حسن داوود
(لبنان)

أهل الشعر، أقصد الشعراء ومن صاحَبَهم، يميلون إلى تقسيم ما كتبه عباس بيضون إلى حقب يعنونها بعناوين كتبه. البداية الثانية هي في «الوقت بجرعات كبيرة»، يقول بعضهم ممن كان قد قال أصلاً بأن قصيدته «صور» تشتمل على كل ما صار لاحقاً خاصية عباس الشعرية. في ما خصني، لا أجدني قارئاً، أو معايشاً، شعره على هذا النحو. أنا أكثر ميلاً إلى تفتيت القصائد لأنتخب منها كلمة (مثل كلمة «سلق» في قصيدة «عين السكلوب» حيث تراءى لي السوتيان منزلياً أليفاً الإلفة التي بين الأهل، وكامل الوجود يكاد يلتصق بعيني خارجاً من الغسيل، أو لأنتخب منها جملة مثلما يقول «أن تعاشر وسواسا دون أن تقلم أظافره» أو «لم أعد بستاني حياتي». في ذلك أكون أخلط معرفتي بعباس بمعرفتي بشعره فأقول مثلاً، حين أستذكر بيني وبين نفسي جملة من كتابه «نقد الألم» إن عباس كان آنذاك في زمن مراراته الأكثر قسوة. أو أقول، حين أسمع شيئاً من «مدافن زجاجية»، إننا كنا وقتها منتظرين في صيدا، بمنزله أو ربما في كاراج السيارات، لنستقبله عائداً من أسره في إسرائيل. أي إنني أربط القصائد بأزمنة حدوثها، أو بما ولّدها وما كان قبلها. عن «خلاء هذا القدح»: أتذكرنا جالسين عباس وأنا في قاعة دار الندوة متكلمين عن الكتاب الذي بدا عباس عارفاً بسوء الفهم بين ما فيه وبين قارئيه. ولا يعني هذا أنني لا أؤرخ لشعره، أو أنني لا أنسب ما أعرفه إلى زمن، أي الى ما قبل وما بعد. دليلي إلى ذلك انني أستطيع أن أعيّن بداية لعباس بيضون، كشاعر، فأقول إنها في ذلك المساء بصور حين كنا وحدنا معاً، في منزله الأول القريب من البحر، وهو جعل يقرأ لي قصائد كان يخرجها من كيس ستّفها فيه. آنذاك كان زمن بداية الشعر، أقصد زمن تحول الأصدقاء إلى كتابته بعد أن كانوا قبل ذلك من قرائه. أما ما كانوا يكتبونه فقدّر له أن يحظـى بالكثير من الضوء، أو «بجرعات» مبالغة منه إن شئنا استعارة كلمة عباس، فكان يشتهر من فور إلقائه في الجامعة. أماعباس، في ذلك المساء، فكان قد كتب كل ذلك مبقياً إياه في عتم بيته. ولا أعرف إن كانت وحشة البيت ذاك هي التي جعلت تلك القصائد قاسية الوقع مؤلمة حتى المسّ الحقيقي، الفيزيائي، بالأعصاب، مما جعلني أهتدي إلى قدرة فيّ على الألم لم أكن قد عرفتها من قبل. كان عباس، في تلك القصائد الأولى، «يرثي» والده، أو يتذكره، الجملة التي أخذتها من تلك الليلة، جملتي، جملتي الباقية التي لم أفتأ طيلة تلك السنوات من أن أصوغها على هواي، هي تلك التي يقول فيها إن أباه يحضر أو يأتي، أو يعود، وذلك عند قدوم ذلك الرجل مرتدياً معطف الأب الذي أعطي له، والذي ما زالت قشرة الرأس منثورة على كتفيه. وإنني، مخالفاً لكل ما يقال، أرى أن تلك الجملة، التي أعرف أنني لا أحفظها تامة على نحو ما كتبها هو، هي النواة، أو الجرثومة كما تقول العربية، التي اتسعت في ما كتب عباس بعد ذلك من شعر. وهي ليست قصيدة