يوسف بزّي
(لبنان)

يوسف بزّيهل يخطر على بال أحد أن يكتب هذا العنوان لمقالة عن عباس بيضون؟ بالتأكيد. ذلك أن مجموعته الشعرية الأولى "الوقت بجرعات كبيرة" كانت أشبه بخلع باب بالقوة، ورفساً بالأقدام. اقتحام عاصف لما هو مهجور ومتروك ومكسو بالغبار. يمكننا أن نتخيل أثاثاً متهالكاً، لكنه مع ذلك لم يفقد جماله، ولا يخلو من ألفة الذكريات. يمكننا أيضاً أن نتخيل أغراضاً شخصية قديمة ومنسية، ومع ذلك لم تنقص قوتها على الإيحاء وعن تقديم هوية وماضٍ. يمكننا أن نرى فتات خبز وحبيبات ملح وكأساً رسب فيه نبيذ عتيق وجوارب برائحة لا تطاق.. بمعنى آخر، الحياة هنا كاملة رغم التحلل الفيزيائي والبيولوجي للأشياء والكائنات، والأحرى القول إنّ هذا التحلل هو علامة تلك الحياة. إننا نبصرها في ذاك الذي نسميه بحنق وغيظ: المصير.
هذا بالضبط هو ما يضعنا أمام سطوة وأبهة الآثار. ديمومة الماضي بطعمه المالح والزنخ.

لنبعد نملة النقد عن الأسطر، عن قصيدة بيضون، ذلك أننا بصدد التذكر لا التحليل العاقر بعينيه الصغيرتين الملتصقتين وقرنيّ استشعاره الغبيين. نحن "نتذكر" الشعر (بعيداً عن التبجيل أيضاً) طالما أنّ فعل التذكّر هو خصيصة بيضون المتأرجح بين مجلدات اللغة والشعلات المنطفئة للناس وللأمكنة.
حتى التذكّر هنا، يأتي بقلق وكبرياء وبهجة. لهذا السبب أرى أن عباس بيضون أثناء كتابة "الوقت بجرعات كبيرة" كان يأتي بكل كلمة وكأنها خرجت من أزمتها القاموسية المزمنة، ومن سمنتها "الشاعرية" المملة والكسولة. إنها هنا مقشرة، ممغنطة بكامل طاقتها الرؤيوية. لا نعرف كيف. فقط استطعنا أن نشم عطرها الانتصاري وأن نشعر بالغبطة إزاء هذه البراعة، التي كنا حينها لا نراها إلا في فن الرواية، خارج الشعر المكتوب.
مع الخفقان المتواصل، والارتعاش الذي يشبه التلألؤ – هكذا أتخيل – كانت المفردات تنهمر من جسم عباس، بالمعنى الحرفي للكلمة، مع عثراته الشهيرة ورأسه النسَّاء، مانحاً إيانا، بعد أن قضى أكثر من عقد في الارتباك والتخلي والمحاولات المهجورة، "الوقت بجرعات كبيرة".

حين قرأنا جملته "هل يمكن لرجل مثلي، لامرأة مثلي..." أو "أنا الذي نمت البارحة مع حصان مات من عنقه حتى حوافره وكنت أجامعه على عينيه"، حين قرأنا ذلك في منتصف الثمانينات أدركنا أن شرط الكتابة الشعرية قد تغيّر بالنسبة لنا، نحن الذين كنا نتلقى المفاجآت، التي رغم روعتها كانت تشبه التحدي المتمادي: جماعة كركوك المذهلة (صلاح فائق، جان دمو، فاضل العزاوي، وسركون بولص...) ثم تجربة بول شاوول الصلبة والأنيقة والعفوية، ثم هذا الصوت اللاذع الذي يشبه شمس الظهيرة وديع سعادة.
لقد أصابتنا الدوخة وطوحت آمالنا أن نكتب الشعر بسهولة، نحن الذين كنا "نضحك" (أو نهزأ) من أولئك الطواطم، من الأجداد الأسطوريين الوقورين، أولئك "الرواد" الذين شيدوا هيكل "الحداثة" أواخر الخمسينات (وللحديث بقية).

