(مقالاته في شعريتنا)

عناوين

دقيقة تأخير عن الواقع

أيتام الجنة

الحروب المتروكة لا تترك كتبا والأثر الوحيد يتركه من يحاولون إزالتها. يفعلون ذلك بوسيلة أسوأ، وسيكون منظرها وهي ممحوة أكثر بشاعة. سيتكون من ذلك ما يشبه الوصمة، زيت وسخ بدل الدم وأحيانا ممزوج به. الذكريات المكروهة ستكمل تحولها الى قمامة. قبل ذلك سنظل نتعرف فيها على رائحتنا الخاصة. ينبغي وقت طويل قبل ان تموت المذلات تماما أو يختفي الجرح الذي يخلفه الاغتصاب. بالطبع تساعدنا قدم مبتورة على ان نتذكر ان شيئا مشابها حدث في نفوسنا. سنفكر أننا نعيش أيضا برغبة مبتورة. لن نتكلم عن القلوب فهذه الألفاظ ما عادت تناسب حالنا وسنفهم ان أمورا اقل سوءا دفنت بوقار في كتب مجلدة. وسنفكر أننا نستقبل مع المذلات أحاسيس كبيرة رائعة وربما حواسا بحالها.
نفعل ذلك بالطبع لنغدو زوارا مقبولين للبارات التي نقضي فيها ليالينا على الشاطئ. لن ننتصر على شيء. لكننا نزيح اللوحة الى الوراء واثقين أننا قتلنا مع ذلك بعضا من ذكائنا وجمالنا.
الصيف سيكون عامرا بالتأكيد وليس مثل أي صيف. هذا الذي غدت فيه الصور صغيرة ومعروضة فقط في الأيدي. ألهتنا الصغيرة ومومياءاتنا باتت في الجيوب وحدها. صعدت الى السماء الملصقات الهائلة التي تظهر فيها جباه عريضة ومتحجرة. الأرجح ان ملائكتنا وشهداءنا يغردون الآن في غيمة الزيت الكبيرة الملونة التي لا تنصرف عن المدينة. الأغصان الصغيرة التي نتهاداها في أعياد الموتى إشارة لطيفة الى غيابهم العزيز، لكنها لطيفة وناعمة بحيث يمكن ان تنقل أسوأ النوايا. يمكننا ان نتحدث هكذا عن المصابيح الخطرة والرسائل التي لم تتأكد من المخطوفين. عن مواكب الحفاة الطويلة الى الصوامع والأودية المقدسة. يمكننا ان نحلم مجددا بتلك الليلة الدامية لعصافير الله وبالاحتفالات الكبيرة وتسليم الموتى على وسائد عالية. بالفتيان الذين يسيرون بالأبواق والزنابق التي هي شارات الأيتام اللطاف المعدين للجنة. الحياة مستمرة ولا تزال تنتج كميات كافية من الأوزون النافع والسم الذي يتفوق عليها.

أصنام عادية

لم ينتظر ان يصعد المنشار الآلي الى آخر غصن في الشجرة العظيمة لكنه لعب بالأغصان كالمقص وفي مدى وقت قصير كانت الأشجار محلوقة تماما وظهر وجهها، الذي كان وجه الحكمة، كاملا. هوت الفروع الهائلة بلا أي ثقل. فيما كان وجه الشجرة الذي لا يشبه الشجرة ولا أي شيء آخر يفاجئنا نحن الذين لم نعتقد في يوم انه موجود أو ان في داخل الشجرة سوى أغصانها.
كانت وجوها عظيمة بالتأكيد لكنها ليست سوى تكشيرات شاسعة، محطمة ومتناثرة في كل مكان. وجوها بلا هيئات وحين نراها نشعر ان شيئا أعظم يعلن عن نفسه بهذه الطريقة.
لا ننجح في ان نلتقي بعيونها ويخيل إلينا ان ما نلمحه تقريبا هو أطباقه فمها، ولا نقول أي جوع تسببه للنفس هذه المحاولة المتجددة لاستنطاق رمز خشبي.
الزوار تآلفوا بسرعة مع هذه الأصنام العادية، والعصافير اعتادت بسهولة ان تقف على الخشب العاري. العشاق واللصوص والقوادون والأمهات دخلوا بلا أي فرق مع الحامل الحسون على كتفه وذي العين الزجاجية والرفاء والمعتوه.
ليست مدينة السلام هنا فالفقر والبطالة والرغبة آلهة أيضا ويمكن ان تكون هذه هي الحياة الخشبية المحطمة في العلاء.
لا نحتاج الى دليل بالطبع. حياتنا تعود إلينا دائما ككلب أعرج. إنها حلقات متواصلة. من لا يعرف الحديقة لا يعرف المدينة. من لا يعرف الكلب لا يعرف الأرنب. لكن من رمى المفتاح.
حلقات متواصلة، السؤال الصغير يؤدي للسؤال الكبير. الطعم يؤدي للسمكة، السمكة الكبيرة للسمكة الكبيرة الصغيرة لكن من رمى المفتاح.
الفردوس كلمة غريبة من البداية. فن الحدائق جاءنا من كلمة أعجمية وجدناها بذرة على الطريق وكان يمكن إنشاء الشوارع والجسور على منهاج مخطوط أعجمي. المدينة المحلوقة أيضا تخرج آلهتها، الجبين الخشبي للخط، الجبين الخشبي لرأس السنة، الجبين الخشبي.. ولكن أيضا المهبل المنور واللسان الذي يسحب من أسفل سمكته الكبيرة والهبوط الى بطن المدينة (الدن تاون) والسهر، وسط الرموز المستوردة، في التجديف ومعاشرة فكرة لا تنام خوفا منها.
ما من مسدسات إذا قلناها بلغة أجنبية. ستكون آمنا أكثر إذا نقلت خيانتك إليها. لن يهددك ثأر ولا حرب أهلية. إذا لم تعرف بأي لسان تحلم الأشجار أو تفكر فستبقى مبجلة مرهوبة في هذه المدينة التي تقتل الغرباء أو تُملّكهم عليها وستقع البذور، مع ذلك، في منتصف قدرنا، منتصف حياتنا، ستقع في الفرق الذي هو خط وجودنا، في ألمنا الخاص، وسيبقى الأمر كذلك إذا كانت الآلهة هي أيضا الوجوه الأجنبية الكالحة التي تطل، بلا سبب، علينا.

الفرق

(س) يرقص على رجلين من خشب يتعجبون من انه يفعل ذلك بلا ساقين، أما هو فيفكر أنها مسألة إحساس، لو كانوا أكثر لطفا لما لاحظوا أي فرق. يسمع وقع قدمه كأنه ضجة شيء آخر إذ لا يقول الخشب سوى حاله. لا يحس بثيابه فعلى جسده ان يصمت تماما أو يتخشب كله ويفكر ان هذا هو الفرق الذي لا يلاحظه أحد.
يتعجبون من انه لا يقع. لا يخطئ في تقليد نفسه ويكاد يكون (س) القديم ذاته ويفكر أنها مسألة إحساس، لو كانوا أكثر لطفا لما لاحظوا أي فرق. لو كانوا أكثر لطفا لما ظنوا انه فن خشبتين وان ما فعله هو تدريب خشبة على ان تقف رجلا. لما اعتبروه خشبة راقصة.
لو كانوا أكثر لطفا لعلموا انه أمات جسده وروحه في هذه الرقصة. ان جرحا ينشف ويتوقف عن الصراخ يتخشب في نهاية الأمر وان من الممكن ان يبيع المرء حظه بخشبتين. ذلك هو الفرق الذي لا يلاحظه أحد.

على سبيل المزاح

لا أدري ماذا نفعل بساقين مقطوعتين، هل نرسلهما الى الله بدون إيضاح. هل تقدران على الصعود وحدهما وهل تتكلمان في حضرته بعد ان عملتا دائما كحيواني جر عجماوين. حشيتا بالصبر الذي لا مفردة له في لغة الآلهة وحملتا الطرق والجبال في ذاكرة دائمة، وكان العالم بالنسبة لهما مجرد تعب تتفرغان منه على حشيه السرير. هل يمنحهما اليود وليالي البراد الموحشة معنى إضافيا، أم ينطقهما الله ويبعثهما حيتين. هل تقفان حقا في صف الملائكة والشهداء، وهل تقتربان من العرش وتتقاطعان تحته في رمز سماوي. هل نقول هذا على سبيل المزاح، ان لم تكن السخرية من الجسد الكسيح الذي لولا خطأه لم نضطر الى الكذب عمدا، والى التغني دون إبطاء بالحياة التي تُعطى كصدقة يومية وتقاوم في الدودة العمياء، ان لم تستمر طويلا وحتى الضجر كادمان أو عقوبة مؤبدة. إن لم تكن السخرية، من الاهانات الكثيرة التي تتراكم على الوجه الإلهي.

الوصمة

هل نضرب هذه الساق المقطوعة مثلا أم نستخرج من رجلين خشبيتين درس النملة المجتهدة. لو كانت نملة كاملة لضربت مثلا أوضح. لو كانت خشبة لأحياها الله في ثانية. لكن الألم هو الفرق الذي لا يلاحظه أحد.
بين الخشب والجلد لا نسمع المنشار الذي يغني. بين الخشب والجلد لا يتوقف المنشار. لا ينزل الجسد عن عمود الظهر. لا ينزل الجسد عن آلة الرقص. لا ينزل ولا يستريح.
نحن في النهاية لا نتكلم عن الشقاء العبودي للقلب ولا آلة الصلب لفقرية. لا نتكلم عن الرماد الذي يتم تعزيله كل لحظة ولا عن الخلايا المختنقة. لا نتكلم عن الزيت المستعمل مرارا لتكوين أفكار يصعب غسلها. إذ يجب إنقاذ أشياء كثيرة من الشوارع وربما أصوات ونزوات مصاحبة لتكوين حياة خاصة.

كان يمكن من ساقين مقطوعتين تكوين رسم شعائري. يمكن تعبئة الجسد الثقيل بالرمل أما أصابع الحليب التي يستحيل تقليمها فمن العبث البحث عنها. سنجدها متقرحة غير مفهومة وسيصعب تكوين لذة جديدة منها.

لقد تم قتل الأشجار هذه المرة لبناء المزيد من الطوابق. كانت هذه هي التضحية الوحيدة المتوفرة. تحطم كل شيء آخر في عاصفة من السخرية وسيحمل الى الأبد صور الكاريكاتورات التي هاجمته والتي هربت في عاصفة أخرى من الكحول. كان ذلك اختبارا لانفجار ميليغرام واحد من الكراهية. في حفل تنكري، يسعى الكل، حتى الهذيان، الى الوصمة ذاتها. ليس فقط اللحى غير البالغة ولكن أيضا الابتسامات البلهاء المفتوحة بأيد غير مدربة. انه أيضا حفل تدنيس، شيطنة غير موهوبة وتهريج انفجاري وسخف ذو قوة رعدية. الدم المعاد تكريره، المعاد تخزينه، لا توجد لغة بعد لتعزيله لا من الأوكسجين المحترق فحسب ولكن أيضا من التهكم الذي ضرب حدته وهو يغلي في المحركات.
العالم هكذا الآن. رمز من قدمين مقطوعتين. هناك القوة التي تنقلب سخرية وفكرة ان التاريخ يتحرر وينخرط كله في ضحك مرير أو رقص على رجلين خشبيتين. لا شك ان هذه استعارة قاسية. القسوة يمكن أيضا ان تنقلب ضحكا على قفاها. لكن الغريب هو ما يستطيع ان يفعله فأر أبيض، كلمة (استشهاد) مثلا في كل هذه الفوضى. لا نستطيع ان ننقذ شيئا من الواقع بإرسال قارض صغير. مع ذلك قد نفعل شيئا بفكرة مستوحاة من تصلب الشرايين وبإرسال أرنب أعمى قد يشبه كلمة (تكفير). لن يكون أحد موجودا ليسمع، ما دمنا تركنا الله يتكلم وحده في الراديو، أو ربحنا عليه في عملية انتحارية.

الملائكة

هل يمكن لساقين مقطوعتين ان تصعدا مع كثير من النقرس والتقرحات. لن يقتلهما ذلك وستعودان صالحتين لكن هذه، للأسف، المنحة الوحيدة التي يستحقانها. لو كانت لهما روح لبعثهما الله طيرين وجعل لهما أجنحة. ستسيران فحسب وستكون هذه الخدمة للاأحد لكنهما ستكونان في ذاتهما جنديين وعبدين وليس شيئا سوى خدمتهما، ستظنان ان قدما عليا في انتظارهما وأنهما ستجدان الملائكة مصطفة كالأقدام السليمة تحت العرش. ستصليان لأله الأرجل الصحيحة بالإيمان الذي ينقل جبلا بحاله ولا يساعدهما على ان يتقدما خطوة. مع ذلك يستمران في الاعتقاد بأن سائقهما الذي لا يرحم هو الله نفسه.

تشبها بالعصافير

ولدتا لتمشيا وستفعلان ذلك أيضا. مع ان هذا العصر انتهى في السماء حيث غلبوا الموت وغلبوا الله نفسه بالطاعة، لكن هذه قضية قديمة. لقد اعتق الله الجميع من كل تكليف وسيصعب عليه ان يجد بعد خادما، ربما لن يجد أيضا وقتا للراحة من ضجة الانقياء قلوبهم الشهداء الذين يتشبهون بالعصافير.
يستمر الإيمان على الأرض في نقل الجبال وتفجيرها لكن هنا يتحدثون عما بعد الله. ذلك طبعا ليس حديث ساقين مقطوعتين تنتظران ان تستقرا الى الأبد في إسطبل الأب. وإذا أمكن ان تفكرا بمعجزة فستحلمان بأن يبعثهما القادر الجبار عجلتين في السماء.

عمل فرنكشتين

أعداد كبيرة من عصافير الله طارت ولم تعد، أعداد سقطت على الأرض كبطات خشبية تحطمت ولن تنهض ثانية. ستغدو أثقل بعد ان حمل كلا منها في جسده قطعة من الحداد أو قطعة من النجار. سيكون لذلك إله أعرج قُذف لهذه المهنة وستخرج من عنده بشرية بصناديق وعجلات، هذا تجديف بالطبع لكنه الخلق القليل الإتقان لكاريكاتورات لم تكمل بعد سيطرتها. ربما هو زواج بين الناس والآلات ولن يكون سعيدا.
الله لن يكون هنا ليجيب. معتوهون مبجلون ومخلوقات بدواليب وملائكة كسيحة ومعلمون سيئون ينتشرون على السطح وبين الواحد والآخر فرق ثانية، فرق ألم غير مرئي.
لن يكون الله هنا ليجيب وسينتظرون طويلا مع المدمنين والمنتحرين والمسرطنين، فرق ثانية بينهم وبين الحياة، فرق ثانية بينهم وبين الله سيخفيهم ولن يُشاهدوا بعد. سيستمر عمل فرنكشتين السري في العالم الموازي وسنسمع دائما ولولة من المقابر، ولن نجازف رغم أننا نشاهد في كل مكان الأبواب المعلنة للنسيان، وبينما يستمر عمال سوكلين في محو العلامات، سنتساءل مجددا كيف اختفوا فجأة.

