إلى الغابات المطرية السوداء والحروب تحاصر مع مصابيحها الغازية في براويز او تطبق شكليها اسنان الكتب المتجهمة، لكن بويئ (ثالالاص!!) نصب المدفع الحجري على السكة وجلس ينتظرماذا سيدخل في قناته الملساء، من سيرقص بين الحجارة العارية، لاشيء سوى الهزائم التي انقذت انسانيته، سوى بالون اسود ارتفع من ارض المعركة. في نهاية الحريق تمكن الكتابة بلأ لون. يمكن ان نشهد كلشيهات مختصلىه لمدن لعبت بها النار.
صنع كيفيرجدارا هائلأ من الكتب وطائرة عجوزا، اما بويز ف!!فخ مدافع وجذوعاكبيرة طيلىهافي سماء برلين.

ساحة بوتسدام

19

الرعب ملأك في ساحة بوتسدام
القدرساعة فوق لنهـاحة بوتسدالم
قراصنة المستقبل ليسوا اولى من يصل إلى بوتسدام
النسيان يحملنا خطفا اسرع من اي سفينة مسروقة
النسيان بعد حداد طويل، بعد قصف نووي للذاكره
نصل بلأ راية إلى بوتسدام
تحت المظلة الاشباح القصديرية لمسافري الازمنة
الدخان الابيض لذواتنا في المحرقة
اللمعان القصديري المتنقل لغيابنا
الفكرة الميتة التي تحكم وتفكر على الزجاج
كلاب الجحيم لا تعوي في بوتسدام
الأبطال يولدون من امهاتهم فى بوتسدام
والجريمة بلأ اسنان في ساحة بوتسدام
سيكون القدربجناحين مقصوصين في بوتسدام
سيكون المستقبل بلأ ذنب ولا ألهة ولا موتى
في ساحة بوتسدام
نتألم بدون احساس في ساحة بوتسدام
نمكلم بدون لغة في بوتسدام
السعادة بائع في بوتسدام
الكر(هية بلأ شوكة في بوتسدام
والحب لايؤذي في بوتسدام
الاشياء لا تترك بقايا في بوتسدام
لا تعه ى في بوتسدام
الابطال لا يولدون من أمهاتهم في بوتسدام
الرعب ملأك في بوتسدام

محفورة غراس

20

التراب على وجه غونتر غراس والفئران الصغيرة تتحسس خده لكنه يحدجها بعينه الوحيدة ويصغي إلى شيء آخر، كان يعرف ان ليس لديه ما يخافه، لقد نزف كل مادته الرخوة والسائلة ولم يبق له سوى وجه الخشب الرائع هذا. كان يعرف ان عينه ليست سوى حدأة وان فمه تقريبا منشال.
الحشرات التي تسير على بشرته لا تأبه بأنفه الذي التهم ذات يوم فأرة ولا رأسه الذي يتحول احيانا إلى ثعبان. انه سلأم الخندقى وكل هذا الحوار الذي جرى على طاسة حديدية لن يؤذي احد،، نبت العشب على خد الجندي. هناك دائما حيوانات جديدة تستيقظ في مخيلة الضمير الالماني.

قد ر ا يمري كيرتس

21

مر (يمري كيرتس امام حجرة الغاز، رأى قدره هناك ولن يبصره !ثرة اخرى.
تسلم جسده بعد ذلك في معسكرات العمل وتعلم من !رح طويل في ساقه. عثر على حياته بالتقسيط. وجدها كل مرة مع شيء مختلف، كل مرة في معسكر مختلف.

كان قدره ينسحب امامه كحجرة الغاز وحياته تنسحب امامه كحجرة الغاز ولا يدركهما مع ان كل شيء كان مخبوءا له في حفرة ركبته والعلامات كلها في جسده.
قدره اثقل منه وحياته حفرة موازية لقلبه، لكنه سيضيع في الاقدار التائهة للذين ضاعت حياتهم في حجرة الغاز. سلكون حياته في الحفرة الموازية لقلبه، سيدوس عليها ولن يراها.
سيكون طريقَ عودة لصديق ميت او خارطة تركها معذبوه في الهولوكست. لن تجد قدرك يا ايميري كيرتس فلا تبحث في مكان آخر، بطاقتك تحت لسانك وحبلك في لوح كتفك فلا تبحث في مكان آخر.
لن تجدقدرك على طريق حيفا، تعلمْ من سخريتك ان لا تلقي لغزا على شيطان، ان لا تطرح جملة فتعود اليك حية تسعى.

تماثيل شايب

22

كائنات شايب الخشبية لن تلكلم في بطن المستودع الكبير كماتكلم بينوكيوفي بطن الحوت ولن يلفظها احد مثله من ظلمة الطابق الثلأثين إلى الشارع. لن تلكرر الضربة الرشيقة التي لمست جسده كريشة، فخشبيات شايب لن تشفى من الضربات السيئة التي تركتها بكماء إلى الابد، ولا من رغبتها المكبوتة في رد العدوان.
سيصاب النحات باللعنة ذاتها وسيتخشب شيء في روحه وعينه.
عنف يفوق الفن لذا يترك تشويهات شبه انسانية. من القسوة الزائدة على الاشياء يولد قبح يشبه طبيعة البشر. شيء كالألم او السفالة في كائنات شايب اوهوالألم نفسه بلغة اجن!بية.
لابد لها من ان تخسرعناصرخشبية كثيرة قبل ان تحظى بألسحنة المتهكمة والبلهاء التي على وءبه بينوكيو. لابد لها من ان تقوم بالرحلة نفسها إذا شاءت ان تخرج من فك المستودع. ان تصطدم بالحجروالماء وان تتعرض لتهريج هائل ولطخ من كل لون، لابد من ان تكسرج!رانا كثيرة قبل ان تصل وأنوفا على الجدران. خرج شايب في سيارته من شرق برلين إلى غربها. اما هر فكان عليها ان تتسلق وتحطم نفسها على الجدال.

المتحف اليهودي

23

الذكريات مرتبة في الكوى الزجاجية بعد ان تحررت من القسوة والحداد والاجباري، لكنك لن تجد وراء الباب اكثر من لعبة رعب. لن تسمع بسهولة عذاب اليهود من الوجوه المعدنية التي تملأ النفق. سيحركها احد ولن يدري انه بمجرد ان يفعل سيغدو شيطانا. سيكون طائشا وبريئا لكن الضجة الحديدية ستتعرف عليه وتدينه فورا. سينكشف توا كمشبوه امام القرقعة المدوية للذين اختنقوا في حجرات الغازى يقولون انه لنين مزعج لا اكثرلكنك تخشى مع ذلك ان تكون دخلت دون ان تدلي في ملف اسود او استدعيت بالخطأ إلى التاليخ. رنين مزعج اوتقليد السيء للقيامة لكنك لاتعرف متى تغدو متواطئا. ما دام هناك وراء الباب من يطلب منك، راكعا او مهددا،
ان تساعد في الخلأص. الوجوه تناديك ان تدوس عليها لكيم تتم المشيئة. ويقترب تحريرها، وراء الباب من يريد بالقوة ان يلبسك ثوبا مرقطا او قناعا، الشهود ماتوا ولم يعد هناك سوى الجلأدين المحتملين، القاتل دائما فئ المقابل. انه الذي ينظر إلى الرواق، او ربما هو الذي يقرأ خبر الاعدام في الصفحة المواجهة؟ قد يكون الشاعر الذى يلعب بكلمات احترقت او يجلدها لتتألم من جديد.
تمحي فورا امام خبر عن روندا او البوسنة او بغداد. إذا لم يكن عليك ان تلبس مخروط المعذب وتحرك الرنين المعدني الاجوف للمجازر التي جرى نسيانها. ستنكشف كمشبوه وحيد في المؤامرة التي ختمت بتاريخ اسود ولم يبق منها سوى نسخ زائفة.
إذا رأيت الجذوع الاسمنتية المائلة لن تخاف من سقوطها فأنت هنا لن تكون القاتل. لن تفزع إذا رأيت شيئا كالشعر البشري يخرج من رؤوسها، ستعلم عندئذ ان الصرخة التي تدين الجميع محبوسة في أسفلها.

ميزان شافت كوليك

24

يكفي ان تصير هنا لتستحق كل شيء.
لغتك ونقودك باطلة، حياتك صنعت في مكان آخر لكن تعال
ايها الغريب تعال وتستحق كل شيء.
لن يسألك احد عن اسمك، ان جرحا في صدرك يعني اكثر
بالتأكيد. مفتاح صغير سيعطيك كل هذه الابواب. لا تنظر اليه
حائرا كاللص، انه ليس اكثر من مفتاح صغير. لا تخف من هذه
القدرة ستنساها بعد وقت. النافذة تعطيك ايضا الخريف
والبحيرة. انك تملك كل شيء وعليك ان تعرف متى ترده.
الجمال يستمرطويلأ بعد ان نتوقف عن ان!تظاره. الكتب تبقى
طويلأ بعد ان ننساها. تعالى ايها الغريب يكفي ان تصير هنا
لتستحق كل شيء.

****

الحياة اليومية بين ثقافتين

الألماني ميشائيل كليبرغ / اللبناني عباس بيضون

(حوار قامت به إديت كريستا، لصحيفة دي تاغستسايتونغ البرلينية)


ما الجديد الذي تعرف عليه عباس بيضون خلال إقامته التي دامت ستة أسابيع بألمانيا؟

(عباس بيضون وميشائيل كليبرغ حوار مشترك)عباس بيضون: كانت إقامتي في برلين بمثابة مغامرة صغيرة. تعرفت على أشياء كثيرة لم أكن أعلم عنها شيئا من قبل. كانت مغامرة ذات طابع خاص. لقد تواءمت مع الناس وإيقاع الحياة والطقس. تعرفت على الحياة الثقافية والحياة اليومية. إضافة إلى التحاور والتناقش مع ميشائيل. كانت تلك خبرة شخصية طيبة. أنا أؤمن بالصدفة وقد كان لقائي بميشائيل صدفة طيبة.
لاريسا بندر ميشائيل كليبرغ: كان الأمر بالنسبة لي أيضا مغامرة. صحيح أن رؤيتي للأمور بوصفي كاتبا ألمانيا قد تعد رؤية مراقب من الخارج، نظرا لأنني قضيت 17 عاما من حياتي في الخارج وتعاملت طوال حياتي مع مثقفين أجانب أكثر من تعاملي مع المثقفين الألمان. لكن المشروع أثار اهتمامي لأنني أدرك الفائدة والإثراء الكامنين في مثل هذا التبادل. لقد اهتممت به في المقام الأول لأنني لا أعرف شيئا عن تاريخ وثقافة وأدب الشرق الأدنى والأوسط. لم يكن لدي في البدء سوى شكل من أشكال عدم المعرفة والرأي غير المكتمل ولم يكن ذلك شيئا شخصيا، لكنه نابع من ثقافتنا ومن موقعنا ومن تاريخنا: مُسلمات الثقافة المسيحية- اليهودية وطبعا مسألة المحرقة (الهولوكوست). كنت مهتما بالتعرف على وجهة نظر الثقافة العربية التي لا أعرفها.

هل يرى عباس بيضون اختلافا كبيرا بين الحياة اليومية في لبنان والحياة اليومية في ألمانيا؟

بيضون: تختلف الحياة اليومية لكل فرد عن الحياة اليومية للآخرين. تعكس وقائع الحياة اليومية الأفكار والقيم التي فرضت نفسها وهذا بالضبط هو مثار اهتمامي، أن أرى كيف يعيش كاتب ألماني.

كليبرغ: إنني أرى أن التعمق في شيء ما يتطلب أيضا التعرف على الحياة اليومية، فعالم الحياة اليومية هو مصدر كل فكرة وكل منطق. الحياة اليومية هي الأساس لكل تجربة أدبية. لا نتحدث هنا عن مفاهيم كبرى، كأن أشرح لعباس مثلا شيئا من هيغل، إنه يعرفه أفضل مني بكثير.

بيضون: لقد تعرفت على حياة ميشائيل في بيته، على زوجته وابنته الصغيرة وكلبه وحديقة بيته. كان ذلك مثيرا جدا بالنسبة لي، حتى على المستوى الأدبي. كان مهما أن أشهد طريقة حياة كاتب ألماني وأن أراه وهو يكتب. تحدثنا كثيرا عن التاريخ الألماني وأعتقد أن ميشائيل لديه موهبة إدخال التاريخ في أدبه. يعد التاريخ والأدب بالنسبة له وحدة لا تتجزأ. من خلاله تعرفت على التطور التاريخي لمدينة برلين عبر القرون واستطعت التعرف على رؤية كاتب ألماني للتاريخ وكيف يشكل من خلال هذه الرؤية نظرته للعالم. يرى كليبرغ التاريخ بوصفه حياة معاشة. يمنح التاريخ لعمله الأدبي رؤية عميقة.

