لا يبدو الحديث إلى عباس بيضون سهلاً. ثمة صعوبة أولاً في الدخول إلى نصه وتفكيكه تعادلها صعوبة تتبع كلام عباس الذي يبدأ أفقياً ويتوسع وينتهي أفقياً. يتكلم عباس- كما يناديه الجميع- على مساحة واسعة بحكم ثقافة حازها بالعمل السياسي والحزبي والكتابة النقدية وتلك المقدرة العصابية على القراءة. ثقافة لا تقف عائقاً أمام الطراوة والجملة المختبرة والنقد الذي يشبه القنص، مثلما أن انغلاق نص عباس لا يمنع التلذذ به والإحساس بفرادته. يتشعب عباس في الكلام وعليك أن تلاحقه. ينقد نفسه والآخرين ذلك النقد التطبيقي الذي كوّنه من خلال الممارسة الصحفية. ينتقل بك بسهولة من التراث إلى الغرب ومن الشعر إلى السياسة ومن الفلسفة إلى الحياة. ودائماً لديه تلك القدرة على تحويل الثقافة إلى مسألة شخصية وليس العكس. جملته خاصة سواء كتب شعراً أم تكلم أم رمى نكتة. يتكلم لدرجة ينسى نفسه وينسى أصل الحديث. وليس عليك إلا أن تتبعه مستمتعاً في هذا الانتقال من فكرة إلى أخرى ومن موضوع إلى آخر. من يسمع أو يقرأ كلام عباس يدرك البنية الشعرية لنصه. ثمة علاقة ما بين الكلام الشفهي والمكتوب لدى عباس بيضون: تقاطعات، تحلل في العبارة، متانة في الصوغ، تقطيع، استطراد، قوة في النبر لكنها مموهة بالشك والاستدراك، أحكام مشفوعة باحتياط في الرأي، تشابك وخليط وتشعب تنتهي لكنها ذات بؤر واضحة. هذه الانطباعات كانت هاجساً لدى إجرائي هذا الحوار معه. وعليه، رغبت في المحافظة على طريقة كلام عباس قدر المستطاع، المحافظة على تلك الشفوية التي تكاد أن تكون كتابة باللسان. لهذا قد تجد في هذا الحوار جملة ابتدائية بلا خبر، عبارات مفككة لكنها تقع في سياق، دوران في بعض الجمل، مقاطعة مني بسؤال واستمرارية منه بجواب لم يستكمله في الرأس. ولم يكن هذا مجرّد نزوة بل رغبة في تقريب صورة عباس المتكلم إلى القارئ الذي لا يعرفه. لربما يكشف منطق الكلام لدى الشاعر جانباً من الطريقة التي يعمل بها نصه الشعري. "النثر فضّاح الشعراء" يقول الجاحظ.
هذا عباس المتكلم في حوار. أما عباس الشاعر فليس من السهولة الإمساك به. هو شاعر الملحمة والإنشاد والعبارة المبتورة والجمل المغلقة والكلام المقفل، شاعر اللغة الجافة والقسوة والحدة والكبت العاطفي والمعنى المضمر بصرامة وقصد، شاعر التحلل الجسدي والفضلات وجماليات البشاعة وتفكيك الأجسام وتقطيعها وسحب اللغة الجسمانية ومدها في الطبيعة، شاعر الموضوع بطريقته التي لا تبقي على موضوع، شاعر اللغة الحسية والانفعال العصبي والأنفة من كل تجريد وجوهر وتهويم، شاعر القصيدة الموضوعية التي تسعى إلى مطابقة الواقع أو إلى خلق واقع موازٍ، شاعر العبارة الملوثة وفتات الأشياء والبوب آرت والتشكيل النزق. مع ذلك قد لا يكون عباس كل هذا إذا استعرنا نمطه في التفكير الذي يبني ويهدم في اللحظة نفسها. نمط سنعثر على أصله في فلسفة نيتشه، ذلك الفيلسوف الذي يحبّه عباس من غير أن يبدي ولعه بفيلسوف مناقض له مثل كانط أو يكشف عن قراءاته العميقة لهايدغر أو ماركس. قراءات تتبدد في نص عباس الشعري تماماً كما يتجزأ العالم في نظره ويتخذ شكل عبارته الشعرية.
أخيراً، كان يمكن أن يكون هذا الحوار تكريماً لعباس بيضون في مناسبة زيارته لرئاسة التحرير في "جهة الشعر" وفي مناسبة صدور أعماله الشعرية. لكن لسبب أجهله في نفسي كانت أسئلتي في غالبيتها من موقع النقد وإثارة الأشياء الساكنة بريبة.
بدايات وبدايات ارتدادية
* في مناسبة صدور أعمالك الشعرية الكاملة في "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، كيف تنظر إلى هذه الأعمال: هل هي نوع من التكريس؟ هل هي نوع من التكريم؟ هل هي استقالة أي شكل من أشكال التقاعد؟
هذه الأعمال تصدر ضمن سلسلة تكاد تشمل كل أبناء جيلي، وقد سبق لـ "دار العودة" أن أصدرت سلسلة لجميع شعراء الجيل الذي سبقنا. وعليه، لا يمكن الحديث هنا عن تكريم. هذه الظاهرة تكاد تصبح سنّة، والأرجح أنها ستتعدانا إلى الجيل الذي يلينا ثم إلى الجيل الذي يلي هذا الأخير. بالطبع تتيح الأعمال الشعرية للشاعر بقدر ما تتيح للقارئ فرصة أن يرى مؤلفه كله في كتاب. وجود كتاب كامل يضم الأعمال الشعرية لشاعر بين يدي قارئ يسمح بتقصي عمل شعري يساوي حياة شاعر وتقصي ما في هذا العمل من علاقات داخلية. لا أظن أن إصدار أعمال شعرية يعني أكثر من ذلك. بالنسبة إلي تعني هذه الأعمال أن أجد بين يدي كل كتبي التي لم تكن متوافرة عندي. أستطيع الآن أن أنقل كل عملي الشعري بسهولة أكثر.
