سفير الشرق إلى آخر الأرض، يحمل في قلبه وعلى كتفيه جدراناً شرقية الطابع ليزرعها هناك ويعود متحرراً منها، خفيفاً شفافاً كطفل يخط شغفه وشغبه على جدران الحي، أو يحلم بجدار تعلوه الأعشاب ليخضرّ مداه الأزرق المغلق قبلها، يحمل مفتاحه سندباد من الشرق في ترحاله بين باءات المدن الثلاث: باريس، برلين وبيروت، وهو يحتمل الوداع دوماً كقدر لا يتغير، هو عباس بيضون يقول: "تعال أيها الغريب/ يكفي أن تصير هنا/ لتستحق كلّ شيء" (ص 79).
بهذه اللغة الكاشفة يفتتح الشاعر عالم المسافة المفتوحة على سفر الذات الشاعرة إلى الغرب من الأرض، حقيقة لا مجازاً، وواقعاً يكتب ملامحه شاعرٌ يبدأ كتابته المسافرة غرباً حتى آخر الأرض، أول الاعتراف أو بداية عريه أمام التاريخ. وهو الغريب حقاً في بحثه عن اكتشافات الذات التي لم تتعلم بعد الوقوف طويلاً أمام تحفة فنيةٍ أو تمثال، أن تتعلم كيف تنتصر على جدار، تركه الزمن سهواً في برلين، أو نفقاً عبره قطار شاردٌ بين باريس والمدن التي تتشابه أسماؤها كأنها لا تحترف مهنة أن تعيد كتابة تاريخها، كما يتقن الشاعر فعله.
"ستنكشف كمشبوه وحيد في المؤامرة التي ختمت/ بتاريخ أسود/ ولم يبق منها سوى نسخ زائفة"(صفحة 78). كأن عباس بيضون يستعيد ذاكرة جماعية لشعب أو أكثر، أو اجتماع شعوب مقهورة على امتداد أواسط أفريقيا، وغرب المتوسط وشماله الشرقي معاً، ذاكرة شعوب منسية، ربما انكتبت بدم أسود في رواندا، أو البوسنة، أو بغداد، ربما هو لا يريد لها أن تحكي على لسانه، وفي نص لم يرده قصيدة، ولا معلقة، لكنه جاء مختزلاً بلاغة الجسد وقدرة الشاعر على أن يبدأ الصراخ ضدّ جبروت القتل أو عهر السياسة، هذا الصراخ البليغ حدّ بلاغة جرح في الصدر ينطق بما اندمل فيه من ألم وأمل ربما، حين الجرح يكون صدراً للحياة، والصدر يكون حقلاً للعصافير، ويباس أوراق الخريف التي التقت عفواً في موعد مع السرطان، في مستشفى باريسي لا يمهل قطار العمر، ولا يطلب من عقارب الساعة أن تنتظر.
الشاعر في باءاته الثلاث، باريس، برلين، بيروت، كأنه في موسم هجرة إلى الجنوب، من باريس إلى بيروت عابراً برلين، كجنرال مهزوم يقع في الخرافة، ولا يكتشف إلا متأخراً، أنه يعاكس اتجاه الريح، في ارتحال الروح إلى غايات الشعر المتجرد من الغاية، في قمة النبل، وقمة الاقتدار على الانطلاق، في رحلة سندباد المدن الغريبة، إلى جدار في مدينة اعتادها، وأحبها، وسكنت قلبه غضباً وغصباً حين سكنها، يركن إلى مفتاح في جيبه، يقول: "لن تصيح أيتها المدينة التي غدرتني/ وتختفي تحت عباءتك في الليل/ اشرب فنجاناً كبيراً تحيةً للمكان/ وضع مفتاحك الصغير على النافذة" (صفحة 65). كالفلسطيني اللاجئ بعد خمسين عاماً من النكبات والهزائم، يتمسك بما في يده ليحلم، كأن اليد تدخل عميقاً في الدماغ لتحفر في ذاكرة الأشياء، بخنجر ماء، كأنها طلقة الرحمة في "المخ" ليتناثر على جدار الحقيقة، أو الحديقة لا فرق، يقول: "لا نحتاج إلى دليل بالطبع/ حياتنا تعود إلينا دائماً ككلب أعرج/ إنها حلقات متواصلة/ مَنْ لا يعرف الحديقة لا يعرف المدينة/ مَنْ لا يعرف الكلب لا يعرف الأرنب/ لكن مَنْ رمى المفتاح؟" (ص 98).