عارض ميتافيزيقي

لن يكون هناك أحد ليسمع، الجريمة ستجد حلا. ستتخلص من عارضها الميتافيزيقي. ليعود هناك صراع مع الله على الجثة. سيكون ذلك هينا كالدعابة ولن يترك وصمة. سيكون تعجيزيا ان نجد معنى لنصف الجسد لكن ذلك سيبقى مطروحا كأحجية. على سبيل اللعب قد نصنع رمزا دنيويا من ساقين مقطوعتين. على سبيل التجديف قد نصنع رمزا ماجنا. لكن الله لن يجيب، إذ تتعطل القدرة فجأة كما تتعطل أجهزة الإنذار في هذه الناحية المحلوقة التي يتكلم فيها البؤس أحيانا كجندي وأحيانا كإله.
ثم ان الشهداء لن يكونوا أقل سخرية، لقد تحقق كل ذلك بتفجير ذرة من الإيمان ولم يتكلفوا أكثر لاحتلال السما، شفوا سريعا من الطاعة ولن يفعلوا شيئا لإنقاذ الله نفسه.

(الحياة في مكان آخر)

المفؤودون على كورنيش المنارة لا يتلفتون كثيرا، يمرون مسرعين في معاطفهم المزررة بالكامل ولا يتوقفون لأحد. إنها إشارة الى ذلك الجرح الذي اختفى من صدورهم والى ان الجسد الذي ابتلعه ليس آمنا. لا يخافون مع ذلك ان يكون انفقد من حياتهم إذ لا يزال سرا في وسطها وهذا قد يكون المعنى الضئيل لدوريتهم الليلية.
المفؤودون الذين يتمشون على الكورنيش ذهابا وإيابا لا يتلفتون كثيرا. يريدون ان يرى الناس كم أقدامهم قوية إذ وهم يرفعون أحذيتهم الرياضية يغلبون في كل خطوة قلوبهم الخائنة ويدوسون عليها. إنهم يمشون ذهابا وإيابا ذلك الجرح الذي هو علامة انتصارهم، يمشون حياتهم ويغلبونها ذهابا وإيابا. يطيلون شيخوختهم وأمراضهم مرتين، دارين ان الحياة (في مكان آخر). قد تكون ثملة وعاجزة، قد تكون كوز الذرة المشوي أو النخلة العجوز. يمشون ذهابا وإيابا والحجر الذي يكبر في الساق يسقط من الساق والقدر الذي يركلونه يتحقق في يوم آخر.

تعب

أفعل كل شيء بقدمي، وكل شيء ينضاف الى عظم ركبتي يتحول صلابة وثقلا، وبعد قليل يسكن العالم كله تعبا رائعا في عضلة ساقي.
المدينة نفسها اسمعها تذاع في مكان آخر، وأقول ان ما يحصل لن يكون حقيقيا قبل الصباح التالي. من الأفضل ان أتقدم وأنا أفكر بأن ذلك سيبقى يغني في صدري ولا داعي لأن أتفقد الجرح الذي تحجر فيه، سيبقى بعد موت الألم نوعا من مومياء خاصة. لا يهم ما دمت أحرك مزيدا من الوقت بقدمي، اقتلع في كل خطوة ثانية أخرى، ويمتلئ ساقي بالعناوين والساعات المحطمة.

شجرة تشبه حطابا

شجرة صلعاء ينبت فوق جمجمتها شعر خشن شبه بشري، لا نأمل ان تمد أغصانا. لقد تملكها ذلك الشكل الآدمي وهي الآن تكاد تشبه حطابا، وبهذا الوجه الذي يسخر من نفسه في الفزاعات يمكن ان نوجهها الآن لطرد الطيور.
سيكون صعبا عليها بعد ان ترقص في الريح، ان ترفع أذيالها وتدور صاخبة. إنها تقريبا عرجاء وبشكل طبيعي كما ينبغي لشجرة تشبه حطابا، ويجب ان تتحمل قدرا من الألم لتبقي واقفة.
ستُنبت رؤوسا بدل الأيدي وستبقى مكشرة تحت واجب غير معروف. ستمد جذورها الى الأعلى وستكون طفيلية هناك، لكنها ستتعلم ما هو الصداع هذه المرة وتتدرب على العيش ضد نفسها وبالمقلوب، ضد نفسها وضد الريح.
ستخترقها العاصفة في صميمها وستتكلم طوال الوقت في قمتها لتمنعها من ان تنام. ستكون خشبا للصاعقة وتفهم ان هذه من الآن طبيعتها الثانية.
لن نتخيل بالطبع النهايات البالية التي تنتظر شجرة صلعاء، لكن التوازن سيكون بعد الآن صعبا وكل حركة في هذا العالم ستكون إرغاما وتقتضي ألما مقابلا. إنها الآن شيطان بالنسبة لشجرة. لن تكون لها جارة سوى حفرة مهجورة لكنها، كتعويض، ستتعلم كيف تلعب مع نفسها. يمكنها الآن ان تكره أو تخاف بدون مساعدة من أحد. يكفيها ان تتأمل سحنة الحطاب التي لها وقامتها العرجاء. لقد دخلت بالخطأ، وخلافا للطبيعة، في الوضع الإنساني.

****

الآخر في الشعر العربي،
استدراكات

(قبر من أجل نيويورك)

يجد القارئ في شعر نزار قباني نزهة كونية: باريس ومدريد بمسراتهما ورفاههما. لم يكن نمط العيش الغربي بالنسبة له سوى رديف للحرية والجمال فعابد الجمال الذي كانه نزار قباني يتبعه أينما كان ولا يسأل عن هويته أو مصدره. نجد طبعا في شعر قباني توبيخا مستمرا للذات العربية ولكن هذا التوبيخ هو الوجه المعكوس للفروسية. انه تحريض بطريقة أخرى لكنه ليس شكوكا ولا حيرة ولا سؤالا مسدودا. كان نزار قباني يقول تقريبا ما يقوله ابن الشارع الذي يتساءل لماذا لا نتقدم كغيرنا من الناس، ولقد ألقى كابن الشارع بالتبعة على قومه وعلى نفسه. لكن قباني لا يشك في أصله ولا حقيقته فسؤاله ليس هنا ثم انه لا يملك تجاه الغرب إحساس المستلب أو المغتصب ولا يفكر أنه محتل من الآخر أو موبوء به ولا يتساءل إذا كان هو نفسه أم أنه موصوم بذات أخرى أو منقسم الى ذاتين. فالأرجح أن هذه كانت بعيدة عن فكر قباني ومخيلته بعدها عن عمر أبو ريشة والجواهري من قبله وكلاهما كان يزأر في مناسبة الزئير ويحرض بتوبيخ وتأنيب وينعم ويرق في المغاني الأوروبية ولا يجد في ذلك تناقضا، فالواضح أن المرء يبقى هو نفسه بالنسبة للثلاثة ولا يغدو متعددا أو متناقضاً إذا هو ثار مع جمهور غاضب وامتدح رئيسا أو ملكا متسلطا وتنعم ببار وامرأة أوروبية. كان الثلاثة يعلمون أن الأصول ثابتة مهما كان الأمر. الشعراء يهيمون في كل واد لكن مرجوعهم واحد، وإذا سئلوا فعن أحوالهم لا أصولهم. كان الشعراء الثلاثة لا يشكون في أن الغرب مستعمر وإسرائيل عدوة وأنهم لم يعدوا لهما ما ينبغي من قوة. كان الأمر بسيطا هكذا، لا لوم على المستعمر ولا العدو ما دام أنهما هكذا واللوم على النفس التي لم تستعد. الشاعر يحرض سلبا وإيجابا ما دامت هذه حربا وما دام على الشعر أن يحرض. لم يتعد الأمر هذا ولم يدخل في ميتافيزيق الذات والآخر. لم يكن السؤال هو التباس الذات بالآخر ولا تلبسها له. لم يكن السؤال هو انتقال الآخر الى الداخل وغزوه الأرجح ان الشعراء الثلاثة الآنفي الذكر لم يفهموا أن الحرب قد اختلف ميدانها وأن الذات هي الآن ميدانها الأول.
لن يختلف الأمر إذا أضفنا بدوي الجبل وسعيد عقل فنحن في كل الأحوال أمام ضرب من الحماسة أو التحريض. إنها حرب ككل حرب، هي تقريبا حروب أبي تمام والمتنبي وأبي فراس وحتى الأخطل الكبير. الشاعر يحرض بسكرة انتصار مسبقة أو بنعي متأخر.

ردي يا خيول الله نهلك العذبا
ويا شرق عد للغرب واقتحم الغربا

لم تكن العصبية الوطنية والدينية تبعد عن هذا لكن القصيدة الجديدة إذا شئنا أن نبحث عن محرك شامل نشأت حوالي سقوط فلسطين والانقلابات العسكرية الأولى في المنطقة وإذا ضربنا صفحا عن نظرية الانعكاس جاز لنا أن نقول إنها بنت مرحلة التأزم القومي. الأرجح أن الشعر تدرج الى أن يكون معادلا فنيا لهذه المرحلة، بدر شاكر السياب الفرح باستلهاماته الأجنبية المعلنة، ابتكر في عدد من قصائده عراقا شخصيا أو معادلا أسطوريا للعراق. كتب السياب كثيرا من الشعر السياسي الصريح لكن الشكل الأسطوري لم يكن بالنسبة إليه استعارة إيديولوجية أو سياسية. كان الشكل يوافق مزاج السياب الرثائي وحنينه الفولكلوري ومخيلته العراقية المتصلة بالملاحم القديمة والفن الأشوري والسومري.
لكن السياب لم يملك الطموح النبوي ليجرد من شعره معادلا لمرحلة، لم يكن دانتي معلمه ولا زارادشت، ولم يسع الى أن يجعل من الشعر تجريدا متعاليا ولا كتابا للمستقبل، وبكلمة أخرى كان علينا أن ننظر قبل أن يدخل في وهم الشعر والشعر توهم أنه تأسيس للذات، ناع لجرح اغتصابها وانقسامها وانبتارها، ومستشرف لغدها، متماه مع ماهيتها المتناقضة. وليس الآخر خارج هذه العملية بل في صميمها. كان علينا أن ننتظر قبل أن يرتفع وعي الشعر لنفسه الى حد مماهاة اللغة والتاريخ والهوية أو اعتبار أن ذلك كله ماثل فيه وأنه حاضنته السحرية ومصنعه وأنه موضوعه الضمني الدائم مما يحيله، أي الشعر، الى ضرب من الأنطولوجيا القومية أو الميتافيزيق القومي. كان ذلك يتطلب غناء آخر، غناء يتطلب درجة عالية من التجريد والحلولية، حلولية الثقافة كلها. والاستبدالية، استبدال الشعر للثقافة والتاريخ واللغة. والجدلية (دراما الموت/ الحياة أو الثبات/ التحول أو الأنا/ الآخر). والرؤيوية (قراءة رؤيوية للماضي والمستقبل وللتاريخ ذاته). والملحمية (أي التوحيد التاريخي واللغوي). في ذلك كله ينبري الشعر ليتعالى على نفسه، والغناء ليتحول الى نشيد رؤيوي جدلي، وفي ذلك يتعالى الجرح القومي الى حد أنطولوجي وميتافيزيقي. إنها عملية تأسيس مستمرة بلا نهاية، والآخر في صميمها. انه الذات السلبية، أو الذات الثانية أو السرطان الذاتي، المحتل والمغتصب والمستلب لكنه أيضا المثال والمرجع وفي هذا ينطوي على التباس جدلي بالذات لا تستطيع معه أن تستعيد وحدتها، أو أن تجد نفسها. مثل هذه الرؤيا لن نجدها عند السياب. لكننا نراها بعد قليل في صورتين متفاوتتين عند خليل حاوي وأدونيس، الشاعرين اللذين وبتأثير زارادشتي رفعا الشعر الى نوع من قرآن ثان أو إنجيل خامس.
من هنا أود كعمل شبه تطبيقي أن أقرأ قصيدة لأدونيس. وسيكون أسهل أن أختار قصيدة تشير بالحرف الى الآخر أو تتضمنه في عنوانها وهي (قبر من أجل نيويورك) وفي العنوان نفسه فجوة، والفجوة هي (من أجل) التي تبعد ما بين القبر ونيويورك فلا تشتمل نيويورك على القبر وإنما تدخل معه في معادلة ثنائية. تبدأ القصيدة من محل هجومي فينيويورك (حضارة بأربعة أرجل، كل جهة قتل وطريق الى القتل) لكننا نخدع أنفسنا إذ نفترض أن مصدر هذا الهجوم هو شرقية أو عربية الشاعر. هذا الهجوم في الواقع ذو مرجع غربي، إنه نوع من تماه سلبي بالغرب إذ لا يبعد عن الذهن انه من قبيل نقد الغرب لذاته، بل هو يستعيد بعض عناوين هذا النقد الذاتي، كذلك هو الأمر حين نقرأ إشارة الشاعر لتمثال الحرية (يد ترفع خرقة يسميها الحرية) أو حين نقرأ ما يشبه السرد التاريخي لقيام أميركا (السجناء، العبيد، اليائسون، اللصوص، المرضى) إنه أيضا نوع من استعادة دارجة لتأسيس الغرب والشاعر هنا يبدأ من منصة عالمية، فهو حتى حين يقول في صورة نفاذه (كسل يشبه العمل أو عمل يشبه الكسل) أو حين يتكلم عن بشر (يحيون كالنباتات في الحدائق الزجاجية) لا يبعد عن أن يقول في أميركا ما يقول مثله شعراؤها، أنها ذات عالمية هي التي تتكلم. الأمر لا يبقى نفسه حين يجنح الشاعر الى ذاته الخاصة. ذاته الشخصية أو العربية، إذ ذاك لن يبقى الآخر واحدا، بل لن يبقى آخر صافيا. سيستقصي بالتدريج التباس الأنا بالآخر وجدلية هذا الالتباس. (لا يراني إلا زنجي) سيتماهى الشاعر الآن مع الزنجي وسينقله هذا التماهي الى رؤية ستاتيكية متدهورة للذات (الزمن يتهدل كالخرج نحو القبر، نحو الظل الأكثر عتمة، أو نحو نار تنطفئ) ومقابل عنوان القتل الأميركي هناك عنوان الاستبداد الشرقي (الفضاء يقاس بالقفص.. الزمن يقاس بالحبل).
لقد استحضر الآخر الأنا كما هو الجدل الحقيقي، الآخر هو الأصل وهو على نحو ما المثال والمعيار والذات لا تتعرف إلا عبر المثول له أو من داخل المعادلة التي تجمعهما معا.