* تقول إن الأعمال الشعرية تتيح لك أن ترى نتاجك كله في كتاب واحد. أيضاً تتيح هذه الأعمال للقارئ أن يرى هذه الأعمال كاملة في كتاب. أنت كتبت تقريباً قصيدة واحدة طوال حياتك لكن مع تنويعات عديدة ونتواءات خاصة في كل كتاب بدءاً بالإنشاد في "صور" والجملة المغلقة والمقفلة في "نقد الألم" في حين بدوت أكثر طرواة في جملتك وأكثر انفتاحاً على الجسد والمرأة في كتبك الأخيرة مثل "لمريض هو الأمل" و"الجسد بلا معلم"، كما كتبت من قبل نصاً أقرب إلى التجريد في "خلاء هذا القدح". مع ذلك تبدو صاحب جملة واحدة في مشروعك الشعري وكأنك اهتديت إلى هذه الجملة وتمسكت بها. كيف ترى شخصياً إلى هذه المسألة بناء على قراءة شعرك اليوم في مجلدين شكلا أعمالك الكاملة؟
للقارئ وحده أن يجزم في هذه المسألة. بالنسبة إليّ، المسألة في مكان آخر. بعد "صور" توقفت سبع سنوات عن كتابة الشعر لإحساسي أنني لن أستطيع كتابة نص مثل "صور". أحسست وقتها أنني كتبت هذا النص وأصبح ورائي. وربما كانت الحرب سبباً في عدم قدرتي على تكرار "صور" الذي كان نصاً ذا مدى واتساع مكاني وزماني وإنشاد. لم يكن لديَّ مثال آخر لهذا بقيت سبع سنوات عاطلاً عن كتابة الشعر. كما هو معروف فإن قراءة ريتسوس ردّتني إلى كتابة الشعر ولا أريد هنا التوسّع لأنها مسألة معروفة. وبالتالي كان "الوقت بجرعات كبيرة" بداية أخرى، وأظن أن "زوّار الشتوة الأولى" كان بداية ثالثة وربما "مدافن زجاجية" كان بداية رابعة وقد تكون بداية ارتدادية لأنني أصدّق ما قالته خالدة سعيدة في مقدمتها للأعمال الشعرية بأن "مدافن زجاجية" كان نوعاً من البداية المقلوبة. ثم إنني أظن أن "نقد الألم" شكل بداية أخرى، بينما كان "خلاء هذا القدح" نصاً على حدة، كذلك "حجرات" قد يكون بداية جديدة وإن على نحو ارتجاعي تستعيد في صورة ما نص "صور". قد تكون قصيدة "كفّار باريس" أيضاً بداية على نحو ما. وربما كانت كتبي الأخيرة خليطاً من هذه البدايات. لا أريد أن أتوسع في ذلك لكن يتراءى لي أحياناً أنني كتبت بضع قصائد لا قصيدة واحدة وأن هذه القصائد تتواتر في شعري. أظن أحياناً أن بعض نصوصي هو خليط من هذه القصائد وبعضها الآخر هو عودة على نحو مقلوب لقصيدة ما. المسألة مسألة مزاج. وهنا أود أن أخبرك أنني أكتب في العادة بعد فترة تخزين وانتظار طويلين. وبعد هذين الجهد والمشقة أنكب على الكتابة يومياً. لهذا تكاد هذه الكتابة اليومية تشبه ما يصنعه روائي، بمعنى أنه يصوغ يوماً بعد يوم جواً واحداً وجملة واحدة. وهكذا أنتهي مما أكتبه وقد استنفدت هذه الجملة. لهذا فإن نصي الجديد عادة هو نص يتفادى هذه الجملة ويبحث عن جملة أخرى. في كل نص جديد أكتب كمبتدئ. ألاقي كل صعوبة الابتداء. أبقى شهراً كاملاً أنكب كل يوم بضع ساعات على كتابة لا تتحقق لأنني لا أجد جملتي. ودائماً أبدأ متعثراً جداً وبلا حاشية وباحثاً عن كتابة. أما ما تفترضه أنت عن الجملة الواحدة في النص فهذا أمر لا أستطيع أن أكون حكماً فيه. لكن إذا تبين أن في هذا المؤلف الذي وصفه شاعر بأنه نص أفقي وليس متصاعداً وإنما مجموعة نصوص متوازية، أي إذا وجدت في هذه الأعمال وحدة داخلية فهي تخرج خفية عني. أتذكر أن هناك كتاباً واحداً هو "لمريض هو الأمل" لم أكتبه مرة واحدة، بل كتب على هامش كتابات أخرى طوال اثنتي عشرة سنة. لاحقاً جمعت هذه الكتابات التي لم تنشر في هذا الكتاب. وقد تراءى لي وقتها أن هذا الكتاب سيكون مشتتاً فإذا به يجتمع في وحدة ما ربما أكثر من كتب أخرى لي. وقد تبين لقرّاء عديدين أن "لمريض هو الأمل" يملك ما يملكه أي مؤلف من علائق داخلية وتفكر إذا جاز التعبير. أظن أن هذا ما يحدث في الكتب الشعرية: الكتابات تتلاقى وتتداخل وتجتمع خفية عن الشاعر، أي تتحقق من دونه. الأرجح أنها تتحقق في نظر القارئ الذي يعطي مؤلفاً ما وحدته. الوحدة هي تفاعل القارئ مع النص.
* "لمريض هو الأمل" مجموعة شعرية بما تحيل المفردة على كلمة تجميع. لكن عندما تكتب هل تقرر شكل الكتابة سلفاً، هل يحمل كل كتاب لديك مشروعاً أم أنك تكون مقوداً خلف جملتك الطارئة؟
في الواقع هي مسألة تخزين وانتظار وكتابة في الرأس. وهذه الأخيرة غالباً ما تنطلق من موضوع ما وتبدأ من نقطة مختبرة، من هاجس. لهذا كل نصوصي هي نصوص حول موضوعات إذا استثنينا "خلاء هذا القدح" الذي يبدو للوهلة الأولى بلا مقابل واضح، بلا معادل خارجي. مثلاً، "صور" هو نص عن مدينة، "حجرات" سيرة ذاتية، "مدافن زجاجية" تجربة المعتقل، "أشقاء ندمنا" قصائد حب، إلى الكتب الأخيرة التي يملك كل واحد منها موضوعاً. أبدأ عادة من موضوع، من محل أعرفه.
تخليص الشعر من النظرية
* سأسألك لاحقاً عن شعر الموضوع والشعر الذي يكون موضوع نفسه. لكن أريد أن أستكمل معك ما قلته عن "صور" الذي أوقفك عن الكتابة سبع سنوات لشعورك أنك غير قادر على تجاوزه. لكن مع ذلك نشرت "الوقت بجرعات كبيرة" قبل "صور"، وهذا سؤال طرحته عليك في حوار نشر في "القدس العربي" ولن أعيده هنا. سؤالي هو: كتبت كتابي شعر تفعيلة قبل "صور" ولم تنشرهما، كأنك انتظرت حتى تنضج جملتك الخاصة. بمعنى أنك بدأت شاعراً من الوسط في تأجيلك الإعلان عن نفسك ربما تجنباً للبدايات المتعثرة؟
كما قلت فإن كتابي الأول الذي نشرته سبقته كتب لم تُنشر حتى الآن وهي لا تزال موجودة في حوزتي. لكن هذا لم يكن من التأني والروية والقصد بل بسبب الإهمال. في تلك الآونة كان ينقصني كثيراً أن أبادر إلى حمل قصائد إلى دار للنشر. كان الأمر يتطلب جهداً فوق قدرتي. والواقع أنني لم أنشر كتابي الأول إلا لأن عرضاً للنشر جاءني. عرضت "دار الفارابي" على أصدقاء لي في الحزب الشيوعي أن أنشر في الدار، ومع ذلك لم أبادر بسرعة إلى هذا العرض. لقد سبقني حمزة عبود وآخرون. الكتاب الثاني "صور" أيضاً ترددت في نشره.
