أحمد بزّون
(لبنان)

ليس شاعراً عابراً. أتى إلى الشعر كهلاً، في سن يغادر فيها الشعراء، لكنه قاتل بأفكار شابة رافضة متمردة، فانتشرت ريحه تحت الرماد. جاء ومعه كل عدة الشعر. نصوصه الأولى كانت كافية ليقف لها الشعراء ويذهب إليها المريدون، وكافية ليكون نفسه ولا أحد سواه، يبني عمارته الشعرية في مكان ناءٍ عن الجميع.
حرفته السابقة مناضل يساري لبناني، شهد الانقلابات السياسية وخاض الصراعات الحزبية، وتبوّأ مراكز قيادية، لكنه لم يهدأ في حزب. انقلب على الأحزاب القومية والأممية، ثم قبل الهزيمة وانقلب على نفسه ولمّا يزل، فبات ضد القومية والأممية واليسارية، وضد أي التزام. هو، ببساطة، اكتفى بصفة "مناضل سابق"، وترك تاريخه خلفه.

مهنته الحالية شاعر عربي، يطرق أبواب العالم بقبضة واثقة. تمرّس الصحافة، متنقلاً بين "الحرية" و"السفير" البيروتيتين، و"الشاهد" القبرصية، و"الشروق" و"الخليج" و"الاتحاد" الإماراتية، ليستقر مدير تحرير مسؤولاً عن القسم الثقافي في جريدة "السفير" منذ العام 1997 ولمّا يزل.
مثقف كادح، قاتل على جبهة السياسة فهزمته، وعلى جبهة الشعر فضجت به ساحاته. واجه الشعر بالشعر، والشعراء بنقد سليط وحاد، فأذعن له البعض، وصادقه البعض الآخر، وتجنب شرّه كثيرون. ومع ذلك فهو شاعر متواضع في طبعه وطبيعته، شرط ألا يغمز أحد من قناته فيقفز فوق الجميع.

هوايته التمرد والرفض حتى على نفسه. يظهر كأنه داعية تدمير الأفكار السائدة، ومؤسس لخلخلة المفاهيم، ومتلذذ بنكء المقدس. فوضوي بامتياز، إلى أن يصل الخطر إلى جلده. يطلق أفكاراً مدمّرة، ولا بأس إن طاولت بيته الشعري. ولا بأس أن يتنكر لقصيدته المعروفة "صور"، التي تخطاها شعره. على أنه كلما تخطى نفسه رفض نسخته السابقة، وربما نسيها، هو المتهم بالنسيان، بل السعيد به، إذ "لا تكون السعادة سعادة إلا في إمكانية النسيان"، كما يقول نيتشه، ويتابع: "عندما يغلب كبريائي ذاكرتي يخفي منها ما يرفضه". بعض الأصدقاء الخبثاء يقولون إنه نيتشوي في النسيان وفي أشياء أخرى.

لا يسعى إلى مملكة شعرية خاصة به، بقدر ما يهمه أن يدمر الممالك القائمة. قليلاً ما يمدح وكثيراً ما يهجو. يزرع بذرة شعره في الأماكن الضيقة المعتمة، على القارئ أن يضيئها ويوسع آفاقها.

شاعر حب من دون أن يكلف نفسه بالغزل المتداول، ومن دون ألفاظ العشق والغرام وناعم الكلام، بل مع مزيد من الرغبة الصعبة الممزوجة بالألم. وشاعر سياسة ("مدافن زجاجية" و"نقد الألم")، من دون أي تعبير سياسي مباشر، وشاعر أفكار من دون أن يكمل فكرة أو يقودنا إلى موعظة، وشاعر صور من دون أن يضيء مشهد أو يكون أميناً لوصف. يبحث عما أنف منه الشعراء ورموه، ومن الأماكن الرطبة المهجورة، ومن التفاصيل التي يعبر فوقها الكلام المرخّص... ليشكل من كل ذلك مادة لإبداعه الشعري وغرابة صوره القلقة النافرة.
شعره لا يبهر العين ولا تطرب له الأذن.. شعره جِلْدٌ خشن، على القارئ أن يتحسسه ويلمسه بأصابع شديدة الحذر، قد تتجرح، لكنه إذا تابع اكتشف الرجل وفضاءاته وتوتره الشعري الذي يخض خلايا الجسد، بل يستنفر كل أحاسيس القارئ دفعة واحدة.

عباس بيضون يكتب الشعر كمن يحفر في العتمة، إذا وجد عقدة في الصخر حاد عنها، ليكمل بحثه عن ضوء قليل يعين المسافر في شعره. فالداخل إلى شعره كالداخل إلى كهف، عليه أن يحمل معه ضوءاً كثيراً، حتى لا يدمي أنفه.

عليك أن تفهمه، وتعرف آلية كتابته ومنابع ثقافته ومرافئ أفكاره، كي تستطيع أن تدخل مملكته الشعرية وتسعد بها، وإلاّ خرجت بائساً تشتم الشاعر مرة ونفسك مرة أخرى، لتكون منصفاً. البعض يعتبر أنه يمارس بشعره نوعاً من التعسف على القارئ. لا أظن أنه يتقصد أي إساءة للقارئ. هذا هو الشعر بالنسبة إليه، فهو، نفسه، رأى مرة أن الشعر تعسفي وإلزامي إلى حد يثير الضجر، فذهب إلى الرواية مرة، واستدعاه الشعر فعاد إليه، ثم ثانية فاستدعاه، ثم يمكن أن يفعلها ثالثة ورابعة، وفي كل مرة يظهر كذلك البدوي الذي لا يغنيه القصر عن خيمة الشَعر، أو الشِعر.

قلنا إنه ليس شاعر أفكار، وإن كان مغرماً بشعر إليوت وريلكيه وريتسوس وسان جون بيرس. ليس شاعر أفكار، إلا أن شعره عبارة عن تململ أفكار، وعن شرانق لأفكار مقتولة.
ما هو لافت أن الشعر المسكون بالخشونة والتوتر العالي وقوة تدمير اللغة وحطام الصور والتكسر الذي تشهده خطوط المعنى... كل هذه الأمواج بدأت تهدأ، والزبد الذي يرغي في شعره بدأ يجري ماء، كأن ثورة الشعر هدأت، فراح الشاعر يرتب طريقه الشعري بوعورة أقل وضوء أكثر، ويذهب إلى شيء من العقلنة التي بدأت ملامحها تطرد الكثير من أدوات الفوضى.. والكثير من الأسئلة.

عباس بيضون ليس شاعراً عابراً، بات علامة بارزة في تاريخ الشعر العربي، يعرف كيف يشعل قصائده كل مرة بزيت جديد. بات شيخاً له مريدون ليس سهلاً عليهم تقليده ومحاكاة نصه.

رجوع