ما الذي أدهش عباس بيضون؟

بيضون: كان من الطريف أن أعايش بشكل ملموس الصعوبات التي واجهت الوحدة الألمانية، كانت معرفتي بالأمر نظرية لكنني لم أتمكن من فهم ذلك على المستوى الواقعي الملموس. كان يهمني أن أعرف ما يقوله الألمان بهذا الصدد وكيف يدور الحوار حول هذا الموضوع. تحدثنا أيضا عن مشكلة الهوية الأوروبية ومشاكل الكتاب الشبان الألمان وهيمنة الثقافة الأمريكية في ألمانيا. وأنا أعرف كل هذه المشاكل جيدا وأستطيع من خلال المناقشات أن أعقد مقارنات. ما يحدث هنا، يحدث عندنا أيضا. هناك خبرات مشتركة. مثلا مسألة الهوية: العرب يبحثون عن هويتهم وربما قد وجد الألمان جزءا من هويتهم. تبين من خلال مناقشتنا أن ثمة إطار كوني يمكن النقاش على أساسه.

هل تغيرت نظرة ميشائيل كليبرغ للعالم العربي من خلال لقائه مع عباس بيضون؟

كليبرغ: نعم، لقد تشكلت لدي من خلال النقاشات مع عباس والمثقفين العرب صورة شاملة عن العالم العربي. ما فهمته عن العالم العربي هو أنه عالم تهزه التناقضات الرهيبة وأن العرب يبحثون عن هويتهم في ماض أسطوري. لكن تبين لي أيضا وجود طاقة ثقافية هائلة بالعالم العربي تحول المشكلات السياسية دون تحققها في الواقع. لكن هذه الطاقة تفتقد أيضا إلى الوعي بالذات.عبر عباس عن ذلك بصيغة جميلة: "ما يعوق العربي عن وعيه بذاته، هو وجود الغربي داخله." إن تغريب العالم العربي هو السبب في عدم وجود مشرع بنّاء ذي خصوصية عربية. وأنا أرى شيئا مناظرا لذلك في ألمانيا: لكي نتمكن من استيعاب أو قبول ثقافة أخرى، لا بد من توفر الثقة بالذات وهذا ما ينقصنا هنا في ألمانيا.

عندما يأتي ميشائيل كليبرغ في كانون الثاني (يناير) إلى لبنان لقضاء ستة أسابيع هناك، ما هي الأشياء أو الأماكن التي سيريها له عباس بيضون؟

بيضون: سنترك طبعا أشياء كثيرة للصدفة وللمسار اليومي للحياة.

دي تاغستسايتونغ – برلين- 12.02.2003

******

الحيوان الباكي: الشرق في الوجدان الغربي اليوم

كتاب يتناول انطباعات الكاتب ميشائيل كليبيرغ لأربعة أسابيع، قضاها في ضيافة الكاتب اللبناني عباس بيضون في بيروت، ضمن برنامج "الديوان الشرقي-الغربي" الذي نظمه معهد غوته. كما سنتعرف على أبرز المصاعب التي واجهت مترجم الكتاب
أربعة أسابيع قضاها الكاتب والمترجم الألماني ميشائيل كليبيرغ متجولاً في شوارع بيروت، في إطار برنامج "الديوان الشرقي الغربي" للتبادل الثقافي برعاية معهد غوته. كانت هذه الأسابيع الأربع حافلة بالذكريات واللقاءات التي شكلت مادة يوميات رحلته اللبنانية التي يتأمل فيها الكاتب الحالة الإنسانية عموماً ونفسه بشكل خاص. في إطار برنامج "الديوان الشرقي- الغربي"، الذي يقوم على التلاقي الأدبي، قام معهد غوته باعداد البرنامج الذي مكن أدباء عرب وألمان من العيش في بيئة الآخر ومحيطه الثقافي. وكان الجزء الأول من التلاقي زيارة الكاتب اللبناني عباس بيضون لبرلين في نهاية عام 2002 لعدة أسابيع، ليكون ضيف الشرق على الغرب. وعايش بيضون الحياة اليومية وطريقة تفكير مثقف ألماني، كان ميشائيل كليبيرغ نفسه. وفي المرحلة الثانية من البرنامج حل كليبيرغ ضيفاً على بيضون لمدة أربعة أسابيع ليسجل معايشاته وذكرياته في بيروت، التي شكلت المادة الأساسية للكتاب الذي أتى على شكل رواية عن رحلة، تدور أحداثها على مسرح خلفيته رؤى وأفكار متنوعة تتعلق بالسياسة وعلاقة الغرب بإسرائيل مروراً بمحارق النازيين لتنتهي بالحرب الأهلية.

المدينة البيضاء

BildunterschriftBildunterschrift : غلاف الطبعة الألمانية لكتاب "الحيوان الباكي" كليبيرغ لا يكتشف مشرقاً في بيروت، التي يطلق عليها تسمية "المدينة البيضاء"، بل يرى الغرب هناك. إذ يلتقي المرء في "جمهورية الأدب الغربية" بنفسه، فالكثير من الأدباء والمثقفين اللبنانيين يعرفون هيغل ونيتشه وغوته وغيرهم من أعلام الفكر الغربي، في حين يجهل فيه نظرائهم الألمان عادةً الكثير عن أعلام الثقافة المشرقية. وهو ما يعيبه عليهم.

المؤلف لا يروي لنا عن حياته في بيروت وعن سكانها وحيواناتها فحسب، بل يرسم لنا صوراً شخصية لصداقته بمضيفيه البيروتيين عباس بيضون ورشيد الضعيف بشكل يتسم بالراهنية والحضور. وهذا الوصف يتيح للقارئ الإطلال على الثقافتين الغربية والمشرقية لاستقاء ما يريده من تراث الثقافتين في مجالات الفلسفة والأدب. كما يتناول المؤلف استمرارية هذه الصداقة ولقاءه بالآخر وبعالم بيروت الغريب الذي يفتح أمام كليبيرغ باباً مؤدياً إلى الذات.

ترجمة الكتاب إلى العربية

(عماد م. غانم)

Bildunterschrift: Großansicht des Bildes mit der Bildunterschrift: الكاتب الألماني ميشائيل كليبيرغ: البحث عن مدخل إلى الذات

عماد م. غانمصدرت ترجمة عربية للكتاب مؤخراً عن دار كنعان بدمشق قام بها المترجم المصري سمير جريس، الذي تحدثنا معه عن المصاعب التي واجهها عند قيامه بترجمة الكتاب الحافل بالرؤى والأصوات المتعددة والأحداث المتشعبة. عن المصاعب الرئيسية التي واجهته يقول جريس: "ان الكاتب يحكي على لسان شعراء وكتاب أحياء، فكان لابد لي من توخي الدقة ومحاولة محاكاة لغتهم." كما ان الكتاب يضم بين طياته الكثير من الجمل المكتوبة بالفرنسية التي لا تعتبر لغة المثقفين في لبنان فحسب، بل اللغة المشتركة التي كان يتواصل بها الكاتبان، مما تطلب من المترجم، الذي لا يجيد الفرنسية، إلى الرجوع إلى بعض الأصدقاء من اجل مساعدته في ترجمتها إلى العربية. كما ان المترجم واجه صعوبة أخرى تمثلت في إعادة ترجمة أسماء الكثير من الاماكن والشوارع في بيروت التي أوردها كليبيرغ وقارنها مع أماكن تعرف اليها في رحلة له إلى ايطاليا. واعتبر جريس ان أمام الكتاب فرص تلقي كبيرة في العالم العربي قد لا تقتصر على تلقي القراء، بل سيتعداه إلى التلقي النقدي، لان الكتاب يتناول الكثير من المواضيع التي تهم القارئ العربي على المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية، كما انه يقدم تصوراً عن طبيعة علاقة الألمان بإسرائيل. وكانت بداية هذا التلقي النقدي الكثير من المقالات التعريفية بالكتاب.

الجدير بالذكر ان مشروع ليتريكس، الذي يسعى إلى التعريف بأحدث الإصدارات الألمانية في مجالات الأدب والفكر، قام بنشر مقتطفات من ترجمة الكتاب على موقعه. وعن دور الموقع في تقديم الأدب والثقافة الألمانيتين يرى جريس ان الموقع قدم ما من شأنه "تقريب المسافة بين الثقافتين الألمانية والعربية" من خلال تقديم الدعم المباشر لعشر ترجمات لكتب ألمانية إلى العربية، وما تزال هناك كتب أخرى قيد الترجمة.

*************

عباس بيضون / ميشائيل كليبرغ:

الحرب في العراق

عماد م. غانم(برلين: الخميس 20 مارس 2003
عزيزي عباس

لقد حان الوقت وبدأت الحرب فجر اليوم. وكما سمعت أنه لا يوجد أحد في ألمانيا ممن يسعد بهذا الشيء، ولكني لاحظت أن هذا ليس صحيحا، فبمجرد ما أعطى بوش المهلة 48 ساعة، ارتفعت أسعار البورصة في فرانكفورت لأول مرة بعد شهور عديدة بصورة عالية ولم تتوقف بعد.

إنني أفكر طيلة الوقت في الشاعر الشاب، الذي التقينا به في بيروت، عندما أخذ موعدا على التلفون مع زوجته لمشاهدة فيلم جيمس بوند الجديد في المساء، وقال لي: "أتمنى أن يأت الأمريكان قريبا ويطيحوا بصدام، وبالأسد إن أمكن. وإذا فعلوا ما يعارض مصالحنا فسوف نقود حربا ضدهم، المهم أن يطيحوا بصدام أولا والآن جاء الأمريكان".

ألا تتذكر الرأي العام في ألمانيا قبل عدة شهور؟ فلو قدر أن أتى شخص من المريخ، ليس لديه أية فكرة عما يدور على الأرض لظن أن القنابل سوف تسقط على برلين و فرانكفورت وليست على بغداد، لهذا الحد كان الفزع كبيرا هنا. وأعترف لك أنني مللت هذا الهراء السخيف الذي يعبر عن الإرادة الأمريكية.

إننا لسنا بحاجة أن نكون مؤرخين حتى نعلم أنه لا يوجد معنى للإرادة المحضة في مقابل الإرادة المدعومة بالقوة.

إننا نعلم أيضا أن الطريق الوحيد للتحكم في سياسة أمريكا العسكرية هو أن تكون لأوروبا سياسة عسكرية وإرادة موحدة تملك القدر الكافي من المدافع والصواريخ التي تجعلها محل ثقة وقادرة على فرض إرادتها، أضف إلى ذلك حضارة سياسية أكبر مما لدى الولايات المتحدة الأمريكية.

ومما يؤسف أننا نفتقد تلك الإرادة، وحتى رجال السياسة الوهميين،
الذين قد يحاولون صياغتها وتنفيذها.

إنني لربما احترمت مبدأ المسالمة الذي تمارسه الحكومة والشعب الألماني، إذا استطعت إبعاد الشك الذي يساورني أن الموضوع ما هو إلا خطأ من قبل رجال السياسة وجبن ناتج عن الأنانية وحب الذات. نعم، إنه الجبن بعينه!

إنك عندما تعلم أن سبب مسالمة الناس هنا ليس إشفاقا على العرب، ولكنهم لا يريدون أن تستفز ألمانيا الإرهابيين المسلمين حتى لا تكون حافزا على ارتكاب عمليات إرهابية. إننا نطبق المثل القائل: "يا قديس فلوريان احم بيتنا ، واحرق بيتا آخر".

وكما هو الحال لا تجد أحدا من الألمان يقر بأننا لسنا الشعب الذي اخترع الشجاعة الأدبية أو الشعب الذي يعمل على تنفيذ ما اقتنع به.

إننا نجد الإذاعة والصحف الآن مليئة بالحديث عن الحرب، حتى أن وصفات الطبخ – سواء كانت مسموعة أو مقروءة - قد لا تخلوا مما يشير إلى الحرب.

إنكم رغم تعرضكم للمخاطر أكثر منا، إلا أنكم تواجهون المواقف بهدوء وكرامة. إنني أفكر كثيرا في البركان الذي يوجد تحت لبنان، وأتمنى أن تمر الحرب عليكم بسلام وألا تمسكم بسوء من قبل ومن بعد.