* كتبته عام 1974 ونشرته منتصف الثمانينات؟
نعم، ترددت كثيراً في نشره لظني أنني تجاوزته.
* تعزو تأخرك في النشر إلى أسباب تقنية، وربما يكون هذا سبباً بديهياً وطبيعياً. لكن ثمة إرادة ما كانت وراء هذا التأخر. لقد ترافق نشر كتابك "الوقت بجرعات كبيرة" مع ذائقة نقدية من خلال رسالة الماجستير التي كتبتها بعنوان "الشعر الآن" وكنت ربما قاسياً على مجايليك من الشعراء وربما على الذين سبقوك. يعني كان نصك الشعري القوي يترافق مع نقد صارم للشعر. في المرحلة اللاحقة تغيرت ربما ذائقتك الشعرية والنقدية وجملتك الشعرية أيضاً. بات نصك أكثر طراوة منذ كتابك "لمريض هو الأمل" (فترة التسعينات) وصولاً إلى "لفظ في البرد" و"الجسد بلا معلم". هل كان نشرك الشعر انعكاساً لذائقتك الشعرية وآراءك النقدية؟
هذه مسألة أخرى. تأخري في النشر أتاح لي أن أبدأ ناضجاً. لكن عملي الشعري بدأ قبل "الوقت بجرعات كبيرة" وقبل "صور". والآن هناك في ذهني ركام النصوص التي تحتوي على الإرهاص الأول لما سيصيره شعري في ما بعد.
* لديك بدايات مخفية يعني؟
لا ليست مخفية. في واقع الأمر هي بدايات حقيقية بكل معنى الكلمة. وهي بدايات تحمل المادة الأولى لما صاره في ما بعد شعري. على الأقل تحمل هذه النصوص القسوة واللغة المكبوتة...
* سأسألك عن شعرك...
نعم، كنت تقول عن العلاقة بين شعري ونقدي. هذا صحيح. لكن "الوقت بجرعات كبيرة" هو نوع من بيان شعري، لأنه يشتمل على بيان شعري وعلى نقد للشعر. لا أريد الآن أن أتوسّع في هذه الناحية، إنما أعيد ما سبق أن قلته لك. بالنسبة إلي لم يكن الأمر موضوع اختلاف عن شعر الروّاد أو المجايلين. لم أضع نفسي قبالة هذا الشعر. كما لم يكن سجالي مباشراً مع شعر الروّاد. لقد فعلت ما فعلوه. قمت بزيارة- إذا جاز التعبير- للشعر الغربي. وبدا لي أن الأمثلة التي يقدّمها الشعر الغربي هي إلى حد ما مصدر فكرتنا عن الشعر الحديث ومصدر مثالاتنا للشعر الحديث. لقد شعرت أن ما قرأته عربياً لم يكن على علاقة لهذه المثالات الغربية. ما كتب من شعر حديث آنذاك قياساً على هذه المثالات كان وعراً ومتعمّلاً ومتحذلقاً. كان شعراً عسيراً كما بدا لي في مقارنته بالشعر الغربي المستمد منه. ما فكرت فيه ليس اختلافاً لكنه درجة من مجاراة هذه الفكرة وهذه المثالات التي رأيتها في الشعر الغربي.
* هل تعتبر أن شعرك تصويب لهذا المصدر؟
ليس تصويباً. سأعطيك مثلاً بسيطاً. أظن أنني كنت -بين قوسين- أكثر طبيعية وأكثر مجاراة لمفهوم حديث عن الشعر. بدا لي أن شعر الروّاد شعر تحدٍّ وشعر استفزاز. في عمقه هو نقد للشعر. ونقد الشعر لا يعني إجادة الشعر. وربما يصل نقد الشعر في مثاليته إلى أن يفتقد الشعرُ نفسَه، يفتقد الإنجاز، لدرجة لا يبقى لنا من هذا الشعر إلا النقد، ولدرجة أن القصيدة نفسها لا توجد. بالنسبة إلي وربما إلى كل جيلي بدا الأمر غير ذلك، لم نكن ثوّاراً ولم يكن نقد الشعر هو فريضتنا الأساسية ولم يكن البيان الشعري عملنا ولم نكن نقاداً أكثر منا شعراء.
* يعني كل ما شاع عن الروّاد: النقد، التنظير، البيانات؟
مع ذلك، لم يكن هاجسنا الاختلاف عن الروّاد. لم نكن أصلاً في سجال معهم. بالعكس يمكن الحديث هنا عن نوع من قطيعة معهم. كان الموضوع البسيط والأصلي هو أن تكتب شعراً هو شعر فعلاً بمعيار الزيارة التي حدّثتك عنها، بمعرفة للشعر الغربي. عندما تقرأ "الوقت بجرعات كبيرة" تكون قرأت في وقت واحد ويتمان وبيرس وريتسوس وإليوت.
* طيب ماذا عن بدر شاكر السيّاب وتأثره بإليوت، وعبد الوهّاب البياتي وتأثره بناظم حكمت، وأدونيس وتأثره ببيرس، وأنسي الحاج وتأثره بآرتو أو برامبو؟
الشعر لدى الروّاد يندمج مع نقد الشعر والتنظير للشعر. كان الشعر لديهم يندمج مع نظريات كاملة في الثقافة. لهذا يجب تخليص الشعر من نقد الشعر وتخليصه من النظرية. الروّاد قدموا أنفسهم (وأعمالهم) على أنهم مشروع للثقافة كلها وعلى أن الشعر هو إلى حد كبير بديل من الثقافة. كانوا يملكون كعرب شعور الشاعر العربي بسلطانه على الثقافة كلها، وكانوا يملكون كشعراء هذا النموذج الغامض من الهيمنة اللغوية والثقافية التي مثلها القرآن. وبالتالي كان الشعر يملك نزوع هيمنة وتسلط واحتواء. هذا اللي الشعري يتعدى الشعر إلى أن يكون وجداناً قومياً شاملاً وإلى أن يكون بوابة ليس للشعر والثقافة وإنما لتغيير كامل. أوهام الشعر عن نفسه كانت كأوهام السوريالية عن نفسها، أي الكلام الذي يملك قوة الفعل.
