حسناً، قلتها في العنوان، ستكون مساهمتي في ملف عباس بيضون في موقع "جهة الشعر" على دفعات!؟ وسأبدأ بما كان يجب أن يكون آخرها، أفعل هذا لكونه أيسرها، وربما أشدها خصوصية، فلا أظن الكثيرين ستكون مشاركتهم على شكل قصائد، أي إني سأبدأ بالقصيدتين اللتين كتبتهما عنه منذ ما يزيد عن العشر سنوات، ونشرتا في مجموعتي "الشاي ليس بطيئاً"، في القسم ذي العنوان الطويل: "عباس والوطواط في بيروت، وريلكه وأنا في المنام، وأسامة لوحده في اللاذقية".
أذكر وقتها أني حرصت على أن أقدم له "الشاي..." في بيته، ليس لأني كنت مقيماً عنده فحسب، بل لأني مع معرفتي به عرفت مصير أغلب الكتب التي تقدم له في مكتبه في الجريدة! فالرجل لا يبخل بشيء إذا طلبته منه، عباس من أولئك الذين يصعب عليهم قول "لا" لأحد، يصعب عليه قول "لا" ولكن سمعته يقولها مرات، يقولها عندما لا يكون هناك مجال لقول "نعم" كعادته، يقولها "لا" قوية وقاطعة في وقتها ومحلها.. ولكن أبداً ليس مع زكي وربا والسيرلانكية التي تعمل ـ تتلهى على الشرفة وتشاهد التلفاز وتنام - عندهم، قلت له : "عباس يجب أن تتخلص من هذه المرأة، إنها لا تصلح لشيء!". أجابني: "لا أستطيع فهي لن تجد أحداً يقبل بها للعمل عنده، ثم ما بالك ألا يجب علينا نحن معاملتهن بطريقة مختلفة!؟". وليس مع أصدقائه وزائريه، وليس مع الشعراء من أية طبقة!؟ (أليس هو صاحب عبارة: أخوة الشعراء)، أما إذا لاحظ أن كتاباً ما احتفي من أمام نظره كان قد وضعه لتوه، فواجب عباس أن يتظاهر بأنه لم ينتبه!؟ وواجبه أن لا يسألك ما إذا كنت وضعت الكتاب بالخطأ في الحقيبة البلاستيكية التي تحملها معك وقد امتلأت بالكتب من على مكاتب أحمد بزون وإسكندر حبش وعناية جابر!؟ أما سرقة، أو أخذ، أو استعارة بدون استئذان، الكتب من خزانتيه في بيته، اللتين لا مكان فيها للثياب بسبب الكتب المكدسة على أرضيتيهما ورفوفهما، فتنحصر بالساهرين لليلة أو ليلتين، أو الغربان الثقلاء مديدي الإقامة نسبياً من أمثالي. وبما أني سوري ينقصني كل شيء، وعديم كل شيء، فقد كنت آخذ ما أمكنني حشوه في حقيبتي من كتب وسيديات وكاسيتات غير متوفرة بسوريا، أصورها وأنسخها في اللاذقية عدة نسخ لي ولأصدقائي، وأعيدها له كلها، ما عدا التي لديه منها أكثر من نسخة، دون الحاجة لإخباره أني فعلت.. مرة سمعته يشكو أمامي فقدانه للكثير من كتبه. أرجو أنك لا تقصدني بهذه الملاحظة، قلت له، فقال: "أنت على الأقل تعيدها"، أما نظارة القراءة، أقسم إني أخذتها حاسباً إياها نظارتي، وعندما اتصلت به من اللاذقية، قلت له: "عباس أخذت شيئاً من عندك بالخطأ". أجاب مباشرة: "أعلم.. نضارة القراءة". إذن كان يعلم كل شيء!؟
راح عباس يقلب "الشاي ليس بطيئاً"، بجدية زائدة لم أعرفه عليها إلا في أحوال نادرة، فالأمر الآن يقع في صميم اختصاصه!؟ الشعر.. أولاً: أبدى إعجابه بالعنوان.. يهتم دائماً بالعناوين! أذكر تعليقه عندما صدرت مجموعتانا يوسف بزي "تحت المطرقة" وأنا "مزهرية على هيئة قبضة يد" عام 1997: "لماذا هذا العنف كله.. مطرقة وقبضة !؟" ولكن ما أن التقطت عيناه عنوان اسمه في "عباس والوطواط في بيروت، وريلكه وأنا في المنام، وأسامة لوحده في اللاذقية"، ثم قرأ القصيدتين "التفاتة قاسية من فوق الكتف" المكتوبة عنه والمهداة له بالاسم الكامل، وبعدها مباشرة "تبعاً لإحساس أعمى في الاتجاه" حتى همهم ضاحكاً: "هذا الكتاب عني!؟؟".