سأتوقف قليلا عن قراءة قبر من أجل نيويورك لأبرر اختيارها. القصيدة على حده في شعر أدونيس المكتوب يومها، هي ليست فقط أقل تجريدا أو تعاليا من بقية شعره آنذاك، لكنها فضلا عن تمحورها حول موضوعها والتزامها به تعالجه بلغة قابلة أحيانا كثيرة للتحديد كاشفة أحيانا كثيرة عن أرضها الفكرية. هكذا لا يبدو الخطاب الأيديولوجي للقصيدة مشوشا كثيرا أو مموها كثيرا بل يمكن دون اعتداء على الشعر استشفافه أحيانا. يزيد على ذلك ان درجة أكيدة من التقصد الفكري قائمة هنا الى حد يمكننا ان نلحظ فيه منطقا للقصيدة، بل يمكننا معه ان نفترض ان القصيدة مفكر بها على نحو ليس دائما غير واع.
إذا عدنا للقصيدة فإن الآخر يلتبس بالأنا كلما استعاد الشعر أناه الخاصة (لنيويورك، كل ما في بلدي. الرواق والسرير، وكل شيء للبيع حجر مكة وماء دجلة) ستكون هذه العبارات التي لا يحتاج مقابلها السياسي الى بحث كبير من المفاتيح المتروكة قصدا في القصيدة لحاجتها المعلنة الى توضيح رسالتها. غالبا. كل شيء مباع للآخر حجر مكة وماء دجلة.
هذا مستوى من الكلام لا تتوقف عنده قصيدة ذات مستويات أخرى وتحديدات أخرى، ثمة قوس تتحرك عليه الأنا وقوس يتحرك عليه الآخر أو قوس للعلاقة التي تجمعهما. ثمة أسماء قريبة حرة تحلق بعيدا عن الاستلاب والارتهان لكنها كما تقول القصيدة (كوكب مشرد لا أسلاف له وفي خطواته جذوره) هنا الولادة من الذات والولادة من المستقبل وهما ركنان في زرادشية أدونيس لا يمنعان من رؤية انفراد هذه الأسماء وانفصالها عن الواقع السائد. انه استدراك لكنه استدراك صغير وثانوي أما الاستدراك المفاجئ والأكبر فيشق على نحو مبكر سياق القصيدة ويتفجر تقريبا خارجها حاملا منذ عام 1971 نذرا تشبه انفجارات 11 أيلول (تفتتي يا تماثيل الحرية) (الريح تهب ثانية من الشرق، تقتلع الخيام وناطحات السحاب وثمة جناحان يكتبان أبجدية ثانية تطلع في تضاريس الغرب، والشمس ابنة شجرة في بستان القدس) تبدو هذه العبارات انفجارا خارج منطق القصيدة. على الأقل لأول وهلة لكن يخطئ من يظن ان العلاقة الاستلابية راكدة أو متصلة إنها خطرة وانفجارية الى حد لا يمكن استباقه، أو تحمل في داخلها هذه اللحظة الانفجارية التي تبدو وكأنها حلم لا يمكن تجاهله لكن القصيدة تصحو من هذا الحلم القهري الذي كاد يدمر سياقها الى استدراك آخر. نيويورك ليست فقط الآخر المستلب إنها أيضا الآخر المثال (أجساد تحب ان تغير النظر السمع الشم) (ترتجل الجنس الشعر الأخلاق وتنفي الأقفال) هذه الأقفال هي ذاتها التي يدعو الشاعر بيروت، التي هي في مقابل نيويورك كناية الأنا، الى تدميرها (واحترق يا تاريخ الأقفال) هذا التماهي الذي يقال بحذر يتطلب تحذيرا.

(اكتبوا، أقول اكتبوا ولا أقول مومئوا ولا أقول انسخوا).
من الواضح هنا أننا ندخل في استدراك تعليمي واضح. من الواضح أيضا أننا لن ننجو من الاستدراكات ما دمنا بصدد علاقة التباس واستلاب لا تتجمد في ثنائية بل تتعاقب فيها لحظات متنافية متفاوتة. مع ذلك فإن نيويورك تستدعي بيروت وبينهما غالبا معادلة الاستلاب بل الاغتصاب المتوترة. إشارات (الفانتوم لدايان والنفط يجري الى مستقره) (في وول ستريت حيث تصب انهار الذهب من كل لون) واضحة وضوحا شبه صحفي. ثم هناك هذه المعركة بين العشب والأدمغة الالكترونية وهناك (رمل من بشر يتكاتف بروجا بروجا) (انه الكابوس التكنولوجي وكابوس الإنسان المعمم والمدينة العالمية الحديثة) لا اعرف إذا كان الشرق العربي في نص أدونيس من جهة العشب، إذا كان أدونيس يتخذ صف المجتمع الزراعي ضد المدينة الصناعية. لا استشف هذا من القصيدة وأفضل ان أرى في هذا استعادة لدعوى عالمية تتعالى لحظة، قبل ان تنخرط القصيدة من جديد في الصراع (نفكر بشعراء أميركيين) الصراع الذي يحول بين القصيدة وبين النفس العالمي الذي تجاري به ويتمان ولوركا، فمن الواضح ان الشاعر الأكثر ليبرالية ومقتربا عالميا من شعره لا يستطيع ان يخرج بحرية عن حد الصراع. نيويورك الغرب الاستعماري والمدينة العالمية المرعبة والكابوس التكنولوجي تحظى على مستويات متعددة بكراهية مقيمة. التماهي الخجول في الحرية لا يصمد فالوحل والجريمة والقتل والهلع أمور لا تترك للحرية حقيقة مع ذلك فان التماهي يتم مع هارلم الأسود والزنجي هارلم الحقود أيضا، مع وولت ويتمان ومع الهندي الأحمر ومع لنكولن لا نيكسون، فنيويورك ليست واحدة. الانشقاق أكيد والمصالحة الأدونيسية المعروفة قائمة أخيرا فهي في النهاية بين المنشقين من هنا وهناك، إنها بين لنكولن وصاحب الزنج والنفري وغزوة بن الورد بل هي أيضا مع هوشي منه وغيفارا.
سيقول أدونيس ان المعرة تتنكر للمعرى فالانشقاق أيضا في بيروت ودمشق، هذه هي المعادلة الجديدة التي لا تؤسس للمصالحة فحسب بل تتيح للشاعر ان يستعيد دون حرج هويته العالمية. انه مقيم في الشعر وكشاعر يمكنه ان ينقذ بيروت ونيويورك على حد سواء. سيكون قادرا في هذه اللحظة ان يقول لنيويورك (أكتبك وأمحوك) (أتقدمك وأعلمك السير ورائي) غير أن في هذه النرجسية الشعرية محذور ان تؤدي الى نرجسية قومية وان تسقط في التحريض الفروسي القديم ذاته لذا يفاجئنا أدونيس باستدراك صاعق (مع ذلك ليست نيويورك لغواً بل كلمة، لكن حين اكتب: دمشق لا أكتب كلمة بل أقلد لغوا... ما تزال صوتا.. خرجت من الحبر ولم تعد.. كذلك بيروت القاهرة بغداد لغو شامل كهباء الشمس) أي تفسير لهذا الكلام اعتداء عليه، لا تفسير إذن. ما قاله أدونيس كاف بذاته، معادلة الاستلاب هذه بين الجريمة واللغو، بين الصورة المرعبة ومن لا صورة له. لكن هذه أيضا لحظة غير ختامية، يعود الصراع الى دورة ثانية، تحيا المعادلة من جديد، يسترجع الكلام مستوى عالميا، وكمطلق شاعر من (البت) الأميركي يقترح أدونيس إخراج نيويورك من نيويورك. مخاطبا كشاعر من (البت) الجد ويتمان. مستعيدا تفاصيل الحرب الفيتنامية مقحما يوميات وأقوالا لنيكسون وماكنمارا قبل ان يجمع في لحظة ختامية كل المستويات فتداخل بيروت ونيويورك ويتداخل المستوى العالمي بالمستوى الصراعي ويظهر كولاج من تفاصيل نيويوركية وبيروتية. لا نعرف إذا كان هذا إيعازاً بمصالحة أو على الأقل مونتاجا نهائيا للقصيدة. هذه الخلاصة إذا جاز القول لا تغلق الكلام أنها تفتحه لدورات أخرى من صراع معلق. انه صراع ذو لحظات متنافية واستدراكات ومحطات انفجارية. كالعادة يحرك أدونيس ورشة واسعة من المقتربات والمداخل، لكن القصيدة استثنائية في شعره وسنجد لذلك ان الغناء الأدونيسي الصرف غناء الطوبى الشعرية والرؤيا الزارادشتية يحضر بقله ويتراجع أمام معالجة فكرية وأيديولوجية لا تموه كثيرا نفسها. إنها معالجة حذرة ملأى بالاستدراكات وترجع غالبا على ذاتها، لكن المهم ان نيويورك تستدعي بيروت وكأنها ذاتها الكبيرة المفقودة أو كأنها أصلها الموبؤ، يواجه أدونيس نيويورك كمحتج عالمي ضد الكابوس التكنولوجي والمدينة العالمية وكمزارع وفي للطبيعة وكفيتنامي وكثوري لاتيني (غيفارا) وكزنجي وكعربي رغم ان العربي بلا صفة وهو الحلقة الأضعف في الصراع. يستدعي كل هؤلاء في مشروع مصالحة بين المنشقين في نيويورك وسواها وادعاء نرجسي بإنتاج نيويورك خاصة وذاتية.
نيويورك طبعاً هي أميركا والعام 71 عام عز الصين والحرب الفيتنامية، لكنه غير بعيد عن 67 حيث يتمايز العرب بهزيمتهم لا عن عدوهم ولكن أيضاً عن أصدقائهم. نيويورك لا ترى إلا ضمن معادلة الاستلاب التي تجمعها ببيروت. إنها معادلة متوترة، يعلو هجاء نيويورك ومحكمتها لكن بيروت ودمشق والقاهرة تسفل كلما طالت المحاكمة. في النهاية ستكون نيويورك حقيقة مرعبة. لكن بيروت ستكون لغواً، صفرا، اسما بلا مسمى.
إنها معادلة خانقة ذات حراك جامد محتقن ولا مخرج منها إلا بمحطة انفجارية أو طوبى شعرية أو طوبى عالمية أو نيويورك ذاتية وفي كل الأحوال تخبط بحدين: مقت الآخر المستكبر واحتقار الذات.

(*) ورقة لندوة حول (الآخر في القصيدة العربية المعاصرة) ضمن مهرجان جرش في عمان2004 .