يكتب عباس بيضون حكاية المكان ليبقى غريباً عنه، غريباً فيه، ويحلم، بعالم لا تحده المساحة ولا تصله المسافات، هو عالم افتراض يبدأ من شاشة كمبيوتر ربما، كبيرة بحجم الجدار، صغيرة بحجم الكون الذي يبدأ من حبة رمل، كما في رؤى عباس بيضون نفسه، حين يكتشف أن ثمة فضاء ما، لقلب الشاعر وأسنانه، في مكان واحد، محل أو ثقب، ربما في جدار، أو في خيال، يرسم حدود انتماء الشاعر إلى الرمل، حكاية السندباد العربي الذي يعود بعد كل غرق، وكل موت، وكل ضياع، إلى بغداده عبر الرمل، كأن العربي لا يعرف إلا من الأثر الذي يتركه خطوه، ولا يعرف ذاته إلا به. أو كأنه فينيقٌ لبناني يكتب حكاية الحرق ثم البعث، لكنه هذه المرة يسافر في رحلة البرزخ، لا بين الأرض والسماء، بل في سماوات مدن أوروبا البعيدة، باريس وبرلين، ماسحاً أثر الاختلاف، مفتتحاً زمناً انتهى فيه العربي والشرقي من وهم انبهاره بحضارة الغرب، مستعيداً عينيه من الدهشة المزمنة، كي يعود قادراً على استعادة ذاكرته التي مرّ بها شقر الأرض وبيضها، كمرور قطار سريع، أو استقرار كلمات "معظمها محبوس/ والمطر قد يهطل أولاً/ في ذلك المساء المنزوع الرائحة/ عشية الإبادة/ أول الأحد الأجوف" (ص 44). وهو هذه المرة لا يحترق بالنار بل بالبرد، في مدن تسافر كل ليلة في قطارها السريع، سرداب الطائر أو لسان الليل الطويل، يسرد قصة الغريب، الذي ارتدى معطف غوغول، لكنه لم يتعلم لغته، فلم يتقن النطق باسم الخادمة الألمانية التي بالتأكيد قالت عن لغته العربية "قمامة لا تعرفها" (ص 51).
أن يكتب الحكاية بالرمل لأنه ابن هذا الشرق، هذا الكون القاحل الروح، الشريد الطريد كشاعره الأول، ثم يكتشف أن الجفاف حكاية أخرى، أو هو شكل آخر للروح في صومها الأزلي، وبينها وبينه عين "كاميرا" الشاعر الذي رأى، فعاد إلينا نبياً للجفاف، داعيةَ صوم الروح كي تستريح من ظمأ الأجداد والأسلاف، منذ أول حبة رمل، حتى ما شاء الله لهم من سفر يوميّ، لا تراه العين إلا بالأثر، وهم ينشفون، يتعرقون، ليصيروا فوق أصلابهم صلبان شظف العيش، أو عيش المؤجِّل موته، معلناً فرحته بالظمأ الأخير، قبل التخشب والزوال، يقول: "الرطوبة تجعل لعابهم في روحي/ تعطيش الأشجار/ يجعلها أقلّ ذباباً" (صفحة 21)، والتعطيش يؤدي إلى جفاف المعنى، كأنه لا يريد لقوله أن يقول، أو لهمه أن يزول، فالبدايات مفتوحة على احتمالات شتى، وصدر الغريب كعمره، مفتوح على الغواية، فلا يغريه أن يعلم، ولا يغريه أن يجهل، فكلاهما صمت، وفي الصمت يكمن هدوء الأطياف، وركود ماء الذكريات عن المدن البعيدة، كأنها بيروت، نقمة الشاعر ونعمته، لعنة المكان، الجرح، "ينشف ويتوقف عن الصراخ/ يتخشب في نهاية الأمر/ وإن من الممكن أن يبيع المرء حظه بخشبتين" (ص 103)، أن يبيع قدره ليشتري مساحة حذاء له في المدينة، أو يشتري موعداً له ليصل إلى مكان ما، في نهاية الرحلة، حتى لو كانت نقطة النهاية بداية البداية ذاتها، هكذا هم البدو الرحل، وهكذا هو عباس بيضون، قديس المسافات، سندباد المدن.