1- القصيدة الأولى:
كتبت "التفاتة قاسية من فوق الكتف" قبل انشغالي بمجموعة: "منذر مصري وشركاه" التي كانت بمثابة قراءة الشعر بالشعر، أو تجربة كتابة الشعر بكلمات وأحاسيس وأفكار الشعراء الآخرين!؟؟ لكن "التفاتة.." فيها الكثير من هذا، وكأنها تبشير به، فالسطر الأخير، من إحدى قصائد عباس، لا أذكر أية قصيدة ولا أية مجموعة، بتحوير بسيط. كما أنها تتضمن مقاطع من حوارات لم نتفق فيها على شيء سمحت بها لقاءاتنا المتقطعة، كقوله لي وهو يقرأ مجموعة شعرية لأحدهم: "لا شيء يبعث على الضجر أكثر من الشعر" وكذلك قوله لي مرة عن بيروت: "المدن بدائل ناقصة عن الأحلام"، ومقابل أقواله هذه يوجد تعقيباتي عليها: "وخاصة الجيد منه" حيث أعتقد أننا توصلنا إلى قصيدة تخلو ما أمكن من الأخطاء خلوها ما أمكن من الإمتاع والإثارة. وكذلك تعريفي للشعر بأنه "توثيق دقيق للأكاذيب" وذلك لإيجاد حل ما بين الخيال والواقع، أو بين الادعاء والحقيقة. كما تتضمن انطباعي الأخطر عن عباس بيضون بأنه، خلف تلك الخفة التي يبدو عليها دائماً، والتبسط الذي يفاجأ به كل من يلتقيه للمرة الأولى، يخفي قلباً مفؤوداً تنخره الثقوب، وروحاً مثقلة لا يستطيع عباس حملها والعيش بها إلا بالتحايل عليها. ولا شيء كالشعر قادر على ذلك.
التفاتةٌ قاسيةٌ من فوق الكتف
( إلى عباس بيضون )
ربما أستطيع بعد لأيٍ
أن أنسل من عقدته خيطاً
أدخله في عين مسلتي المقوسة
وأحيك به
ما يستحقه من مديح.
/
ذلك أن حيلتي
لا تتطلب أكثر مما بقي لدي
من إرادةٍ واهية
لأن أتخذ المنحدر الأجرد
صراطه المستقيم
الأقصر مسافةً والأقل إضاعةً للوقت
سبيلاً يصل بي إلى جحره
حيث يقتضي هبوطي
التمسك جيداً برؤوس الصخور
وأنا أدير باتجاهه ظهري
مصححاً بعد كل خطوةٍ أو خطوتين
بالتفاتةٍ قاسيةٍ من فوق الكتف
اعوجاجي.
/
وكعادته سيكون هناك غائباً
بحجةٍ جاهزةٍ وعذرٍ محكم
بأن يترك على التربيزة
قرب الصوفا الطويلة في الصالون
قدحاً ملأه بخلائه
علامةً على أنه كان مستلقياً هنا
بانتظارنا
وكتاباً مفتوحاً
قرأ منه عدداً من الصفحات
ثم قلبه على بطنه
لأنه : ( لا شيء يبعث
على الضجر أكثر من الشعر ) يقول هو
( وخاصةً الجيد منه ) أتابع أنا
حيث المدن
لا أكثر من بدائل ناقصةٍ عن الأحلام
والقصائد
توثيقٌ دقيقٌ
للأكاذيب.
/
يشد الأبصار إلى يدٍ
ليخفي ما يفعله باليد الأخرى
مخرجاً من قبعته
ما كان قد سقط فيها
دون أن ينتبه له أحدٌ
من فتحة كمه
كل هذا وأعمال الحواة
بعرفه
لا تحتاج لمعذرة..
