ميشائيل كليبرغ

ترجمة : سمير جريس
(مصر/برلين)

ميشائيل كليبرغنقاد عديدون يعتبرون "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" قمة إبداع غوته الشعري. هذا الديوان نظمه أمير الشعراء الألمان بعد أن "هاجر" فكرياً إلى الشرق، هكذا كتب في أولى قصائد الديوان. هناك أجرى لقاء خصباً بالشعر الفارسي والعربي، وأعجب إعجاباً جماً بقصائد حافظ الشيرازي على وجه خاص، ما دفعه إلى مبارزته شعرياً في ديوان يجمع بين الشرق والغرب.

أحداث الحادي عشر من أيلول كانت منطلقا لمشروع ديوان جديد ترعاه عدة مؤسسات ثقافية ألمانية. هذا المشروع يهدف إلى أن يتبادل أدباء من ألمانيا الزيارة مع زملاء لهم من الشرق الأوسط (البلاد العربية وتركيا وإيران)، على أن يرد هؤلاء الزيارة في ألمانيا. وبعد الزيارة ـ التي تراوح بين ثلاثة وستة أسابيع ـ يكتب كل أديب مقالة طويلة عن إقامته الشرقية أو الغربية.

"ديوان الشرق والغرب" الجديد افتتحه في خريف 2002 الشاعر عباس بيضون عندما حل في ألمانيا ضيفا على الروائي ميشائيل كليبرغ. خلال تلك الرحلة كتب بيضون عدداً من القصائد، قرأ بعضها في أمسيات مشتركة مع كليبرغ في بيروت، عندما بادله الأخير الزيارة في مطلع 2003. ومنذ شهور بات باستطاعة القارئ الألماني مطالعة ثمرة "الرحلة اللبنانية" في كتاب صدر بعنوان "الحيوان الباكي"، وحقق صدى طيباً في الصحافة الألمانية.

هنا مقتطفات من الكتاب الذي ستصدر ترجمته العربية في إطار مشروع "ليتريكس" www.xirtil.ed الذي يهدف إلى التعريف بأحدث الإصدارات الألمانية في مجالات الأدب والفكر وكتب الناشئة. في المقطع الأول (من ص 30ـ42 من الأصل) يتحدث كليبرغ عن عباس بيضون وبداية تعرفه إليه. وفي المقطع الثاني (من 113ـ120) يروي الزائر شذرات من الحرب اللبنانية على لسان ألمانية لم تغادر بيروت خلال سنوات الحرب إلا قليلاً.
كما اننا ننشر هنا (المقال التالي) ما كتبه الشاعر عباس بيضون عن رحلته، وهو خصّ به ملحق نوافذ مشكورا.

***

"في البداية عيناه: تدخل إلى الغرفة عينان، وبصحبتهما إنسان. ليس بالإنسان الغريب الذي تلفت سماتُ وجهه الانتباه شيئاً فشيئاً. بئران داكنتان، كالجُبّ، لا بل نبعان، ليسا في سواد الليل كعيني بيكاسو؛ عينان دافئتان بلون العسل الغامق، يحيط بهما إكليل من البهاء المشع من ثنايا وجهه الضاحكة، التي تقابلها تقطيبة جبينه المهموم، وجفناه الحزينان الأسمران وأكياس الدموع التي تختزن خبرات وخبرات. هذا هو ما يجهض أي انطباع قد يتولد بأننا إزاء إنسان مرح نزق. أرى التمازجَ بين التجاعيد المتعارضة، والتجويفين الداكنين اللذين تستريح فيهما عينان داكنتان أيضاً ـ اللتان تبدوان لذلك أوسع مما هما بالفعل ـ على أنه اندماج بين المرح والكآبة، ومعاً يولّدان سخرية من الذات. منذ اللحظة التي تقابلنا فيها، ومشى باتجاهي (لم نكن قد تعارفنا إلا عن طريق الصور)، ثم مد كفه وتناول يدي، ووضع راحته اليسرى برفق فوقها كأنه يحميها؛ منذ تلك اللحظة بات واضحاً أن المودة ستربط بيننا. أنفه الكبير المقوس يمنح مظهره شيئا من الأرستقراطية والعراقة. غير أن رأسه يعترض على ذلك: الجمجمة الصلعاء تنتهي حيث يتوقع المرء تكوراً، وتهبط إلى الوراء مباشرة كجدار مائل، ثم يأتي إكليل الشعر المقوس الذي يذكّر قليلاً بالقناع الذي يرتديه المهرج. شاربه، الذي يختلط سواده ببياضه، يوحي ـ إذا كان متعباً ـ بأن صاحبه قروي؛ ولكن عندما يرتدي الكاسكيت البني، أو عندما يفيض في الشرح كمعلم، فإنه يبدو مثل نبيل إسباني عجوز أو محافظ في أحد بلاد أميركا الوسطى. عباس يحب الضحك، ويكثر منه، عندئذ يبدو البهاء وكأنه ينبعث من ثنايا العينين لا من المقلتين ذاتيهما اللتين يظللهما الحزن والأسى. قد تبرق العينان أيضاً بخبث، وبشيء من الشيطنة، دون أن تكون مخيفة. هو في تلك الحالات جني صغير لا إبليس شرير. nilaM هي الكلمة الفرنسية المناسبة. يداه الصغيرتان غزيرتا الشعر الأسود تثيران لدي شعوراً بالحنان الأبوي (مصدر الشعور يدا أبي المشعرتين ـ لكن يد عباس لا ترتفع لتضرب، بل لترفرف فحسب، لتنزلق، لتنفتح وتنغلق، لتنقر وتهرش وتستند وتلوّح). أظافر الأصابع قصيرة، ليست مقضومة، بل مقصوصة باستقامة مثل أظافر القدمين. أحيانا تحيط بها حافة سوداء: دليل واضح على أن صاحبها أعزب، فالزوجات لا يسمحن لرجالهن بأشياء مثل هذه، ولهذا لا يفكر الرجل ـ وهو ما سيكون متوافقاً مع تفكير جنسه ـ في أن يترك حافة الظفر في حالها باعتبارها جزءاَ من الجسم، مثل الشامة أو الخلايا الصبغية. الأذنان كبيرتان وجميلتا التكوين. ولكن ما يميز الوجه ليست هي الأذن، ولا الفم (الذي يعمل كثيرا لأن عباس يميل إلى الشروح المستفيضة والاستطرادات)، بل العينان، وإن كانتا كثيرا ما تبدوان ـ حتى وهما مفتوحتان ـ ناعستين وحالمتين، وكأنهما تنظران تجاه الأبدية.