****

الثمانينات الشعرية وما بعدها: نهاية قلق الخصوصية

من المفارق ان يغدو خطاب مجلة شعر هو الخطاب الرسمي للحداثة، المفارقة هي في ان الخطاب الذي تكوّن في الهامش أصبح سائدا والذي بدأ ثوريا انتهى الى ان يكون مشروع مصالحة. لست داروينيا في هذا المجال لأتكلم عن البقاء للأصلح، فما يبقى في ثقافتنا ينبغي ان يكون عرضة لمساءلة أخرى. بيد ان من المهم ان نعرض بإيجاز لعناصر أساسية في الخطاب الشعري للمجلة الراحلة. إذا تحدثنا عن الرسالة والمرسل والمرسل اليه فإن خطاب (شعر) قام على نزع الطبيعة الابلاغية عن اللغة التي تغدو هكذا منوطة بنفسها، واجدة في ذاتها رسالتها وربما موضوعها. قاتمة على تأمل نفسها أو التوليد من ذاتها. لعل الاتكاء على (كيمياء اللغة) الرامبوية لم يعن لمؤسسي الحداثة شيئا سوى هذا التوليد أو التحويل الداخلي. بينما لم يكن تخريب اللغة سوى عملية داخلية أيضا. أي ان الحلم بفك اللغة عن إشاراتها الموروثة وربما أنظمتها الصرفية والنحوية كان نوعا من العودة الى داخلية اللغة وتحريرها من أي التزام تجاه الخارج، جريا على ذلك يمكننا الكلام عن قطع الشعر نسبيا عن كل داع خارجي، أو تحويل هذه الدواعي سواء كانت المناسبة أم الموضوع الى عنصر ثانوي. يتوقف الشعر عن ان يكون جوابا على أي طلب خارجي، مناسبته في ذاته وربما موضوعه وبالطبع غايته. انه يتأمل ذاته ويولد منها. معياره فيه ورسالته منه إذا جاز التعبير، هذا القطع عن الخارج يستمد ثقافته وربما معانيه من أيديولوجيا معادية للحاضر، أيديولوجيا كهذه تبقى مفتوحة على آفاق متناقضة. لكن ذاتية اللغة والشعر كانا في أساس مطولات شعرية تستنفر اللغة بكاملها (ومعها التاريخ والثقافة) فإن هذه الأعمال لم تنج بالطبع من أيديولوجيا متعالية واعتراضية في آن معا، بل ان نفي الأيدويولجيا لم يحل دون حمل (أغاني مهيار الدمشقي) و(سن) من الجهة الأخرى بيانات أيديولوجية متكاملة، والحال ان قطع الشعر عن الخارج كان أحيانا تعاليا عليه (الخارج) واستتباعا له بقدر ما هو عبادة للشعر ورفع له فوق الثقافة وفوق التجربة وتحويله الى معلم تحرير وفاتحة للمستقبل.
يعني ذلك قيام الشعر بأكثر من الغناء، بل قيامه مجازا بالثقافة كلها، من هنا طبيعته المتناقضة، انه يعود الى ذاته لكن ليحولها الى متروبول ثقافي ولينيط بها ان تمتص وتبتلع الثقافة بجملتها، يتحول الشعر بذلك على نحو غامض الى ديانة للمستقبل وإلى تاريخ بديل وإلى ثقافة شاملة، هذا الموقع العلوي للشعر جعله تقريبا أعلى من نفسه، إذ غدا ذا كثافة لا يبقى معها مجرد هامش غنائي، انه الفكر والثورة والنهضة في آن معا، من هنا لا يعود الشاعر هامشيا رغم التغني بالانفراد والوحدة، انه الرائي والمتنبئ والموقظ والسابق والمجنون والمحرر والرافض والموبوء، أي انه نوع من (بابا مستقبلي) ومن قطب ومن إمام ومن محرر. هكذا بالطبع يصل الشعر والشاعر الى حد الاستحالة ويصطدم كل بمرآته.
في ما ذكرته أعلاه بالطبع نوع من مونتاج لا اتفاق على صحته، لكن الغريب ان هذا المشروع الباذخ العملاق هو الذي بقي، ولم يبق بالطبع لامكانه وعمليته بل ربما بقي بالضبط لأنه لا يطرح مهمة مباشرة، كان على الشعر ان يتملى من ذاته وأن يتعالى بها وأن يحلها مركزا وقطبا وكل ذلك لا يحتاج الى برهان ما دام موجودا بصورة قبلية فيه، ليس عليه إلا ان يتطابق معه أو يدعيه ليتحقق ويكون. الغريب ان مشاريع أخرى أكثر تواضعا لم تجد سبيلا الى البقاء لا لشيء إلا لأنها طرحت على نفسها مهمة يمكن قياسها وامتحانها، ساء مصير نظرية عبد الصبور في الشعر لأن شعرا بلغة جارية واجه ممانعة قوية من البنية اللغوية والإيقاعية ليس أدل عليها أكثر من شعر عبد الصبور نفسه. ساء أيضا مصير الشعر المناضل لسبب مماثل، فكل ما كانت المهمة مباشرة بدا أنها مستحيلة أو أنها بالعكس عرضة لابتذال وكسل مخيبين، بقي بيان (شعر) لأنه لا يلقي على الشعر أي مهمة مباشرة ولأن التهويم النظري في هذا البيان كان كافيا لامتلاء الشعر من ذاته وانطلاقه في نوع من الحرية الوهمية قوامها التوليد الذاتي الى ما لا نهاية. أمكن عندئذ للشعر ان يبدو غير محدود ولا منته ولا محصور في حيز أو نهاية أو حتى موضوع، لقد بدا نهائيا خارج المساءلة فهو الذي يطرح الأسئلة على نفسه وعلى العالم، استتبع ذلك نفيا لأي مساءلة وكل تطلب مباشر فكان من نتيجة ذلك إبعاده عن كل ممانعة ووضعه خارج أي مقاومة فبدا لذلك سيدا حرا ومطلقا أحيانا هكذا بدا كل اختبار محدد ومباشر مشبوها، أعليت اللغة لكن عزلت عن أي زمن. استحال سؤالها عن صلتها بالكلام أو العبارة الجارية أو الموروث الشعبي مثلا، بدا، ليس من دون أسباب، ان كل سرد أو وصف أو موضوع مسمى أمور مشبوهة أيضا، غدا الموضوع السياسي بالإطلاق عدوا للشعر، هكذا أحيط الشعر بحائط أمان كبير وعزل عن كل تحد وطرد منه كل ما يقلق استرساله في نفسه.
حملت قصيدة سعدي يوسف بيانا معاكسا: افتتان بالخارجي والمرئي واليومي وأعادت القصيدة الدرويشية الاعتبار للغناء والموضوع والسياسي لكن تجربة السبعينات كانت مدار مساءلة مختلفة للشعر، يمكننا ان نتكلم هنا عن قصيدة النثر (بخاصة سركون بولص وقصيدة النثر اللبنانية وتجربة الجيل التالي من شعراء النثر المتصلة بالأولين)، كما يمكننا ان نتكلم عن الشعر اليومي العراقي، هذان الاتجاهان كانا في أساس تحول ليس متساوقا، فيما كانت التجربة المصرية انقلابا على تجربة عبد الصبور والتفاتا الى بيان (شعر) وإن بذرائع يسارية أحيانا، كذلك كان الأمر مع الشق العراقي غير المهاجر، قصيدة النثر في السبعينات تتابعت باحتراف وتمكن الإرث الحديث للقصيدة الجديدة، كانت هذه من ناحية سن نضج لقصيدة النثر، أي سن عمل أكبر على البناء والإيقاع واللغة، لكن يهمنا أكثر ان نرى ما في هذه القصيدة من انقلاب الصلة بين أطراف الرسالة الشعرية، لم يعد الشعر قبْليته وتعاليته واستبداليته وانقطاعه الى ذاته وداخليته المطلقة، بدا ان حد الشعري غير قادر على التمايز عن غير الشعري وأن شعرية الخارج لا تقل عن شعرية الداخل. بدا ان اللغة لا تتمرى في ذاتها بل تحتاج هي نفسها الى ان تمتلك جلدا ومادة وملمسا كما بدا ان على الشعر ان لا يجد قوله في ذاته فامتحانه هو توسيع القول والإيقاع الشعريين وإيجاد شعرية ما للمهمل والرث والعادي والقذر وأن يكون في مجال عنف العالم وقسوته، اختفى الأسلوب الجميل أمام جماليات الشارع والسوق والمنزل والقاع الجسدي والمديني. لم تعد للشعر تلك الحرية الوهمية المتجلية في توليد ذاتي وسيولة لا نهائية فالقصيدة بدأت تخرج من عباءة الشعر الكبير وتبحث عن كلامها في المكان والسيرة الذاتية والتفاصيل، ذلك يعني ان الشاعر لم يعد أيضا الرائي بقدر ما هو الشاهد والراوية وفي أحيان كثيرة (البطل الضد).
من أين بزغت الثمانينات، احسب أنها بزغت تقريبا من قصيدة السبعينات ولا اعرف إذا انفصلت بما يكفي عنها، السبعينات سن نضج قصيدة النثر والثمانينات وما بعدها سن غلبتها، غدت قصيدة النثر بتسارع كبير مهيمنة في كل مكان تقريبا، ومع قصيدة النثر بدا ان الحيز الشعري يفقد حدوده ويتداخل مع النثر، حصل هذا بتوسع جعل الشعر غير مستقل بعد بقاموسه أو موضوعه وحتى إيقاعه وبدا أحيانا مقتربا وحساسية وأحيانا تقنية. الأرجح ان مفهوم الشعر لحقه لذلك قدر من الإبهام، بدا ان تراث الحداثة كاف لقصيدة الثمانينات وما بعدها لكن تنزل الشعر من الشعر أو حتى من الأدب لم يعد قاعدة، انفتحت أبواب أخرى كالسينما بالتأكيد وليست السينما وحدها فهناك الغناء والرواية والمسرح والصحافة. لا شك ان الصورة السينمائية هنا تتداخل بالصورة الشعرية، لا تحتاج الصورة السينمائية الى أكثر من لغة توضيحية والحق ان لغة القصيدة الجديدة في الثمانينات وخصوصا ما بعدها بدت شيئا فشيئا بعيدة عن أي مفهوم سابق للغة الشعرية. اللغة هذه المرة لا تبدأ من الصوت بقدر ما تبدأ من المعنى فانتظار المعنى من التأليف الصوتي لم يعد الأساس، تقصد المعنى وتوليد الإيقاع من لعبة المعنى نفسها غلبا. أي ان في تقطيع المعنى وتوازي المعاني وتكرارها وتوزيعها تشكيليا وقصها ووصلها وحسابات النطق والصمت فيها وضغطها وبترها أو تسييلها أو ترتيبها أفقيا وعموديا خطيا وتشبيكيا. تناظرها أو تضادها، كل هذا الأشبه بالسيناريو بدا لعبة أخرى للقصيدة، الأمر الذي يطرح مجددا سؤال اللغة وسؤال الإيقاع، لا نعرف الى أي حد استطاعت قصيدة الثمانينات وخاصة ما بعدها ان تستوفي هذه اللعبة الأخرى.
اللغة في قصيدة الثمانينات وخاصة ما بعدها غير متعددة الطبقات، إنها لغة السطح الواحد، إذا جاز التعبير. لا يناط الأمر الآن بتعدد المعاني واحتمالاتها فهذه القصيدة لا ترتاح للتوليد اللغوي والتناسل اللغوي ولا تحتاج حتى لطبقات المعنى العديدة، ان حصر المعنى مهم لديها، قد لا يكون واحديا لكنه أيضا ليس جنونيا ولا مفتوحا على كل المعاني، ذلك يفترض ان لا يكون للكلام عمق مبالغ به أو خفاء لا يدرك. التسطيح لا السطحية بالطبع سمة النص الثمانيني وما بعده، أتكلم هنا عن شيء يشبه التسطيح في الفن التشكيلي وفي بعض الروايات، الكتابة في القصيدة الثمانينية وما يليها مرسومة كما هي في ظاهرها لا في ما ورائها أو إيحائها فحسب. التوهيم هنا ليس الأساس ولا السحر ولا الاحتفال، شعراء الثمانينات وما بعدها يحسبون ان الإبهام والتوهيم أساسا كتابة مضى وقتها، ان كل هذا البذخ الخيالي ليس ملزما وليس ملزما أيضا الإيماء الخفي، الأرجح ان هذه الكتابة لا تبالغ في ابتكارها وخصوصيتها وثقلها الإيحائي والأسلوب، إنها كتابة تأخذ كثيرا بالظاهر وتبتعد عنه بحساب.
ليس في كتابة الثمانينات وما بعدها، هذا الازدواج بين العمق والإبهام، بل ليس هناك الإيحاء بالعمق عن طريق الإبهام، إذ لا يمكن التضحية بكل شيء لإظهار الخصوصية. لنقل ان شاعر الثمانينات وما بعدها يرى ان الإبهام والغموض تقليد قديم ولا يرى بالطبع في الوضوح قصور خيال، الوضوح بالنسبة له أساس، والوضوح لا يعني انتهاء الفن ولا ضيق اللعبة وانحصارها إذ يمكن التوليد تحت شمس الوضوح، ويمكن الاستمرار في جدل المعاني وجدل الصور بدون الدخول في مناطق مظلمة.
شاعر الثمانينات لذلك لا يبدو تحت وطأة لا وعي هائج مظلم، الوضوح والوعي ليسا بالنسبة له غير شعريين، كما انه ليس مهووسا بالخصوصية والأسلوب هوس سابقيه، لا تتطلب الخصوصية منه كل هذا الانحراف الكتابي الذي يجعل الشعر في أحيان مستخلصا بالكامل. الأرجح ان اللغة كما يريدها شاعر الثمانينات وما بعدها تتميز بشيء من العموم، ليست تماما إبلاغية لكنها في الأساس تواصلية، بعض شعراء ما بعد الثمانينات يبالغون حين يقولون ان اللغة أداة فحسب، الأرجح أنهم يقولونه على سبيل الاستفزاز والتحدي لكن اللغة مع ذلك ليست حرة تماما ولا خاصة تماما، الأسلوب موجود لكن شاعر الثمانينات وما بعدها ليس عابد أسلوب، وليس الأسلوب عنده كسر كل مشترك وكل عام الى حد نسيان نقطة البداية. لنقل ان شاعر الثمانينات وما بعدها يشترك مع كل فناني العالم الراهن في قلقهم من الخصوصية، ومن التضحية بكل شيء في سبيل أنا الشاعر، يشترك معهم في القلق من التوقيع الخاص ومثلهم لا يحسب ان الفرادة التامة أمر ممكن ولا يخيفه ان يشترك مع غيره في أشياء كثيرة، بل لا يخيفه ان يقال ان كتابته لا تملك طابعا خاصا.
مع ذلك يبدو شاعر الثمانينات وما بعدها مهووسا بسيرته، إنها تقريبا موضوعه الوحيد وخبرته الوحيدة التي لا يدخل فيها تعمد أو خلق تام، لكن السيرة الذاتية هنا ليست عبادة ما هو ذاتي بل رؤيته وكأنه ليس ذاتيا وتسويته بما هو آخروي وعام، السيرة الذاتية هنا شبه عامة فما يهم منها هو المألوف والمشترك، شاعر الثمانينات لا يبالغ في انفراده ولا يذهب بعيدا في تأمله لنفسه، بل يرى في الغالب نفسه جواب أماكن وأوقات له ولآخرين: الرصيف والشارع والبار والسينما والمقهى ليست مطارح للوحدة، أنها دائما لكثيرين، ثم أنها ليست مجالا لبطولة خاصة ولا لدراما من أي نوع ولا لتأمل خاص مستوحد، في هذه الأماكن تجنب نسبي للعمق والفرادة وما يكتبه الشاعر هو ما يحسبه لغة هذه الأماكن الظاهرية البرانية القليلة التأدب القليلة الخيال القليلة العواطف القليلة الانفعال، اللغة الوقائعية مع شيء من التذييل الذاتي. إنها ليست بالطبع ملحمية ولا غنائية جدا وستكون لذلك قريبة من الكلام، قريبة من الكتابة الصحفية، قريبة من الواقعية الايطالية في افحاشها بالواقع ومبالغتها فيه، وما ينتج عن هذه المبالغة من فكاهة ومفارقة ووقاحة وغلظة، وقائعية هذه الكتابة في جزء منها مداعبة للواقع كما ان السيرة الذاتية فيها بحث عن (أنا عامة) إذا جاز التعبير.
تبدأ القصيدة هنا بشبه حكاية توحي في سردها بأنها حكاية كل يوم وكل إنسان، حكاية يبدو وكأنها تقال على سبيل المثال، كأنها سبيل الى القول أنها واقعة ليس إلا وان الشعر ليس شيئا آخر، ليس سوى مجرد واقعة بلا تزيين ولا إضافات، هكذا يبدو الشعر وكأنه لا يقصد سوى نقد الشعر وإعادة تعريفه، كأن كل قصيدة تعيد التأكيد مجددا على تعريفها للشعر ونقده.
احسب ان شعراء الثمانينات وما يليها لا يبتعدون في ذلك عن شبه تقليد في القصيدة الحديثة يقضي بأن يعيد الشعر دائما تعريفه للشعر، قبل الثمانينات كان الشعر يقول انه الرفض أو التخريب أو الاحتجاج أو النضال أو الحب أو أي شيء آخر، شاعر الثمانينات وما بعدها يفعل ذلك وإن بقدر من اللامبالاة أو التأفف.
لكن شعراء ما بعد الثمانينات بدئوا يسأمون الحكاية المَثَل هذه بل انتبهوا الى ان هذا قد ينتهي الى تقليد آخر وقد يتحول مع الزمن الى تشابه باعث على السأم وإلى تبسيط شبه تعليمي وإلى حجر جديد على التجربة وتحويلها مجددا الى درس وخلاصة. أظن ان شعراء ما بعد الثمانينات بل ما بعد التسعينات خاصة هم الآن رهن مراجعة لذلك أو انه بلغ مداه كما هي العادة، لذا بدأ فن الحكاية الذاتية المبتذلة بالتراجع وأمكن ان يبدأ الشعر من الحكاية وغير الحكاية ومن الأنا والآخر والمعلوم والمجهول بلا فرق لنقل ان شعر الثمانينات وما بعدها هو شعر اللحظة، اللحظة لا اليوم فحسب فقد تذرر الزمن الى لحظات وتحللت الرواية الى لقطات ومشاهد، احسب ان شاعر الثمانينات وما بعدها يسعى الى القبض على اللحظة بأدوات قد يكون بعضها استلهاما للسينما. ان بصرية الشعر مجاورة للحظيته، والأرجح ان المونتاج واللحظة الحركية المركبة هما ما يتجه اليه شاعر ما بعد الثمانينات، إذا كانت اللحظة لدى شاعر الثمانينات بسيطة فهي أكثر تركيبا لدى شاعر التسعينات، الأرجح ان العموم يحتاج الى وقت ليغدو فناً وأن الواقع لا يستوي بسهولة درسا ومثالا وان الأثر الشعري ليس فقط بخلاصاته وأنه أيضا صلبه وكيانه وتجربته الخاصة، من هنا احسب ان الشعراء يعيدون مجددا مساءلة اللغة والشعر والتجربة بعد ان استنفدوا الأجوبة البسيطة.
ليس هذا بحثا، انه محرض على النقاش، وهو فضلا عن ذلك ذو هنات تاريخية كبيرة مصدرها أو أحد مصادرها تفاوت التجربة بين بلد وبلد، فثمانينات مصر غير ثمانينات لبنان ومصر والعراق، وقد يكون كل منها بالنسبة للثاني زمنا آخر.

السفير الثقافي- 2004/04/23

****

رسالة في يوم الشعر العالمي
الشعراء يبقون شباناً

أريد أن أسرّ إليكم بأنني كنت أيضاً شاباً رغم ان ابنيّ يظنان أن الآباء لا يكونون أبداً شباناً. أريد أن اسرّ اليكم أيضاً بأن الشعراء يبقون على الدوام شباناً كما تبقى الرغبات التي لا تتحقق والخطط العظيمة للمستقبل والطوباويات والقيم التي لا نتنازل عنها وحقوق البشر في العدل والحرية والسلم والحب، اقرأوا القصائد التي كتبها شعراء في شيخوختهم تجدونها لا تشكو من وجع المفاصل ولا نضوب الدم. إذ لا توجد على حد علمي قصيدة عجوز، الشعراء يبقون شباناً والشعر هو العقار السحري للشباب الدائم إذ ليس مسموحاً للشعراء أن يشيخوا ولا توجد بالنسبة لهم السن التي لا يفكر فيها الناس إلا بأمراضهم ونهايتهم. ويغدو فيها كل أمل وكل حلم بل تغدو الحياة نفسها وراءهم.