وإلى اللقاء
ميشائيل

****

بيروت: الخميس، 27 مارس 2003، الساعة 22:53

عزيزي ميشائيلعباس بيضون
لم يتأخر الأميركيون. بدأوا الحرب فورا بعد نهاية الإنذار. هنا في لبنان يرابط الناس منذ ذلك الحين أمام التلفزيون. في البدء كان سائقو التاكسي الذين ينقلوني إلى الجريدة ينتظرون من صحافي مثلي أن يخبرهم ماذا ستكون نتائج الحرب على لبنان. روائي موسوس أخبرني أن سيكون لها بالتأكيد نتائج ضارّة على مهنته.

الآن لا يسألني السائقون. إنّهم هم الذين يخبرونني عن خسائر الأميركان. لقد تحوّلوا بالمخيلة أمام التليفزيون إلى مقاتلين يكبّدون الإنكليز والأميركان مزيداً من القتلى. لا أظنّ مع ذلك أنّهم يطمعون في ربح الحرب فهم بالتأكيد لم يصلوا إلى هذه الدرجة من التوهّم.

لكن الناس هنا لا يخوضون فقط الحروب التي يأملون بربحها. إنهم يظنّون أن الحروب الخاسرة أيضا تستحقّ شجاعة وحماسة، بل هم إزاء الشجاعة لا يعودون يسألون عن النتيجة، لقد اعتادوا الخسارة، وما يطمعون به هو قليل من الكرامة.

إذا استثنينا حرب الجزائر فقد هُزموا دائما، وغالباً كان السلاح الأميركاني سبباً في هزائمهم. لكنهم اعتادوا ايضا القتال بلا أمل، فعلوا ذلك في فلسطين ويفعلونه اليوم في العراق. وهم اليوم في أقصى درجات الهزيمة ويعلمون أن الأمريكان يهاجمونهم لأنهم في الدرجة الأولى يستضعفونهم، ولأنهم – الأميركان - يظنّون أنهم يستطيعون بثمن قليل جدا أن يقدّموا في العراق عرض قوة ناجح، ويستطيعون أن ينتقموا في العراق مما حلّ بهم من قاعدة أفغانستان.

الربط بين العراق وأفغانستان ضعيف وقد حاول الأميركان دون جدوى أن يجدوا صلة لكن الجمهور لا يحتاج إلى برهان كبير. إنّ عالم الشرّ والظلام هو دائما عالم تآمر ومكيدة والأشرار سيقدّمون لنا فيما بعد تحت الضرب البرهان الكافي.

ففي المخيلة التوراتية والمخيلة السينمائية لا حاجة إلى أدلّة على الشر، لقد توسّل صدام حسين للأميركان وكان مستعدّاً للقيام بأي تنازل لينجوا برأسه. لم يكن مستعدّاً لإحراق سلاحه الشامل وغير الشامل فحسب ولكن أيضا لتقديم إصلاحات من كل نوع والتحوّل من ديكتاتور رهيب إلى وكيل الغرب الأميركي.

لكن الأميركيين كانوا يريدون فقط هزيمة ميدانية، يريدون أن يأتوا إلى هنا لا من أجل النفط فحسب ولكن لمحاصرة شرّ الآخر العربي والإسلامي ولا بدّ من طريقة لمحاصرة شرّ الآخر الأصغر الكوري. عند الآخر فقط يغدو السلاح الشامل خطرا فيما هو أداة خير في يد الغربي والإسرائيلي، لا يحتاج كل ذلك إلى برهان بالطبع، إنه يحتاج إلى رؤيا، وقصف العرلق وهزيمته هما الرؤيا المنتظرة.

من جهتي كنت أفضّل حرباً خاطِفة وسريعة، لم أرد أن يموت أحد في سبيل طاغية كصدام حسين. كتبت مقالة بعنوان "يُهزم وحده". لكن كثيرين شعروا أن السبب في الحرب هو استضعاف العراق واستضعاف العرب عامة، كان في هذا مذلة اضافية لشعب يرى نفسه دائما مباحا ودائما خارج القانون.

لا قانون يردع الإسرائيليين عن دفن الناس تحت الركام ولا قانون بالطبع سيمنع الأميركيين عن دفن الناس أيضا تحت الركام. يكره الناس صدام حسين لكن لا يثق أحد في الولايات المتحدة. مهما كان التحليل لم يستطع أحد أن يجد في أول دبابة أمريكية محترقة سوى رمز لعمى القوة وعقاب لغرورها.

لم يستطع معظم العرب إلا أن يفكروا بأن هزيمتهم ستكون أقل وضعفهم سيكون أقل من ذلك. نتيجة الحرب محسومة حتى الآن لكن ماذا لو تكبّد الأميركان خسائر فعالة على الطريق، ماذا لو فهم الشعب الأميركي أن ليس من اعتداء بلا ثمن، ماذا لو فكروا بأن العالم لم يقف ضد الحرب بلا سبب، وأن الشيطان الذي رآه بوش ليس حقيقيا ولا يمكن بسهولة تسليم قيادة البلد لمدّعي النبوة.

كنت مع حرب خاطفة لأنني لا أقبل أن أتمنى الموت للعراقيين أو الأمريكان، لكن المقاومة ستثبت كم أن سياسة بوش ليست رؤيا بقدر ما هي حماقة، وأن ربط القوة بالهداية والخير والحكمة ادّعاء كبير. وإذا حصل ذلك ففيه بالتأكيد خدمة لأمريكا والعالم.

عباس بيضون

****

برلين: الثلاثاء، 1 أبريل 2003، الساعة 15:13

عزيزي عباسعماد م. غانم
بعد أسبوع ونصف من الحرب حدثت أشياء بألمانيا، لم أكن أتخيل أنها ممكنة. لا أعني بذلك المظاهرات السلمية اليومية المناهضة لبوش، فهذه المظاهرات كانت موجودة دائما وفي كل مناسبة والمتظاهرون ينتمون أغلب الأحيان إلى جماعات من قطاعات اجتماعية محددة فهم إما أعضاء بالحزب الاشتراكي الديمقراطي أو من المتعاطفين معه أو من الخضر أو النقابيين أو من فصائل صغيرة متفرقة من اليسار أو مجموعات هامشية أخرى.

لا ما اعتبره فعلا جديدا هو ذاك الحنق على الحكومة الأمريكية والسأم من بياناتها الحمقاء ومن غرورها الاستعماري الذي تعامل به بقية العالم، بما في ذلك حلفاءها. وهذا الحنق والغضب، لا يقتصر على تلك الجماعات التي ذكرتها بل يتعداها:

لقد رأيت في الأيام الأخيرة وأنا في كامل دهشتي، كيف أدار بعض أناس ظهرهم للولايات المتحدة ووضعوا جل آمالهم في تطوير مشروع أوروبا الموحدة، بعد أن كانوا يرون من قبل أن مستقبلنا السياسي والاقتصادي والثقافي لن يكتب له النجاح إلا بالدعم والتضامن الوثيق (التبعية) مع الولايات المتحدة.

قبل بدء الحرب بعدة أسابيع سمعت سياسيا يقول باستهجان: إن مصير النموذج الألماني الفرنسي هو مزبلة التاريخ. ليس لنا مستقبل إلا من خلال الارتباط الوثيق بالولايات المتحدة. الآن يبدو أن كثيرين صاروا يفهمون أنه قد يكون هناك بديل للتبعية العمياء للولايات المتحدة التي تشبه قيادتها في تعبيرها عن مصالحها بعصبية دينية وبردود أفعالها المناهضة للديمقراطية، تلك الدول المارقة التي تحاربها.

ونحن ليس لدينا فقط البديل، بل ويتزايد شعور الناس أكثر فأكثر هنا، أننا في أوروبا نستحق شيئا أفضل من أن نكون عرائس ماريونيت لأمريكا يحكمها بوش. أريد أن أعرض عليك اقتباسا من مقال للكاتب النمساوي البارز روبرت ميناسه Robert Menasse وقد نشره قبل أسبوعين في مجلة “Literarische Welt”. من الأفضل ألا نتعرض مطلقا لهذا الوعي الأوروبي- الديمقراطي الذي استيقظ فجأة:

"صحيح أن قانون بوش القائل بشن الحروب ضد الدول التي تستطيع أن تدفع ثمنها بعد الحرب، يعد أول تجديد يدخل على نظرية الحرب منذ كلاوزيفيتس Clausewitz ، لكن بقدر طليعية هذه الفكرة فهي استجابة بدائية على التخلف بنية النظام السياسي الاجتماعي الأمريكي مقارنة بأوروبا.

ففي حين أن السياسة الأوروبية قد تخطت مسألة الوطنية أو القومية، ما يزال من الممكن اعتبار أن سياسة الولايات المتحدة هي سياسة مصالح وطنية. وجدت أوروبا بعد تجاربها في النصف الأول من القرن العشرين طريقها إلى سياسة السلم، بينما ما تزال الولايات المتحدة تستخدم سياسة الغزو العسكري وتأمين الأسواق والموارد من خلال القوة العسكرية، رغم تجاربها في النصف الثاني من القرن العشرين.

قد تكون الولايات المتحدة رائدة في مجال التطوير التقني وبالتالي فهي تسبق أوروبا بصورة نوعية في إنتاج الثروات الاجتماعية، لكن من ناحية توزيع هذه الثروات على المجتمع فتأتي الولايات المتحدة في المرتبة الأخيرة.

إن الفارق بين اقتصاد السوق الأمريكي واقتصاد السوق الاجتماعي الأوروبي كبير جدا كالفرق بين الكتابة المسمارية ومعروضات معرض فرانكفورت للكتاب. ربما إن أفكار عصر التنوير قد تحققت في الولايات المتحدة قبل مائتي عام بشكل أوسع مما كان عليه الحال في "القارة القديمة". حاليا تعد الولايات المتحدة متخلفة حتى عن أفكارها الدستورية الخاصة. بدءا من تأثير الدين على السياسة ووصولا إلى تطبيق عقوبة الموت، تتبدى الولايات المتحدة حتى للمتعاطفين معها على أنها دولة نامية في مجال التنوير."

أستطيع أن أتذكر جيدا قبل سنوات عندما كنت أعيش في فرنسا، أن الحكومة الفرنسية كانت هي الحكومة الأوروبية الوحيدة التي عارضت خطة أمريكية في مجال تصدير واستيراد السلع الثقافية (الكتب والأفلام،إلخ..) انشغلت كل الصحف الفرنسية بالكتابة عن هذا الموضوع، في حين لم يذكر أحد شيئا عنه في ألمانيا.

في ذاك الوقت بدأت المقاومة الفرنسية للعولمة التي لا تخدم إلا المصالح الأمريكية ونشأت من خلال هذه المقاومة منظمة أتاك “Attac” التي أصبحت حاليا متواجدة في كل أنحاء العالم.

يبدو الأمر تقريبا وأن الأوروبيين قد صحوا من غفوتهم فعلا. لو حدث ذلك فعلا فسيكون ذلك أمرا نافعا على المدى الطويل، حتى بالنسبة لكم في الشرق. فلننتظر إن كان تحرر الأوروبيين مجرد نار تنطفئ جذوتها سريعا، أما أنهم يعنون تحررهم من أمريكا بصورة جدية. فلو استطاع الأمريكيون إسقاط صدام بسرعة وبدون إراقة دماء كثيرة، وإذا ما تناولوا بعد ذلك، وعلى عكس ما هو متوقع، القضية الفلسطينية بجدية، فسيستعيدون حظوتهم لدى الأوروبيين بسرعة، مثلما فقدوها الآن بسرعة.

مع تحياتي
ميشائيل كليبرغ

****

بيروت: الجمعة، 11 أبريل 2003، الساعة 15:28

عباس بيضونعزيزي ميشائيل
لم أشارك في تظاهرة، أسمع عنها من الذين يرونها وسيلتهم الوحيدة ليشاركوا في الأحداث. أكره احتفالية هذه التظاهرات وأشعر دائماً أنّ من فيها هنا يقلدون أنفسهم ويستعيدون بلا أي ابتكار أموراً باتت من حطام حياتهم، لكنني أسمع السائقين الذين ينقلونني في سرفيساتهم والركّاب الذين يصادف أن ألتقيهم في السيارة، وجميعهم فخورون بمقاومة العراقيين وجميعهم لا يريدون أن يفكّروا أن المعركة مع ذلك محسومة ولا أمل للعراقيين بأن ينجوا منها.

والناس هنا مع العراق، لماذا لا أقول إنهم مع صدّام حسين ونظامه لسبب بسيط، أنه قاوم وكبّد الأمريكيين خسائر في السلاح والأرواح. ليس السلم الذي يهمّ الناس هنا، يهمّهم أن يواجهوا الأمريكيين بأي ثمن، يهمّهم أن يتجرأوا على الأمريكان ولا يفكّرون بالنتيجة.

