(عن «ب.ب.ب» وأشياء أخرى)

عابد اسماعيل
(سوريا)

عابد اسماعيلربما يصح القول إنّ الشاعر اللبناني عباس بيضون يكتب قصيدته كمن ينحت في صخر. فهو شاعر يحب القلّة لا الوفرة. وتغويه الصعوبة لا التلقائية. وبسبب شغفه الجمالي بالنتوءات والشقوق، نراه ينفر من السطوح الملساء. يحاول أن يمحو كل أثر للغنائية، مكتفياً بالأنين المضمر للحروف. هذا الأنين ليس تعبيراً عفوياً عن الأنا المبدعة، لأن أنا الشاعر ليست مركزية، وأشباحه ترتدي أقنعة كثيرة، لامرئية. ويبدو أن هذه الأنا، المنقطعة عن الذاتية، هي بمثابة المعضلة الوجودية التي لا يمكن التعبير عنها ذاتياً. بل إن حدَثَ وأفلتت من الذات ومضةُ شعور، أو حتى خلجة عاطفة، يهرع بيضون للتخلص منها، يحتال عليها، وينهكها. كأن يجفّف الاستعارة من دلالتها، ويبقي على لمعتها أو صداها، غاسلاً يديه من المعنى. إنه شاعر يسعى إلى التحرر من الحنين الرومانسي، الذي يكاد يسم بطابعه الكثير من التجارب الشعرية العربية الحديثة، وإن بدرجات متفاوتة، وذلك من خلال الاتكاء على مفردات، قاسية، خشنة، تنشأ بينها علاقات غير مألوفة. وللتأكيد على نبذ التلقائية، والابتعاد عن التدفق العفوي للصور أو الأفكار، نراه يدعو إلى كتابة النصّ الأثر، أو تدوين الأثر ذاته، كما يشير في ديوانه (لمريض هو الأمل): «الألمُ مجرّد توقيع، ونحن نتكلّم بعد انتهاء تاريخه».

