محمد مظلوم
(العراق/سوريا)

محمد مظلومالتقيت بعباس بيضون بعد خروجي من العراق بقليل عام 1991، في أول زيارة لي لبيروت، كانت جلسة طويلة في مقهى الويمبي ضمتنا والفنان الراحل رفيق شرف ولكنني عرفت عباس الشاعر قبل هذا التاريخ فعلاً وقبل بيروت المكان، وقد تسنى لمعرفتنا أن تسبق اللقاء ونحن ننتمي إلى جيلين متجاورين حد التلاصق والتفاعل بمعنييه المثمر تواصلاً وتقاطعاً، والمنجِز لعداوات ضرورية وغير ضرورية على حدٍّ سواء.
فهو كان قد كتب في ملحق جريدة "النهار" الأدبي مقالاً عن العدد الخاص بشعر الثمانينات العراقي الذي نشرته مجلة "أسفار"، ورغم أن ذلك العدد/ الوثيقة مثل بانوراما واسعة لأكثر من ثلاثين شاعراً عراقياً، إلا أن عباس مشى في تلك الخريطة وكأنه يعرفها منذ زمن، حتى لكأنَّ أي شاعر آخر في العراق من جيله أو سوى جيله، لم يكن ليتحسس طبيعة مسارب تلك الخريطة وفناءاتها كما عرفها عباس.

في جانب آخر من المعرفة والصلة التي يشكلها الشعر عبر قرابة ونسب خاصين يتحدران كماء كثيف من غمامة واحدة كما يقول أبو تمام، كان شعر عباس بيضون كما شعر جماعة كركوك يمثل النموذج المتحقق الذي يبرر نموذجنا الشعري المرفوض في مناخ من قعقعة السلاح وجعجعة أراجيز المعارك في طواحين اللحم البشري، نحن المغرمين بالصورة المحايثة للغة وكأنها روحها التي تشف من خلال الجسد الصلب المتماسك تجربة وتأثيراً وابتداعاً، اتجهنا إلى شعر جماعة كركوك: فاضل العزاوي برفضه التوليدي، وسركون بولص بسردياته المبتكرة، ووجدنا عباس القادم من لبنان ( بجرعاته الكبيرة من الوقت) شريكاً في المطارحات مع أجيال الشعر المحافظ الذين حافظوا على أماكنهم في الوطن.

قرأنا عباس بيضون وكأنه متن طبيعي من نهضة حداثية جديدة لا محلية ننتمي إليها، تتصل مع شعر الستينات في العراق، وتحديداً جماعة كركوك، وتنفصل بنوع من القطيعة الراديكالية مع شعر سائد تضيق به نفوسنا حد النزوع نحو تشكيل قوة أو حلف شعري خاص نواجه فيه الفساد المنتشر في الشعر العراقي، الفساد هنا بمعنى الركاكة وبمعنى التراكم الكمي لا بمعنى إفساد النسق، وابتكار آخر.

في قصائد عباس تجد نفسك إزاء لغة تتكلم، وصور شعرية صائتة وهي مشهديات فعالة مليئة بالدهشة ولا تركن إلى سكونية، حجابها نفسها، وحين تحيل عناصر تلك الصورة إلى عناصرها الأولية تصطدم بهذا العالم المحتدم الذي تنطوي عليه، إنه ينحت ويغترف، على وصف الأولين، بيد أن هذه الاستعارة تبدو مستبدلة هنا أو متداخلة الحدود ما بين نحت الماء، واغتراف شظايا الصخر.

وإذا كان من اليسير إيجاد صلة النسب الأدبي مع كتابة عباس بيضون إلا أنه يصعب تصنيفه داخل الأنواع الكتابية فهو شاعر وهو ناثر، " قصائدي وسردي" وهو كاتب أفكار وهو ناقد لما يطرح من وجهات نظر بعينها، وهو يصعب تصنيفه جيلياً كذلك، ما بين تجربة حياتية تنتمي للستينات وتجربة في العمل السياسي والكتابي تنتمي إلى السبعينات وحضوراً في الثمانينات وامتداداً وتأثيراً في التسعينات وما بعدها.
وهو بقي عصياً على الاندراج تحت مصطلح "شعراء الجنوب" رغم نشأته في عاصمة الجنوب وقصيدته "صور"، وذاكرته الجمعية المشحونة، وهو لا يريد أن يبدو من شعراء المقاومة رغم قصيدته "يا علي"، وتجربته في المعتقل الإسرائيلي التي شكر عليها "العدو الصهيوني" بسخرية، بل هو شاعر تلك التجربة بامتياز خاصة في "مدافن زجاجية".