أثناء الحديث ـ عندما يشرح فكرة أو يصف شعورا، أو عندما يقارن أو يدلي برأيه في موضوع ـ يضيف في كثير من الأحيان هذا التعبير: sصelbissop tse lli، بدلا من أن يقول ما هو مألوف بالفرنسية:(rid isnia ruoP على وجه التقريب). إنه لا يقول أيضاً: ( Sص(isnia erid ed elbissop tse llIإذا كانت الفرنسية تسمح بقول ذلك)، بل فقط: إذا كان ممكنا؛ وهو ما يخلص التعبير من عاديته النمطية، ويمنح كل فكرة ينهيها على هذا النحو نوعا من الدهشة، الدهشة نحو الذات؛ كما يضفي على كلامه نوعا من التحفظ ومساءلة الواقع، أو بالأحرى نسبية لاحقة. إنها أيضا إشارة إلى تهذيبه وتواضعه، أي إشارة إلى طبعه الذي لا يدعي معرفة كل شيء على نحو أفضل. لا يصر على رأيه، بل يريد بعبارته، "إذا كان ممكناً"، أن يقلل من أهمية ما يقول، أو أن يضعه بين قوسي الود المهذب. في الوقت نفسه دهشة الأديب وحذر الشاعر أمام الحقيقة، وكأنه يريد أن يقول: كل شيء ممكن، أو: ما أكثر ما يحدث مخالفا لكل منطق أو توقع. فهذه الجملة، "إذا كان ممكناً"، لا تعني في النهاية سوى: بالطبع كل شيء ممكن.
تعبير آخر يستخدمه بيضون، في أغلب الأحيان كإجابة: . sdnerpmoc eJ هنا يتضح اختلاف معنى العبارة تبعاً للحالة، بعيداً عن المعنى الأصلي "أفهم". العبارة قد تعني عندئذ: لا عليك، الأمر سيان، أتفهم الأمر، لا أتفهم الأمر، أنا مصاب بخيبة الأمل، أستطيع أن أشعر بذلك، أدرك ما تعني، لا أفهم ما تقصد لكنني سأفكر في الأمر، فهمت، لا داعي للشرح والإطالة، حسناً، ليس هناك داع لأن نواصل التحدث عني، أحتاج إلى برهة حتى أفكر في الموضوع، وأصل إلى نتيجة بخصوص ما تقول، ثم أجيبك عن سؤالك، إلى آخره. الوقت الذي يحتاجه محدثه حتى يفهم ما يقصده بـ sdnerpmoc eJ، يستفيد منه عباس حتى يأخذ مسافة من المشكلة والسؤال، من الآخر، ومن ذاته.

عباس الذي ينزلق من الأريكة ويجلس على البساط مستنداً إليها وقد تهدلت سترته، ثم يحبو على أربع حتى يكون على مستوى باولا عندما يلعب معها. عباس، مركزا بصره على باولا، وهو يضع راحته اليسرى على ظهر اليد اليمنى، ثم بكلتا اليدين يصنع تموجات، وبالإبهامين المفرودين يوحي بضربات الأجنحة: طائر الكركي. بعينين واسعتين تلاحق الطفلة حركة الطائر، وتظل طوال أسابيع تتمرن على هذه الحركة المعقدة، وفي مساء أول قراءة مشتركة لنا في معهد غوته تصل إلى حد إتقانها، فتهتف من الصف الأول تجاه المنصة: "عباس، شوف!" ويقطع عباس القراءة ويتفرج على يديها المتموجتين.

عباس الذي يعابث ليزلي التي تريد التقاط صورة له على مسرح بيبلوس المدرج، ثم يقف وقفة استعراضية: فجأة غدا عمره 2500 سنة، وكأنه خرج لتوه من إحدى مسرحيات أرسطوفانيس.

عباس في رحلة العودة من إهدن، عندما اتصل رشيد هاتفياً بـ ليزلي التي تقود السيارة، كي يسأل عما إذا كنا وصلنا بسلام إلى السهل. عباس يمد رأسه ويصرخ في السماعة: "رشيد، سيارتك قبيحة وغير مريحة، مقارنة مع هذه الكاديلاك الرائعة".