إنهم نفس الأشخاص الذين يستطيع البوليس السياسي أن يميتهم رعباً ويمنعهم من أن يتنفّسوا. لا أفهم كيف يمكن لأناس سحقهم الخوف أن يبدو شجعاناً في مواجهة القوة الأعظم في العالم. لا أعرف، لكني أفكّر أحياناً في أنّ الناس يخافون الاستبداد أكثر مما يخافون الحرب، يخافون التعذيب والإهانة أكثر مما يخافون الموت، لا أفهم لكني أحزن حين أرى أناساً يهمّهم فقط أن يموتوا بكرامة لم يتمتعوا بها في حياتهم.

لقد أتى يوم تساءلت فيه الصحف الفرنسية عن الجماهير العربية، قالت يبدو أن الجماهير العربية وهم، لأنهم لم يروا هذه الجماهير في الشارع تناضل في سبيل السلم فيما خرج الناس في أبعد البلدان ضدّ الحرب على العراق، لأقل أن السلم بالنسبة لهذه الجماهير ترف لا تفكّر به، إنها تفكّر بأمور أكثر ضرورية. بالكرامة مثلاً، إنْ لم نقل بالدواء والطعام اللذَين افتقادُهما أيضاً إهانة كبرى، إنها تفكّر بالكرامة والآن حين واجه العراقيون، مهما تكون الطريقة والسبب، الأميركيين أحسّ الجميع أنهم معنيون ما دامت الكرامة الآن هي المسألة.

لكن هذه مسألة خطرة فالكرامة مسألة قديمة إنها ليست على كلّ حال مسألة معاصرة تماماً، الآخرون يطالبون بالسلم والعدالة، أما هنا فإن المهم هو الشرف. ومع الشرف هناك تراث قبيلي يمكن أن يفرض نفسه:

الشجاعة، التضحية، القتال، وهذه جميعها قيم حرب لشعوب هي دائماً مهزومة ودائما عطشى إلى نصر واحد، أو على الأقل إلى مواجهة كريمة. ذلك يجعلنا مستغرقين في أمور غير معاصرة ومن الصعب انطلاقاً منها أن نتواصل مع العالم أو نتحاور معه أو ندخل في معاركه ومواجهاته.

لا يفهم العالم لماذا ينتحر كثير من العرب في عمليات فدائية. ولا يفهم العرب، حتى أولئك الذين يقفون ضد العمليات الانتحارية، أن توصف العمليات الانتحارية بأنها عمل لا أخلاقي. إنهم يرونها على الأقل تضحية كبرى وشجاعة فائقة.

الأرجح أن معركة كبرى كالحرب على العراق تنقذ قليلاً كرامة العرب، إنها حرب كبرى حرب ضد العالم والهزيمة فيها محتملة والصمود لفترة قريب من أن يكون نصراً. لكن هذا أمر ليس فيه مكان للسياسة ولا الاقتصاد ولا المصلحة ولا علم الحساب. أمر لا يوجد فيه إلا بسيكولوجيا بحتة ومن جديد نطرح السؤال: أين نحن؟ في أي زمن نعيش؟

عباس بيضون

****

برلين: الأحد، 25 مايو/أيار 2003 الساعة 18:02

“The bloody dog is dead!”
هذا ما قيل في الماضي بكل بساطة ووضوح يا عزيزي عباس، هكذا صارت الأمور عند نهاية الحرب التي لا جدال في عدالتها ضد الألمان: عندما أعلنت السلطات أن الديكتاتور ذا الشارب الصغير قد مات وأن قوات الحلفاء متواجدة في ذاك الوقت في برلين، كان ذلك إيذانا بنهاية الحرب، وبدأ السلام وبدأت إعادة البناء.

وخرج المنهزمون الألمان، الذين كانوا يطلقون نيرانهم حتى وقت قريب على أعدائهم البلشفيين - اليهود، حاملين رايات الاستسلام البيضاء وتقدموا بالشكر والعرفان للحلفاء الذين خلصوهم من الفاشية، وولوا وجوههم -حسب قوات الشرطة العسكرية التي واجهتهم- شطر الديمقراطية أو شطر الاشتراكية.

أجل لقد تبين لنا نحن الألمان، بعد أن قتلنا ثلاثين مليونا من البشر، وبعدما راح ضحية الحرب سبعة ملايين من ذوينا، تبين لنا بوضوح ما علينا أن نفعله ونفذناه حرفيا بكل حماس، نفذنا ما توقعه وطلبه منا قاهرونا/محررونا، وانحنينا لهم معبرين عن جزيل الشكر والعرفان وقلنا "آه، لو كان لنا أن نعرف ذلك من قبل لما…"

آه يا سيد بوش، إنك تظن أن الأمور قد تسير في كل مكان على هذا المنوال، أليس كذلك!

تظن أن الطغاة يموتون أو يعتقلون في نهاية الحرب، وأن على الشعب أن يفهم أنه لم يقهر وإنما تم تحريره، وأن عليه أن يفهم أن السلطة يجب أن تؤول للمنتصر، وأن على الشعب بعد كل ذلك أن يتقدم للمنتصر بالشكر والعرفان.

بيني وبينك يا عباس، إذا ما نظرنا إلى السجون والمقابر الجماعية والشواهد الأخرى على فظاعة حكم صدام، فلا يمكن للمرء إلا أن يكون شاكرا للأمريكيين على إنهاء حكم هذا النظام. السؤال الذي يطرح نفسه ليس له علاقة بمشروعية وقانونية هذه الحرب، فمن السخف تناول هذا الموضوع بالنقاش بعد مرور أسابيع على نهاية الحرب.

السؤال الذي يطرح نفسه هو أي نظام سيحل محل النظام السابق؟ هل ستأتي دولة دينية إسلامية تحت إمرة الأئمة الشيعيين؟ من صدام إلى الحكم الإسلامي، كالمستجير من الرمضاء بالنار، لو صارت الأمور في هذا الاتجاه، فستكون تلك نتيجة مريرة للحرب، ولكن ما هي الخيارات الأخرى؟

فيم يا ترى فكر الأمريكيون؟ هل كانوا سذجا لدرجة الاعتقاد في وجود تشابه بين الألمان عام 1945 والعراقيين في الوقت الحالي، هل ظنوا أن العراقيين سيقبّلون أقدامهم ويحاولون أن يكونوا طلابا يجدون في تعلم الديمقراطية؟

أو هل الأمر بالنسبة لهم سيان بخصوص من سيتولى الحكم بعد ذلك، أهم شيء هو سيطرتهم على النفط وأن تحصل شركاتهم مكاسبها من إعادة البناء. هل لديهم خطة نموذجية طوباوية لدمقرطة المنطقة بأسرها، من خلال إسقاط بعض الأنظمة الاستبدادية الأخرى، أم أنهم بلهاء وسذج،
وإمبرياليون مثلما تعتقد في ذلك الانتليغنتسيا الأوروبية؟

من الصعب وضع تصورات واضحة بشأن هذه الأسئلة ولذلك لم تعد أجهزة التلفزيون تطرحها. أجل لقد اختفى العراق من الصفحات الأولى للصحف والمجلات، لقد تناولناه بما فيه الكفاية، بل وأكثر من اللازم، الآن يجب أن نسمع شيئا آخر، بعض الشيء عن السياسة الداخلية الألمانية وبعض الشيء عن زلزال الجزائر…

لكن هذه هي أحد الحقائق عن الحرب: ما نأمله وما نريده، ما نراه وما لا نراه، ليس له أي دور في مجريات الأحداث. ستقرر الولايات المتحدة الأمريكية عمل أشياء معينة. وسيفرح العراقيون وباقي العرب أو سيغضبون لتلك القرارات، وستزيد كراهيتهم للولايات المتحدة أو ستقل. أما نحن في أوروبا، فستصل إلينا في الوقت المناسب أنباء بهذا الخصوص. وأعني بالوقت المناسب، ما بعد اتخاذ القرارات.

م. كليبيرغ

بيروت: الثلاثاء، 17.6.2003، الساعة 13:15

عباس بيضونعزيزي ميشائيل ...
لن يقول أحد هنا أن الأمريكيين حرروا العراق، كما فعلوا بألمانيا، رغم نقاط التشابه الكثيرة. السبب هو أن الأمريكيين أنفسهم لا يريدون ذلك. يتكلم بوش عن الديمقراطية، لكنه يتكلم أكثر عن إرادة الله، عن مشيئة المسيح، عن الحرب ضد الشر. هذا كلام سمعه العراقيون من قبل بطريقة أخرى، سمعوه من صدام الذي كان هو الآخر يظن أنه شبه مكلفٍ من الله وسمعوه أيضاً من رجال الدين والحركات الأصولية الدينية.

إنهم يعرفون أنه كلام بلا معنى، ويتعجبون من أن يقوله رجل يستمد كل قوته من العلم والتكنولوجيا. الخلاصة أن خطاب بوش لم يقنع أحداً بضرورة الحرب، ولن يقنع أحداً بتفسيره لها. لكن الأمر المهم الذي حصل هو أن العراقيين تخلصوا من صدام حسين.

المقابر التي تكتشف كل يوم، تبين كم أن هذا انتصار حقيقي. إنه انتصار يتيم بلا صاحب، لكنه رائع. أهم حدث في حياة العراقيين لم يشاركوا فيه.
لقد جاءهم كهدية، وهذا مربك كثيراً. إنهم لا يعرفون ماذا يفعلون بها. جربوا درسهم الأول في الديمقراطية ضد الأمريكيين أنفسهم. كان عليهم أن يصيحوا ويحتجوا ويقوموا بتظاهرات، وقد فعلوا ذلك بكثرة، كأنهم لا يريدون أن يشبعوا من اللعبة الجديدة التي لم يعتادوا عليها.

لقد صرخوا ضد البطالة والجوع، احتجوا على النهب، ذهبوا بالملايين إلى عاصمة الشيعة المقدسة باكين نادبين، بكوا، صرخوا. فالحرية كما نعلم لا تمنح. إنها قاسية وهي تنتقد وتسبّ. بالفعل بدأ السب والعنف الرمزي. بعد قسوة صدام الستالينية يحضر العنف المضاد، وهو أيضاً مكبوت ويبحث عن ضحية.

من المخيف أن لا تنتهي دورة العنف. مخيف أكثر أن يوجد بين الضحايا والمنفيين من يريد أن تستمر طاحونة العنف. لم يعرف العراق منذ تأسس ديمقراطية فعلية. دمر صدام حسين وحكمه الدولة والمجتمع من الداخل.

في السنوات العشر الأخيرة من حكمه كان العراق غابة، وكل أشكال الاعتداء مسموحة ويقوم بها البعثيون والمخابرات وأقرباء الرئيس. لم يكن هناك أي قانون. العراق الذي يغلي اليوم هو العراق الذي أفرغه صدام حسين من أي مرجع أو قانون.

لذلك لا أحد يعرف ماذا يجب أن نفعل. وفي انتظار الجواب يتلهى الناس بحزازاتهم وأحقادهم. الغريب أن العرب الآخرين لا يفهمون هذا. إنهم يبدأون الحديث عن مقاومة مسلحة ضد الأمريكيين، وكأن لا يكفي العراقيين خمسين سنة من الدم والقتل والمقابر. وكأن على العراقيين أن يبدأوا حلقة أخرى من الدم والعنف.

عزيزي ميشائيل ...
الوضع مربك. لا يريد أحد أن يفهم ما يجري. الجميع يتمسكون أكثر بمسبقاتهم الايديولوجية، وكأنهم يخافون من أن يبدأ عصر جديد. إنهم يتكلمون مجدداً عن الاستعمار والمقاومة. لا يريدون أن يفهموا أن زوال ديكتاتورية 50 عاماً حياة جديدة.

لمجرد أن ذلك حصل على أيدي الأمريكيين المكروهين. لكن الانفصال عن الواقع يتم بشكل كبير. وأخشى أن نعيش في حالة انفصال إرادية ومقصودة عن الواقع. إننا لا نريد ببساطة أن نبدأ. هناك دعوة لا نريد قبولها.

إننا نتردد ولا أحد يهتم فعلياً بمساعدتنا. لقد ربح الأمريكيون الحرب، لكنهم يظنون أن كل الحماقات مسموح بها للمنتصر. لقد استقبلهم الناس كمحررين وينتهي الأمر بأن يكرهوهم. ليس هذا شيئاً على كل حال. ربما يجد العراقيون وهم في أعرق بلد عربي تقريباً وسائل للدفاع عن شخصيتهم.