14-8-1996
2- القصيدة الثانية:
هي القصيدة الوحيدة التي كتبتها في بيروت، وذلك خلال إحدى زيارتي لبيت عباس وإقامتي ليومين أو ثلاثة عنده،، يقول لي في كل مرة أخبره فيها أني سأسافر: "كتبتها، بالرغم من طولها نسبياً، ذات يوم وليلة!؟ كاليقطينة التي أنبتها الرب فوق رأس النبي يونان (يونس) لتمنع عنه سعير الشمس، ثم أرسل ريحاً ساخنة وأحرقها! مما أغصب يونان وجعله ينتف بيديه شعر رأسه ولحيته!؟ الأمر الذي أثار دهشة عباس لحد ما، وجعله يصدق أني أكتب الشعر هكذا، كل يوم قصيدة، فسألني في حواره معي: "تكتب بغزارة، يخيل أنك تكتب بقدر ما تعيش، هل هناك سباق بين شعرك وحياتك، ألا تجد أن للشعر حيزاً خاصاً يستحق التهيؤ والصمت؟". والحقيقة أنها قصيدة تتبع طريقتي التقليدية في الكتابة، الطريقة التي أستطيع بها بسهولة الكتابة عن أي شيء، كما تلك القصائد الطويلة مثل "دفاعاً عن حق الإنسان في استخدام الممحاة" التي نشرت مؤخراً في "نوافذ" في "المستقبل" بعد كتابتها بعشرين سنة، و"لمن العالم" التي نشرتها بالتسلسل في أحد المواقع الأنترنت، مع عنوان إضافي: "أطول وأسوأ قصيدة في الشعر العربي الحديث" فأرسل لي وقتها إسكندر حبش رسالة تقول: "صدقت يا منذر... إنها بالفعل أطول وأسوأ قصيدة قي الشعر العربي الحديث". إلا أن القصيدة مثل كل قصائدي ومثل كل ما أكتب عنه، كما أفعل الآن، مصابة بمرض نرسيس ذاته، حيث أن كل ما تتكلم عنه، عباس الذي أوجه له شبه اعتذاري هذا مع ما يكفي ويزيد من الذرائع والمبررات، وبيروت المدينة التي "تأتي إليها بأفضل ثيابك/ ولست على موعدٍ مع أحد/ ثم لا تقدر على مغادرتها/ ولم يبق لديك ما تفعله" ليس سوى مرايا، صفحات ماء أنحني عليها وأنظر لأرى نفسي. كما يعرف الجميع ويأخذونه علي. كما أن القصيدة تتطرق لعدد من النقاط التي ما فتئ الشعراء والنقاد يتناولونها ويختلفون حولها، كمسألة الشاعرية والسوقية "أنا الشاعر الذي يبدأ صباحه بكرع زجاجة مياه غازية"، الوضوح والغموض، والإكثار من التفاصيل والتلميح، فحين تنتهي جولتي الوطواطية متسكعاً في شوارع وكافتريات وبارات بيروت، وأعود لبيت عباس، وكان حينها في مار الياس، الساعة الثانية بعد منتصف الليل، صاعداً تلك المتاهة المظلمة لحلزون السلالم، أجرب المفتاح الذي تركه معي في العديد من الأبواب، حتى يفتح لي أحدها، فأجد عباس نائماً بكامل ثيابه، ما عدا الحذاء، على كنبة الصالون الطويلة مقابل التلفزيون، وكل أنوار البيت ساطعة، ورغم كل هذا الوضوح، أقف أنظر إليه متسائلاً ماذا يفعل!؟.
- تبعاً لإحساسٍ أعمى في الاتجاه
( شبه اعتذارٍ عن عدم قبولي دعوتك لقضاء السهرة، تلبيةً لنداء الواجب بالقيام كل ليلةٍ بجولتي الوطواطية)
ذائباً كالظل في الظل
أمضي بلا طريق
تبعاً لإحساسٍ أعمى في الاتجاه
إلى مكانٍ لا أعرفه
وأعود إلى مكانٍ لا أعرفه
وفي كل مرة
يا للحسرة...
أصل.
/
وكأني كنت على موعدٍ مع المطر
كعادته ينتظر لحظة خروجي
وخبطة الباب ورائي
لينهمر.