الشعراء لا يشيخون لأنهم لا يتوقفون عن الأمل، ليس الأمل بشيء ما، بل الأمل الذي هو غريزة وإحساس ولا يحتاج حتى الى موضوع: مع ذلك فإن الشعراء لا يبيعون الوهم، انهم يجدون ذلك في دمهم، يجدون أيضاً فيه موهبة الانتظار لما لا يعرف له اسم، الحماسة لما لا يعرف له وجه ويسمعون نداء الأقاصي. لا يبيعون الوهم لكنهم يعرفون أن دمهم مليء بالحقائق ومليء بالصور وأن على المرء فقط أن يجيد الاصغاء إذ لا يحتاج الشعر الى أكثر من ذلك. إنه فن أن لا نقتل الأشياء لنقدر على استعمالها بحرية ولا نهدر كلماتنا وأقاصيصنا لنصل بسرعة مجنونة الى أهدافنا. إنه فن أن نحتفظ الى أبعد مدى بكلماتنا وقصصنا المفضلة كما يحتفظ البعض بدمى طفولتهم على الدوام. فن أن تبقى للكلمات والأشياء سلطتها الأولى وسحر اسمائها وقدرتها على التحول والمفاجأة. فن أن نكبر ببطء ونترك الأشياء تكبر معنا من دون أن ندمرها في استعجالنا لنصبح أكبر منها.

الشعراء يتقنون الانتظار ولا يخسرون شيئاً أبان ذلك. إنهم يكنزون الأشياء في داخلهم وعليهم أن لا يستعجلوا. النجمة التي آن أوانها ستشرق في أوانها. الثمرة ستسقط حين يحين ذلك وسيجدونها فجأة أمامه. باستدعاء بسيط سيجدونها فجأة. القصيدة ستأتي في حينها أيضاً، انهم ينتظرون بسعادة تارة وبسأم قاتل تارة أخرى لكنهم يربون في الانتظار رؤاهم وصورهم، ليس فقط في المخيلة ولكن في الجلد واللحم فالشعر لا يصنع الأحلام ولكنه يظهر الأحلام ويجعلها مرئية ومجسدة. يجعلها أكيدة لا ريب فيها فقد <<حدثت>> في القصيدة وغدت فيها حقيقة واقعة.
الشعراء لا يبيعون الوهم. إنهم يوسعون الحقيقة ويمنحون وجوداً فعلياً لما لم يكتمل بعد. أو لما يزال مجرد ظن أو فكرة. لا يحتاجون إلى كثير ليفعلوا ذلك. بأول كلمة يصنعونه. بأول قافية، فالجمال أيضاً بسيط وسهل. ما نحتاجه فقط إيمان بالكلمات. أن ننظر اليها وكأنها حشراتنا المدللة. أن نتعلم كيف نداعبها ونلمسها لنصنع منها أشياء رائعة. نحتاج لأن نحبها ولا نسحقها من فرط استعجالنا. أيها الشبان أنهم يستعجلونكم كثيراً يقولون إن عليكم ان تقتلوا ذاكرتكم وكاتالوغاتكم الرائعة وفراشاتكم لتنضجوا بسرعة ولتكونوا مبكراً نصب أهدافكم. يرمونكم بسرعة في سوق العمل والإنتاج وسوق النزاعات والوطنيات والعصبيات. يقولون إن عليكم ان تقتلوا لغتكم، ان تتكلموا لغة ليست جلداً لأحد ولا تشبه أحداً. أن تقولوا الكلمات كما يعرفها الكومبيوتر. أسوأ ما في العولمة هو لغة اللاأحد التي يقترحها أسوأ مبشريها. لم يحدث أن عاش ناس خارج لغتهم ويريدون أن يجربوا هذا بكم وعليكم أن تقاوموا.
إن قتل اللغة هو قتل الذاكرة، فالكلمات هي أيضاً تاريخ، ونحن بها نؤكد اننا عشنا قبلاً وما زلنا نسمع أسلافنا في كلامهم. إن موت كلمة موت كائن حي وعلينا أن نحمي كلماتنا كما نحمي الأجناس النادرة. فأسوأ ما في العولمة اليوم هو قتل الذاكرة والعيش بلا ماض. لم يحدث ان عاش أناس من قبل بلا ذاكرة ويريدون أن يجربوا هذا بكم وعليكم أن تقاوموا.
الشعر هو أيضاً عنصر مقاومة. قصيدة صغيرة تملك قدرة هائلة على أن تقاوم. إنها مصنوعة من لغة وذاكرة لا يمكن تفكيكهما بسهولة. قد تكون هزيلة وضئيلة كخيط لكن من يقدر على قتل خيط. قد تكون الأضعف فهي حساسية وتوتر ومن يقدر على تدمير حساسية ما. من يقدر على إبادة الطاقة الكامنة في هذه البقعة الصغيرة من الكلمات.
ربما تظنون ان الشعراء رعاة من زمن آخر او عشاق في زمن لا يحبذ كثيرا العاطفية. ربما تظنون ان الشعر بات من زمن شيعة سرية ونشاطا تحت الأرض. ماذا تقولون إذا علمتم ان الشعراء أيضا ينتظرون الوحي من الكومبيوترات او ان وحيهم تغيّر بعد كشوفات الفضاء. ماذا تقولون إذا علمتم ان الأرقام شعرية كالكلمات والسيارات جميلة كالأشجار وكل ما يوجد. وبأي إرادة كانت، كائن شعري.
يظنون ان هذا العصر لا يصلح للشعر فماذا تقولون إذا علمتم اننا لا نعرف فتوحا للمخيلة كما نعرف في هذا العصر. يكفي ان نعود الى علم الفلك لنرى كم من كتاب السماء أعظم من أي كتاب شعري وملحمة الفضاء كبرى الملاحم. العالم يغدو مع التطور العلمي مليئا بالحدوس والاحتمالات والحسابات المستقبلية. أي انه يغدو بالطبع أكثر شعرية، بل وأكثر خيالية من الشعر نفسه. ان العجيب والخارق هما اليوم صنعة العلم أكثر من الشعر، والشعر لا يربح في مباراة خيال مع العلم. هل تجاوز الواقع الشعر فبدأ بطيئا مقصرا. أم ان على الشعر ان يتحقق في مجاله الحقيقي الذي لا يحتاج الى صواريخ وأقمار صناعية، مجال الذات الإنسانية المرضوضة والمعزولة التي يتجاوزها العلم كما يتجاوزها الواقع نفسه. ان العالم يغدو افتراضيا الى حد اننا ننسى الحقيقة، ننسى الألم البشري ننسى الحاجة البسيطة للحب والتضامن. أي كل ما يتطلب ملامسة متأنية عطوفا هي فن الشعر وغايته. صحيح ان العالم المعاصر يكره الشعر، لنقل انه يحتقره فالعالم المعاصر المبهور بعجيب الكون ينحدر الى احتقار الذات البشرية التي يراها بطيئة ومتخلفة عن اكتشافاته، ان الإنسان، حتى في نظر نفسه، أقل أهمية من طموحه ومعرفته. ربما لهذا لا نزال بحاجة الى الشعر او اننا أحوج اليوم اليه، إذ لا بد من معالجة صور للذات التي تهان كلما طلب منها ان تكون فقط طاقة في سوق العمل والانتاج. وكلما اعتبرت آلة مشكوك في فعاليتها ومشكوك أكثر في تلك الرواسب العاطفية والوجدانية التي حملتها معها من عصور ما قبل ثورة الأدمغة الصناعية.
أكتب الآن من مدينة عانت عشرين عاما ونيفا من الحرب الأهلية. رأيت كيف يتحول الإنسان لمجرد حصوله على بندقية الى قاتل. كيف يغدو أقل اختلاف في الاسم واللهجة والسكن سببا كافيا للاعتداء. رأيت كيف تتحول المبادئ والمثل والوطنيات الى برامج لتصفية الآخر، وكيف يتحول أناس عاديون في غمرة العنف الى جامعي أعضاء من الجسم البشري. ان البشرية قادرة على ان تكون عديمة الرحمة وعلى ان تدمر بعنفها مُثلها. ذلك يتطلب فنا بريئا لا يتحول، مهما كان الظرف، الى آلة دموية. قد تكون الموسيقى هذا الفن، قد يكون الشعر. حين تحدث هولدرلين عن براءة الشعر ربما كان يقصد شيئا كذلك، اننا نحتاج الى فن لا يعتدي. الى فن ضعيف وحساس ولا يقدر على ان يتحول بوقا للعداء. قد يكون الشعر ضروريا لحياتنا، قد تكون جرعة منه مع حليب الرضاعة. ملعقة منه مع دواء المرض، قليل منه كل يوم ضرورية لمداواة غرائز القسوة والعنف والاعتداء عند البشر.
الشعراء يبقون شبانا كالرغبات التي لا تتحقق والقصيدة قبل كل شيء رغبة حارة وجسدية وربما تتحقق، على نحو ما، في كلمات. القصيدة غالبا لهفة، حماسة، شغف وأغنية للآخر، للصديق، للقرين. قسوتها، حتى قسوتها، تطهّرٌ من العنف وسوداويتها، إذا وجدت، تطهّرٌ من الكراهية. انها تبقى، وفي كل الأحوال، فعل حب وفعل براءة. أهم من ذلك انها وعد ببداية، يمكن ان نبدأ في أي سن ومع أي قصيدة، وأنتم أيها الشباب يمكنكم هكذا ان تبدأوا.