وسائل غير المقاومة المسلحة بالطبع. إذا وجدوا هذه الوسائل فيمكن لبقية العرب أن يتعلموا منهم، يمكن لبقية العرب أن يتخلصوا من خجلهم من أنفسهم وشعورهم العميق بالذنب والعجز وأن يجدوا لحظة تاريخية لهم.

لقد انتهى نظام صدام حسين والأنظمة التي تشبهه مهددة. لقد انتهى عصر. قد نمر بفترة فراغ كبيرة بعد ذلك، لكننا نأمل ببداية أخرى.

إذا حدث في العراق شيء جدي، سنتوقف عن الخجل من أنفسنا، لأننا تركنا الأمريكيين يقومون عنا بما لم نستطع أن نفعله. سنبدأ بالتفكير بالمستقبل. وربما سنفكر بأن الحرية هي أيضاً ثروة كالنفط وأننا يمكن أن نستغلها في سبيل عصر آخر.

عباس

*******

"الحيوان الباكي" أول ثمار مشروع "ديوان الشرق والغرب"

سمير عواد
(برلين)

قبل اندلاع النقاش الساخن حول موضوع نظرية صراع الثقافات التي اشعلها العالم اليهودي الأمريكي صموئيل هنتنغتون بعقود طويلة، كان الشاعر الألماني يوهان فولفغانغ غوته يتحدث عن الشبه الخصب بين الثقافات، شرقها وغربها. وهو الذي ولع بسحر ثقافة الشرق وأعجب بالآيات القرآنية، وكان أول من صاغ تعبير الأدب العالمي. ليس هذا فحسب. بل كان يعيش هذا الأدب منذ شبابه وحتي وفاته بعد أن ناهز سن الثمانين. ولعل ديوانه "الديوان الشرقي الغربي" خير تعبير عن رغبة الشاعر الألماني غوته في المساهمة في الانفتاح علي الثقافات الأخري والاستفادة من آدابها لا سيما الثقافة الشرقية. وعلي خطي غوته، يسير في العامين الأخيرين عدد من الشعراء والأدباء من ألمانيا ومن المشرق أي من العالم العربي وتركيا وإيران وذلك في مشروع يحمل اسم ديوان غوته المشهور.

الديوان الجديد للشرق والغرب قام بافتتاحه الشاعر اللبناني عباس بيضون مسؤول الصفحة الثقافية في صحيفة "السفير" اللبنانية وذلك في خريف عام 2002 عندما جاء إلي برلين ليتعرف علي الروائي الألماني ميشائيل كليبيرغ. بعد ذلك تبادلت الروائية المصرية ميرال الطحاوي الزيارة مع الكاتبة الشابة البوسنية الأصل ماريكا بودروتيتش. وفي العام الماضي كان التبادل بين الروائي الألماني الشاب يواخيم هلفر والروائي اللبناني رشيد االضيف. كما سافرت الشاعرة والقاصة الألمانية أولريكه دريسنر إلي الدار البيضاء حيث التقت بالشاعر عبد الله زريقه المتواجد حاليا في ألمانيا. أما في مطلع العام الحالي فقد حل الروائي الألماني مارتن موزيباخ ضيفا علي الأديب المصري الكبير إدوارد الخراط الذي يستعد لزيارة برلين هذا الصيف.

ما أثر هذه اللقاءات؟ هل يقيم الكاتب بهذه الطريقة حوارا فعالا مع ثقافة غريبة عليه؟ أم أنها لا تعدو أن تكون سياحة أدبية لا تثمر في النهاية شيئا يذكر؟ قبل أسابيع صدر في ألمانيا كتاب ميشائيل كليبيرغ "الحيوان الباكي" الذي يعتبر أول ثمار مشروع ديوان الشرق والغرب والذي قد يجيب علي بعض الأسئلة المطروحة حول فائدة المشروع.
للوهلة الأولي يبدو "الحيوان الباكي" تسجيلا ليوميات الرحلة التي قام بها ميشائيل كليبيرغ إلي لبنان مطلع عام 2003 وهذا الكاتب الألماني المولود في عام 1959 ويقيم في مدينة برلين، يحكي بخفة وأسلوب أدبي شيق ما عايشه في لبنان، في أغلب الأحيان دون تعمق، ودون الرجوع إلي خلفيات تاريخية، ودون ادعاء تقديم صورة شاملة عن المجتمع اللبناني أو أدبه. وحسنا فعل كليبيرغ، فهو لم يقض في لبنان سوي أربعة أسابيع، وهي فترة لا تكفي بأي حال للتعرف علي بلد وثقافة شعبه. لذا يعترف في بداية كتابه بقصور معرفته، وبأنه لن يضيف جديدا، لا عن لبنان ولا عن الشرق ولا عن الأدب العربي الذي كان يجهله تماما، إذا استثنينا قصائد صديقه عباس بيضون وفصلا مترجما من روايته "تحليل دم" قرأه قبل مجيء بيضون إلي زيارته في برلين.

ما يميز كتاب كليبيرغ هو الرؤية الإنسانية التي يسودها الدفء والمحبة والألفة والرغبة في الاكتشاف والتعرف علي الآخر وتفهمه. بهذه الرؤية ينظر كليبيرغ إلي شريكه في المشروع عباس بيضون وإلي الذين تعرف عليهم خلال رحلته وتوثقت معرفته بهم، لا سيما الروائي رشيد الضيف ويوسف عساف من معهد غوته في بيروت وزوجته التي ترجمت أعمال جبران إلي الألمانية. ومع نهاية الكتاب يدرك القارئ أن كليبيرغ قدم أكثر من يوميات مسافر لا تتوقف إلا عند السطحي واللافت للأنظار. "الحيوان الباكي" محاولة للفهم وللاقتراب من بلد وثقافة مجهولة علي كاتب ألماني. ويبين كتاب كليبيرغ علي نحو جلي أن الحوار بين الثقافات هو في المقام الأول حوار شخصي بين الأفراد. خلال رحلته إلي لبنان استطاع كليبيرغ أن يقيم حوارات كثيرة، كانت ثمرتها صداقات، بعضها وثيق وعميق، كصداقته مع الشاعر عباس بيضون والروائي رشيد الضيف.

ثمرة أخري لهذا المشروع أعلن عنها كليبيرغ في أمسية ادبية أقيمت مؤخرا في برلين قرأ فيها "الحيوان الباكي" بمناسبة صدور مجموعة شعرية لعباس بيضون باللغة الألمانية، تضم بالإضافة إلي ذلك ترجمات جديدة لقصائده المتفرقة. وستصدر طبعة كاملة من أعمال عباس بيضون باللغة الألمانية في الوقت المناسب عند افتتاح المعرض الدولي للكتاب في فرانكفورت في تشرين أول/أكتوبر القادم والذي سيكون العالم لعربي ضيف شرف عليه لأول مرة. علي الأقل هذا نبأ مفرح في طريق الاستعدادات العربية لإنجاح المشاركة العربي في هذا المعرض الهام والذي يعتبر أهم وأبرز معارض الكتب في العالم. الجدير بالذكر أنه يجري حاليا ترجمة كتاب باللغة الألمانية يتضمن قصصاً من العالم العربي ليعرف زوار المعرض علي جانب من الثقافة العربية.

كتاب ميشائيل كليبيرغ يحكي أيضا عن الأحكام المسبقة وما أكثرها علي الجانبين الغربي والمشرقي. وعن الصور النمطية التي تسود عند الغربيين خاصة في الفترة التي تلت هجوم الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 2001 ثم حرب العراق. هذا الشعور الذي ينشأ تلقائيا عند الغربيين لمجرد رؤية ذوي البشرة السمراء وبالأصح رؤية العرب. هذه الأحكام المسبقة يرجعها كليبيرغ إلي الاختلاقات القائمة بين العالمين. ويعلق علي ذلك بقوله: الألماني الذي ليست له علاقة بالشرق لا يعرف إلا القليل عن الثقافة والدين في المنطقة العربية ويجهل تماما طرق الحياة وعقلية الناس وإذا سمع شيئاً عن العرب فإنه عبر أجهزة الإعلام التي لا تقدم في الغالب الحقيقة. كما أن هناك تناقضات موجودة منذ قرون بين أوروبا والمنطقة العربية بل يمكن القول إنها موجودة منذ آلاف السنين. هذه التناقضات ليست قائمة بهذا المقدار بين أوروبا ومناطق أخري في العالم. يمكننا أن نرجع ذلك إلي انتشار الإسلام ووصوله حتي أبواب أوروبا ثم دخوله أوروبا وأصبح جزءا منها. كما يرجع ذلك إلي الحروب الصليبية ومرحلة الاستعمار واستغلال العالم العربي ونهب ثرواته إلخ.

كمثال علي الأحكام المسبقة يحكي ميشائيل كليبيرغ أنه لم يستطع خلال رحلته من برلين إلي فرانكفورت أن يطرد من مخيلته صورة اختراق طائرتين لبرجي مركز التجارة العالمي في مدينة نيويورك. كل شخص عربي بنظر ركاب الطائرة إرهابي محتمل. المرأة العربية الحامل ليس في بطنها مولود وإنما حزام من المتفجرات. أما الشاب الذي لم يلفت أنظار أجهزة الأمن في مطار بوسطن فهو محمد عطا قائد العملية. يسخر كليبيرغ من سذاجته ومن هذه الأحكام التي تصدر بسهولة عن الغربيين وأصبح اليوم يفضحها. يحكي كليبيرغ قصة لقائه في مطار فرانكفورت بشاب لبناني كان يستعد ليستقل معه الطائرة المتجهة إلي بيروت ووصفه بأنه شاب خدوم وودود، لم يتوقف عن تقديم النصح خلال الرحلة وعرض خدماته علي ألماني يزور لبنان لأول مرة حتي أنه دعاه لحضور حفل زفافه. يحكي كليبيرغ أيضا عن زيارته إلي مدينة بعلبك وآثارها الشهيرة وكيف أنه دخل أحد المطاعم وكان مكتظا بالحراس الشخصيين الذين يرتدون سترات سوداء ونظارات تخفي عيونهم وهي تتابع الحضور وهكذا وجد كليبيرغ نفسه في حضرة زعيم عصابة تتاجر بالمخدرات. لكن السائق اللبناني نسيم الذي رافقه في الرحلة طمأنه بأن بعض السياسيين اللبنانيين أقاموا حفل غذاء علي شرف السفير الياباني في لبنان وأنه ذهب في حكمه بعيدا. اعترف ميشائيل كليبيرغ أنه كلما قرأ الجديد عن أدب أصدقائه الذين تعرف عليهم أصبحت الأحكام المسبقة تضعف عنده ويجد أن هذه الوسيلة بوسعها الانتشار علي مستوي الناس والأفضل من الجانبين كي يتحول صراع الثقافات إلي حوار بناء.

******

كاتب ألماني يقدّم مزة لبنانية

بقلم
شتيفان فايدنر، صحفي ومترجم ألماني ورئيس تحرير مجلو فكر وفن

ترجمة
علي مصباح

Bildunterschriftغلاف الكتاب زار الكاتب الألماني كليبرغ في إطار فعاليات الديوان الغربي الشرقي بيروت حيث التقى بصديقه اللبناني عباس بيضون. نتيجة الزيارة هو الكتاب: "الحيوان الذي يبكي - يوميات رحلة لبنانية". شتيفان فايدنر يقدمه لنا

ماذا ستكون الحصيلة إذا ما قرن المرء بين كاتب ألماني وآخر من المشرق؟ ديوان غربي-شرقي بطبيعة الحال! إلاّ أن ديوان غوتة المستوحى من الشاعر الفارسي حافظ قد غدا له الآن 200عاما من العمر، وبودّنا لو نعرف ما الذي ستفرزه اليوم تجربة استنبات غربية مشرقية في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.

ميشائيل كليبرغ من مواليد سنة 1959 والذي يعدّ من الكتّاب الأكثر شهرة من بين أبناء جيله قد أنجز هذا النوع من الاقتران مع الشاعر اللبناني عباس بيضون من مواليد سنة 1938، وكانت النتيجة ظهور "الحيوان الذي يبكي - يوميات رحلة لبنانية". هذا الكتاب هو ثمرة اللقاء الأول من مشروع اللقاءات الأدبية في إطار فعاليات الديوان الغربي الشرقي الذي سبق لقنطرة أن تطرقت إليه من قبل.

بداية الرحلة بالنسبة لكليبرغ كانت لقاء مع أحكامه المسبقة. الخوف العادي من الطيران قد تضاعف هنا مع ذلك الخوف الآخر الذي يوحي به وجود مسافرين آخرين من ذوي "وجوه الإرهابيين"؛ وتتحول امرأة حامل إلى منفّذة عملية انتحارية تخبئ في حزامها عبوة متفجرات. إلاّ أنّ التخيلات الناجمة عن الخوف ليست سوى تعبير عن رهبة ما قبل البداية، وإذا اليوم الأول في طقس الشتاء المعتدل ببيروت يوقظ ذكرى إقامة سابقة في روما قبل عشرين سنة.