يروي عباس بيضون كيف أن سعيد عقل قال له بمزيج من السخط والاستهجان "يا عباس... صور خان للمسافرين؟". وكأنّ بيضون بنعته صور "خاناً للمسافرين" قد هدد ليس أمجاد المدينة وعظمتها، إنما أساساً هدد الشاعرية التي تقول (أو تصنع) الأمجاد والعظمة، شاعرية عقل بالتحديد. لم يهدمها أو يخربها إنما قال واقترح تلك الشاعرية المضادة، حيث الأسمال الحجرية والسمك الفاسد واللهجات الريفية وحشرات الكروم والدم الذي يلطّخ الأبواب بل وحتى مصابيح السيارات هي كلها إضافة إلى "خان المسافرين" تقيم عظمة مدينة.
عندما صدرت قصيدة "صور" منتصف الثمانينات كنا نتأتئ الشعر. وكان علينا أن نخر صرعى هذا السحر الذي دلنا على أن القصيدة يمكنها أن "تثرثر" (كانت الموضة وقتها "تقتير الشعر")، أن تغني (كانت الموضة حينها ازدراء الغنائية)، أن تسرد بلا تقنين (كانت الموضة خنق كل سرد)، وأن تكون رواية (كانت الموضة معاداة الروي والحكاية). والأسوأ من كل هذا أن تحمل التاريخ مجدداً وأن "تذكرنا" بالمنبت الأول للشعر، الملحمة. أن يعود الشعر بدائياً. يا للخدعة.
بهذا المعنى كان الدرس قاسياً، ونحن نجترع بمرارة ونعبّ هذه الموجة الضارية التي تكاد تغرقنا. كيف سنهزم هذا الشاعر؟ كيف سنقتله؟

في العام الذي صدرت فيه قصيدة "صور"، أصدر مجموعاته الثلاث في دفتي كتاب واحد، دفعة واحدة " زوّار الشتوة الأولى" مسبوقاً بـ"صيد الأمثال" يليه "مدافن زجاجية". بهذه الغزارة كان الشعر يتوسع وبدت اللغة العربية نفسها مهددة. وفي تلك الآونة بات بيضون إشكالاً عربياً، إذ إن "السياق" الذي وجدت فيه الحداثة الشعرية العربية بات مخرَّباً حقاً.
بعد "درس" عباس بيضون السخي، تجرأنا لا أن نخون وصايا "الرواد" ومن تلاهم وما جاورهم، بل أيضاً وصاياه هو بالذات، وأنا شخصياً، وضد عباس بيضون كنت أحاور قصائده، أبحث عن نقاط ضعفها، مكامن خللها، لأبني "ضديتي"، أي مشروعية اقتراحي الشعري. وأن أختار عباس بيضون أو سركون بولس كضدين، كهدف استراتيجي.. كان يعني طموحاً بمشاركتهما الأفق ذاته. فعلى الأغلب من تصارعه يهبك هويتك.

أعود للقول، بعد "نقد الألم" وصولاً إلى "لفظ في البرد"، إن هذا الشاعر "يرى العالم"، ذاك العالم المعلق بين الزوال والانبثاق. الثابت أن شعره ينبجس من هنا، من مسافة الانتقال الضئيلة بين ما يموت وما يولد. تجاربه كلها تنتظم، جوهرياً، على رصد المظاهر المحسوسة وإلحاح ما هو تلقائي وعفوي وفوضوي إلى درجة أن اللغة تصبح هشّة ومثقوبة.. وفي المقابل عقل حسابي يأخذ كل هذه المادة الخام إلى نسق ذي وظيفة أنطولوجية.

أحب أن أعلن: كان هذا مستقبل الشعر. وكان هذا هو الأمل بتحرير الشعر من التجريد. وكان يجب أن نكون نحن هراطقة عباس بيضون.

رجوع