******

لغة بين بين وليست أماً ولا بيتاً

لغة عمرها خمسة عشر قرنا ليست ككل لغة أخرى. إنها بخلافها لغة تخسر وتزداد فقرا وعلى الذين يكتبون فيها أن يروا بعض الكلمات تموت في كتاباتهم الخاصة. عليهم بالطبع أن يعانوا معادلة صعبة قول الأشياء بغير كلماتها الأصلية، أو بغير كل كلماتها، فهناك دائما أشياء موجودة ليست لها كلمات، وهناك دائما ضرورة لأن نقول بالكلمات الموجودة أشياء ليست تماما لها. هذه مهمة الكاتب، ان تقيم من جديد عقدا بين الكلمات والأشياء، ليس ذلك دقيقا تماما ولا صحيحا تماما. لا نحتاج لأكثر من ذلك لنفهم أن ليس هناك من مطابقة بين الكلمات والأشياء، وأن الدقة التي نتكلم عنها هي دائما شيء ثالث.
كيف يمكن للغة كهذه أن تكون جلدا، وهل توجد دعوة للكتابة إذا لم تكن اللغة جلدا. كان أبي يستمد كل لغته من الكتب وقلما كان يبتكر جملة لنفسه. أما الكتب فهي دائما كتب قديمة. أحسب أن هذا جعل بيني وبين أبي على الدوام حاجزا، لم أكن أراه مع كل هذه اللغة رجلا حقيقيا وبالصوت العالي الرتيب الذي كان يتكلم به كنت أشعره يقرأ أكثر مما يتكلم. مات أبي وهو لا يشعر أنه لم يقل شيئا، بل لم يشعر أنه لم يترك لي صورة حقيقية عنه. وإني كنت أتوسل لمعرفته بكل شيء إلا بكلامه. لم يكن أبي وحيدا في ذلك الموقف، أظن أن مشكلتي أنني كنت وحيدا أكثر منه في موقعي. والأغلب أن هذه المفارقة ساعدتني على أن أتوجه الى الكتابة. كنت أريد أن أكتب لأكشف ما تحت كلام أبي، لأرى إذا كان له وجه تحته، أكتب لأسلمه كلاما خاصا به. الحقيقة أنني بعد كل هذا الوقت لا زلت أتساءل إذا لم يكن الفرق الذي بيني وبين أبي هو فقط فرق وقت وأنني في الحقيقة لم أتجاوزه كثيرا، إذا كنت لا أستعير جملي من الكتب صراحة وبوعي إلا أنه توجد بالتأكيد أمكنة أخرى لتزودنا بلغة مستأجرة ومستعارة. ما زلت لا أعرف إذا كانت الكتابة تسلمنا صوتنا أم تبعدنا عنه، بل أتساءل إذا كان الكاتب يتكلم حقا بصوته.
حيثما بدأت الكتابة فضلت دائما الترجمات على الأدب العربي المعاصر المكتوب حينذاك. لم تكن الترجمات دائما ممتازة ولا دقيقة مع ذلك وجدتها أكثر مطابقة ودقة. كان الأدب العربي المكتوب يشكو بالضبط من هذه المفارقة بين طرفي العبارة، مفارقة بين الإيقاع والصورة والمخيلة والفكرة، لم يكن الكلام دائما في جلده. بدا لي أن العبارات تعاني من اختلال فيزيقي، من نشاز دائم. الترجمات كانت عربية لكنها لا تشبه نصا عربيا. كانت بالعربية لكن بعربية ثانية. ولأنها ترجمة، كانت الكلمات بلا ماض تقريبا فيها، وكنت أقرأها بدون أن أشعر بأن ثمة ذكريات أدبية تتدخل. المفردات كانت أيضا متساوية مبدئياً وليست لها مقامات ولا حظوظ مختلقة.
هكذا يفهم المرء فوراً أن لكلمة رحيق وزيت وبصاق شاعرية لا نجدها في كلمات زنبق، وعصر، وروح مثلا. كان الكتاب العرب بدأوا في استعمال كلمات وقحة وتجرأ كتاب قليلون منهم على أن يضمنوا كتاباتهم كلمات مثل استمناء وبول، كانت البذاءة هي القطب الأخلاقي الجمالي المضاد. لكن القاموس العادي، قاموس الجسد والأشياء والآلات والعاديات لم يكن جاهزا بعد للأدب، ففي عز الصراع الأخلاقي الدراماتيكي كانت هذه الكلمات بلا هوية ولم يكن حتى الغاضبون المجددون يجدون لها في سجالاتهم مكانا. في الأرجح كانت هذه تحمل إليهم ذكرى الواقع، في حين أنهم كانوا يساجلون ضد ما يعتبره الخصوم واقعنا الخاص. ربما كان للترجمات سحر اكتشاف بلاد جديدة، لقد وجدنا لغة هي أدب بدون أن تكون أدبا، كان الجمال يأتي من هذه الصلة الاعتباطية بين الكلمات والأفكار والإيقاع، وترتجل هذه في ما بينها مطابقة أو تفاعلا، لا نجدهما في نصوص تقطّر الكلام وتخضعه لحسابات صيدلية، كانت الترجمات تعيدنا إلى ما سماه بارت النقطة الصفر التي مما تفعله كل النصوص الغاضبة أو المحتجة في أدبنا. لقد أتاحت لنا أن نبدأ بلا آباء تقريبا، وبدون آباء شرعيين، وعلى الأقل كانت هذه الفكرة واحدة من الأساطير المؤسسة للأدب العربي الحديث.
لقد اكتشفنا أن أشياء كثيرة تحصل من حالها بمجرد أن نتخلص من إلزامات لم يعد لها جدوى، كانت اللغة الأدبية الراهنة يومذاك فضفاضة أكثر من أن تكون جلدنا. لذا كانت عملية عزل للغة، أو تحييد، أو حتى تخفف من موسيقاها الموروثة كافية لأن تتنفس وتبدأ بالانتشار على مساحات مختلفة. كان التماهي مع إيقاعات حربية وغنائية عالية للغة يفقرنا. بعض الشعراء العرب حولوا طبول اللغة الى كمنجات (Violon)، لكن لغة عمرها خمسة عشر قرنا ومرت بتجارب مذهلة تعرف كيف تتراجع وتخرج أيضا كمنجاتها الخاصة. كان يجب بالتأكيد عمل أكثر جرأة، لكن لغة بهذا العمر تعرف أيضا متى تصرخ، متى تتصرف كما لو أن المحاولة لم تكن سوى اعتداء جسدي وكسر أطراف. هكذا تحولت مغامرات تجديد غير ناضجة الى عنف إن لم نقل إرهابا. هذا بالطبع مفارق للغاية. إذا كان على الكاتب أن يساير اللغة لتتقبل قطرة قطرة ما ترفض أن تأخذه جرعة واحدة فإن هذا يدعونا الى التساؤل عمن يخدع الآخر في هذه الحالة. إذا كان عليه (أي الكاتب) أن يغتنم غفلة منها فإننا نتساءل عما يحدث حين ننتبه. إذا كان يساعدها فقط على أن تخرج من ترسانتها آلات سهت عنها فماذا ستكون النتيجة. يمكن بالتأكيد إعادة إنتاج السيطرة بوسائل شتى والخوف من أن تمتص اللغة كل محاولات تعبيرها قائم. لكن ألا تتغير حقا عبر عمليات الامتصاص هذه، ألا تتغير حقا بالدرهم والقطرة. ألا يكفي أن نقرأ نصوصا جديدة فنرى أن هذا حصل ولو بغير ثورة، أو بثورات كاذبة أو بترميمات كانت افعل من ثورات.
طالما فكرت ان الكتابة هي بحد ذاتها فعل عجز امام اللغة، لا يمكن للكاتب ان يفعل شيئا ذا قيمة اذا لم تتبنه اللغة. اذا لم تجعله صوتها او عبارتها. في النهاية لا يبقى من كل مشروع الكاتب سوى الفتات الذي ينال رضاها. مع ذلك فإن العملية نفسها ليست سهلة، على الكاتب ان يغتنم غفله من اللغة او نقطة ضعف تظهر فيها. لا افهم ان يقال ان الشاعر حارس اللغة او مجنون اللغة، فليست قوة الكاتب امام اللغة اكبر من قوة المدمن امام الهيرويين. انه بمجرد ان يكتب تقل ثقته بصوته الشخصي وربما يكون عمله احيانا هو ان يفرز هذا الصوت من مجمل الكتابة ويرميه خارجا كعشب ضار. ولن يكون هناك شيء هام في كتابته سوى ما استسلم له. ما استحقه نظراً لصبره ما منحته اياه ساعة رضا من اللغة قلما تحصل. ينسى الكاتب كيف حصل هذا، انه يعود من ذلك المكان بلا ذاكرة. في الواقع ما حصل عليه هو اشارة خاصة الى تلك القوة التي يشعر بها خلفه، الى ذلك الصمت الهائل والانطولوجي الذي يوجد وراءه. انها اشارة بسيطة في الغالب وضعيفة لكنها من معدن تلك القوة التي يتكثف فيها التاريخ البشري. تجيز التقاليد الادبية العربية للشاعر ان يخطئ في اللغة، يمكننا ان نتصور انه خطأ لغوي لكنه من المعدن الاصلي للغة، خطأ وربما ضعف. اذ قلما يمكن ان نتخيل للشاعر جسداً قوياً، انه اصم لكي يسمع جيدا على غرار ما ان العراف اعمى ليرى افضل. لنقل انه في الغالب اخرق. ينتظر ان تصيب واحدة من حركاته العثراء، واحدة فقط ستكون هذه معجزاته الصغيرة وهي كثيرة على شخص في ضعفه. مع ذلك فهو ينتظر الصوت ايضا من جسده، وقد يخرج مريضا مثله. هكذا يبدو الشاعر الاضعف لغة محكوما بخوفه من جسده ومن لغته، بخوفه من ان لا يحتمل خفقة قلبه وقوة كلامه، انه مضطر لأن يحمي جسده من اللغة، ان يبعدها قليلا او كثيرا عن قلبه. الاقوياء بلغتهم ليسوا مثال الشاعر، انهم خطباء وواعظون ومعلمون لكن الشاعر ليس هكذا، انه يتكلم وهو يلهث او هو يختنق احيانا، ما يقوله هو تقريبا ما يبقى من اللهاث، ما يبقى من الاختناق، ما ينجو من التأتأة.
لغة قديمة عمرها خمسة عشر قرنا ليست رحيمة، سماع القرآن يخيف بل الارجح ان لغته هي التي تبقي المسلمين في حصن الطاعة، قراءة الكتب التراثية تشعرنا بضعفنا. هذه لغة كاملة، هذه تحفة ونحن ضعاف. اننا نتلقاها بحذر خائفين من ان نقع تحت وطأتها او ان تقتلنا كما هي خفقة ريلكه Rilke العالية. علينا ان نبتعد قليلا، ان نداور اللغة وان نتلقاها من مسافة، لا نملك ان نتقمصها او نتماهى معها. صوتها قد يقتلنا، او يقتلنا صوتنا اذا تماهى معها. ان لغة بمقدار صوتنا هي ما نحتمله، لذا نختار اللغة الاضعف، اللغة التي تركها الزمن لنا. بل هي اللغة التي لم تعد امينة لنفسها، لقد تحوّرت عبر الايام وضاعت معانيها واشاراتها الاولى، وهي الآن لغة عرجاء، لغة نصف معنى ونصف صوت. لغة تخسر كل يوم من نفسها وتغدو صلعاء اكثر فأكثر. لغة متضايقة من الزمن ومن العالم ومن العصر، لغة معلقة وضائعة فهي ليست لغة القرآن ولا لغة الشارع، ليست لغة البيت ولا لغة المسجد، ليست لغة الجسد ولا لغة الذاكرة، لغة بين بين، وعلينا ان نجذبها الى البيت او الى الشارع او الى الجسد، وأحيانا الى المسجد. وستكون ركيكة حيث حملناها، مهما اجتهدنا فلن تكون مطابقة. ستكون في افضل الحالات مشبهة بالجسد او البيت او الذاكرة او النفس. يقول الشاعر انها لغتي وليست لغتي، يقول الشاعر انها لغتي لكنها ليست بيتي ولا جلدي وان عليّ كل مرة ان اجتهد لأصنع منها بيتاً وجلداً لي. يقول الشاعر انه ليس حارس اللغة ولا سيدها، وانها ليست أمه بل خالته، انه ليس ابنها بل لقيطها، وانه هكذا قد يكون نوعاً من اجنبي لغته، بل قد يكون على نحو مريضاً بها، نوعاً من مدمن لها بكل ما في الادمان من ازدواج شغف وكره.
في لبنان والارجح في المغرب ايضا وفي المهاجر كثيرون يتكلمون اشياء بالعربية، ويتكلمون اشياء اخرى بالفرنسية والانكليزية، والارجح ان عربيتهم ليست سليمة كفاية ولا انكليزيتهم او فرنسيتهم. انه زواج بين لغات متطابقة وضعيفة، يمكن رؤية كثيرين على التلفزيون وهم يترجمون افكارهم الى عربية فصحى ركيكة تعاند في ان تعبر كفاية عنها، لكن كثيرين ايضا هم الذين كلامهم فضفاض جدا على افكارهم. احببت دائما ان ابدأ من هنا، حيث الاكروبات اللغوي، حيث اللغة موجودة بدون انساق كافية، نصف اشكال ونصف دلالات، حيث اللغة <<مكسرة>> كما نقول عندنا. انه شغف حقيقي ان نستعمل اللغة كما يعمل فنانو البوب الأرت او التجمع، اي نلتقط ونجمع ونعطي انساقا اعتباطية وسريعة. نجد هكذا كلمات لا عبارات فحسب تحتاج الى من يعترف بجمالها الشرير والنابي. نجد لا قاموسا فحسب بل عالما مهملا. ان افكاراً بحالها ستكون مخبوءة هناك، هذا بالتأكيد، ولكن الاهم من ذلك هو ان جمالا خاصا وآخر ينتظر هنا، ان ثمة ما ينشأ من علاقات مرتجلة. وعنيفة وغير مألوفة. والارجح ان لغة اخرى يمكن ان تطل برأسها من هذا المجال.
لطالما أرعبني ان اقرأ لبارت ان لا خروج من اللغة، انها كالهواء محيطة بنا بلا رحمة، احسب اننا في ما يتعلق باللغة يمكن ان نقول اي شيء، انها التاريخ والعالم وقد تكون اللاشيء والعدم ذاته، ونحن قد لا نكون سوى مسحورين منها او آلهة او موتى. لعبة وهم ودائما لا ندري اذا كنا غادرنا نقطة البداية.

26/11/2004

****

التلاميذ

الإصلاح هو الكلمة الآن، وهي في كل اجتماع بند ثابت، بل ان هناك من يضيف عناوين أخرى: المشاركة الشعبية، المجتمع المدني، حقوق الإنسان، تجديد الفكر الديني، الديموقراطية... من الواضح أن هذه اللغة جديدة على الحكام العرب ولا بأس من ألا يتحكّموا في تصريفها، لا بأس من أن يخطئوا في تهجئتها، فمن المسلي أن نراهم وقد حملوا دوسياتهم كتلاميذ مجتهدين ووقفوا وكلهم خشية من أن يظهروا جاهلين بها. من المسلي أن نراهم وقد ذهبوا ليتعلموا وليتأهلوا من جديد للكلام والحكم. سيبدو هذا لكثيرين إهانة وربما تراءى ليساريين قدامى أن علينا نكاية بالأميركيين أن نقاسم حكامنا الإهانة التي يتجرعونها. ربما خطر لليساريين إياهم أن علينا أن ندوس على هذه الكلمات لئلا يلتبس خطابنا بالخطاب الأميركي. لكن ما همّ إذا كانت هذه الكلمات لعبة الجميع. ما همّ إذا تحول السادة الحكام الذين كانوا لوقت قصير يعلموننا ويمنحوننا الأفكار والأهداف الى تلامذة، إذا ارتجفوا أمام الأميركيين، إذا عانوا بخوف من أن يخطئوا دروسهم. ما هم إذا رأيناهم فجأة يتمنطقون بالكلمات التي طالما اتهموها واتهموا من ينطقها، ما المشكلة إذا وجدناهم وقد تخلوا عن أستاذيتهم ومعلميتهم وذهبوا ليتعلموا. ليس هذا مهينا لأحد. إذا كان مهيناً فليس لنا، فنحن مهانون الى حد الامتلاء وحان دور غيرنا.

أما اليساريون والقوميون القدامى الذين يريدون أن يواسوا حكامهم فليفعلوا هذا على حسابهم. ان هذا لن يزيد الأمور اهتراء ولا هزلية. لن يزيد الأمور هلهلة أن نجدهم يبكون لمعلميهم السابقين وقد صاروا الى ذل التعلم والتهجئة والخوف من الرسوب. مع ذلك، فإن اغاجاري لا يزال ينتظر إعدامه، والسادة المجتهدين يرقصون حول جثته المفترضة. لا يزال علي الدميني وكل من خط عريضة في الأسر، لا يزالون كلما وجدوا سبيلاً يتكلمون في السر والعلن عن فلسفتنا الخاصة التي لا يزال التعذيب جزءاً منها.

****

التحول إلى لا شيء

لم يستفز ماكدونالد مزارعينا ولا مثقفينا فقد سبقته ماركات كثيرة ففي مدى عقود تغيرت تماما مآكلنا كلها، وكذلك ملابسنا وأثاثنا ومعمارنا وطرق عيشنا وكيفية تمضية وقتنا وفراغنا. كان البنطلون بالتأكيد غازيا أكبر من الماكدونالد وزال الطربوش ببطء أكثر من زوال القنباز - الثوب القديم الواسع. كانت المقاومة غير فعالة كثيرا على مستوى المعيش مما جعلها أكبر على مستوى الفكر. تغيير الحياة لم يتم بصعوبة كبيرة لكن ترافق بكراهية أكبر للغازي الغربي وربما للذات التي تقبلت جرثومته وتركتها تتوسع في داخلها. المهم أن الماكدونالد يمكن أن يستفز الأوروبيين أما العرب فلن تشكل بالنسبة اليهم فارقا فقد باتوا منذ زمن بعيد في تصرف كل الماركات الأوروبية أولا ولن تزيد الماركات الأميركية شيئا.

انهارت حياة بكاملها أو ثقافة بكاملها في غضون عقود فقد تغير أيضا الأدب والفنون والموسيقى والفكر. مع ذلك كله لم نصبح غربيين ولا جزءا من الغرب. بدا هذا التغير وكأنه حدث في غيبوبة، كأنه ليس تاريخنا الخاص ولا نجد فيه أنفسنا. توضح صورة الاغتصاب الشائعة في بعض أدبنا هذا التصور أي تقبلنا بلا إرادة البذرة الغربية التي انتهت بأن غربتنا
عباس بيضون، الصورة: لاريسا بندر عن أنفسنا أو بعبارة أخرى تحولنا إلى ما لا يشبه أحدا، لا أنفسنا ولا الغرب. يمكننا هنا أن نتحدث عن ثقافة وربما حياة غير تقليدية وغير حديثة عاجزة عن أن تكون هنا أو هناك. لا يعني انقسام المجتمع إلى قطاع حديث وتقليدي تبعا لمعيار اقتصادي أو ثقافي. نسي سكان حزام الفقر أصولهم الزراعية ولكنهم لا يصبحون بسهولة مدنيين وسيدفنون بالتأكيد في قراهم وجنب قطع الأرض التي هجروها لأنها لم تعد تكفيهم. يعرف الوعاظ والشيوخ والإسلامويون، ربما أكثر من غيرهم، فعالية الميديا ويستعملون بوفرة الكاسيتات والكومبيوتر وشاشات التلفزيون. فيما يبدو المهندس والطبيب وربما الشاعر الحديث مسكونين بكل الخراقات الدينية، ويلجأ السياسيون الحديثون إلى البصارات.

هذا يدل على أن الانقسام "قديم وحديث" ليس انقساما بقدر ما هو ازدواج بل هو تركيب متناقض داخل الشخص نفسه: لا يجري هذا على الأفراد فحسب، بل على التجمعات أيضا، إذ يمكن الحديث عن نقابات طائفية ودول عشائرية اشتراكية وأنظمة دينية برلمانية وديموقراطيات دينية وجمهوريات أوتوقراطية. هكذا نصل إلى أطر اجتماعية وسياسية لا يمكن وصفها بالتقليدي أو الحديث. إذا تبعنا مثلا العلاقات العشائرية والعائلية والطوائفية وجدناها تحول وتتحول في السلطة والجيش والنقابات بحيث تلبس هذه مدلولات سياسية واجتماعية وإيديولوجية تموهها تماما. ولا حاجة للقول إنها لا تعود هي نفسها كما لا تعود السلطة والجيش والحزب والنقابة هي نفسها أيضا. إننا أمام أشكال لا تتعرف تماما على نفسها وأمام لعبة مرايا يتموه فيها التقليدي بالحديث والاجتماعي بالسياسي والإيديولوجي بحيث لا يعود ممكنا التصنيف أو التعريف. لكن هذه الأشكال إن اتصفت بشيء فهي تتصف بأنها انتقالية مستمرة. وهي على ذلك تتحول أكثر مما تتطور. ولا تملك في الغالب أفق تغيير أو استراتيجية. لذا يمكن القول إنها بلا تقاليد، أي بلا قدرة على التراكم والتكيف وامتلاك وجهة. وبعبارة أخرى يمكن القول إنها بلا ذاكرة حديثة، إذ يبدو أنها لا تملك فكرة فعلية عن تاريخها الراهن. بل يمكن القول إن ميزاتها الأولى هي نسيان الحاضر أو اعتباره نوعا من بروقا مستقبلية. نسيان الحاضر يتجلى في الصغير والكبير من الأمور. إننا لا نجد مكتبة حقيقية لثقافة الحاضر ولا ذاكرة فعلية لروادها ولا استمرارية حقيقية لسجالاتها. إنها تبدو الآن محاولات فردية وانقطاعات مثابرة. كما أننا من ناحية أخرى لا نتوقف عن السؤال من أين نبدأ وكأن شيئا لم يتحقق. وفي الغالب لا نتعلم من التجارب ونهرع على النفير ذاته. إن تجربة الإسلامويين مثلا نموذج لهذا التكرار العقيم والبداية المستمرة. لكن تاريخ الأنظمة السياسية العربية كلها قد لا يخرج عن هذا الشكل.