لو أنّ ذلك التواصل الذي حصل في روما يعيد نفسه هنا ببيروت، أو يوهم بذلك على الأقلّ فسيكون بإمكان هذه الإقامة أن تغدو سعيدة – هكذا راح الكاتب الملقى به فجأة في بلد غريب يحدّث نفسه.

لكنّ النظارة التي كان الكاتب الشاب ينظر من خلالها في مامضى إلى روما قد غدت الآن مكدّرة بترسّبات العمرلدى كليبرغ المتزوج وأب العائلة. ذلك ما يلاحظه المرء من خلال العناصر الغريبة التي تنسرب بصفة مطردة داخل معايناته واستيعابه لبيروت والتي تحتل من حيث الكم ما يقارب عن نصف الكتاب. ذكريات، أحلام، وتداعيات سينمائية مفصلة مستساغة للقراءة لكن ليس هناك ما يبرّر أهميتها تقريبا في هذه النصّ، أو بعض مشاهد مع الإبنة الصغيرة (3 سنوات) من تلك التي يمكن أن تحدث في أيّ مكان آخر حيث يرى المرء مشاهد خراب من مخلفات الحرب أو قططا سائبة – أي ما يمكن أن يرى في نصف الكرة الأرضية تقريبا.

أكثر أهمية من هذا كله تظلّ تلك المقاطع الوصفية التي تتفاعل بصفة مباشرة مع الوقائع المعاشة في بيروت وبخاصة مع الأشخاص الذين يلتقي بهم الكاتب. هناك أولا "قرينه" عباس بيضون الذي يوصف هنا بصفة دقيقة ومفعمة بالودّ في الآن نفسه. وهو، وكما التقط ذلك كليبرغ بصفة دقيقة، حالة متميّزة لا بالنسبة للعين الأوروبية فقط، بل كذلك داخل محيطه الثقافي الخاص؛ واحد من الصحافيين ذوي الرؤية النقدية ومن أجود شعراء جيله؛ نلتقي به هنا لدى كليبرغ كإنسان في المقام الأول.

هناك أيضا الروائي رشيد الضيف أحد أصدقاء عباس بيضون ممن نلتقي بهم في هذا العرض، وهو وإن لم يكن على نفس المستوى من اللطافة كبيضون، فإنه يتراءى بالمقابل ذا بعد سرّي مشوق، وكليبرغ يشمله، هو أيضا، بودّه وتعاطفه.

أما الوجه الثالث، وربما الأكثر إثارة والذي يمكن أن تكون المقاطع المخصصة لتصوير شخصيته أكثر ما وسم هذا الكتاب بطابع الجودة، فهو يوسف عساف؛ مسيحي لبناني قد أخذ على عاتقه خلال سنوات الحرب تنشيط معهد غوته بمبادرته الخاصة ودون ضمانات أو حماية. في سيرة عصاف وزوجته الألمانية يتحسس كليبرغ مادّة لعمل روائي. ومن خلال هذا الزوج يتراءى التاريخ الألماني والتاريخ اللبناني متداخلين بطريقة سحرية داخل نسيج موحّد.

عساف هذا يبدو على طرفي نقيض مع عناصر المجتمع الراقي ببيروت، أولئك المتمرسون بكلّ دقائق ثقافة ما بعد الحداثة من مواطني جمهورية الآداب(République des lettres ) متعددة الجنسيات الذين كانت لكليبرغ علاقة بهم والذين يغيّرون استعمال اللغات بنفس السهولة التي يغير بها آخرون ملابسهم. لدى هؤلاء العرب يبدوالأفق الفكري للغرب هو الأفق ذاته تقريبا الذي يتحركون داخله.

بإمكان المرء طبعا أن يلوم كليبرغ الآن عن كونه لم يبذل جهدا كافيا لاكتشاف المؤثرات المحليّة والجذور الثقافيّة الخاصة التي تكمن خلف الواجهة الكوسموبوليتيّة لهذه الشريحة من المثقفين العالميّين. لكن هناك نوع من الحكمة خلف عدم محاولة هذا الأمر، إذ سيكون ذلك شبه مستحيل خلال مدة إقامة قصيرة لا تتجاوز الثلاثة أسابيع. وهكذا فإنّ هذا الكتاب يبدو إلى حد ما شبيها بأطباق المفتّحات اللبنانية (المزة): إنها لا تمثل وجبة أساسية في الحقيقة، لكنها تهدئ الجوع.

*****

عن ميشائيل الذي لا يرى شيئاً ألمانياً في ألمانيا

عباس بيضون
(لبنان)

سلّمني ميشائيل كليبرغ أجاندا كاملة بلقاءاتنا، أظن أننا التقينا أكثر مما تضمنته الأجاندا، كان لا بد من خطأ أو خطأين في البرنامج لتأكيد الصداقة. أصغر مني ميشائيل، يتجاوز الفرق بيننا أكثر من 10 سنوات. هو روائي مثابر وأنا شاعر مثابر، هو أجاندا وساعة وأوقات عمل مرّتبة وأنا أجد صعوبة في أن أمرّر نفسي وجسدي عبر الأشياء والأوقات فأروح اصطدم من دون قصد بالعالم حولي بالأوقات والأشياء مع كل رغبتي النبيلة ساعة هدوء وبصلح ما ولو ليوم.

ميشائيل تصرف وكأنه لا يلاحظ ذلك، وطوال الوقت الذي التقينا فيه لم يعر باله لعثراتي، كان هذا كرماً لا يلاحظ إلا على المدى الطويل، يتلفن ميشائيل بأنه سيتأخر ربع ساعة لكنه لن يتفاجأ إذا لم يجدني مستعداً تماماً. من اليوم الأول قلت لميشائيل ان بطل "الحافي" قديس معاصر. صادقَ على ذلك وقال إن هذا شيء لم ينتبه له نقاده هنا، أدهشني انعطاف كليبرغ في روايته "الحافي" بالعلاقات السادية المازوشية من التأويل الجنسي البديهي إلى تأويل رواقي وشبه ديني، بدا لي أن هذه هي الإزاحة "tracE" الأساسية في الرواية وربما عصبها الأساسي. لكنني لا أعرف إلى أي حد كان ميشائيل يبحث هو نفسه عن قديس معاصر.

كنا نتناول كاتو كبيراً وشاياً في مقهى برليني قديم وتجولت عيناي كثيراً على زخارفه الزهرية (هل كانت حقاً زهرية) حين قال لي ميشائيل ان مشكلة الأوروبي أنه لا يجد بعد شيئاً يموت في سبيله. كان السواد الغالب على ثيابه مع شعره الخفيف الأسود الذي يكاد يكون هالة على رأسه وقامته الطويلة النحيلة. كان فيه شيء يمت إلى الدير، ولم يفاجئني إنجذابه إلى الكاثوليكية رغم ولادته البروتستانتية. أما ما فاجأني في الواقع فمقته السريع لكل تظاهر وكل اعتداد ولو خفي بالموقع والمنصب ولكل الرسميات. لاحظت أنه يتجاوز في مقته للبورجوازيين اليساريين أنفسهم. (...)

لم نتوصل أنا وميشائيل بسهولة إلى نقاش سياسي، لم يبد على ميشائيل انه مستغرق في السياسة بينما أنا تقريباً هارب منها. بدا لي أن ميشائيل الذي أمضى نصف حياته في ايطاليا وفرنسا والذي يتقن اللغات الأوروبية الأساسية أوروبي أيضاً في سياسته، ولا يفتش عن قضية خارج أوروبا أو الغرب. انه يبدأ ككل مثقفي جيله بصياغة سوء تفاهمه الخاص مع ألمانيا والشيء الألماني، إذا كان الجميع يبدأون من تكفير متأخر عن النازية ومن طرد راديكالي لكل وطنية ألمانية فان النهايات تختلف. بالنسبة لكثيرين يظل الانتماء الألماني قلق الحاضر أيضا. لا أدري إذا كان هذا يعني أن عملية التطهير لم تتم بكاملها. أو يشير إلى ان من الديون النازية التي لا يزال يدفعها الألمان هذا التواضع المفرط تجاه كل ما هو ألماني.

يقول لي ناقد ألماني إن ليس في أدب الألمان الشبان ما يستحق. ميشائيل يقول إن ألمانيا اليوم ليست ألمانية إلا بمقدار ما هي أميركية، أو بالأكثر فرنسية، أو ايطالية في الأقل، ولا يبقى من ألماني إلا الفتات. لا نجد في ألمانيا ما هو ألماني، ألقيت قنبلة نووية ثقافية على ألمانيا والحياة الألمانية. ليس ميشائيل سعيداً بذلك، فيما آخرون لا يزعجهم أن يمتحنوا مجدداً نزاهتهم المتشددة بالقليل مما هو ألماني. الصحافة الألمانية تحتفي كثيراً بكل ما يخرج من أميركا ولا تترك سوى هامش للرواية الألمانية، والحال نفسه مع السينما الأميركية وكل ما هو أميركي.
ميشائيل يحّس في قراراته بأن هذا ليس صحيحاً ولا منصفاً، لكنه بالطبع لا يهرب إلى وطنية ألمانية. أوروبا والهوية الأوروبية هما قبلته. سيكون الألمان غالباً أكثر الناس أوروبية فهذه قد تكون هويتهم المباشرة. وفيما تبدو الوطنيات المجاورة كلها حية وأحياناً فاعلة، فان الألماني هو الوحيد الذي يحيا بدونها، ويراهن على إمكانية قيام دولة ومجتمع بدون الحد الأدنى من أسطورة قومية، بل وغالباً ضدها.

رغم استعصاء الحس القومي العربي والوطنيات العربية على الهزائم والاحباطات، ورغم أن الاعتراف بالهزيمة، فما بالك بمديح الهزيمة كما نفهم من توماس مان، مستحيل، الا ان هناك وجهاً للمقارنة، في عاصمة أوروبية بوزن برلين ثمة لدى الكتاب الشبان شعور بالإهمال واللااعتراف. ما يُترجم من أدب الشبان الألمان لا يتعدى ما يترجم من أدب الشبان العرب، وقد يستفيد العرب من الظرف السياسي فيحظون باهتمام اكبر. في لقاء طويل نظمه ميشائيل ضم ثلاثة روائيين ألمان وشاعرة ألمانية سمعت أيضا من الجميع أن الأرجحية هي للأدب الأميركي والأدب الألماني منسي في ألمانيا نفسها. اننا نقرأ ونسمع ونشاهد ونأكل على الطريقة الأميركية، يقول الألمان الشبان ذلك بأقل حسرة ممكنة إذ يخشون أن يفلت مع الحسرة شيء من صندوق بندورا الخفي، ومن ذلك اللاوعي الذي لا يتم دفنه كاملاً ولا سبيل إلى التأكد من ذلك الا بالبناء على قبره.

يقول المثقفون العرب شيئاً مماثلاً بأقسى درجات التحسر والبارانويا، وتفلت أثناء قوله أشباح كثيرة من توابيت كثيرة أيضا، قد تكون الصليبية أو اليهودية أو الاستعمار. ربما يُشفي بعض المثقفين العرب من هاجس المؤامرة ان يعلموا ان زوال النعمة والحظ ليس موقوفاً عليهم، وأن أوروبيين كثراً من وسط أوروبا يعانونه، مع ذلك فان الهوية الأوروبية قد تبدو هرباً إلى الأمام فيما يبدو التحسر القومي والبارانويا القومية العربية هرباً إلى الوراء.