رمال متحركة
إذاً، لا ينتظرنّ أحدٌ من بيضون جمالاً، بالمعنى الكلاسيكي. الجمال مفردة عتيقة، بالية، لا تناسب كثيراً رؤيته لقصيدة النثر الحديثة. الجمال مفهوم أفلاطوني، مثالي، يتماشى، أو يتناغم مع مناخ القصيدة الرومانسية. وباستثناء قصيدته (صور)، التي تختزن الكثير من الوجد الرومانسي، ويحبها عشاق القصيدة الكلاسيكية، فإن بيضون ناثر عقلاني، جدلي، إذا صحّ التعبير. وهي عقلانية متأتية من رؤية حداثية للكتابة، تعي ضرورة فصل الأنا المبدعة عن موضوعها، وضرورة تعزيز المسافة بين الإلهام كطاقة ذاتية، وبين الكتابة كمنتج فني إنساني. بهذا المعنى، نجد بيضون مهموماً بالصراع الداخلي للألفاظ، وما تولّده من دلالات لانهائية. ذلك أنه يرى الذاتية أو الجوانية منطقة رملية متحركة، غالباً ما تكون مهذارة، وتُكثِرُ من الكلام الذي لا طائل منه. في ديوانه الأخير (ب.ب.ب)، الصادر عن دار الساقي، ,2007 ينأى بيضون بنفسه عن عوالمه الداخلية، موجهاً كاميرا القصيدة باتجاه عراء الخارج وتناقضاته، واصفاً المكان ذاته، متمثلاً بمدن باريس وبرلين وبيروت. هذا النبذ المتعمد للذاتية، يتيح لبيضون القبض على مفارقة التجربة الداخلية، وإيجاد معادل موضوعي لها، عبر إقصاء العاطفة والتخفّف من تذبذب الشعور. هنا يصبح المرئي، في تجربة المدن الثلاث، حاملاً لصراعات الذات، وليس تجلياً مباشراً لصراعاتها. وليس غريباً أن يتحول الرعب في برلين، مثلاً، إلى ملاك من رخام في ساحة عامة، والقدر إلى ساعة معدنية تقيس دقّاتها مزاج اللحظة الراهنة: «الرعبُ ملاكٌ في ساحة بوتستدام/ والقدر ساعةٌ فوق ساحة بوتستدام». هذه الرؤيا الحداثية للمكان توحي بأن الشعر الذاتي، في جوهره، هو خطاب يكثر من النواح والضجيج، ويكثر من الالتفاف على الذات، والتشرنق حولها، مطمئناً للعاطفة الجياشة، والنبرة العالية، والذاكرة الموزونة والمقفّاة، حتى في تجربة قصيدة النثر. فالقصيدة الرومانسية تجنح تقليدياً للمعنى، وغالباً ما تكون مكشوفة المآرب، معلومةَ الوجهة والعمق. والمؤكد أن عباس بيضون يخالف هذا التوجّه. إذ إنه شاعر ميال للوعورة، وللطرق المتقطعة، والمسالك الملتوية، الشاقة. بل إنه شاعر ميال للصمت، وربما للحيادية، وللعضّ على الكلمات طويلاً، والاكتفاء من الذات بنظائرها المجازية، كأن يقول في وصف «حياته» في ديوانه (ب.ب.ب): «من الآن أنا جندي حياتي.../ جندي حياتي أنا/ وعلي فقط أن أمشي». ويبدو المشي هنا حيادياً، بلا خطوات، لا يلوي على شيء، ولا يسعى في إثر هدف. لا حنين يسندهُ، ولا حتىّ رغبة. هذا الميل إلى الحيادية نراه حاضراً أيضاً في طريقة تصريف بيضون للجملة الشعرية وإدارتها، وفي طريقة استحضار الاستعارة ونسجها. إذ إنه شاعر يتعمّد نبش الغرابة، وتلميعها، ليقدّمها إلى قارئه صافية، رهيفة، مثل لؤلؤة. وهذا ما نجده، على سبيل المثال، في وصف الشاعر لحالات شعورية متباينة، كالحزن والحب والخوف. ففي وصف تراجيدي لمشهد انتحار في ديوانه (شجرة تشبه حطاباً) يفكك الشاعر كيمياء العبارة العشقية، الملتصقة بخطاب الحب، ليركز على الخلل والمرض والقسوة، ويبرز النخر الذي تضمره مفردات الإغواء والهوى والشهوة: «السوتيان أبرش لكثرة ما سُلِق بالماء المغلي... القش نبت على السوتيان... السوتيان تلبّد وانتفشَ كقطّة ميتة». ويمكن اعتبار هذا التجاور بين القبح والجمال، دليلاً على رغبة الشاعر في تفكيك دلالة العشق السائدة، والتشكيك بتمجيد الشعر الرومانسي للجمال، وذلك عبر إبراز البشاعة الكامنة خلف أقنعة المرئي. هذا ما يحدث أيضاً في مقطع من ديوانه، حين يرسم بيضون صورة سوريالية، صادمة، للكاتب الألماني غونتر غراس، متعمّداً تقديم لوحة مكفهرة للإنسان المعاصر، وإبراز مفارقة التجاور بين القبيح والجميل: «التراب على وجه غونتر غراس/ والفئران الصغيرة تتحسس خدّه/ لكنه يحدجها بعينه الواحدة». هنا، في استحضار صورة الفنان أو المبدع في العصر الحديث، يعيدنا بيضون إلى أجواء شعرية، تذكرنا بتقنيات إليوت في استخدام الصورة السوريالية، القائمة على المقارنة والتوازن، واللجوء إلى نبرة هجائية تنعى القيم المعرفية والأخلاقية الحديثة، كما في قصيدة (أغنية حب لألفرد بروفروك)، التي تبدأ بغنائية وجدانية مخادعة، وتنتهي بنبرة رثائية، فلسفية، هجائية. فالفن الرفيع، المتمثل بشخصية مايكل أنجلو في القصيدة، يتحول إلى موضوع للثرثرة اليومية، الاستهلاكية، تتداوله نسوة ضجرات.

ومن أجل إبراز الهوة بين الأضداد، التي تعتبر ثيمة مركزية في الشعر الحديث، يلجأ بيضون إلى ابتداع الاستعارة الصادمة، وانتشالها من سياقها المألوف، عبر زجها في شبكة مضيئة من العلاقات غير المتوقعة. في ديوانه (لمريض هو الأمل)، على وجه الخصوص، نعثر على طيف واسع من الاستعارات التي تعتمد التوتر، وازدواجية المجرد والمحسوس، وتنافر القريب والبعيد، كما توضّح هذه المقاطع الشعرية: «يستمرّ المطرُ كالطابعة»، أو «البئرُ عبدُ الدار»، أو «رغبتي تجعلني كرأس دبوس»، أو «لهذه الزنبقة وجهُ أسد» أو «إنه الضباب يسوق التلال إلى القاعة». هنا، يمكن حقاً تخيل بيضون شاعراً بمطرقةٍ وسندان، يُصْلِي الجملةَ على نارٍ هادئة، ثم ينهال عليها ترقيقاً، وتدويراً. ذلك أنه لا يحب النعومة أو الميوعة العاطفية. فالخشونةُ تغويه، وتبهره تلك النتوءات الحادة التي اعتاد الخطاب الشعري العربي رميها جانباً بحجّة لاشعريتها. إنها مشقة النحت بالكلمات، والانصياع للذة الاستعارة المدهشة، المباغتة. وفي هذه المشقّة وحدها يجد بيضون ضالته. ينقضّ على المنسي والمهمل والمطمور، لينسل منه سطوره الشعثاء، وجملَه المبهمةَ، الحادّة، المترعة بالإحالات النفسية والذهنية، كأن يتحدّث عن أناه بنبرة بوح، ثمّ يُعمِل شكّه وعدميتَه في كل شيء، حتى في تلك الرموز الرومانسية، النمطية، التي تحاول أن تعري أو تكشف شيئاً من عالمه الداخلي: «أعيش على الينابيع المطمورة، وحول الماء الذي اصفرّ منذ ولادتي». هذا الماء الذي يمثل تقليدياً لحظة تطهّر، أو تعميد، أو حتى رمز خصوبة، نراه يؤدي هنا وظيفة معاكسة، فاللون الأصفر يشير إلى قحط وجدب، وما هذه الأرض القاسية التي ينبجس منها الماء سوى ذاتية حداثية subjectivity مركّبة، تُشتَل فيها المفارقات، وتورقُ الأضداد.

