سيف الرحبي
(عُمان)

سيف الرحبيعباس بيضون من علامات هذا الجيل الشعري الذي وجد نفسه خارج المكان واللغة السائدين، باحثاً عن شيء آخر، من علامات ريادته في الكتابة والبحث عن أفق يكسر ذاك الذي أصبح شبه نموذج ونمط في الشعريّة العربيّة الحديثة.

كان أول لقاء لي على الصعيد النظري مع عباس حين كنت مقيماً في دمشق، وقرأت له دراسة في أحد أعداد مجلة "مواقف"، حول شعراء جيله اللبنانيين كانت ذات نبرة مختلفة وكانت على ما أظن جزءاً من أطروحة قدمها في باريس تحت إشراف الأستاذ "ابن الشيخ".
وجدت في هذه الدراسة كثيراً من عناصر البحث الشعري والجمالي الذي يمضي في السياق المفارق مما شدني إلى قراءتها أكثر من مرة..
كنا في تلك الفترة نتلمس طريقنا الشعري والكتابي وسط ذلك الصخب الفكري والسياسي الذي كان يشكل في معظمه متناً خادعاً يكاد يبتلع كل ما هو مضيئاً وهامشياً وحقيقياً في الشعر والكتابة عامة.

وكان لقائي الشعري الأول بعباس بيضون في المرحلة نفسها عبر قصائد متفرقة في الصحافة اللبنانية غالباً، حتى جاء ديوانه الأول ربما ("الوقت بجرعات كبيرة") وتوالت دواوينه تباعاً حتى قصيدة "صور" تلك الملحمة الرفيعة، المضطربة بسديم المياه والطفولة والحنين. فكأنما "كل ما يرغب فيه القلب يأخذ شكل الماء".
وكانت متابعتي وقراءتي المتفاعلة والمحبة له حتى ديوانه الأخير "شجرة تشبه حطاباً" (صدر بعده "ب ب ب") ذلك النضج المتأني وتلك القسوة الآسرة.
عبر هذا الركام من السنين والمجازر والعمر النافل والإنجازات الشعرية والثقافية على أكثر من مستوى، يواصل بيضون خطه الطليعي المؤثر في الكتابة العربية شعراً واستبصارات نقدية تقدم وتضيء في الشأن الثقافي الإبداعي اللبناني والعربي عامة؛ هو من دخل "الحلبة" متسربلاً بأسلحة المعرفة الناجزة وذخيرة الحيرة والقلق كأنما دخل على أتم حال منذ كتاباته الأولى.
بمعنى آخر لم تصلنا له تلك الكتابات التي تشكل السياج الأول الذي يفضي إلى الاستواء والنضج. قرأناه هكذا مؤثراً وصميمياً في حركة الشعر بحيث إن متواليات التجربة في حقولها المختلفة لا تشكل إلا إثراءً وإغناءً لما أسسته في انطلاقتها الأولى .

هناك تمعن وروية في هذه السيرة سواء على مستوى الإبداع رغم جموح المخيلة وارتيادها دائماً فضاءات جديدة في العبارة الشعرية، أو على مستوى النقد والبحث النظري. المْختَرق هو الآخر بشعرية تلك العبارة ونفاذها. تمعن وروية يؤشران ويدلان على نحو عميق بعيداً عن اللعب اللغوي المجاني الذي يسوقه البعض من باب الأستذة والبعض الآخر من جهة الجهل والاستسهال. بعيداً عن تلك الآلية السيالة التي لا تقول في النهاية حتى عبثها وعدمها، لا تقول شيئا ذا بال وقيمة.

وفي بحثه حول شعر مجايليه والذين سبقوه، نلمس ذلك التواضع وتلك الروية المنصفة.. ليس هناك هجوم واندفاع بغية تسيد واحتلال المواقع والألقاب والتسميات.
وهو منذ زمن بعيد لا يقدم نفسه مكتشفاً ومؤسساً لأنماط تعبير جديدة. إنه "قارئ جيد"، هذه العبارة ذات المرجعية البورخيسية هي الملهمة. القراءة العميقة لتضاريس الواقع بالمعنى التاريخي والراهن، والمعرفة في حقولها الشاسعة.
عباس بيضون القارئ البصير والمبدع الكبير سلاماً.

رجوع