هو التشظي السندبادي، أو الرحلة القدرية لعباس بيضون، ما بين باريس وبرلين في طرف العلاقة المكان، وبيروت المتخيّل بما ترسمه الذاكرة من مرارة الرمل، الحداد، ما يميز العربي ابن الشرق في مروره العابر بالمدن الشتوية التي ترتدي البرد ومزق ما خلعته عاريات بيكاسو في اللوحة، أو تنام مع غيلان ميرو، أو تسامر أقمار النيون على وقع حوافر ديناصورات كالدر ودوبوفيه. كأن بيروت واقعة في دقائق تأخير عن الواقع كما يريدها الشاعر أن تكون، كي يستعيد ألفته جرحَه في الصدر، "حين يخفيه المفؤودون على كورنيش المنارة يمرون مسرعين في معاطفهم المزررة بالكامل، فلا يلتفتون كثيراً إلى جرح اختفى من صدورهم" (ص 117).
ويبقى هو الشاعر المقامر، باللغة والذاكرة، والجسد، ينقّب في جرحه المفتوح باحثاً عن باب إلى الحقيقة الصديقة، إلى الأمكنة الأكثر دفئاً، شاهراً في وجه أوروبا صرخة الشعر العربي الكاتب بالعتمة فهذا "قصر الشتاء/ حيث لا تهدأ أطياف الشمال/ وحيث الشتاء/ لا ينقل ذكريات المدن البعيدة" (صفحة 26)، وهذا قمر اللغة المنير بالليل، المتمسك بالغياب، الحاضر بالاغتراب، ينطق باسم الشعراء جميعاً: "هنا لا نجد باباً/ إننا ننقّب فحسب/ لم نجد جذراً في الجرح اليابس" (صفحة 34).
منتصراً بجرح لا يبرحه، يقيم في صدره كأنفاسه، كأنه يتمسك به علامة وجود، يمضي عباس بيضون إلى مساحة كتابته البيضاء لأنه يعرّي بها الأسود، ويكشف زيف هذا الرمل الذي غطى ألف كذبة، ولم يحتمل لحظة فرح امرئ القيس، أو فخر طرفة بنفسه لا بأهله، كأنه الشنفرى في "استفافه ترب الأرض لا تُرى له غاية"، وعباس بيضون هو آخر الفلاسفة وأول الصعاليك، يقول: "أما أنا فلم أحر جواباً/ لقد خرجتُ بلا شك/ من الرمل الأسود/ الذي ربيته في فمي" (ص 9).
كتابُ باءات عباس بيضون الثلاث هو كتاب اتجاه، لأن الكتابة فيه تختط لنفسها مسار الحلزون، ودرب النمل، في اعتماده بوصلة موقف حميم لكن حارق، يكشف عن قيمة فكرة لم يفقهها الشعراء قبلاً، فكرة أنّ هذا القلب لا يتسع لأكثر من وفاء، وأكثر من قضية حب، وأكبر من مساحة حذاء شاعر في مدينة لا تضحك لأحد، يعلن عليها حربه كأنها قدره، يقول: "خطواتي ثقيلة مرصوصة/ أطبع قلبي في كلّ خطوة/ أطبع نفسي/ أركلها أمامي وأتقدم/ جندي حياتي الصغير هنا/ وعليّ فقط أن أمشي" (صفحة 119).
رجوع