يصعب تصنيف عباس في سيرة فكرية واضحة ومطمئنة كذلك. إنه مثقف الشك والحيرة والاختلاف وهو حريص على إعادة المراجعة باستمرار، مقالاته في جريدة "السفير" تعبير نموذجي عن تلك المراجعات بل تكاد الواحدة منها تكون مراجعة لما سبقتها، لكنه في هذا كله ليس مثقف أهواء وميل مضمر، ولا مثقف اقتناعات تتناقض، وإنما هو راصد اقتناعات تتحول، أدعي أنني أعرف جانباً مهماً منها، وهو بذلك من قليلين من المثقفين العرب الذين يمكنك أو بالأحرى يمكنونك من الاختلاف معهم لا على طريقة التقاطع والقطيعة بل التقاطع المتطلع لتلاقٍ في نقطة ما، وهو عصي على التصنيف من حيث الأرومة الشعرية التي تمسك "بتلابيبه" فبين الشعر العربي والعالمي يجد نوعاً مساحات خاصة للطيران بحرية والرؤية بعين نسر ومزاج خفاش، ربما لست من النوع الميال إلى التغريب الاستشراقي في منهجية النظر إلى "شعريتنا"، لكن عباس في جانب مهم من تجربته هو ابن الشعر العربي، ابن السلالة التي مهما حاولتْ الفكاك من إرث اللغة الثقيل وعبء الظلال القاتمة لذلك التصوير المتراكم، إلا أنها تستجيب لبلاغة الواقع وقلقه باستمرار. وهو مع ظلال صور "ريتسوس" المبرَّزة بشكل خاص في مجموعته المثلثة ("زوار الشتوة الأولى مسبوقاً بصيد الأمثال يليه مدافن زجاجية") يتظهَّر مدعماً بنكهة سوريالية لافتة، لكن هذا لا يغنيك عن تعقب أثر لابتكار الصور اليومية على طريقة ابن الرومي، أو أجواء الفتنة الروحية ذات الكهوف المتداخلة لدى ديك الجن.

وهو دائم التجريب في أشكال الكتابة الشعرية من حميمية الإنشاد وطبيعة البناء المنداح في "صور" إلى التكثيف والقص والحذف والاختزال في "لمريض هو الأمل" أو "الجسد بلا معلم". في داخل عباس بيضون قديس مذعور، وهو في كتاباته شعراً ونثراً دائم البحث عن طمأنينة لذلك الذعر الكافكوي، وعن خلق دناسة لذلك القديس. كتاباته أيضاً أمينة تماماً لاستنباط خلاصة معجونة ومختمرة لهذا التلاطم الصريح بين موجتين متحاربتين، ولذلك فهو مثقف أخطاء وليس خائن أفكار وهو مثقف تحليل لا واعظ حلول أو متدرع بحيلة.

لغته ليست لغة استبطان وإشارات بدائية، وهو ظلَّ في منجى عن فخاخ الصوفية التي كانت وثناً هائلاً ومبهراً لحداثة جيله! ربما لموارد ماركسيته القلقة التي أنجت لغته من نزعات المداهنة والتطريب العاطفي وسيجتها بصلابة القول، صلابة تقترب أحياناً من راديكالية لكنها سرعان ما تتفكك عن جمالية حرة وقابلة للمشاركة.

عباس بيضون شاعر المعجم التائه، أو بعبارة أدق هو شاعر قاد معجمه البلاغي، من الوظيفة الموروثة للمفردة، إلى مستوى آخر من التوظيف، مستوى أقل ما يقال فيه إنه صادم ولافت وموتور براهنه لا بذاكرته، وهو مستوى صادر من وجدان يعي الاختلاف بل ويتمثله كتجربة كيانية أصيلة وليس امتثالاً، لكن ما قد يبدو مقلقاً في هذا التمثل، إن قصيدة عباس تبدو مستجيبة نموذجية لحداثة أضحت تعويذة جماعية، ونسقاً يغدو فيه الجمال المتفلت من عقيدة ماضية، عقيدة أخرى.

رجوع