عباس في "معهد الدراسات المتقدمة" gellokstfahcsnessiW في برلين، وهو يصغي إلى كلمات أدونيس ومحمود درويش دون أن يكتب ملاحظات، ثم يتدخل بالأسئلة؛ وبعد أيام تظهر مقالته في "السفير": عرض رائع، وتحليل بارع للمضمون، وكأنه استمع إلى نص الكلمات مُسَجَلاً. تشتت ذهنه الذي يخدع الناس، ويموّه قدرته على التركيز والإصغاء الدقيق.
في بيت بريشت، بعد أن سلمنا على العاملين هناك وكنا على وشك الانصراف، يسأل فجأة إذا كان من الممكن فتح خزانة الملابس الضخمة.
مبتسماً يتأمل القمصان بلا ياقات، والسترات العمالية التي ـ بسبب قماشها الممتاز والبطانة المتقنة (إذا لم تخني الذاكرة كان بريشت يفصل ملابسه لدى ترزي للرجال في زيوريخ) ـ انتصرت على مرور نصف قرن وكأنه يوم واحد. لم يستطع عباس أن يطرد من رأسه فكرة أن بريشت اختار مقره الأخير بجوار المقبرة التي يريد أن يُدفن فيها، حتى إذا حانت الساعة لا يكون بحاجة سوى إلى عبور السور. أخذ يرسل النظر طويلا من الشرفة الشتوية إلى المدافن. قبل ذلك أطال الوقوف أيضا أمام الشاهد الضئيل الموضوع على مقبرة هيغل، إلى أن انتابني شعور محرج بأنه يصلي أمام قبر صديق أو قريب لم أتعرف إليه، ولهذا فإن وجودي في تلك اللحظة لا معنى له. لم يتوقف طويلاً أمام الكتب، ولكن عند سرير الشاعر يتعرف على ذاته: صومعة الناسك، الفراش الضيق الشبيه بأسرة الأطفال، بالمحفة أثناء الحياة، النخبوية، الإقصاء والحرمان، اللاحسية ومعاداة الجسد، الاحتياج إلى الوحدة والنقاء، إلى الترفع والحزن، القرب من الموت، النفور والمشاعر المهتاجة.

في رحلة مسائية بالسيارة إلى بيروت، يلقي عباس رأسه إلى الوراء ويسند قفنَه على الحافة العلوية للمقعد، حالماً، مستمتعاً، حزيناً؛ ويغلق عينيه مصغيا إلى أغنية يبثها الراديو لأم كلثوم. "كم كنت أحب الاستماع إليها، في الزمن الماضي. كانت في حفلاتها لا تشدو إلا أغنية واحدة، طيلة ساعتين ... تنويعات طويلة لا تخرج عن الشكوى والنواح". ستظل هذه النغمات بالنسبة لي، أنا الذي أشعر أيضا بالحنين إلى أغانٍ قديمة، مثل نظرة غائمة زائغة في حديقة مغلقة أمامي: شباب عباس.

في قاعة الفنون البرلينية المُسماة بـ"محطة هامبورغ": اهتمامه المتوتر اليقظ، وتحمسه للتجهيزات snoitallatsni التي أبدعها الفنان أنسلم كيفر، اهتمام مبني على معلومات غزيزة جمعها عنه. ولكننا سرعان ما فقدنا اهتمامنا لأن الأعمال الأخرى كانت عادية، مبتذلة، وإن ادعت الأهمية.
وعندما مررنا بخامس مجموعة من مجموعات الزوار التي خيم عليها صمت جدير بالكاتدرائيات، وبينما راحت المجموعة تتمهل بخشوع وورع في غرفة تنيرها أنابيب النيون الخضراء وكأننا في صالون حلاقة، وفي السقف ثُبتّت مقاعد من مصانع "إيكيا" للأثاث، انطلق عباس يقهقه بقلب خال من الهموم: "إن قيصر هذا الفن عار، هذا شيء مضحك، وليس تراجيديا. ولكن ما يدفع إلى الضحك يأسا هو أن الشعب لا يريد أن يصدق ما يراه!" تستدير سيدة شاحبة وتطلق فحيحها ناحيتنا مثل أفعى تتميز غضباً. ثم تكتشف العربي، ومن نظرتها المتهالكة يتساقط طلاء التسامح المتكلف الذي تعلمت بصعوبة مضنية أن تظهره تجاه أبناء الثقافات الأخرى.

عباس في حديث حميمي مع أصدقائه المقربين: إنه يستقبلهم في مملكته، ويدخلهم إلى حضرته، بألفة بالغة ومشاعر دافئة. عباس مع الغرباء: النظرة موجهة إلى الداخل قليلا، سلوكه يقع بين التذمر والتواضع. يتجاهل ذاته. لا يريد أن يزعج أحدا. لكن عينه تبقى يقظة وأذنه صاغية حتى يستطيع أن يقدر ويزن. عباس بين الأصدقاء: كأنه نصف إله من آلهة البحر المتوسط، يسبح بهامة ملقاة إلى الخلف وسط أمواج الضحكات، وعندما يمازحه المرء، تعلو قهقهته وتغطي على كل شيء. عباس عندما يفقد أعصابه: العينان تظلان تضحكان، ثم فجأة يُشهر سيف اللغة. جرح بسيط يكفي. فإذا بقي الشخص المزعج في مكانه، أو إذا كان بليد المشاعر، عندئذ تبدو على عباس مظاهر السأم والتعب وتشتت الذهن.

مثل عديد من المثقفين يميل عباس في الموضوعات الاجتماعية والسياسية إلى تكرار تلك الأفكار والأقوال التي توصل إليها ذات مرة واختبر صحتها، أو التي يشعر بأهميتها (ربما بعد أن يكون قد فكر جليا فيها، واضعا إياها تحت مجهر الذات والمساءلة الجدلية). يكرر تلك الأقوال دون أن يلاحظ ـ ولعله لا يتذكر ـ أنه بالأمس أو قبل الأمس، قد صاغ الفكرة نفسها بالعبارات ذاتها، بل لعله نشرها في مقالة. ربما يستشف السامع من ذلك بعض الحزن أيضا، فالمرء يستطيع أن يكرر استنتاجات صحيحة آلاف المرات، دون أن يكون لها أي نتائج على أرض الواقع.