انقلاب ميتافيزيقي
* في مؤتمر قصيدة النثر، ألقيت كلمة ختمت بها المؤتمر، واعتبرت فيها أن قصيدة النثر كانت نوعاً من هدم للأيديولوجيا القومية واللغة الجامعة وفكرة الأمة، أي كل ما تضمنته القصيدة العمودية، أو الشعر بوصفه "ديوان العرب"، كما تحدثت عن نشوء قصيدة النثر من الهامش وعلى أيدي أقليات ومن خصوصيات ضيقة واهتمامات هشة. كيف يستقيم هنا الكلام على محاولة الروّاد كسر اللغة الجامعة مع سعيهم لامتلاك لغة جامعة؟
شعراء الروّاد كان لديهم مشروع تفكيكي كامل في الثقافة وربما في الحياة، وكان الشاعر إلى حد كبير ساحر هذه المسيرة. عندما نقرأ الآن عدداً من نماذج الرواد نفهم تماماً أن هذه الكتابات قدّمت نفسها على أنها أناجيل تغيير. وهذه الأناجيل كانت تتعدى الشعر إلى نظرية كاملة للتغيير أو للتجديد. كانت نظرية الشعر الحديث هي القطيعة مع الماضي والانحطاط، ليصبح هذا الشعر الحديث الولادة الجديدة عملياً.
* وهل يتساوى هنا شوقي أبي شقرا في سعيه إلى التفكيك، مع أدونيس المتقاطع مع التراث، مع أنسي الحاج الداعي إلى التفجير والتكسير، مع محمد الماغوط الخارج نصه من إلفة الواقع؟
لندع جانباً شوقي أبي شقرا. بالنسبة إلى أدونيس ومحمد الماغوط وأنسي الحاج على اختلافهم في ما بينهم كانوا يقدّمون صورة بطل مستقبلي من جهة، وكانوا يقدّمون بيانات شاملة وبديلاً كاملاً ساحره ومحوره ومركزه الشعر والشعراء. لكن بين البطل "النيتشوي" لدى أدونيس، بطل ما فوق الواقع، وبين البطل المضاد لدى أنسي الحاج، وبين البطل الهامشي لدى الماغوط، نجد أن هناك ثلاثة تشخصيات وثلاثة بيانات مختلفة طبعاً ومتفاوتة، وهناك بدرجة أساسية بين هؤلاء الشعراء الثلاثة، هناك تقديم ضمني لسيرة بطولية بطريقة أو بأخرى. وبالتالي كان هؤلاء الثلاثة يبشرون بعالم جديد يصنعه الشعراء، والشاعر فيه قوة أكثر من شعرية: سياسية واجتماعية وتاريخية وروحية. والشعر بهذا المعنى قوة وسلاح ورافعة تغيير. ما صنعه هؤلاء الشعراء لم يخالف نظرية الشعر عملياً، أولاً بالنقد الأيديولوجي والثقافي العام وبإحلال هذا البديل الثقافي والأيديولوجي العام. في الواقع فإن قصيدة النثر جاءت من مطرح آخر.
* لهذا تقول إن الشعراء الرواد بدأوا الحداثة وأقفلوها، بمعنى أنهم أقاموا هذا البديل الأيديولوجي مكان النسق السابق؟
قبل الإجابة سأكمل فكرتي السابقة. بسبب مكانة الشعر الوهمية في ثقافتنا، اعتبر الشعراء أنفسهم أنهم جيل التقدّم. لهذا يقع عمل هؤلاء الشعراء في هذه الخانة. لهذا نجد أن اللغة التي وُصف بها الشعر آنذاك لغة ثورية كالتفجير والتخريب والهدم. كان واضحاً أن ما يملكه العرب هو نفسه ما يملكه الألمان، أي شعورهم أن العالم موجود في اللغة، وأن تغيير اللغة هو تغيير العالم. هذه الأسطورة موجودة في أساس القصيدة الحديثة أياً كانت هذه القصيدة.
* حتى في نماذج القصيدة الهامشية؟
هذه القصيدة الحديثة لم تبدأ في النهاية من هامش، لم تبدأ بإحساس الهامش. بدأت من فكرة مركزية عن عمل تاريخي موجود، عن ثقافة الهدم والتخريب. هذه القصيدة انتدبت نفسها لهذه المهمة الكبيرة. ربما استقطبت شعراء هامشيين لكن هذه الهامشية لم تدخل في صلب ثقافتها.
* هل تعتقد أن بيانات الرواد وتنظيراتهم تحولت إلى معطل في الثقافة الشعرية الحديثة، بمعنى أنها تحولت إلى مقياس؟
إذا اعتبرنا أن مجلة "شعر" هي مثال لأنها المكان الوحيد الذي تضمن بياناً شبه نظري، كان هناك "الآداب" و"شعر"، وقد لعبت "الآداب" دوراً ضخماً في القصيدة الحديثة، لكن مجلة "شعر" عنيت أكثر بالتنظير الشعري. والتنظير الحديث الذي وصلنا جاء من هذه المجلة. لكن هذا التنظير لم يكن واحداً بل متفاوت. هناك التنظير الأدونيسي الذي يجعل للشعر مرتبة خاصة ويجعل الشعراء عرقاً خاصاً وينيط بالشعر مهمة مصيرية، ليست تاريخية فقط وإنما تغييرية، وبين تنظير أنسي الحاج الذي يقول إن الشعر سرطان وإنه تقويض للعالم، وبين تنظيرات أخرى أقل حضوراً في مجلة "شعر"، يمكن أن نفهم أن هذه التنظيرات التي حوتها المجلة شديدة التناقض. من جهة كان هذا التنظير شبه رومنطيقي بدعوته إلى ذاتية مفرطة وجوانية مفرطة، ومن جهة أخرى كان هذا التنظير شديد النخبوية وشديد التعالي الفني بدافع من اشمئزاز سياسي أو اشمئزاز من الخارج. حتى قصيدة النثر كانت معادية للوصف والسرد والخبر، أي معادية للخارج حتى لو كانت هذه القصيدة تحمل ثورية خرافية أي منقطعة عن السياسة ومحتقرة لها لدرجة تبدو هذه الثورية نوعاً من انقلاب ميتافيزيقي. هذه العناصر جعلت من تنظير "شعر" للشعر تنظيراً شديد التناقض، إذ تم الخلط بين الشعر ونظرية الشعر وبين الشعر وفلسفة التغيير وبين الشعر والنقد الأيديولوجي.