لا أعرف إذا كان ممكناً إنشاء رابطة عربية على المستقبل، فهذه الرابطة قد اشتبكت بمختلف اشكال الحزازات ولا نستطيع بسهولة أن نتخلص منها . لقد تحولت إلى مبدأ ايديولوجي جامد متعال تقريباً على الزمن. لا أعرف إذا كانت الرابطة المتوسطية يمكن أن تبدو للعرب حقيقية (ليست كذلك إلى الآن) وان كان من الممكن إقامة رابطة عربية على مبدأ اقل عدائية. يقول ميشائيل ان تاريخ ألمانيا حديث تقريباً، بل إن ألمانيا لم تكن من قبل حيث هي الآن. تغيرت الأرض بقدر ما تغير الشعب، هذا لا يجعله، غير مبال بالتاريخ الألماني ولا يجعل هذا التاريخ بلا قيمة. انه على العكس مهتم جداً بهذا التاريخ وهو يبدل شعوباً وبلاداً. ربما هذا يجعله مشوقاً أكثر وغنياً أكثر وفي كل حال لا يبدو ميشائيل متحسراً لأن الأمر هكذا. هل من الممكن ان نسمي هذا شفاء من التاريخ أو نسميه بالعكس قلق التاريخ. هل يمكن ان نقترب حقاً من التاريخ بدون أن ندخل في نوع من الرمال المتحركة والتي قد تغرقنا في أي لحظة. أليس هذا بالضبط ما يمنعنا من أن نتبجح أو نصدق أن لنا منذ البدء ماهية خاصة.
الأرجح أن التاريخ العربي ليس شيئاً آخر. لقد بدل هو الآخر شعوباً وبلداناً ويمكن أن نتخيل انه لا زال يفعل ذلك إلى الآن. لكن بخلاف ميشائيل لا يريد الكثير من المثقفين العرب أن يصدقوا ذلك. انهم يفضلون ان يفكروا، ضد الوقائع، بأن الأمر كان دائماً هكذا. ان العروبة كانت هكذا منذ البداية وربما قبل بداية التاريخ. لقد خرج العرب من الجزيرة العربية لكن العروبة لا تبدو اليوم بديهية في الجزيرة بقدر ما تبدو في المناطق التي تغيرت بالغزو العربي. بل ان هذه المناطق هي الآن مركز العروبية بينما المهد العربي ضائع بلا هوية.

وبالتأكيد فان بلداناً كجزر القمر والصومال واريتريا وجنوب السودان وشمال العراق لم تغدُ عربية بعد. لم يشف المثقف العربي بشكل عام من التاريخ ولا يتحمل أن يستسلم لتغيراته ولا لتحققه بل ان بعض المثقفين يفضلون عندئذ الخروج منه، ان يعتبروه غير كاف ويؤسسوا لكل بلد عربي قومية خاصة. هذه القوميات الصغيرة لن تقل تعصباً ولا قلقاً من العروبة، والأسوأ انها من البداية تدخل في صراع مع المحيط العربي والعالم وقد تكون أقل ميلاً الي النقاء الايديولوجي من العروبة. بل إن بعضها يُسند إلى الجغرافيا ما يعزّ إسناده إلى التاريخ، أي يوكل إلى المكان أن يوحد ويثبت ما يتغير ويتنوع بفعل التاريخ. باختصار لا يتحمل أكثر المثقفين العرب قلق التاريخ ويفضلون أن يروه مستقرا ثابتاً كعقيدة أو رمز أو حتى صنم ايديولوجي (...)

***

قالت أمينة الدار إن هنري ميلر لم يلتق ببريخت مرة في حياته. كانت تعلق على ملصق كبير يحمل صورة ميلر على حائط المدخل الذي اتخدته مكتباً لها. رغم ذلك اهتم ميشائيل كثيراً بتلك اللاعلاقة التي انعقدت بين الاثنين. وحين دخلنا إلى غرفة نوم بريخت ورأينا كتاباً لميلر على الرف الموازي لسرير بريخت فهمت أن اهتمام ميشائيل لم يكن بلا معنى. الأرجح أن اللاعلاقات أو العلاقات السلبية لا توقظ حدس ميشائيل على غير طائل، انه يتنسم فيها نوعاً آخر من التاريخ. تحرى ميشائيل في مكتبة بريخت كتب توماس مان وداعيه لذلك خصومة الاثنين وتجاهل أحدهما للآخر، لم يخب أمله هذه المرة أيضا، وجد كتباً لتوماس مان بين كتب بريخت المصفوفة على الرفوف بثلاث لغات. كانت هنا أيضا الطرقات الغامضة التي تتخذها "لا علاقات" البشر. اعرف أن ميشائيل مهتم خاصة بهذا التاريخ السري. هذا التاريخ المعكوس أو المضاد إذا جاز القول، أجده في رواياته حاضراً في هذه الواجهة الصلبة المتماسكة من السخرية وتحت الحوارات المتظاهرة بالتسلسل والجدية.

اهتمام ميشائيل بمكتبة بريخت وغرفة نومه وخزانة ملابسه كان، بخلافي، أكثر من اهتمامه بأثاثه والدكتيلو واللوحات المعلقة على جداره. كان يهمه ما يخفيه بريخت بينما شغلتني أكثر طريقة حياته. لا يعرف المرء ماذا يريد فعلاً من حياة كاتب، اننا لا نعتمد عليها كثيراً لقراءته، بل يبدو غالباً انها تشوش القراءة، إذ ليست نادرة هي المرات التي تسخر فيها حياة الكاتب من آثاره، يخيل إلي اننا نستدعيها لمهمة كهذه، لممازحة الآثار والتخفيف من وطأتها. (...)

يهم ميشائيل أن ارى كيف يتحلى التاريخ الألماني في لوحات. ليست اللوحات التاريخية أثيرة عندي وقلما اهتم بشيء غير الصنيع الفني في اللوحة. محطة غرونفالد قريبة وطالما تنزهت جنبها، لكنني لم أملك ما يكفي من المخيلة، لأتجشم كيف كان يجري ترحيل اليهود منها. لم أملك أيضا مخيلة مماثلة أمام جدار برلين. لا استطيع بسهولة ان أتميز هذا الشيء التاريخي الساكن في الأمكنة. إننا نقرأ التاريخ كما نقرأ قصصاً ولا أعتقد أننا نصدقه كثيراً، أو نراه حقيقياً لدرجة البحث عنه في أماكن فعلية. رأيت طائرة كيفير refeiK العجوز الدمية الضخمة ومدافع بويز اللاعبة. كانت هذه هي الحرب بالنسبة لي، لقد نزعت الهالة عنها. قرأت مرة لمؤرخ سوري وصفاً لمعركة ميسلون التي واجه فيها الجيش السوري الناشئ الغزو الفرنسي. وصف كيف تفرق الجنود هاربين وتصدى لهم البدو فانتزعوا منهم أسلحتهم، هذه هي معركة ميسلون المجيدة ولا أظن ان أحدا يجرؤ على السخرية منها بهذا الشكل.

امتلأت مصر نكاتاً عن هزيمة الـ 67 لكن أحدا بالطبع لن يسخر منها. هناك عقدة الشهداء على الأقل، ناهيك عن أن فكرة الحرب تسلطت على كل تاريخنا السياسي المعاصر. كنا مستعدين لبذل كل شيء في سبيل نصر واحد لم نحصل عليه، لكن الخسارة لم تنقلب إلى سخرية ولا اعرف إذا كان هذا سيحصل لاحقاً. لا نحلم بالطبع بمديح الهزيمة الألماني، ليس للجندي شفيك مثال عندنا الا في النكات الشعبية. مكبوتاتنا كثيرة وحين نفكر فيها نجد أن الجنس ليس بالضرورة التابو الوحيد ولا الدين أيضا. التابو القومي وعقدة الشهداء لا يقلان قوة عنهما. مع عقدة كهذه يكاد التابو يشمل السياسة كلها ويضع لها خطوطاً حمراً من الصعب تجاوزها. للسياسة مقدسها أيضاً، الأمر الذي يستدعي نسيان الوقائع والتاريخ الحي والسكوت عنها، والمسألة الفلسطينية هي مركز هذا المقدس السياسي.

قال لي ميشائيل انه تجاه المسألة الفلسطينية يفكر كأوروبي. اليهودية جزء من ثقافة الغرب لا الإسلام. ثم إن الهولوكوست لا يترك الألماني حراً في التفكير تجاه ما يتعلق باليهود.

ثمة اذاً هذا الدين الذي لا يزال ثقيلاً والماضي الذي لا ينتهي. لم يكن ميشائيل الوحيد الذي عبر عن وجهة نظر كهذه. الدين التاريخي لليهود والشكر التاريخي للولايات المتحدة، أمران لا يريد كثير من المثقفين الألمان تجاوزهما، الولايات المتحدة قائد العالم المعاصر وإسرائيل صورة العالم المعاصر في منطقة تعج بوطنيات ودينيات غير مفهومة. باختصار لا يحتاج كثير من الألمان إلى معرفة وجهة النظر الأخرى، لكن أحدا هنا، مع ذلك، لا يرفض سماعها.

وجدت شخصياً في موقف كهذا ما أقدره. افهم كعربي ماذا يعني الديْن التاريخي وأظن اننا لا نستطيع أن نعيش بسهولة في عالم معاصر من دون تصفية حسابات ماضية. أفهم حتى حين يكون الديْن ثقيلاً للغاية ومعيقاً. يملك الشيعة تصوراً للتاريخ على أنه عقدة ذنب متصلة، ورغم ان هذا دخل من زمن بعيد حيز الأسطورة، الا انه يمكن أن يكون محرماً لأمور مستقبلية. في لقاء مع كيرتز الهنغاري حائز نوبل المتمحور أدبه حول الهولوكست قال إن كل ما يهمه أن لا تعود اللاسامية إلى أوروبا. يهمني ذلك أيضا، لكنه قال مع ذلك انه فرح برؤية نجمة داوود على الدبابات الداخلة إلى رام الله. رأى نجمة داوود وحدها ولم ير رام الله ولا سكانها ولا ماذا تفعل الدبابات فيها. أخشى اننا لا نقدر في هذه المسألة ان نبقى في النطاق الأوروبي، هناك "ساميون" آخرون محذوفون، مع كل معاناتهم، من المعادلة، ولا نراهم بوعي أو بدون وعي لتبقى المسألة وكأنها من تداعيات حساب أوروبي (....).

***

أراد ميشائيل أن أرى نصب الجندي السوفياتي في برلين، كان هذا اختياراً ميشائيلياً خالصاَ ولم أكن لأفكر فيه وحدي. لم نصل بسهولة إلى النصب، بدا لي أنه لم يختف فقط في التاريخ بل في المكان أيضاً. ميشائيل أيضا شرد عن المكان، تراءى لي هذا نموذجياً، من المثير أن نحذف من مجال بصرنا أشياء قدامنا لمجرد اننا لم نعد نهتم برؤيتها. بالفعل كان النصب مع حديقته والغابة المحاذية أكبر حجماً من أن يختفي. حين أشرفنا على النصب وجدنا في الأسفل عمالاً وتراءى لي أن لا سبيل للهبوط إلى الحديقة. بضعة عمال فقط في هذا المكان الشاسع الضخم على الطريقة الروسية والذي بدا بسبب ذلك مهجوراً جداً. انتبهنا إلى أن النزول ممكن ورأينا أنفسنا في ملعب إمبراطوري يتجه إلى النصب. عن اليمين ارتفعت لوحات تروي حياة الجندي البطولية، من مولده إلى استشهاده. البساطة والدراماتيكية المبالغة والعاطفية الساذجة ظاهرة في الأعمال كلها. كان تاريخها غداة الحر ب العالمية الثانية لكنها، لأمر ما، بدت أقدم من ذلك كأنها تهرب من الزمن واللحظة التي صنعت فيها، أرادت ان تغدو تراثاً وأن تصبح حكاية شعبية، لذا بدت وكأنها أساءت اختيار زمنها.. لذا لم تملك لحظة خاصة بها. انها تروي بالدموع والدم محاولة ان تكون فوق الفن وفوق الإنسان. اتجهت إلى التمثال العملاق والشاهق، وقفنا أنا وميشائيل صغيرين تحته ثم صعدنا اليه درجاً عالياً لنجد أنفسنا تحت كتلته الهائلة. الضخامة كانت بلا شك رسالته الأولى.
رأينا جبلاً في صورة جندي يسحق بسيفه صليباً معقوفاً. بعبارة أخرى هو القديس جاورجيوس في هيئة جندي يسحق بدل التنين صليباً معقوفاً. لم تكن الضخامة وحدها ملحوظة فالاستحواذ السخيف والفظ على الأسطورة المسيحية كان أشبه بتقليد مفضوح. الحاضر يقلد الأسطورة، أو يتصرف منذ ولادته كما لو أنه غير ممكن وغير حقيقي، لم يكن هذا فوق الفن وفوق الإنسان فقط بل فوق الزمن.