كل لقاء جديد: الرأس المائل قليلا، العينان اللامعتان بخبث، إكليل البهاء، التعجب والاندهاش المبتهج، الابتسامة، اليدان الممدودتان، الربت الحنون على الذراعين عند قبلة التحية: ?av a?

نفوره من طقوس الوداع الطويل ومن العاطفية: النظر، الوداع، الاستدارة، اليد المرفوعة للسلام والدفاع في آن معا، ثم ذيل المعطف المتأرجح.

***

على مقعد في مكتب عباس يجلس رشيد الضعيف، الكاتب وأستاذ الأدب في الجامعة اللبنانية. لم يكد يتم التعارف بيننا، حتى يدعونا لزيارته يوم السبت في بيته على الجبل. بعد القهوة يقترح أن نستقل جميعا سيارته لنتوجه إلى وسط المدينة ونواصل الحديث هناك. رشيد أطول قليلاً من عباس، غير أنه يشبهه للوهلة الأولى، ربما بسبب شعره الخفيف والصلعة، والوجه الجميل، وجه المفكرين الذي يتميز بأسى شفيف. يبدو الاثنان مثل بات وباتشون أو لوريل وهاردي، وأعتقد أنهما في بعض اللحظات يستمتعان بتمثيل هذا الدور. زوجان مهمومان من المهرجين في إحدى مسرحيات بيكيت الهزلية. يبدو أنهما يرتجلان، لكنهما في الحقيقة يحفظان النص عن ظهر قلب. يشعر المرء لدى رؤيتهما أن ألفة عميقة تربط بينهما. عباس، ابن المدينة الأنيق أناقة الجنوبيين، أما رشيد فيشبه بملابسه وسلوكه مزارع إنكليزي مهذب، ترك لتوه مزرعته ونزل إلى المدينة، أقرب إلى الشخصية الكاريكاتورية لمزارع، من أن يكون مجسدا له (ولكن: drob ud sneyom sel ceva، فرواتب أساتذة الجامعات اللبنانيين لا تسمح لهم بأن يحيوا حياة النبلاء).

أثناء الرحلة يبدي رشيد إعجابه البالغ بسيارته المتسوبيشي الباجيرو المزودة بنظام الدفع الرباعي، حتى أني ـ ورغم النظر عدة مرات في عينيه اللتين كانتا تبرقان بخبث، وربما أيضا بعبث مجنون ـ لم أكن متأكدا عند مغادرة السيارة إذا ما كان هذا الشخص إنسانا متباهيا غريب الأطوار بعض الشيء. "هذه السيارة الربانية مثالية للطرق الجبلية العالية المؤدية إلى بيتي، حيث لم ينصهر الثلج إلا قبل عدة أيام. هناك تظهر قيمة الدفع الرباعي. أعتقد، ليس هناك سيارة أجمل من سيارتي في العالم كله. انظر إلى تصنيعها وشكلها! ألا تشاركني رأيي؟ انظر إلى هذا البلاستيك المحبب المتين!" ويدق على كسوة سقف السيارة. ثم فجأة بنبرة هادئة، ودون أن يتوقف عن النظر إلي متفحصاً: "أنت لا تشاركني رأيي، أليس كذلك؟" ثم بصوت منكسر تماما، يحمل مسحة من الاتهام: "سيارتي ليست جميلة على الإطلاق في رأيك؟ صارحني، إنني أستطيع التعامل مع الصدق ...".
كنا نسير في أحد الأحياء المدمرة الواقعة على الخط الفاصل. بناية ضامرة للغاية مكونة من ثلاثة طوابق، النوافذ فجوات فارغة (عند بداية الحرب كانوا قد انتهوا من تشييد هيكل البناية، ولكنهم لم يكملوها أبداً). ينتصب المبنى مثل إبهام متفحم أسود. أرض جدباء، اقتطع منها جزء لبناء الطريق السريع، أنفاق، وبينها فيلات قليلة على الطراز العثماني كانت فيما مضى جميلة، ثقوب الرصاص في واجهات المباني تشبه بثور الجدري أو ندبات الجذام. إلى جوارها بنايات جديدة من زمن ما بعد الحرب.

منطقة المشاة واحة من تمدن ما بعد الحداثة على الطراز التجاري العالمي، مئة متر حول ساحة النجمة، بنايات صفراء من عهد الانتداب، مقاه، مطاعم، بوتيكات فاخرة، بواك، وفي نهاية أحد الأزقة الجانبية يرى المرء الحفريات الأثرية: رومانية وفينيقية.

أقول إن المكان يذكرني بميلانو أو لوغانو، قاصدا بكلامي المديح. رشيد يتفق معي تماما، أما عباس فيرفض الرأي جملة وتفصيلاً.

رجال الشرطة يحتشدون في الساحة حيث مبنى البرلمان والمقهى الذي نقصده. على طول الطريق لافتات مكتوب عليها: فيما قبل / الآن، وهي تبين ما أنجزته شركة سوليدير التي تتولى إعادة إعمار وسط المدينة. القليل الذي أنجز حتى الآن هو بلا شك موفق، ولا شك أيضاً أن الحي واحة استرخاء لمن يأتي إلى هنا مع أطفاله.

أصوات المؤذنين يتردد صداها من ثلاثة أو أربعة مساجد بالقرب منا، ثم تنكسر على واجهات المنازل، فتختلط ببعضها البعض، وتعود من حيث أتت.