لنتحدث إذن، بدلا من الكلام بتبسيط عن التقليد والتحديث، عن نسيان الحاضر. هذا قد يكون صدمة التحديث لكنه بالطبع ليس جوابا تقليديا. يمكننا أيضا أن نتحدث عن نوع من خصام بين المعيش والمفكر به.

إن المعيش هو دائما في حالة من النسيان فيما الفكر ينطلق من تطلبات وتمنيات لا مقابل واقعيا أو تاريخيا لها. تنهار التقاليد لكن التقليد يبقى كفكرة ومبدأ. ولا يهم الماضي السعيد المنقطع بل فكرة الماضي. التحديث نفسه لا يهم كإمكانية بل كمبدأ. في هذا الوضع يمكن للإيديولوجيا أن تسود حرة مستقلة وبعيدة عن أي امتحان للواقع وعن أي تجربة أو معيش. يمكن لها أن تستولي على الفكر كله وأن تتحول إلى ألفاظ تتكرر بلا نقاش وبتقديس وببغاوية من قبل الجمهور. إن العقل الذي ينتج عن هذا عقل إيديولوجي صرف. عقل لا يرى سوى هواه الخاص وإلحاحاته الداخلية.

لن تجد هنا أفكارا صرفة. إننا نجد الشغف أكثر مما نجد الفكرة. نجد الرضة والشعور بالدونية والضغينة كما الرغبة في إثبات النفس وربما استيهامات العظمة. الإلحاح الداخلي هو الأساس أكثر من الحساب الواقعي. العلاقة بالغرب تقع هنا، إنه محل استقطاب لكل هذه الشغفات المتناقضة، إنه المغتصب الذي لا شفاء من رضة اغتصابه وهو المثال الذي لا سبيل إلى بلوغه وربما قتله رمزيا أو فعليا مما يقدم حلا لهذا السباق المستحيل. ثم أنه مركز الشرعية والاعتراف ونحن نتوسل إليه ليعترف بنا ولا بأس أثناء ذلك من أن نطلق العنان لاستيهامات عظمتنا أمامه. ثم أن توسله وقتله أو التعاظم أمامه أمور شبه داخلية ولا تحتاج إلى حساب واقعي، فيخيل لصدام حسين مثلا ولبن لادن أن في وسعهما محاربة العالم كله. يحمل التاريخ الاستعماري بالطبع أسبابا لكل هذه المشاعرPASSION. إنه تاريخ النهب والاحتقار والاستئصال والطرد أحيانا في لبوس التمدين والمثال الحضاري. لكن المشكلة مع الغرب تبدو أعمق بقدر ما هي مشكلة المرء مع ذاته التي يحسها دائما مغتصبة أو مبتورة أو مستولى عليها من قوة عدوه أو عاجزة عن أن تجد اسما أو هوية. المشكلة مع الغرب هي مشكلة رمزية أيضا وتتطلب جوابا على المستوى ذاته. لا يمكن لاقتراحات التمدين والمساعدات الثقافية والإنسانية أن تحل شيئا بهذاالصدد. إنها تتلقى بريبة، فهي تؤكد من طرف آخر دونيتنا المستديمة تجاه الغرب. ما يفعله الغربيون في هذا المجال مهما للمثقفين والطبقات السياسية لكنه لا ينفذ إلى الخطاب المغلق الرمزي الذي يشكل البنيان الإيديولوجي السياسي للشعوب. هذه الشعوب أهينت بعمق من قبل الغرب وفاقم تهاونها مع هذه الإهانة. وتقبلها السهل لها من رضتها وعذابها مع نفسها وهي تريد تعويضا على هذا المستوى وبالنسبة للشعوب الإسلامية فإن محاولة تمدينها أو اقتراح خطة تمدين عليها تزيد في الغالب بل تفاقم من ارتيابها فهذا بالنسبة لها هو المنطق الاستعماري بلغة أخرى.

العولمة لا تعني لها بالطبع استفزازا حضاريا أميركيا كما قد تعني لأوروبا. لقد خسرت هذه المعركة من زمن وما تعنيه العولمة بوجه خاص للمثقفين هنا هو مزيد من الشعور بالتأخر والعجز عن اللحاق والمزيد من الشعور بالثانوية. ففي عالم يتهدد مستعمريهم الأوروبيين بأن يغدوا ثانويين لا أمل لهم إطلاقا. في عالم يتهدد فيه الغرب الذي عرفوه بالغيب يمكن أن يضيعوا هم نهائيا في مجاهل الزمن. أي أن العولمة تضيف إلى هذا النسيج من الرضة والدونية وهذيان العظمة تعقيدا أكثر وانكفاء أكثر. وربما كان السلوك الانتحاري من بوادر الشعور بالضياع الكامل. إذا كان الغرب بالنسبة لكثيرين هو المعيار لمقدار ما هو العدو فإن ثانوية الغرب تجاه أميركا تجعله يتوقف أن يكون معيارا للقوة أو الضعف. وليس بعد فقدان المعيار سوى الضياع المطلق.

الأمر يحتاج في الحقيقة إلى معالجة على المستوى الرمزي ذاته. يتطلب عمل ذاكرة وجوابا تعويضيا حقيقيا. والمدخل بالطبع إيديولوجي سياسي. لا تعني شيئا المساعدات الثقافية الاقتصادية للشعوب الإسلامية ما دام المدخل السياسي الإيديولوجي غير مطروق. ولنقل بصرامة، لا معنى للمساعدات ما دام التفضيل العالمي لإسرائيل لا يعني شيئا سوى مزيد من الاحتقار للشعوب الإسلامية وسوى تكرار مثابر لصورة الاغتصاب الاستعماري. لنقل بصرامة إن إسرائيل ليست بالنسبة لشعوب الشرق بلدا شرقيا إنها ذراع غربي. وتفضيلها يعني باستمرار تكرار التفوق واللااعتراف الغربيين ذاتهما، بل تكرار الغزو الغربي الذي جر عجزا وشللا عربيين وإسلاميين. ولأقل إن إسرائيل بالنسبة للمسلمين والعرب هي المعيار. إن تفضيلها يستدعي مجددا التعقيد النفسي الإيديولوجي ضد الغرب وتفوقها الواضح هو نوع من عرض يومي ومباشر لانتصار الغرب وصدمته. ما دام الأمر هكذا فإن المشكلة تتفاقم ويزداد شعور المسلمين والعرب بأنهم لا يحصلون على جواب سوى الازدراء. إن الكلام عن المساواة الثفافية والحضارية لا يعني شيئا لمن يرون أن تفضيل إسرائيل هو إعلان عملي يومي وملموس عن اللامساواة، وأن هذا التفضيل هو على نحو ما تفضيل للذات وإعلان عن تفوقها. لا أريد أن أذهب بعيدا في هذا الموضوع، لكن من الواضح أن ذكر القدس وفلسطين في أي محاكمة للغرب ليس عبثا. وإذا كنا مهتمين حقا بمصالحة من الإسلام فإن علينا أن نبدأ من هنا. من دون معالجة الإرث الرمزي لا يسعنا أن نبدأ في معالجة تفاصيل الواقع.

*****

الأسبوع الدموي، عاشوراء رئيف كرم وميل غيبسون


الأسبوع الدموي، عاشوراء رئيف كرم وميل غيبسون

في الطريق الى النبطية نبدأ في السيارة الاحتفال العاشورائي. الاذاعة اذاعة النور بيت للمناسبة، وهي منذ الصباح في جو العزاء الحسيني. برامجها هي الحداد وقراءات التعزية وبث وقائع الاحتفال لا في لبنان فحسب ولكن ايضا في كربلاء التي كانت تلك الصبيحة تتخبط بدمها. المذيع يتنقل بين المراسلين ويسألهم ونسمعهم يتتابعون جميعا على مراسم واحدة للكلام. بعد البسملة والتحميد والتسليم يسترسل الواحد في ديباجة لا يصل إلينا منها سوى الالفاظ النورانية السبحانية الاستشهادية التي تدور في فوران جمل غير مكتملة وصور ممحوّة ومعان ضائعة. ما يهم وحده هو التصويت بهذه الألفاظ المقدسة بأي بناء وبأي ترتيب. من مذيع الى مذيع لم يشذ أحد عن هذا التقليد ولم يبدأ واحد “الاخبار” قبل ان يسترسل في هذه المقدمة الاحتفالية وقبل ان ينصب من نفسه “مقرئا” افتراضيا. اذا جمعنا هذه المقدمة وجدناها في الاكثر نوعا من رطانة واحدة. انها الالفاظ المباركة ذاتها يتعسف المذيع منها وحولها “نصاً” لا اول له ولا آخر ولا وسط ولا رسالة فعلية. فالمعنى والرسالة قائمان في الالفاظ ذاتها ماثلان فيها بجملة او بدون جملة، بنص او بدون نص، وما الديباجة سوى ترنيم لها وذكر وإعادة.

في الطريق الى النبطية كانت تلك الرطانة على سمعي، تواكب ما أراه من مظاهر الحداد. النسوة بالسواد واللافتات السود والعبارات التي بعضها تاريخ وبعضها رطانة مماثلة. وفي هذا اليوم الذي كان سخيا بشمسه وبحره كان واضحا ان شيئا من الصحراء موجود في الهواء والجو. لم نكن تبينّا بوضوح الخبر الكربلائي، فقد نقله لنا المذيع بتلك اللغة السائلة الملبدة التي تحتاج الى غسل لفرز ذرة الواقع المدفونة فيها، لكنه مع ذلك بدا مهولا بقدر ما بدا منتظرا بل في محله تماما من الطقس الكربلائي. دم ليس غريباً عن المناسبة إن لم يكن مدداً جديداً لها فالأرجح ان المسيرة الكربلائية “كل يوم كربلاء وكل ارض عاشوراء” لا تنقطع عند زمن ما او بلد ما. إنها سارية متجددة الى كل ارض والى كل عصر. ربما لهذا بدا خبر الصواريخ على كربلاء جزءا من المراسم الكربلائية. بكى المذيع تقريبا لكنه بكاء مقرئي العزاء الحسيني نفسه بلا فرق. سمعنا الخبر وكأنه ضائع في الزمن اذ كنا جميعا ضائعين في الزمن والحاضر تقريبا بعيد عنا. ربما لهذا لم تتوقف المحطة كثيراً عند الخبر. تابعت دورتها وتابعنا سماعنا في السيارة الذاهبة الى النبطية. قال السائق “فجروا كربلاء” وسكت. كان بحاجة الى وقت آخر ليفهم ماذا يعني ذلك.

ترجلت للمسير الى السوق والى الساحة التي يدور فيها الاحتفال، كان الناس محشودين على جانبي الطريق وسرت باتجاه الحشد وقبل ان اصل تندفع امامي كوكبة من جيش “الضريبة”، لم أستطع أن أحدق إلا بجهد وضغط إرادي، رأيت وجوه الفتيان مخططة غالبا بأزياح دم متجمد كثيف التصق بالوجه فيما لا يزال طريا في الجبين حيث تتكفل الشمس والحر بتسييله. لم اهتم كثيرا بالتفاصيل. الذين لا يزالون يضربون بالاسياخ الكبيرة على جباههم لاعتصار الدم. الاطفال المدمون وجوها وملابس على ايدي الآباء. كانوا كثراً وكان الدم ايضا كثيراً. الدم الذي يشبه اي دم بالطبع. الدم الذي هو نفسه عند كل ذبح، ومن كل كائن تقطع شرايينه. اذا كانت هناك من ميزة لدم على دم فهي لا تبدو على الاطلاق عند رؤيته حرا نازفا أحمر كثيفا متجمدا فوق الشفة وعلى الوجه كله.

افهم معاني التضحية والقربان. افهم اكثر كيف تؤسس الواقعة الكربلائية للحضور الشيعي وكيف يؤثر هذا الحضور بها في كل محطاته. وكيف يبدو الزمن الشيعي حلقات متسعة اكثر فأكثر حول المركز الكربلائي. افهم هذا لكنه رموز ومعان تفهم بالتأويل وتستحضر بالطقس. إنها صور ومجازات ورموز. الدم رمز اساسي لكنه يبقى رمزاً. المذبحة الكربلائية ليست هذا الدم وحده بالطبع فالموت في الله يشير دائما الى قيامة ما، ولا تنقص الرواية الكربلائية هذه الاشارة. لا نفهم بسهولة كيف يغدو الدم حقيقة مباشرة ويؤخذ لا بحرفه فحسب، بل بمادته وكميته وغزارته، وكلما انسكب عزيرا وواسعا تمت الاستعادة الكربلائية واقترب التحقق الكربلائي. بعد “المصرع” توزع الهريسة ويؤذن بالزفاف. أليس هذا اشارة الى العرس، الى القيامة، الى الربيع بعد الآلام. هذه الاشارة تكاد تغفل اليوم ولا يبقى عمليا إلا الترداد الحرفي والمادي والمباشر للدم، الذي ايضا يملك الجواب. تتحقق كربلاء في دفقه وفيضانه. هذه القراءة لا يبدو انها كانت دائما بذات الحدة والافراط. في طفولتي ومراهقتي كنت اشهد الاحتفال العاشورائي كل عام في بلدة “جباع” القريبة من النبطية، ومن ضمنه الضريبة والتمثيل. لم تكن غزارة الدم مطلوبة الى هذا الحد تلك الايام اذ لا اذكر انني رأيت يومها وجها ملطخا بالدم الناشف الى هذه الدرجة. ليس هذا بمستصعب وخاصة في الشمس والحر لكنه لم يكن مرغوبا ولا مطلوبا. كان الجرح الصغير في الجبهة يلطخ في موضعه وحوله محتفظا الى حد ما بدلالته الرمزية. ما رأيته في النبطية يختلف تماما. إفراط ومبالغة جعلا الامر عاديا. الصديقة التي نظرت الى الوجوه المدماة مصدومة ما لبثت ان اعتادت وقدرت على ان ترى، بدون ان تدركها الغشية، الطفل الذي لم يبلغ العام وقد حمله ابوه مدمى على ذراعه، لا يلبث المرء ان ينسى فلا يكلف نفسه ان يحدق في الكوكبة الثانية من جيش الضريبة. جيش وحجمه ايضا مفرط كالدم الذي يتقصد ان يكون ايضا سخيا وبمقادير بالغة. تتساءل اذا لم يكن في هذا الافراط قدر من “المشهدية” من “روح العرض”، ومن إتحاف الجمهور وبهره وإشباع دهشته، اذا لم يكن في ذلك قدر من الترويج للمناسبة، وربما لها في المكان الذي تنعقد فيه اي النبطية وهي عاصمة تجارية وليس استقبال الآلاف فيها غير مجز على هذا الصعيد.