/
لم أشعر بالإثارة بالقدر الذي تتوجبه
مؤخرة الممثلة المضيئة
حال دون ذلك
الذباب الذي كنت أسمع أزيزه
محوماً في العتمة على غير هدىً
ثم فجأةً يلطم وجهي
وكأنه يلتقط انعكاس
الأضواء في عيني.
/
تأتي إليها بأفضل ثيابك
ولست على موعدٍ مع أحد
ثم لا تقدر على مغادرتها
ولم يبق لديك ما تفعله
قلت لك : ( مع كل مدينةٍ تحتاج امرأةً
ومع كل امرأةٍ تحتاج مدينةً )
وبرهاني هو : ( كما لا يمكنك أن تحب امرأتين
في مدينةٍ واحدة
لا يمكنك أن تحب مدينتين
في امرأةٍ واحدة ).
/
في المتاهة الدامسة لحلزون السلالم
لم أعرف في أي طابقٍ أنا
ولم يكن لدي ما يدلني على بابك
سوى المفتاح الذي تركته معي
فرحت أجربه على أبواب جيرانك
في كل طابقٍ ثلاثة أبواب
تصور أن يفتح
صدفةً
باب آخر غير بابك.
/
لم أصدق أني في بيتك
حتى رأيتك نائماً بكامل ثيابك
ما عدا الحذاء
- أذكر هذا التفصيل تأكيداً لولعي المبالغ به
بالدقة -
إذن... بعد منتصف الليل
بساعتين تقريباً
عدت ووجدتك نائماً
بكامل ثيابك ماعدا الحذاء
على الكنبة الطويلة في غرفة الاستقبال
فماذا تريد أشد من هذا وضوحاً !
خاصةً وأنك أضأت
مصابيح الشرفة والسقف والجدران
ولم تطفئ التلفاز
ورغم كل هذا الوضوح
وقفت طويلاً
أنظر إليك متسائلاً
ماذا تفعل ؟.
/
أعطيك عشر صفحاتٍ من شعري
تعطيني بالمقابل ثلاثين صفحةً من شعرك
تفعل هذا تهذباً
وبنظارتك المكسورة الساعد
تطوي الصفحة الأخيرة
وأنا بعد لم أنته من المقدمة
ومع أنك تقرأ صامتاً
تسعل مرتين أو ثلاث
كلما قلبت صفحةً.
/
الصحون لا تجد مطرحاً لها على المائدة
الكتب تغمس أطرافها
في الطعام.
/
لا نتفق على شيء
ولكن ليس أمامنا من خيار
سوى أن نأكل الكتب ونقرأ الصحون
( يالها من سلطةٍ بطعمٍ شاعري ).
/
بين الرسامين يسمح لي أن أقف وأتكلم
عن أي شيءٍ
باعتباري شاعراً
وبين الشعراء ليس لي إلا أن أجلس وأنصت
باعتباري رساماً
ولأنه من الصعب أن يكون لديك
في أحد أدراج مكتبك أو على سطحه
حيث تكدس دون أدنى تفرقة
كل أجناس القصائد
قلمٌ ذو قلبٍ من فحم
فإن أي قلمٍ بقلبٍ من رصاص
أو من دمٍ أسود أم أزرق
جاف
يكفي لأستعرض أمامك
مهارتي في الرسم.
/
ملامحك أشبه ما تكون بالعناوين
إلا أني سألون ما بين خطوطها العريضة
بالشاي الباقي في القدح.
/
سوف تتذكرني أنا منذر مصري
الشاعر الذي يستيقظ في الصباح الباكر
ويبدأ نهاره بشرب
زجاجة مياهٍ غازية.
/
حشوت في حقيبتي
كل ما يلزمني من قمصانٍ وسراويل وأحذيةٍ وكتب
ولم أنس شيئاً لا أقدر على العيش بدونه
سوى المنشفة
وحين غسلت وجهي جففته بأسفل
الجزء الخلفي من قميصي
ثم حملقت في المرآة
...
رأيت فمي
ورأيت أنفي
ورأيت أذنَي
ولم أر عينَي
لكني لم أدهش
ولم أسأل نفسي
كيف أنظر بعينَي وأرى بعينَي ولا أرى عينَي
لأنه على الدوام
تضيع في وجهي عيناي
كلما حدث ومضيت إلى نهاية
قصيدة..
10-2- 1997/ بيروت
12/10/2007/ اللاذقية
رجوع