ثم ترتفع ـ في تنافس ـ دقات أجراس الكنائس من جهات عدة. يمتعض وجه رشيد وكذلك عباس. أغلق عيني، وأصغي إلى الحوار المتبادل بينهما، عالما أن الفرد هنا مسموح له بانتقاد الدين الذي يتبعه فقط: هل تطيق هذا؟ ليس هذا الصوت موسيقى، ولا ترتيل! آذان الصلاة خمس مرات في اليوم، ثم يوم الجمعة، وبمكبرات الصوت، خطبة الإمام من كل مسجد، عن موضوعات أخلاقية ودينية وسياسية.. شيء لا يُطاق! وماذا، إذا كنت لا أريد أن أسمع ذلك؟ إذا كنت لا أستطيع تحمل هذه الأحداث هذا شيء لا يزعجهم، لأن ueiD ? tneitrappa leic eL السماء لله، إذن لا بد من تبليغ الدعوة وإذاعتها على الناس، وكل إنسان يجد نفسه مرغما على تركها تنساب فوق رأسه. ثم الأجراس!

أسأل عن فحوى خطبة الإمام، وأعرف أن الخطب السياسية غالبا ما تستفيض في الحض على كراهية إسرائيل، بدون أي تفرقة أو تمييز:
.secnaun ed sap a y n li يستدير رشيد إلي ممتعضا، مشيرا ناحية عباس: 7-7-إنه شيوعي ملحد.
أما أنا فمسيحي ملحد، .esianabil al ?".

مع قهوة وعصير وبرتقال وشاي وفستق يشرع عباس ورشيد في إعطاء درس في الجدلية العملية.

الجدال الأول يدور حول التنافس بين المؤذن والأجراس: هل وصلت الحركة الإسلامية في الشرق إلى ذروتها، وبدأت في الانحسار؟ نعم، يعتقد عباس، ويضرب مثلا بإيران حيث وصل الإسلام ـ كنموذج سياسي ورؤية مستقبلية ـ إلى طريق مسدود، تماما كالاشتراكية في وقتها.

أما رشيد فيعتقد أن المد الراديكالي للإسلام سيتزايد في المستقبل البعيد: "أتعرف، لقد كان انهيار الاتحاد السوفياتي كارثة. لقد كانت ثورة 1798 وثورة 1917 النموذجين اللذين اقتدى بهما العلمانيون في الشرق ـ الآن لم يتبق لهم شيء. لقد صُدمت مؤخرا في الجامعة. كان علي أن أقول لطلاب السنة الأولى شيئاً عن الاتحاد السوفياتي. غير أنهم كانوا لا يعرفون ما هو الاتحاد السوفياتي! ما عادوا يعرفون! عدد الطالبات المحجبات يتزايد في محاضراتي. أبناء عتاة الشيوعيين، أصدقائي، مسلمون ملتزمون".
"هذه آخر ارتجافات الهارب يأسا إلى الدين"، يرد عباس.

نقاش آخر دار حول الأدب. هل القرآن، كعمل أدبي، يتميز بالأصالة والجدة التامة (عباس)، أم أنه يرتكز دوما إلى إنجازات الشعر الجاهلي (رشيد)؟
محادثاتي البرلينية مع عباس كانت قد أعادت إلى ذاكرتي ما وصل إليه العرب من قمم فكرية وثقافية في العصور الوسطى. إنه السقوط من علٍ، هذه الذكرى (التي تنحو أحياناً إلى الأسطوري) هي ما يتم إيقاظها في الوعي الجمعي. السقوط من العظمة والمجد التليد إلى الحاضر البائس (هكذا يشعرون به) هو ما يولد الشعور بالمهانة. هذا الشعور نجده عند "رجل الشارع"، مثلما نقابله لدى المثقفين الذين يعرفون عما يتكلمون.
يبصق عباس قشرة فستق. رشيد يحملق فيه منتصرا: "أنت تكره الرأسماليين؟ siaM!?tervuap al euq tnegilletni sulp tse tnegra ـl المال أذكى من الفقر".

عندما عدنا إلى جوار الأوبرا المغطاة، إلى ساحة السيارات التي ستتحول إلى llaM gnippohS، لكزني رشيد ملقيا نظرة تجاه عباس: "إنه شاعر"، قال بلهجة تنم عن استخفاف، ثم أشار إلى هاتفه النقَال قائلا: "أليس هذا جميلاً؟ إنه يتلاءم مع اليد ككف صديق، السطح الألومينيوم يبرق في خفوت كالقمر فوق الجبال. وكم من الأشياء يستطيعها، هذا الهاتف الصغير: إنه يربط بين البشر، في كل مكان، وفي كل ساعة. ويعمل كمنبه، وكمفكرة، وكدفتر عناوين.

c ,a?!enredom eis?op al tse .eigolonhcet aL ـc. sem?op sel suot euq xueim tseصهذا هو الشعر الحديث، كما أفهمه. التكنولوجيا. وليس ما تفرزه قريحة صاحبك.7-7-

يبتسم عباس ابتسامة صفراء، ويقول: "ألا تريد أن تفتح أبواب سيارتك اليابانية الصغيرة القبيحة حتى نبتعد من هنا؟".