كنت افكر على نحو آخر. هل يستمد رفض هذه الدموية من ذائقة ذات انحراف غربي. لقد توقف المصورون الغربيون شيئا فشيئا عن تمثيل المعاناة الجسدية والتعذيب الدموي والوحشي اللذين يمكن تخيلهما في رواية المسيح. في فن النهضة غلب على التصوير ذوق ينبو عن التمثيل الحرفي لمسيرة الصليب المأساوية. بدا وجه المسيح حتى على الصليب ودرب الجلجلة منوراً جميلاً وإن بقدر من الإنهاك والشحوب، ولم يبق من التعذيب الدموي عليه سوى اثر المسامير في يديه ورجليه وخيط من الدم والألم على جسد يحافظ على فتوته وجماله. كان اكثر ما يتجنبه هؤلاء المصورون هو تصوير المسيح في تلك اللحظة مشوها او مبقورا او مدمى في كل جانب منه. اتساءل اذا لم يكن هذا مثالي الجمالي الذي يجعلني لا اشعر بأن التمثيل الوحشي والدموي (الذي لم يغب عن الفن الغربي إلا بالتدريج) يمكن ان يكون ايضا لغة وأن يكون ايضا جميلا على نحو ما. ألست انظر الى الدم ربما بالعين التي سأرى فيها الأقنعة الافريقية لولا ان سبق بيكاسو وآخرون الى إقحامي بجمالها. ألست أرى المشهد بدون التفات الى ان المبالغة الدموية موجودة في المسرح الآسيوي مثلاً. الغريب ان فيلم ميل غيبسون “آلام المسيح” يبدو كأنه ضجر من جماليات عصر النهضة ومن انعكاسها في السينما (تذكر مسيح زفيريللي مثلاً) وعاد إلى ما قبل ذلك، إلى التمثيل الوحشي الدموي المخيف لمعاناة المسيح. ربما اتساءل اذا لم يكن ما يصدمني في هذه الحرفية هو تواترها وامكانية تردادها ولعلي اتساءل اذا لم تكن العمليات الانتحارية في جانب منها جزءاً من هذا الترداد، حيث يبدو ان دفق الدم، دم الضحايا او دم القائمين بالعمليات، هو الذي يحمل بحد ذاته اشارة التحقق والقيامة، وحيث يبدو ان التضحية بالذات هي الترداد الشخصي الوحيد الحرفي.

أنباء مجزرة كربلاء تتواتر. العدد الذي ارهقته صواريخ “المقاومين الانتحاريين” يتجاوز ضعفي قتلى الطف. ألا يبدو هذا كأنه المسيرة الدموية والعرض الدموي يتحققان بالحرف في مكان آخر، في مدينة الطف نفسها، حيث يزول الفارق نهائيا بين الرمز والواقع، بين الحرفي والمجازي، بين الصورة والحقيقة، وحيث يبدو الدم وحده السائد والسيّد يعتصر ويستحلب ويطلب بغزارة لا تفرق بين روح العرض وطقس القربان البشري. لا اعرف اذا كان العابرون في المسيرة الدموية، المشاركون والمتفرجون، يعرفون ان ما يشيرون إليه هنا في النبطية يتحقق على نحو فظيع هائل في دمويته وقسوته في مكان آخر. كأن الجواب يأتي فوراً من كربلاء، وهو جواب يبلبل بالطبع ؟؟ ايضا. هل الدم الناشف الذي غطى الوجوه في النبطية سال حقيقيا حرفيا في كربلاء، وهل هذا هو الدم المطلوب لتستمر المسيرة الكربلائية، هل هو جزء من قدر وحلقة اضافية من حلقات الدم التي لا بد ان تتسع وتتسع، وبمقادير هائلة، حول المركز الكربلائي.

النص الكربلائي

ماذا فعل رئيف كرم في تمثيل عاشوراء. كان عليه ان يأخذ النص بالطبع كما هو بحرفه وبروحه كما يقال. لن يكون رئيف اول من يزيل حرفا من النص بالطبع. لا يشفع له شيء في هذا السبيل. مع ذلك يبدو مضحكا في القرن الواحد والعشرين ان يستمر هجاء يزيد بملاعبة القرود (وماذا في ذلك، اسألوا الاطفال) او شرب الخمر (من لا يشرب). كان في حوزة رئيف كرم هذا النص الذي ليس مواربا. اذ يصف يزيد يصف نفسه بما يصفه به الحسين ويصف الحسين كما يصف الإمام نفسه. ما هو حقيقة عند الحسين حقيقة عند يزيد. لهما الحكم نفسه والخلاف ليس بين رأيين وإنما هو بين خلقين. يسعى الحسين الى الخير الذي لا ريب فيه ويسعى يزيد الى الشر الذي لا ريب فيه والذي لا يماري هو في انه شر. يقول قادة يزيد في انفسهم ما يقوله اصحاب الحسين فيهم ولا جدال هنا. ليس النص مع ذلك فاوستياً، ففاوست يعارض المعرفة بالابدية، والله بالانسان، وليس النص العاشورائي هكذا. كان لا بد من ان يتعرض النص العاشورائي لشيء من تحريك لا اقول تعديل على الاقل. وهذا بالتأكيد ما لم يتسنّ لرئيف كرم ان يفعله. اقول تحريك لأني ضنين بروح النص وبرؤيته. ذلك ان ملحميته لا تتجلى إلا بقدر من مونتاج مختلف وتقطيع مختلف على الاقل. يمكننا ان نفكر مثلا في امر سبقنا إليه قراء التعزية. تحويل النص الى لوحات (عرس القاسم الذي حذف من التمثيل، مقتل علي الاكبر، قصة العباس، الحوار مع زينب، مقتل الطفل) ثم إن رئيف لم يحتف كما ينبغي بملحمة العطش التي بدأت مع ملحمة القتال. تركها الى الاخير ولا ادري إن كان في هذا ظل لرواية الصلب التي يأتي العطش (اسفنجة الخل التي رفعت الى الصليب) في آخرها لكن ملحمة العطش في المخيلة الاسلامية والعربية لها بالتأكيد مجرى خاص ومختلف.

من الواضح ان النص أعيا رئيف كرم، وأنه لاعتبارات لا ترحم، التزمه كما هو، والارجح انه تعامل معه باحتياط واحتراز شديدين وبحرفية كاملة، ولاعتبارات لا ترحم ايضا. حاول ان يكسر وتيرته التردادية المتسلسلة بنوع من التشخيص، أي ان يلعب البطل دوراً شبه إيمائي بينما يتردد صوته كأنه يصدر من مكان آخر. حاول بجو شبه تهريجي في معسكر يزيد وجو شبه احتفالي في معسكر الحسين ان يعطي طابعاً ملحمياً. اعتمد على مخيلة سينمائية في مشاهد القتال يسمح بها حجم الميدان الذي يتخذ كمسرح ومساحته. كل هذا جعل المسرح ضاجاً هائجاً متوتراً طوال الوقت، لكن هذا سرعان ما يغدو عاديا ومألوفا وتعود الرتابة لتستحكم بالموقف فالنص حاكم ولا يمكن اختراقه إلا بمقدار.

لكن ما استطاع رئيف كرم ان يتصرف بحرية فيه، وهو الذي اعطى لإخراجه شخصية ما، هو تقريبا في السينوغرافيا اذا جاز ان ندرج الصوت وهندسة المسرح في السينوغرافيا. في هذا يمكن ان نستشف رؤية المخرج. لم يقدر على المسرح لكن فهم ان العامل الصوتي القائم في إنشاد مجالس العزاء عنصر أساسي في المشهد العاشورائي. لم يكن كرم الاول الذي مزج المشهد بالتمثيل الصوتي في العزاء لكنه تطرف في ذلك اكثر من سواه بحيث حول التسجيل الصوتي الى مسرح مقابل، الى نوع من كورس هادر يمنح التمثيل الشجي وشبه الايمائي (وأيضا بسبب سعة المسرح) عمقا صوتيا هائلاً. كأن في الأداء الصوتي زلزلة الحدث البعيد ومأسويته ودويّه غير المسموع. شيء كالجوقة بالمعنى اليوناني بدون ان يكون جوقة. أهمل رئيف كرم، وربما لاعتبارات لا ترحم، ان يحول النساء المتجمعات بثيابهن السود في جانب الميدان الى جوقة بالمعنى اليوناني للكلمة. لم يكن التسجيل الصوتي جوقة، كان مزجا للمشهد مع العزاء. للتمثيل الصوتي مع التمثيل البصري. يجتذب فيه المسرح الى الصوتي بقدر يعادل اجتذابه الى البصري.

كانت هذه ملحمة والقتال أساسها. هكذا فهم كرم بذكاء المسألة. الميدان وسيع، وإذا كان بروك فاجأ بإدخاله الجياد الى عرضه للمهابهاراتا فإن الامر عادي هنا. الخيول تجول وتصول في التمثيل العاشورائي منذ البداية، وبإمكانك ان تحضر الى المسرح كتائب كاملة. من هنا يسعى كرم الى مشهد بين المسرح والسينما: الحشد النسبي للجنود والخيول الصائلة الدائرة حول ساحة المعركة مع معارك اقرب الى الطابع الايمائي. أراد ان يبقى المسرح مشغولاً بتلك الجياد الحائمة مسرعة حول الساحة. في هذا نجح كرم. لم يستطيع ان يخلق المسرح من قلب النص فخلقه من اطرافه. مع ذلك اتساءل اذ لم يكن كرم اخذ برؤية اكزوتيكية للنص. اذ ان التركيز على التمثيل الصوتي يستدعي في احيان طقوسا شامانية، بما فيها من الصخب والعلو والحدة، كما ان دوران الخيول الصائلة يستدعي فوراً وبلا تردد مقاطع تصور الهنود الحمر من افلام وسترن.

كان امام رئيف كرم تحدّ غالبه كثيرا، تحايل عليه كثيرا، واحتاط كثيرا بقدر ما انطلق حين تسنّى له ذلك، لكن ما فعله كرم يلائم المشهد القاسي لكوكبة “الضريبة”. لقد هداه شيء الى ان المبالغة هنا هي الاصل وأن التطرف والقسوة والذهاب الى ابعد ما يمكن هما المناسبان الآن، فبدا عمله مطروقا بهذه الروح، صخب وحده ونحيب في أداء صوتي لا يرحم، ودوران خيول لا يهدأ. هذه هي المسرحية الحقيقية ولينقذ النص نفسه.

آلام المسيح

ما كنت أنتظر في أسبوعي العاشورائي ان اصطدم بفيلم ميل غيبسون “آلام المسيح”. كنت اظن ان المسألة هي إدانة اليهود، بفعلة مضى عليها أكثر من ألفي سنة فاعتقدت انها لا تهم الا من لم يشعروا بمرورها. فيلم ميل غيسون يتبع الرواية الانجيلية. في هذا لا يجازف بمسيح سامي كما فعل بازوليني. مسيحه يشبه الى حد ما صورة في عصر النهضة غير ان ما لم يسبق إليه في السينما كان في العنف والدموية اللذين ختما على نحو لا يصدق اسبوعي الذي بدأ بالضريبة ومذبحة صواريخ كربلاء.

يعرفنا غيبسون فقط على عذاب المسيح منذ اعتقاله الى صلبه. رحلة شاهدناها من قبل في افلام تروي مسيرة المسيح وهو يجر الصليب والمسامير التي دخلت في قدميه والعطش الذي أصابه والألم الفظيع الذي خط عليه فوق الصليب. لكن الصورة الإلهية للمسيح بقيت مصونة تقريباً. جماله، فتوته، كماله الجسدي، لونه. المسامير تترك ندوباً لا حفراً. التعذيب يترك جروحاً وآثاراً لكن يبقى الوجه الإلهي والجسد الإلهي عامرين بحسنهما، في فيلم ميل غيبسون نرى المسيح المتوتر المتألم حتى العظم في انتظار تسليمه. يشرق بدموعه ولهاثه وخوفه كما قال بطرس. أما ما يتعرض له بعد توقيفه فهو تعذيب خرافي. من اللحظة الأولى يلكم في عينه فتنطبق طوال الفيلم ونراه دائما بهذه العين المشوّهة. يسقط من على الجسر بقيوده فيرفع بالحبل الذي يشد على عنقه ويكاد يخنقه بل يخنقه مرات. يؤخذ للجلد فيجلد على ظهره وبطنه ونسمع لفح وأزيز كل جلدة تهوي على جلده الذي يتقطع رويدا رويدا حتى يبدو بعد ذلك محزوزا بجراح صغيرة تغطيه شبه مربعات صغيرة مسامه بكامله. يجبر على حمل صليب هائل ينوء به ويسقط مراراً تحته قبل ان يصلب عليه. يتلقى باستمرار الرفس العنيف واللكمات والجلد. تدق يداه وقدماه بمسامير طويلة ناشبة. يرفع الصليب وهو معلق فوقه ليلقى به من عل على الحصى الجارحة. يطعن بحربة فيتدفق دمه رشاشاً على وجه الجندي.

الدم... الدم، مباشراً صريحاً والجراح تذهب عميقة في الجلد والجسد والاحشاء. كأن المشهد العاشورائي هنا صار الى الكمال والدموية والعنف غدت بحساب دقيق فناً. نرى المسيح مشوّهاً ممزق الجلد دامياً بائساً الى الاخير. لن نستطيع امام العين المتورمة المطبقة والجنب المبقور والجراح التي لا تعد ان نتكلم عن الوجه الإلهي. كلما زاد الألم والجراح زادت حسية المشهد وجسديته. سيتوارى المقدس عند ذاك وسيبقى الانساني. الانساني حتى الالتواء والتحطم والنزف النهائي.

الغريب ان ميل غيبسون لم يشر في تداعيات المسيح المعذب القليلة الى أي من معجزاته. كان يتذكر لحظات رائعة إنسانية وعلى المائدة غالبا يحدث تلامذته ويبتسم ويأكل. أي يستعيد لحظات إنسانية بسيطة بامتياز. لقد رأينا الانسان بكل وحشية ألمه بل قدرات العنف والتعذيب عليه. رأينا المسيح مثله مثل اي سجين في دولة مستبدة لا حدود لعنفها. يمكننا ان نتذكر ضحايا المنصور وهتلر وستالين وبينوشيه وصدام حسين مثلا.

فيلم غيبسون مخيف عن تحطيم كامل وكلي لإنسان. هل نلاحظ ان الدم الغزير يلغي المقدس؟ تحت الدم نجد الانسان. فوق وجوه “الضريبة” كان البؤس الانساني هو الذي أخافنا ولا اعرف كيف صمدت امام “الوثيقة الكاملة” عن قتل المسيح لحظة بلحظة. قال البطريرك “ان هذه هي الحقيقة كما هي”. هذا الكلام قد يتجاوز الحقيقة التاريخية الى حقيقة اكثر انطولوجية. هل علينا ان نذهب ابعد في حقول الوحشة الانسانية غير المكتشفة بعد. حصد فيلم غيبسون 125 مليون دولار في اسبوعه الاول. هل نفهم من ذلك ان “الضرّيبة” لم يفعلوا عجبا، أن هناك من يشترون الدم هنا ايضا وأن “ترداد” الدم هو نفسه في كل مكان.

السفير - الجمعة، 12 آذار «مارس» 2004

*****