تصف الشيوعية هكذا نفسها، كإله معاصر أو عصر متآله. لم يكن هذا ما رأيته في بيت بريخت. كانت الشيوعية هناك دكتيلو وطاولة عمل وسرير ناسك وكتب توماس مان المدسوسة في المكتب وربما ثياب العامل بقماش غير رخيص. كل هذا ابن زمن ولحظة ويمكن رثاؤه كما نرثي عصراً ولحظة. سمحت لنفسي في بيت بريخت بنوستالجيا لشبابي البريختي، وكتبت قصيدة بهذا الإحساس. كنت أمام حلم مغدور لكن أيضاً أمام لحظة متفارقة laxodarap ولا يخلو الأمر من ادعاء ونفاق حقيقيين. أمام تمثال الجندي الروسي لم يفارقني الخوف من أن يقع علي أو أن اسقط أنا من الأعلى. كنت تحت دمية جبارة ورهيبة، لكنها دمية وكان مفزعاَ بالنسبة الي أن يكون العالم تحت سلطة دمى جبارة ورهيبة ، وأن لا يكون النظام المعقد والرهيب والبوليسي شيئاً آخر. من المفيد أن أفكر بماركسية بريخت على أنها شيء آخر.

حين نزلنا رأيت على يميني لوحات كبيرة تحمل أقوالاً لستالين بتوقيعه، أقوالا لستالين بينما ستالين لا يزال ينظر من الأعلى في تقطيبة الجندي السوفياتي وسيفه. لم يقتلع التمثال، لم تقتلع اللوحات، لم أفهم لماذا سقط الجدار بينما بقي ستالين ماثلاً هنا. ليست الجدران أكثر استفزازاً من التماثيل. في الحرب الأهلية اللبنانية كانت التماثيل أول من سقط، كل التماثيل، لم يسقطها الأعداء بل أسقطها غالباً أشخاص من جوها. لقد أثارت مع ذلك غضبهم. سقط تمثال رئيس الجمهورية الأول المؤسس، وسقط تمثال مؤسس حزب الكتائب الذي كان من أركان الحرب في بلدته وبين مؤيديه. سقطت التماثيل لأنها غالباً ما تكون استفزازية، غالباً ما تكون متسلطة ومدعية وقبيحة ومتجهمة. ثم انها تغري بالتحطيم فالملامح المنقوشة بالحجر تبقى دامسة ومحيرة ومغلقة على سرها، ناهيك عن استعلائها الذي جعل الإسلام يعتبرها كلها أصناما. لا ننسى مشهد سقوط تمثال صدام حسين. قاوم طويلاً لكنه انقصف بسرعة وخرج منه قضيب حديد بائس ومزرٍ. لا ننسى ان سقوط التماثيل هو دائماً دلالة مصاحبة لنهاية نظام، الأرجح ان الرمز في التماثيل حاضر في المادة والكتلة. ان الضخامة والحجم يعملان للرمز حضوراً فيزيائياً، يجعلان للنظام نفسه وجودا فيزيائياً ومادياً يستفز الرغبة في التحطيم.
مع ذلك بقي الجندي السوفياتي وستالين في الحديقة البرلينية. لم يقتلعهما احد، لم يعتد احد على التاريخ ولم يفكر في أن يطيحه في حرب رموز ساحتها المعاول والمطارق والحجز، لا يحق لستالين هنا أن يشكو من أي تزوير، انه شاهد على نفسه، انه هنا بكلمته ومثاله، ولم يستطيع أي تحوير ان يسيء اليه أكثر. ربما كان أفضل أن يبقى تمثال صدام حسين شاهقاً ومهدداً. سيكون شاهداً لا يمكن دحضه، الذين أزالوه لم يحدسوا انهم يخدمونه بذلك، لقد أزالوا التماثيل والمقابر السرية وبعد قليل لن يبقى حاضراً من صدام حسين سوى المقاومة ضد الأميركيين التي لا تزال جذابة (....)

***

عندما انتهت الجلسة التي قرأت فيها وقرأ الصديق يسن اقترب مني يسن وقال إننا قلنا، كل من مطرحه، الشيء نفسه: كره الذات، كره الغرب لنفسه وكره العربي لنفسه. كنت دائماً اسأل نفسي بخصوص المثقفين الألمان كيف يمكن لهذا الشغف بالتاريخ واللغة أن لا يتحول إلى وطنية. هذه بالتأكيد تجربة خاصة بالمثقفين الألمان. لا أجد حسرة عند ميشائيل حين يقول إن ليس من شيء ألماني في ألمانيا، لا الحسرة ولا الغضب، فهنا فقط نجد كثيرين يحمدون الهزيمة ويرون في الاحتلال الذي أعقبها جميلاً ينبغي حفظه، ربما لن نسمع شيئاً مماثلاً في أي مكان آخر في العالم. هنا فقط تغدو اللاوطنية تقليداً. لم يكن لدى يسن تقدير للأدب الألماني الحديث، ولم يبد على كلاكوس أي فخر بغونتر غراس كما يفعل مثقفونا العرب تجاه نجيب محفوظ مثلاً. أحب أن اعتقد أن هذه "اللاوطنية" قيمة وليسب جرحاً، كره الذات بهذا المعنى قيمة أكثر منه "تروما". لا أظن أن هذه هي الحال عند المثقفين العرب اليوم. هناك تهكم صاخب من اللحظة الراهنة. ليس لدى مثقفين نقديين فحسب بل لدى شعراء شبه شعبيين كنزار قباني ودعاة كعبدالله القصيمي الذي عنون أحد كتبه "العرب ظاهرة صوتية" لكن هذا يحصل كتروما وجرح، يحصل كنوع من تطرف وطني معكوس أو كاستفزاز للذات وتحريض داخلي. لا يتحول إلى نقد للوطنية، إلى لا وطنية، بل إلى وطنية حزينة مغدورة. في التهكم من الهزيمة توسل لأي نصر، وفي السخرية من الذات سعي لأقل اعتراف وأقل اعتبار، هذا ما يولد حساسية مفرطة ضد أي نقد أجنبي، فكره النفس ملتحم بلا فكاك بكره الأجنبي. مع ذلك يتكلم ميشائيل بقدر من الأسى عن انتفاء فكرة التضحية من العقل الغربي.

النقدية المفرطة ونزع الأوهام يصلان إلى نوع من عراء نفسي، عندئذ لن نجد سوى الكلبية emsynyc في انتظارنا. لا أعرف كيف اعلق على هذا الكلام، خاصة حين ألاحظ ان فكرة التضحية تغدو رائجة ومبذولة عندنا إلى حد أن تتحول إلى سياسة. ليست العمليات الانتحارية شيئاً آخر، فهذه تغدو أسلوبا وحيداً، أول رد وأول كلمة ليس فقط ضد العدو ولكن أيضا ضد الحليف المتغير والأخ غير الصافي الود. نفترض فكرة التضحية تقديراً نرجسياً للذات لدرجة تماهيها مع مبدأ أعلى، لكن المرعب ان تغدو أمراً تكتيكياً، وشبه مجاني وتبذل لأي سبب. في هذا استرخاص للذات إلى حد يمكن معه التساؤل إذا كان الشعور بها موجوداً أصلا. لا أعرف إذا كانت فكرة التضحية ستحتفظ بالمعنى القديم الذي لها، أم انها ستتحول إلى شيء كالوباء، إلى نوع من لاوعي مالتوسي ضد التكاثر. في أحسن الأحوال سنفكر بالسهولة التي تتقبل بها الشيع المتعصبة الانتحار الجماعي. الأمثلة هي أيضاً أميركية.

***

في الأيام العشرة التي سبقت مغادرتي برلين كنت أحصي كل صباح بحسرة ما تبقى لي من وقت. أقول بحسرة وأنا اشعر انني بذلك اخرج عن الحد. كل ما هنا مبرمج لكي لا نذهب بعيداً عما نستطيعه ولا نطلب من الأشياء أكثر مما نستحق كان علي أن امضي شهرين في مهمة لا تساعد عواطف زائدة على انجازها كما يجب. كان كل شيء مسجلاً بدقة في أجندة توماس هارتمان كما كانت لي أجندتي الخاصة. المشي ساعة كل يوم، رأيت أعمال كيفير وبوبر وحضرت كونسرت لشتوكهاوزن وسهرات جاز ومسارح وزرت المتحف اليهودي وجلست في عدد من المقاهي وجربت عدداً من المطاعم وشربت كثيراً من النبيذ الفرنسي والايطالي.
لم يكن هذا انجازاً عظيماً لكنه يصلح لأرى برلين كجسد بنت المهراجا، أجزاء لا استطيع جمعها في رأسي. في كونشرت شتوكهازون سمعت الموسيقى التي كلها بأصوات بشرية ولم أتعب لكني شعرت كأنني أتفرج على واجهة لا أفكر بامتلاك شيء فيها، فتنني أولئك الملائكة الآليون الذين يتجولون وزهرة دفلى طويلة في ظهورهم وكأنها مفاتيح لتحريكهم، كان المقدس هنا يتجلى بأصوات ماكنات جبارة.

في المتحف اليهودي شعرت طوال الوقت بأن هناك شبه عود أبدي وعلينا ان نصحح مجدداً مواقعنا وأدوارنا. مشيت عبر رواق الهولوكوست إلى الباب الذي ما إن دفعته حتى استقبلتني ظلمة باردة. كانت رمزية هذا المشهد فوق ما أطيق فرجل صنعتهُ الشعر مثلي ينتظر خيالاً أفضل. وقفت أمام رواق مليء بكرات معدنية رامزة إلى رؤوس المعذبين. لم يغادرني الشعور بأن هذا خيال فج. لكني مع ذلك جفلت، أجفلتني فكرة لمسي الكرات وجعلتني ابتعد قليلاً. لأمر ما تخيلت انها لدى أول لمسة ستصيح وتحدث ضجة هائلة. كنت مجدداً أمام قدر لا افهمه. بل شعرت انني أمام ما يشبه المسرح الجماعي الذي يمثل فيه الجميع مشهد الصلب أو المشهد العاشورائي. أي انني بمجرد أن أدخل لا استطيع أن أبقى متفرجاً، وعليّ أن اشترك في تصحيح المشهد التاريخي، ان أشارك في عملية تكفير قد تقضي بأن أتقمص دون أن أدري، دور الجلاد. ابتعدت شبه مرعوب، لم أكن جاهزاً لدور كهذا، أعادتني الزيارة إلى خوفي اللاواعي من التاريخ، الخوف من أن يتلبسنا من دون انتباه، في الخارج رأيت تلك الجذوع المنحنية المكللة، بما يشبه الشعر الخشن. كان في هذه الجذوع التي تكاد تهوي صرخة مخنوقة، لم أخف من أن تهوي علي ، شعرت انها تميل لتراني أفضل، لتبلغني شيئاً أو على الأقل لتريني قاماتها المكسورة، فيما كان العشب الخشن الهائج في الرأس يتكلم عن عذاب يلامس الجنون.

كل شيء مسجل في الأجندة، لم أتعدها على كل حال. كل ماحصل كان بالتأكيد اقل من مغامرة. كان علي أن أوازن كل لحظة بين الوحشة والفضول وأن استخرج من حياتي تلك المتعة العكرة القلقة. كنت أفكر ان كل شيء في وقته ولن تجده في وقت آخر. كل شيء في وقته والذين يتأخرون قليلاً عن الموعد مثلي يتركون في الطريق طويلاً ولم يتذمروا أو يخافوا لكنهم يستسلمون إلى حد الإدمان لسوء تفاهمهم القهري مع الحياة والأشياء. لا ادري كيف بدأت أتحدث عن الصداقة في القراءات التي أدارها نافيد كرماني وضمتني أنا وميشائيل، بل تكلمت عن "العاطفة"، الأمر الذي جعل كلامي اقل إقناعا، فالكلمة غير مألوفة لكثيرين، لم أجد في ميشائيل صدمة ولا هو وجد. كنا بالتأكيد مختلفين لكن الفوارق يمكن أن تكون موضوعاً للعب والفضول وتبادل الحكايا، لا أريد ان أبدو سطحياً هنا فلا بد أن شيئاً إضافيا هو الذي يحول الفروق إلى خنادق وأسوار. ما زلت أنا وميشائيل نتجنب في رسائلنا كلمة "الصداقة". لكن هذا يغدو مع الوقت شأناً لغوياً، لطالما تجنبت أن أدرج ألفاظا كالحب والصداقة في أشعاري فكل التسميات خطرة بالتأكيد.

في المساء ودعت من وجدتهم وخرجت. عدت فوجدتهم يصغون إلى عزف جميل، وقفت بعيداً لكي لا أقول وداعاً مرتين. في الصباح الرمادي نهضت، ألقيت نظرة على البحيرة والأشجار، دخلت إلى غرفة الإدارة، تركت المفتاح، كتبت على ورقة صغيرة كلمة شكراً. لم يكن هذا صباحاً اعتيادياً، إلى الآن لم أجد كلمة تناسبه، من البديهي أيضاً ان لا نقول شكراً مرتين.

المستقبل - الأحد 25 كانون الأول 2005