***

"غوته" في زمن الحرب:
أحاول التقاط خيط الحديث مع زوجة يوسف عساف، كي أعرف ما حدث لها وأسمع حكاياتها. الحب الذي تكنه لزوجها والذي انصهر وتنقى وتبلور في أتون الحرب، عملهما المشترك منذ عقود، شيخوخة الوجوه الشابة الجميلة بعد مرور الزمن ومعاناة التجارب، رقة الرجل البطريركية الحانية، قسمات الوجه الذابل للبنت الصغيرة، حكايتهما التي تبدو منتزعةً من رواية (أفكر في "كازابلانكا" و"في بلد آخر" و"لمن تُقرع الأجراس")، حكاية تمد جسراً إلى الأساطير القديمة: فيلمون وباوسيز، أدونيس وعشتار، وربما أيضاً يعقوب وراحيل، أو ـ إذا كان للأسماء مدلول ما ـ يوسف وزليخة من ديوان غوته الشرقي الغربي؛ كل هذا يثير فضولي إلى أقصى حد، ولكن ـ كما ألاحظ ـ بطريقة مزدوجة: غريزة ما داخلي تتصيد "مادة القص"، ومع كل جملة تقولها لي أُرسولا عساف أطور هذه المادة وأختبرها، ألقي بها أرضاً، ثم أجمع بين أشلائها، مستدعيا صورا وأحداثا، أنماطا للحكي، منظورا للسرد، قصصا، وأصواتاً...

عند ذكر كلمة "حرب" للمرة الأولى تتوتر بشرة وجهها قليلاً، كأنني نكأت بأصبعي موطن حزن لديها، كأنني ذكرت موت طفل من عائلتها مثلا. الندبة الرقيقة التي نمت فوق الجرح تنفتح من جديد.

"على المرء ألا يتحدث عن ذلك"، تقول وهي تغالب دموعها، "وإلا استدعت الذاكرة كل شيء مرة ثانية". ثم قالت عندما تحدثتُ عن الإيمان: "أن تكون مسيحياً لا يفيد شيئاً في مواجهة الخوف، ربما فيما بعد، حتى يستطيع الإنسان أن يغفر".

كم يبدو النصف الأول من جملتها محملا بخيبة الأمل ـ ولكن ربما لا يرجع ذلك سوى إلى عاطفتي التي كانت تنتظر شيئاً آخر. ثم كلمة "ربما" التي تأتي فيما بعد منفصلة قليلا، هذه الكلمة التي تشي بنسبية كل الآمال في مستقبل سلمي.
على كل حال فإنها أضافت: "قبل الحرب كان اللبنانيون يعيشون في غتوهات دينية ومذهبية منعزلة، وكانوا صيداً سهلاً للدعايات المغرضة. هم اليوم أكثر انفتاحاً ـ أكثر لبنانيةً".
يتقابل هذا الكلام مع ما قاله عباس لي: إن الحرب الأهلية هي التي جعلت مسلمين ويساريين كثيرين يدافعون عن الدولة اللبنانية كقيمة ينبغي حمايتها ـ لم يحدث ذلك إلا عندما أصبحت الدولة غير موجودة تقريبا، ناهيك عن أن تكون مستقلة ذات سيادة.

أقفز معها من فترة إلى أخرى، من حكاية إلى ثانية، من هذه الذكرى إلى تلك التي ربما تتعارض مع الأولى. طوال الوقت لا يتوقف رأسي عن الترتيب حتى أجد التسلسل المنطقي للحكاية، وحتى أستطيع أن أفهم، وأن أقرر بنفسي أين هي المواضع المهمة، ما هي النقاط التي ينبغي أن يتم إبرازها حتى أنطلق منها بقفزات كبيرة إلى الأمام أو إلى الوراء، كي يتولد التشويق، ويتضح تطور ما، ولكي أتلقف مأساة الزمن الماضي، واللازمنية، والحاضر الأبدي للحظة المتجلية.

تبدأ حكايتها من مدينة دوسبورغ في فترة ما قبل الحرب وأثناءها. إنها نصف رواية عندما أتخيل وجه الفتاة في تلك المدينة الواقعة على نهر الرور، بين الآلات الرافعة في الميناء، وأفران الحديد والصلب، والحفر التي تحدثها القنابل في الأرض. يوسف عساف تعرف إليها في الستينات في مدينة فرايبورغ حيث كانت تدرس، وحيث كان ـ وهو الحائز على الدكتوارة من ستراسبورغ ـ يعطي دروسا لغوية. الطالبة المستشرقة الرقيقة تلتقي مع الرجل الشرقي الشهواني: الحذر، الحذر! صور نمطية مستهلكة وابتذال! لا سيما وأنه درس اللاهوت، وكان ـ إذا فهمت على نحو صحيح ـ قسا مارونيا. لم يكن هذا يمثل مشكلة آنذاك، لأن الموارنة، وكما قال لي عساف في إحدى المناسبات، لم يكونوا يشترطون عدم زواج القس: "بالطبع هذا أفضل. عندنا يصبح آباء ذوو خبرة قساوسة، فإنهم يستطيعون أن يعطوا النصح والمشورة من نبع تجاربهم الذاتية".
ولكن منذ أن انضوى الموارنة طواعية تحت لواء روما، يحاول الفاتيكان ـ الذي يعترف رسميا بالكنيسة المارونية ـ أن يغير من هذا الوضع، ويبدو أنه نجح في فرض رأيه: السماح للرجال المتزوجين أن يصبحوا كهنة، ومنع القساوسة العزاب من الزواج. على كل حال، يبدو أن الوضع ظل متأرجحا فترة طويلة حتى استطاع الاثنان الزواج، إذ أن أُرسولا عساف قالت لي إنهما انتقلا بعد الزواج بفترة قليلة إلى لبنان، كان ذلك في عام 1974، أي قبل اندلاع الحرب الأهلية بعام.

عام من السعادة والعمل المشترك في سويسرا الشرق، هكذا أتخيل، جبران والشعر والشمس والبنايات ذات البواكي. ثم خمسة عشر عاما من الخوف المميت. كل يوم.