* جيلكم لم ينشغل بالبيانات فحسب لكنه لم ينتج نقاداً ومنظرّين شعريين كثيرين. أنت لديك نقد صحفي وربما كان مهماً. سؤالي هو: إلامَ يشير غياب النقد، إلى ازدراء النقد نفسه، إلى ضعف التجربة الشعرية...؟
هناك نقاد نافذون في جيلي. حتى الشعراء أبناء جيلي لديهم كتابات نقدية أكثر نفاذاً من كتابات النقاد الذين سبقوهم والذين لم يفعلوا شيئاً سوى البيانات عن فلسفة الشعر ونظريته. لقد تحول الشعر على أيدي الرواد إلى نوع من التبشير. لأن التبشير كان موجوداً في شعرهم وفي نقدهم. هؤلاء الشعراء، أبناء جيلي، في رغبتهم الواعية أو غير الواعية، لئلا يغدوا نقاداً محترفين، كانوا يرفضون الخلط بين شعرهم وعملهم النقدي. لم يكن لديهم رغبة في تحويل نقدهم للشعر إلى نموذج أو في تقديم نقدهم على شعرهم. لقد كانوا واعين لهذا المنزلق. هذا المنزلق يبدو في تسويق شعر الشخص من خلال نقده أو في استخلاص أو إيجاد نموذج من التجربة الشعرية الخاصة، تحويل التجربة الشعرية الخاصة إلى نظرية. هذا المنزلق نادراً ما نجا منه شاعر ناقد.
* ماذا عن إليوت وبودلير وأوكتافيو باث؟
بودلير كان ناقداً تشكيلياً أكثر منه شعرياً. نعم هناك نقاد كبار وشعراء كبار مثل إليوت. لكن هذا الأخير كان يملك في أصل ثقافته ذلك الشعور بالمسافة بين الشاعر والأشياء، كأن يكتب قصيدة شبه سوريالية ويفهمها كلاسيكياً، يكتب نقداً ليس تماماً من موقع شعره، لهذا أمكن له أن يكون ناقداً وشاعراً قي الوقت نفسه. عموماً حين يكتب الشاعر نقداً فإنه يكون بوعي أو من دون وعي منه يحتكم إلى تجربته. وهنا يكمن خطر رفع التجربة الشخصية إلى مستوى النظرية.
* لكن أوكتافيو باث في كتابيه "الشعر ونهايات القرن" و"أطفال الطين" يمتدح الرومانسية والغنائية كما أن شعر باث غنائي بامتياز وربما كان على شيء من الرومانسية؟
أوكتافيو باث ليس رومانسياً، لكنه من الشعراء الذين يُؤخذون بمجموع عملهم. بمعنى عملهم الثقافي والنقدي والإبداعي. هناك صفة شبه أكاديمية لدى باث تسمح لشاعر أن يكون شاعراً وأستاذ شعر. وهذا الشيء ممكن دائماً. الشاعر دائماً ناقد، وقد يكون الناقد الأفضل في أحيان كثيرة. حين يغدو الشعر مستغلقاً وتصبح قراءته نفسها عملاً شعرياً، عندها يكون الشاعر الأجدر في أن يكون ناقداً. لكن الأمر يختلف بين أن يمارس الشاعر حقه في قراءة الشعر وبين أن يحول نصه إلى نموذج أو أن يحول كلامه عن الشعر إلى مديح ضمني لنصه. في جيلي هناك عدد من الشعراء لا يقلون أهمية في النقد عن السابقين...
* مثل من؟
سركون بولص يملك كل عدة الناقد، بسام حجّار لو شاء، نوري الجرّاح في عدد من كتاباته النقدية كان لامعاً. بعض أفضل ما كتب عني كتبه نوري الجرّاح... وإذا نبشت أكثر أعطيك المزيد.... خذ مثلاً أنسي الحاج، كل ما فعله أنه كتب مقدمة "لن". أدونيس لم يكتب أيضاً نقداً للشعر وإنما كتب تنظيراً شعرياً. ونظريته حول الشعر هي جزء من فكرته عن العالم وعن شعره.
المحاكمة ونفي الإرادة
* بالعودة إلى شعرك، وهذه مناسبة اللقاء. ثمة ملامح في قصيدتك غدت مؤسسة لبعض من جاء بعدك منها ذلك الإخفاء للعاطفة، اللغة الجافة، طمر المعنى، الشعر المكبوت... رغم أن جملتك في الأساس حسية، تطلع من الواقع أو مما تسميه أنت "الشعر الطبيعي". هل كان هذا نوعاً من تأسيس لشعر جديد؟ هل ببساطة لأنك تجد أن هذه الطريقة الوحيدة للوصول إلى جملتك؟ هل هو بحث عن الاختلاف ولا سيما أنك بدأت من النصف، أي نشرت في سن السابعة والثلاثين كتاباً كان هو كتابك الأول في النشر والرابع في الكتابة (هناك "صور" وكتابا شعر تفعيلة لم يُنشرا)؟
هذه الصفات يصعب اعتبارها أنها خيارات إرادية. عملياً نكتب تحت افتتانات وجواذب لغوية وتخييلية ليس لدينا القدرة على وعيها. خياراتنا الجمالية والأسلوبية واللغوية ليست إرادية على الإطلاق. وبالتالي كنت أضحك حين أقرأ كاتباً يقول عن كتابه إنه الأفضل لأنه اختار طريقته بعد تفكر وتدبر. هذا مزح. إحساسنا باللغة والكلمات والأشياء والعبارة والأسلوب يتم ضمن عملية شغف غير واعية. لهذا لم يكن ما تكلمتَ عنه خيارات واعية بدليل أنني بدأتُ بها، إذ إنها موجودة على نحو ما حتى في شعري الأول الذي لم أنشره. لكن في الوقت نفسه، تبدو هذه الخيارات جزءاً من محاكمة واسعة في داخل الشاعر، وذلك إذا اعتبرنا أن عملية التفكير نفسها محاكمة. هي محاكمة واسعة فكرية ونظرية وثقافية وحتى سياسية وأيديولوجية إذا جاز التعبير. الانقطاع عن الإنشادية الموجودة في "صور" أمر لا يمكن فصله عن نقد سياسي وأيديولوجي رافق الحرب الأهلية في لبنان. وما زلت أقول إن قطيعة السبع سنوات التي أمضيتها بين "صور" وبين "الوقت بجرعات كبيرة" هي قطيعة تمت تحت هذا الإلحاح. كان صعباً بعد الحرب كتابة نص ذي فضاء تاريخي وزماني ومكاني ومدى لغوي مثل "صور". هنا يمكنني البدء في الكلام حول حساسيتي ونقدي تجاه القصيدة الحديثة. هذه الحساسية ما كان لها أن تنشأ إلا من خلال اختيار ثقافي كامل. رفض الإنشادية تمَّ تحت شعور من رفض الأنا العليا والأسطورة التي غدت ورائي.