صور التي جرى فيها تنظيم تلك النواة وتشكيلها وأسلبتها وتوزيعها في قصيدة. حجتي في ذلك، وهذه ربما لا أفلح في البرهنة عليها، ان تشكيلية قصيدة صور قد تجاوزها الشاعر فيما بقي ذلك النوع من الألم مستمراً. إنه باق حتى وإن لم يُقل القصائد جميعها. إنه هو، الألم ذاته، الذي يظلّل قارئه حتى حين يقرأ وصفاً كمثل «الظفر الذي يلمع في الطبق كالهلال »، أو حين يلازم ذاك الألمُ الجسدَ الموصوف بتفاصيله في قصائد الحب، وهي، بدورها، مرحلة أجدني أخلط فيها بين شعر عباس وحياته. وكما أنني لم أحفظ جملتي الباقية تلك، لا أجدني حافظاَ شيئاً، عن ظهر قلب أقصد، من شعر عباس. أنا الذي كانت تسليتي ورياضتي حفظ الشعر لا أنفكّ أسأل نفسي لماذا أوقفتني تلك القصائد عن حفظها. في مرات أقول إن ذلك يرجع إلى عدم الاكتراث بالانسيابية التي تٌعين عادة على حفظ الشعر والترنمّ به. في مرات أخرى أروح أقول قول ناقد متمرس إن المعنى، أو الفكرة، يتخلّصان من الكلام من فور ما ينجزهما. فيما أنا أكتب هذه السطور احترت كيف أصف مشهد قشرة الرأس على المعطف، وكيف يمكن أن يتحمل ذلك نبرة الرثاء. أحسب أنني، فيما أنا أتعثر في ذلك لاختيار الكلمات التي سقتها أعلاه، كنت أنقل ما هو شعر إلى ما هو رواية. إنها فكرة يبقى من كلامها الموضع الذي أصابته، مثلما تفعل الجمرة حين تمكث على الجلد الوقت الذي تحتاجه لتحرق. وهو قد أوضح معنى «فكرته» تلك في مقابلة أخيرة معه قائلاً إنها فكرة شعرية «مع أن كلمة الفكرة لا تشبه فكرتنا عن الأفكار». وهي موجودة، في ما خص الشعر، قبل الكلام، أو إنها توجد، أو تنبثق، من دونه. كتاب مدافن زجاجية هو هذه المحاولة الضارية لقول ما لم يسبق له من قبل أن جرى احتواؤه في كلام. كنا، ونحن نقرأ تلك القصائد، كأننا نشهد حياة غامضة جارية في مجال فيزيائي نجهله، أو في محيط فضائي هو، لشدة استعصائه على النظر والسمع واللمس، لن يتجاوز الشعر حد التعريف به. «إنه فن لا تفنّن فيه» يقول عباس، في أحد تعريفاته للشعر. التفنن الذي هو تزيين الفكرة لكثرة ما ولّد الاهتداء إليها من غبطة. التفنن يوزّعها، يقسطها أقساطاً، يزيد عليها لوناً أو ألواناً. لا يعني ذلك كره اللغة واحتمالاتها، بل يعني الحرص على أن يقول الشعر فكرته كما هي في أصلها، حتى وإن بدا لنا ذلك غنائياً في أحيان، مثلما حين يقول: «لم يعد ماء بيننا وبين القصب». وأنا لي من عباس ذلك الخلط بين ما أعرفه من شعره وما أعرفه من نفسه. لذلك أراني، وهذا ما أحب أن أكون قد خُصصت به، لا أفصل ذلك الشعر عن تذكّري لحياة كان عباس، في قصائده، يعيّن محطاتها، فيكتب قصيدة في الثلاثين حين كنا نشرف على عمر الثلاثين، وكذلك يفعل حين نشرف على الأربعين. الآن نعرف أن ذاك الشعر كان أقوى منا إذ هو لم يتعب مثلما تعبنا. بقيت فيه قوته، أو قوة ألمه، التي لم تخلُ في حينه من «بهجة» (بحسب عبارة لعباس أيضاً) وحبّ بالاحتفال.

رجوع