لماذا حرص يوسف عساف طوال تلك الأعوام على أن يظل معهد غوته مفتوحا، الوحيد بين المراكز الثقافية الأجنبية، مخاطراً بحياته حتى بعد أن هرب كل الألمان من لبنان؟ لماذا يجازف بالموت وبأن يترك زوجته وحيدة؟ بدافع من المثالية؟ بدافع من حبه للثقافة؟ من الشعور بالواجب الذي تعلمه في ألمانيا؟ هنا لا بد أن نقول كلمة عن تلك "الفضائل الثانوية" ـ مثل فضيلة أن يؤدي المرء واجبه ـ تلك الفضائل التي أصبحت خارج الموضة في ألمانيا منذ الهجوم على المستشار الأسبق هيلموت شميت. فليحفظنا الله، وليحفظ العالم من فضائل الألمان الأساسية، كالمثالية، لا سيما بكل تجلياتها المتعصبة! تلك الفضائل الثانوية هي التي جعلت إدارة معسكرات التصفية شيئا ممكنا، نعم، ولكنها أيضا ـ يا سادتي ـ هي التي أبقت أبواب معهد غوته مفتوحة طوال أيام الحرب.

"هل سمع الرجل كلمة شكر من أجل ما قام به؟"، أسأل "فراو" عساف. تنظر إلي نظرة عميقة، وتطفو مياه السخرية الرائقة فوق طبقة الاحتقار المترسب، ثم تهز كتفيها ورأسها نافيةً. (فيما بعد عندما قلت للسيد شتيله: إذا كان هناك أي معنى لوسام الاستحقاق الألماني، فلا بد أن يكون عساف قد ناله منذ فترة طويلة. فأجابني قائلاً إنه أمر بمنحه ميدالية المعهد تقديراً لجهوده عندما يحال إلى التقاعد في العام القادم ـ إلا أن هذا لن يرفع من قيمة راتب التقاعد المتواضع جدا، إذ أن "أبناء البلد" العاملين في المعهد لا يتقاضون رواتبهم بالطبع وفق الأجور الألمانية، بل وفق الأجور المحلية وبالعملة المحلية التي فقدت قيمتها بسبب التضخم).
"الخوف المميت كل يوم. هل سيعود إلى البيت، أم لا؟ هل احتجزوه؟ هل حدث له شيء في الطريق؟ في بعض الأحيان كان يظل مُحاصرا لمدة أسبوعين في بيروت الغربية، دون أي وسيلة اتصال. أن لا تعرف ماذا ..."، تقول ولا تكمل الجملة، ويتردد صدى الصمت في الغرفة. شعرها الشائب .. عند النظر إليه يمكن قياس عدد الساعات التي قضتها في انتظار وصبر وترقب.

أتذكر ما حكاه لي: كيف كان يأتي من جونيه ويضع سيارته في إحدى الحاويات المفتوحة في ميناء بيروت حتى لا تدمرها القنابل، كيف كان يركب السيارة المصفحة ويأمر السائق بعبور الخط الأخضر، خط القتال، كل ذلك حتى يفتح أبواب ذلك المعهد الواقع بجانب المنارة، وكي تستطيع حفنة من اللبنانيين مواصلة تعلم لغة غوته.

تحكي لي عن اليوم الذي أوقفوه فيه على الطريق السريع خلال رحلة العودة إلى جونيه، عند أحد الحواجز ونقاط التفتيش التي لا تنتهي. كيف انتزعه المسلحون من السيارة وأوسعوه ضرباً ...

أرى أمامي: كيف يصفعونه حتى أن رأسه يميل يميناً ويساراً، ومعه يطير شعره الأسود أو الأشيب، كيف يضربونه بكلتا اليدين على أذنه إلى أن يفقد السمع، كيف يطأون بأقدامهم بطنه وخصيته حتى يركع، كيف يضربونه على الطحال والكبد، كيف يكيلون الضربات لهذا المطروح أرضا بأحذيتهم العسكرية القذرة، كيف يحاول بكفيه أن يحمي وجهه. كيف يبصقون عليه، كيف يفرغون سيارته، وبالسكين يشقون بطن كل شيء، ويمزقون بطانة سقف السيارة، وكيف كانوا أثناء ذلك يضحكون ويدخنون، ويبصقون عليه. ثم كيف اكتشف أحدهم خاتم الزواج على إصبعه، وكيف حاول انتزاعها عنوة حتى أن المفصل كاد أن ينخلع، وكيف ظل يدير الخاتم دون أن يتوقف عن السب واللعن حتى اقتنصه ووضعه في جيبه. كيف انساب الدم القاني المتخثر المختلط بالتراب على جبهته وفوديه، من فمه الذي سقطت أسنانه ومن اللسان المعضوض. كيف تركوه يزحف مبتعدا، وكيف أطلقوا الرصاص حوله، الرصاص الذي فجر طبقة الأسفلت وتسبب في إنزال سيل من الأحجار الصغيرة المدببة عليه.

ماذا طلبوا منه؟ هل أجبروه على شيء؟ أي شيء جعلوه يقول؟ ...

"كان شخصاً آخر عندما عاد إلى البيت"، تقول زوجته. "احتاج وقتاً طويلاً، شهوراً حتى تغلب على ما حدث له".
"ولكن، لم تحملتما كل هذا؟"، أسألها. لقد كانت تستطيع العودة إلى ألمانيا، وهو معها.
"يوسف يشعر سريعاً بالحنين إلى الوطن. لا يتحمل الحياة في الخارج لفترة طويلة".
طبعاً كانا يسافران إلى ألمانيا بين الحين والآخر، هو مرة أو مرتين، هي أكثر، كلما أتيحت لها فرصة السفر، ولكنها كانت دائما تعود إليه. ولأن المرء لم يكن يعلم أبدا إذا كان سيسمح له بدخول البلاد، فقد كانت تفضل في معظم الأحيان البقاء معه.