* البعض اعتبر أن امتداحك هلهلة الشعر كان دعوة إلى الركاكة، وأنك كنت مؤسساً لهذه الركاكة لدى بعض الجيل الذي تلاك. كيف ترى إلى هذه المسألة؟
مصطلح الركاكة كفهوم استعملته في مقال بعنوان "الفصاحة المنتصرة" كان نقداً للفصاحة. لكن دعنا لا نغرق في الكلام عن نظرية في الشعر، أي في التصنيم اللفظي. كأن كلمة فصاحة تملك معاني جاهزة فيها وكذلك كلمة ركاكة التي يُخيّل أنها تملك معاني مسبّقة وناجزة. الفصاحة لدى الشعراء الحديثين خصوصاً وليس لدى السابقين- هذا كلام لا ينطبق على المتنبي- هي توهم إمكانية إجراء اللغة كلها في لحن واحد، إيجاد وزن واحد للغة. هذا الوزن المتخيل والمتوهم يحول الشعر إلى عملية إيقاع بحت، توقيع بحت، أسميته أنا الترجيع بحيث إذا قرأت جزءاً من شعر عدد من الشعراء، بعض أدونيس وبعض سليم بركات، تلاحظ أن الشعر يجري بوزن واحد يتم إجراء الشعر فيه لدرجة أن ما يبقى من الكلام هو الدندنة والترجيع اللغوي، وبالتالي لا تظهر تفاصيل الكلام، لا الصورة ولا المعنى. يصبح الكلام فقط تنغيماً لغوياً. أسميته وقتها الترجيع. هذه هي الفصاحة التي كنت أعني بها نماذج محددة. وفي تلك الفترة كانت هذه النماذج مدرسة كاملة وتحديداً المدرسة التي قامت باقتفاء أدونيس والتأثر به، بحيث أن بعض النصوص التي تمتد عشرات الصفحات هي عبارة عن جملة واحدة لا يهم القارئ منها ما تقول وما هو موضوعها ولا تفاصيل الكلام ولا الصورة أو المعنى ولا يوجد في مثل هذا النص أي فواصل أو أي سلّم أو أي بناء، مجرد لحن أفقي متتابع. النقطة الثانية، رغم كل كلامي عن التخريب والتهديم والتفجير، خصوصاً عند بعض المهدّمين والمفجّرين، يظهر أن عملية التهديم والتخريب والتفجير، سرعان ما تمتصها اللغة، سرعان ما تنتصر اللغة، سرعان ما تسترد اللغة سلطانها، سرعان ما تفرض اللغة هذا اللحن الواحد في النص. ثم كان هناك سؤال: هل هناك لحن واحد للغة؟ هل هذا اللحن الواحد هو اختراع الشعراء أنفسهم وشكل من طلسمة اللغة؟ وإذا كان مصدر هذا اللحن قرآنياً فإن القرآن ليس اللحن الوحيد للغة العربية. لماذا لا نفكر في الجاحظ أو في أبي نواس وعمر بن أبي ربيعة أو الناثرين العرب كالمقريزي وغيرهم؟ لا يمكن التأكد نظرياً من وجود لحن واحد. كلامي وقتها كان نظرياً وتقنياً معاً. مقابل هذه الفصاحة جرى دعوة إلى الركاكة. يعني إذا كان اللحن الواحد يعيد الانتصار على اللغة واحتوائها واستيعابها، يقتضي الأمر المغامرة. من هنا كان تقديري لشوقي أبي شقرا الذي فعل هذا الشيء. طبعاً هذا موجود عند أنسي الحاج الذي يكره الجزالة لكنك لا تحس أنه قادر على الوصول إلى ما وصل إليه شوقي. لدى هذا الأخير تحس فجأة أنه قادر على منحك جملة بلا إيقاع وينبغي عليك حينها أن تبحث أنت عن إيقاع.
* رغم أن شوقي أبي شقرا نشر في البدايات كتابي شعر في قصيدة التفعيلة؟
لاحقاً تكتشف أن شوقي اكتشف سراً لم يكن لديه في أشعاره الأولى، وأن هذا السر نوع من الإيقاع الشعري الذي تظهره كتبه الأخيرة. يعني في تفكيك الكلام ثمة عناصر شبه إيقاعية، عناصر وصل. في الواقع كنت خائفاً في الذهاب بعيداً في كلامي عن الفصاحة والركاكة لأن هذا ليس من شغلي. كنت مشغولاً أكثر في الدعوة إلى تحييد الكلام والحد من هياج الكلام والاحتقان المسبّق. كان لدي رغبة في شعر ميّال إلى الدقة أكثر من ميله إلى الإثارة.
* كأن كلامك الآن تصويب لدعوتك تلك؟
لا لا. عملياً لم أستطع الوصول إلى كتابة لغة بلا وزن (يقصد بهذه المفردة الإيقاع وليس أوزان الخليل بالطبع)، ربما بسبب خوفي. يمكن لم تكن تلك الدعوة تجربتي ومغامرتي. في النهاية لكل مغامرة حدود. وربما لأن قضيتي الأساسية هي المكافحة ضد قوة اللغة وليس الخروج من اللغة نهائياً. يعني إذا قرأت "صور" ستجد أوزاناً وقوافي. أكثر شعري تفكيكاً يملك قوافي خفية. أقيم دائماً بين الشروط الصعبة للإيقاع والكتابة وبين إدخال شفوية الكلام في النص. هذه موجودة في أي شاعر ولا أرغب في الحديث عن شعري. ما أود قوله إن مقالي عن الفصاحة لم يكن مغامرتي بل مجرد دعوة. وهنا يمكن الحديث عن الفصل بين شعر الشاعر ودعوته، مثلما لا يمكن التصديق دائماً أن نظرية الشاعر هي شعره. ممكن في معنى من المعاني. ثمة شيء يفتنني في الشعر وهو اللغة الكلاسيكية، ليس القرآن وإنما لغة المؤرخين العرب وبعض لغة الجاحظ وابن المقفع والتي هي جملة غير طنّانة أو رنّانة أو فخمة أو متعالية أو فضفاضة. بالعكس هي جملة ناصعة، دقيقة، محددة وسليمة. أحياناً تجد هذه اللغة بشكل مدهش عند ابن سينا وعند بعض الفلاسفة والمؤرخين كالمقريزي مثلاً الذي أحبه، في كتاب "الأغاني" رغم أنها لغة غير شخصية لأنها لغة روايات كما يزعم الأصفهاني نفسه. طبعاً ليس في مقدروك أن تكتب لغة هذا النثر في الشعر. لغة الشعر تبدأ ثورية وتزعم أنها الكلام الأول.