"ذات مرة"، حكت لي، "كان السفر ممنوعاً في كل لبنان، ثم سُمح لنا بالسفر لمدة محدودة من ميناء جونيه المخصص في الأصل لليخوت. تجمع أكثر من ألف إنسان هناك في انتظار السفر على أحد الزوارق الصغيرة المكشوفة".
كانت هي أيضا تقف في الطابور، لأنها وعدت إحدى صديقاتها أن تسافر مع طفليها. كانت الأم قد استطاعت الخروج من المكان المحاصر، ولم تستطع العودة لاصطحاب الطفلين.

أبحروا ليلاً، لمدة اثنتي عشرة ساعة وهم واقفون في زورق يشق طريقه إلى قبرص. اثنتا عشرة ساعة في الظلام، وسط أناس متزاحمين متلاصقين، كل يمنع غيره من السقوط أو التهاوي على أرضية الزورق المكدس. الطفلان يتقيآن. الذعر ينتشر. القبطان السكران في كابينة القيادة يزأر بلسان ثقيل. وفي غبش الفجر يصلون إلى الشواطئ القبرصية.
هذه الصور تمر برأسي صوراً سينمائية، أكثر منها أدبية.

الألم والرعب والصدمة تصيب الإنسان ـ كما هو معروف ـ بالخرس. لغة الكلام تتوقف وقتا أمام ما يُوصف بحق بأنه "لا يُقال"، ثم تستأنف العمل بعد برهة. وعندما يمر وقت طويل ويجد المرء نفسه مرغما على أن يعبر عن "ما لا يُقال" ـ الذي لا يقابله وقت حدوثه إلا بأصوات حيوانية، بصرخة، بعويل أو تأوه ـ عندما يعطي المرء "ما لا يُقال" بدايةً ونهايةً، لا ينتج عن ذلك سوى نادرة أوحدوتة، فهي أكثر الوسائل لطفاً وإنسانية، لأنها أكثرها سهولة ...
أيضا الحكاية التالية التي تحكيها لي "فراو" عساف تبدو صالحة لهوليوود: ذات مرة خلال الحرب أقيم حفل لموسيقى البيانو في جونيه. وفجأة: ضجيج، اهتزازات، زلزلة. هجوم بالقنابل على الميناء. الحاضرون كلهم يهربون إلى القبو، ويجلسون هناك منكمشين طيلة أربع ساعات. وعندما بدا أن كل شيء قد انتهى، صعد الشجعان إلى الأعلى، وتبعهم الآخرون شيئاً فشيئا. كانت عازفة البيانو في مقدمة مَن صعدوا من ظلمة القبو.
نفضت ثوبها، وجلست إلى البيانو، ثم استأنفت العزف في الموضع الذي توقفت عنده تماماً.

أود أن أمارس علم آثار البشرة، في هذا البلد الملئ بالحفريات، ذي الطبقات المتراكمة من التاريخ. أريد أن استكشف كيف نشأت التجاعيد، وأن أتتبع بكل دقة الخطوط على الوجوه المتغضنة. من أين جاءت الثنايا الرقيقة على جانبي العينين؟ وماذا أحنى ظهر الرجل القوي وأثقل كاهله؟ وما الذي يجعل عينيه تبدوان أحيانا منهكتين إلى هذا الحد؟

الآن تحكي لي كيف حاولت أن تعود إلى لبنان بمعاركه الدائرة، بعد أن خرجت منه وقضت فترة في ألمانيا. في الطائرة كانت تصغي إلى الراديو مثل الجميع، الأخبار. الموال القديم المعروف: معارك عنيفة حول ميناء بيروت الجوي. الطائرة تغير مسارها وتبحث عن مطار بديل، ربما يكون مطار القاهرة. هناك يبدأ الانتظار. صالة الترانزيت، تمر ساعات، يوم وليلة، يوم آخر. ثم النبأ الذي يفيد أن طائرة ستأتي في رحلة دائرية فوق المنطقة وتلتقط المسافرين القلائل المنتظرين في مختلف المطارات، الذين يريدون السفر إلى بيروت رغم كل المخاطر الظروف.
"وأنا، كان لازم أسافر! يوسف كان ينتظرني في المطار"..
حاولت أن أحسب عدد الأيام التي قضاها هناك منتظراً، متحصناً في مكان ما، وطلقات المدافع الرشاشة تنهال على أرض المطار.
كانت أبشع رحلة جوية قامت بها في حياتها، تقول أُرسولا. "حفنة من الأشخاص يجلسون في الطائرة الكبيرة. كلهم خائفون، مرعبون، كلهم يستمعون بلا توقف إلى الأخبار من الراديو الصغير الموضوع على الأذن. أما المضيفات فكن قد فقدن أعصابهن تماما حتى أن كل شيء كان يسقط من أيديهن المرتعشة. ساد الضجيج والضوضاء في الطائرة وكأنها قد أضحت هدفا للنيران".

في وقت ما أصاب التعب والإنهاك كلينا، هي من الحكي واستدعاء كل هذه الذكريات، وأنا من الإصغاء على عدة مستويات. حديث كهذا لا يعرف خطاً تصاعدياً أو إخراجاً مسرحياً، ولهذا ليس له نهاية. إنه ينضب في لحظة ما... في لحظة ما صمت كلانا"...

المستقبل
الاحد 25 كانون الأول 2005