* عموماً في شعرك قتل للغة التراثية التي أحسب أنك على دراية بها بسبب قراءاتك من جهة وبسبب تربيتك الأولى على يد والدك الذي كان كاتباً كلاسيكياً وجدك لأمك الذي كان رجل دين؟
لدي مقاومة لقوة اللغة. هذا تنظير لي وليس للعموم: الشعر يملك أضعف لغة وأبسطها. أبسط بالقياس إلى ما يمكن أن تُكتب فيه الأشياء. يعني إذا كتبت جملة شعرية فلسفياً سيبدو أن لغة الشعر أبسط من لغة الفلسفة.
الأسود لا يصنع الليل
* رغم دعوتك إلى نقد الفصاحة من جهة كتبت ضد عدد من أبناء جيل الثمانينات الذي تلاك أو ما يُسمّى "جيل الحرب"، تحديداً ضد يحيى جابر ويوسف بزي في البدايات. طبعاً استوعبت هذا الشعر لاحقاً وأجريت مراجعة لما كتبته بعدما كنت اتهمت هذه الكتابات بالركاكة.
كان هذا مقالاً من ضمن مقالاتي الأسبوعية. لاحقاً اعتبرت هذا المقال خطأ من الناحية النظرية. حتى عنوان هذا المقال كان خطأ لسبب مطبعي. كان وراء هذا المقال شعور شخص مثلي سابق على هذا الجيل لدعوتي التي فُهمت بشكل حرفي ومبسّط، لدعوة افترضتها تحتمل تفسيرات أكثر وتعقيدات أكثر. كانت دعوتي لتجديد العلاقة بين الشعر والواقع، بين الشعر والخارج، بين الشعر والموضوع. بدا لي أن هذه الدعوة أخذت حرفياً. ملاحظتي على شعر يحيى آنذاك أن هذا الشعر ينحو إلى أن يكون تقريرياً إلى حد ما، يقول الأشياء بأسمائها العادية والجارية، وليس هناك كتابة موازية. إذا كانت فكرتنا عن الكتابة هي التحويل والموازي أقول إن مفردات مثل قنبلة وعنف أو "المرقط" لا تكفي لصناعة حرب أو لكتابة الحرب. هذه القصيدة كانت تقول الحرب بطريقة مباشرة. ألفاظ الحرب لا تصنع الحرب، مثلما أن الأسود لا يصنع الليل. هذه هي الفكرة المركزية التي بني عليها المقال. كان المقال بسبب رغبة حمقاء من شخص اعتبر أنه يملك مسؤولية تجاه دعوة أطلقها أو عن هذا الاتجاه في الشعر. وربما كان تدخلي تدخل شخص من البيت. كان النقاش مع هؤلاء الشعراء نوعاً من النقاش الداخلي. الشباب وقتها انزعجوا فتحول المقال إلى قضية علماً أن هذا المقال كان واحداً من عشرات المقالات بعضها شرس ضد شعراء كشوقي بزيع ومحمد علي شمس الدين والشعر الفلسطيني قاطبة وضد النظريات الأدونيسية في الشعر. المقال نفسه خُلق في معركة كانت شبه يومية. لاحقاً اعتبرت أنه لا يمكن أن نناقش بطريقة مسبّقة على العمل، أي وضع نظرية قبل النص.
* في الولايات المتحدة الأميركية ثمة كتابة نشأت قبيل الحرب العالمية الثانية وبعدها، هناك الكتابة الأوتوماتيكية والشعر اليومي. هناك كتابة خارجة مباشرة من الحياة، من قوة العيش وليس من المتخيل. كتابة تنشأ مباشرة من الواقع ولا تسعى غالباً إلى تأويل هذا الواقع إلى حد ما. ربما كتب "شعراء الحرب" في لبنان نصوصهم تحت تأثير هذا التحوّل الذي كان يجري في الواقع؟
بالتأكيد كان ينبغي مراعاة هذا الأمر. يمكن للحرب أن تقول شعرها بمباشرة أكثر مما نتصور وبوقائعية أكثر مما نتصور. كنت وقتها أرفض الشعر الوقائعي وإن كنت أجريت لاحقاً نقداً ذاتياً. مع ذلك ما زلت غير قادر على تحمّل جملة من نوع سقط الصاروخ في طنجرة الكوسا وطبخناه. هذا أمر لا علاقة له بالنقد وإنما بالذائقة. في كل حال، شخص كيوسف بزي يحتمل اعتذاراً لأن تجربته لاحقاً باتت قوتها واضحة رغم كسل صاحبها. كتاباه الأخيران فيهما إنجاز بدخولهما إلى هذا المكان الفج والوعر الذي ينتج جمالياته الخاصة والتي لا أبدو غريباً عنها شخصياً.
* تدعو إلى شعر مطابق من جهة، وكنت على النقيض مما يُسمّى المدرسة اللبنانية حيث ينشأ الشعر من نفسه، من الجوهر، من المخيلة الشعرية نفسها، الشعر الذي يتحول إلى موضوع لنفسه وإلى نوع من النبوة بلغة غالباً تهويمية وعائمة في الفضاء. كيف ترى إلى هذا التناقض بين نقدك "الشعر اللبناني" ونقدك شعر "جيل الحرب" المختلفين أصلاً؟
كتبت الكثير عن المدرسة اللبنانية في الشعر. هناك مشكلة في الأساس مع الثقافة اللبنانية كلها. عندما يصنع اللبنانيون سينما أو موسيقى أو شعراً أو أدباً، كانوا يبدون منزّهين عن الواقع في مرحلة ما قبل الحرب. أتصور أن اللبنانيين يعتبرون أن لا واقع لديهم باستثناء أبناء المرحلة الأولى كجبران خليل جبران وأمين الريحاني والذين كانوا يصارعون أمراً موجوداً. بعد ذلك توقف هذا الصراع وتم اعتبار أن لبنان ليس بلداً بل فكرة. لاحقاً بدا أن الكتّاب الذين اقتربوا من الواقع كانوا كتّاباً صغاراً، مجموعة مناضلين لا قيمة أدبية لهم، وهم فعلاً كانوا هكذا من ثوريين وشيوعيين كتبوا أشياء صغيرة. أما الكتابة اللبنانية الأخرى فبدا أنها فعلاً بلا واقع. كل ثقافة كانت تبني واقعها. هنا أصل النبوة والتجريد والفلسفات الشخصية. كل كاتب هو فيلسوف. يعني يأتيك شاب وينجز فيلماً سينمائياً يصنع فيه واقعه وما فوق الواقع. هذا جزء من الكسل اللبناني وهو كسل فعلي، وجزء من الانعزال الكامل للمثقفين عن واقعهم، وهو جزء من كره الواقع، الكره الضمني للأرستقراطية، وهو أيضاً جزء من "السنوبية" اللبنانية والعالمية المزعومة، أي نحن لسنا فلاحين ويدويين وأصحاب اختصاصات صغيرة. نحن المعرفة والثقافة والعلم والأدب. اللبناني لا يتكلم من مطرح صغير بل يتكلم بوصفه شخصاً يخاطب العالم.
* لماذا استطاعت الرواية في الحرب أن تدخل إلى هذا الواقع وعجزت فنون أخرى عن هذا الدخول (ما عدا الشعر في بعض جوانبه، والسينما أيضاً وإن كان الإنتاج الغربي يلعب دوراً في خيارات بعض المخرجين حول الحرب)؟
الشعر أيضاً كتب الحرب.
مدرسة بيروت ضد الشعر اللبناني
* تتحدث عن بعض أبناء جيلك وعن بعض أبناء جيل الثمانينات أمثال وديع سعادة، بول شاوول، شارل شهوان، يحيى جابر، فادي أبو خليل، يوسف بزي، علي مطر الذين يمثلون هذا الاتجاه. لكن في مقابلكم كان هناك جيل لديه مشاغل أخرى وقصيدة أخرى ليست على تماس مع هذا الواقع أمثال شوقي أبي شقرا، أنسي الحاج، عبده وازن، عقل العويط، هنري زغيب وربما شربل داغر الذين يُعدّون امتداداً للمدرسة اللبنانية في الشعر. وبين هذين الاتجاهين كان هناك ما يُسمّى "شعراء الجنوب" أمثال محمد علي شمس الدين، شوقي بزيع، جودت فخر الدين، حسن عبدالله، محمد العبدالله، إلياس لحوّد الذين كتبوا الجنوب والحرب في قصيدتهم التفعيلية.
منيح أنك أدخلت شعراء التفعيلة في السجال مثل محمد العبدالله في بداياته وكذلك حسن عبدالله. شعر آل العبدالله ينبغي الانتباه له بحدته ومقارباته وطموحه إلى أن يكون سيرة وحياة وبحريته في الكلام وبنقديته وتهكميته. أما بالنسبة إلى الأسماء التي ذكرتها من أبناء المدرسة اللبنانية فهؤلاء كما قال يوسف بزي ذات مرة حافظوا على مجلة "شعر"، حافظوا على هذا الفاصل الحديدي بين الخارج والداخل، بين السياسي والشعر. حافظوا على هذا الجدار الصيني الموجود بين النثر والشعر. حافظوا ضمناً على وظيفة لاهوتية للشعر. أما بول شاوول ففي رأيي صنع خاصية ما لأنه جدي ومجتهد وقد قرأ وقتها الشعر الفرنسي ونقل القصيدة البيضاء. تجربته- ولا سيما في كتبه الثلاثة الأولى- تفتح في الشعر العربي تجارب أخرى. أعتقد أن كتابه الأول "أيها الطاعن في الموت في الموت" امتداد لتجربة أنسي الحاج لكنها أكثر مشروعية وإنجازاً. ليس في هذا الكتاب الاستفزاز الذي لدى أنسي الحاج، لأن بول كان ميالاً للإنجاز الشعري أكثر من النقد تماماً كجيلنا. كما كتب القصيدة البيضاء في هذا الكتاب وفي "الهواء الشاغر". لاحقاً كتب نصوصاً طويلة ومختلفة أي إنه لم يستمر في تجربته الأولى. بالطبع أتحدث هنا عن بول لأنه كان الأول. في النهاية استطاع بول أن يقدّم إنجازاً شعرياً لأن الشعر ليس تنظيرات أو ترسيمات أو وجهات محددة. لا نستطيع أن نكون غير مبالين تجاه تجربة بول أو عبده وازن. في النهاية إذا كان هناك شعر حافظ على مجموعة تقاليد وعلى تنزيهات للشعر فهذا حق. مثلاً، رأيي أن تجربة عبده وازن تجربة دينية رغم أنه لا يحب هذا التوصيف. لا أقصد هنا التدين بل البحث عن الذات والنور وهذا موجود في العالم كما في جانب من شعر نوفاليس.
* دائماً كان هناك حديث عن إشعاع لبناني تجاه الشعر في البلدان العربية الأخرى، لكن ماذا عن تأثيرات العرب في الشعراء اللبنانيين. هذه مسألة تكاد أن تكون غائبة عن المشهد النقدي؟
يجب التمييز بين أمرين، بين مدرسة بيروت وبين المدرسة اللبنانية. مدرسة بيروت صنعها كل الشعراء وبينهم شعراء عرب من عراقيين وسوريين وفلسطينيين. أعتقد أن مناخ بيروت يسمح للآخرين بالعيش بتخفف من ضوابط الموروث وضوابط أخلاقية ونفسية وثقافية. هذا بلد خفة وسنوبية وكوزموبوليتية يسمح للآخرين بالخروج بسهولة من جلودهم. مدرسة بيروت ليست لبنانية بل عربية وعدد الأسماء فيها كثير. في رأيي، محمود درويش موجود في مدرسة بيروت رغم أنه يقول إنه لم ينجز الكثير أثناء إقامته في بيروت. المهم أن المرور في بيروت سمح للناس بألا يظلوا أسيري رؤية ضيقة للشعر والسياسة وعلاقة الشعر بالثقافة والسياسة. على الأقل سمحت لهم بيروت بالتوسع في هذه المسائل. أما الشعر اللبناني فكان أقل تأثيراً. أعتقد أن أدونيس شاعر لبناني بغض النظر أين ولد. أدونيس قد يكون الأكثر لبنانية بين الشعراء اللبنانيين، وهذا كتبته من قبل، وهو أحد المؤثرين في هذا الشعر. هناك خليل حاوي وهو مؤثر جداً. وهناك عدد آخر أقل تأثيراً. أنسي الحاج انتظر فترة طويلة ليصبح حاضراً سواء بنصه أم بأسطورته. هل أثر الشعراء العرب في اللبنانيين؟ بالتأكيد. ثمة جيل كامل هنا ليس لبنانياً بالكامل ابتداء مني ومن وديع سعادة إلى كثيرين غيرنا هم أخلاط شعرية. مثلاً، هناك ثلاثة شعراء فتنوني في البداية بينهم شاعر لبناني واحد هو خليل حاوي في "نهر الرماد"، الثاني كان نزار قباني والثالث أحمد عبد المعطي حجازي في كتابه الأول "مدينة بلا قلب"، ثم الماغوط بالطبع.