سؤال الوقت
ولن ننسى أن بيضون، في مجمل ما كتبه، يبدو شاعراً عدمياً، وجودياً، يؤرّقه سؤال الوقت، هو المفتون بالحجارة والمدافن والكؤوس المترعة بالخواء. فالوقت يبطّن جملته الشعرية، ويضيء استعاراته. فبابتسامة المتأخّر عن موعده، أو بتقطيب حاجبين متسائلين، نراه يرصف أحجار قصيدته. بخطوة خاطفة، مقلوبة، يشيد بنيانها. أو قل يربيها كمهندس بارع، ولكن مع الحرص الشديد على الميلان. هذا الميلان يجعله يعترف باستحالة الواقع واقعياً، كما يشير في ديوانه (ب.ب.ب)، إذ ثمة دائماً بضع دقائق تفصله عنه، وإذا حدث وتأخّر عن موعده، فإنما بسبب الوقت نفسه، وليس الذاكرة المخدوعة: «أصل على الموعد دائماً لكن الوقت هو الذي يتأخّر». هذا الواقع المنسحب، يجد تجسيداً آخر في فعل الكتابة ذاته، لأنّ المحسوس ليس سوى ذريعة لصياغة الاستعارة، التي تمثل بدورها خيط النجاة الوحيد، للهروب من براثن الواقعية الحرفية. في ديوانه (لمريض هوة الأمل) يشير إلى تلك العلاقة بقوله: «نقفّي بالأحجار سطورنا/ كم علينا أن نقتل منها/ لنسكّ إشارة». هنا يتساءل الشاعر عن جدوى هذا القتل، ولماذا يُقتل المحسوس لصالح إبراز المجرد أو المجازي، ولماذا يؤجَلّ المعنى لصالح الدلالة المفتوحة، المتأرجحة، كأنّ قتل الحجارة هنا ليس سوى شكل آخر لبناء نظام رمزي مختلف للقصيدة، لا يسنده سوى الميلان ميلان الواقع عن واقعيته . وإذا كان بيضون شاعراً مائلاً، فلأنه أيضاً لا ينسج على منوال أحد، ولا يقلّد خطاً أو مدرسةً فنية، وإن كنا نسمع صدى سوريالية ريتسوس وبريتون وبونفوا يتردّد بين الحين والآخر من بعض نصوصه الأولى. مع ذلك، هي سوريالية مشغولة جيداً، تعب الشاعر طويلاً في تذويبها وصهرها في مختبره الشعري. هذا يجعله يبدو شاعراً حجرياً، كتوماً وصلباً، وعليك دائماً أن تمسك إزميلاً لتكشف عن الوميض خلف العبارة. عليك أن تضع أذنك على حجر القصيدة، وتقرأها بقلبك. وبيضون يراهن على قوة الإصغاء لدى القارئ، لأنّ للحجر قلبا يخفق، وللحجر حياة نربيها ونسقيها، كما يشير في ديوانه (لمريض هو الأمل): «ربينا حجراً/ ونسيناه بين الأحجار/ كما يُهمل أبلهٌ وسط الناس». هنا يظل المعنى وبالتالي الواقع ذاته شارداً، متسكّعاً، رغم المشقة المبذولة في تربيته وترويضه بلاغياً.

من هذا التسكّع يبتدع بيضون أسطورةَ المجازي مقابل الواقعي، مفضّلاً البحث عن الجملة الغائرة في المفارقة، التي لا تشوبها غنائية التجريد الفلسفي أو الذهني أو العاطفي. ولا يشوبها طرَبٌ أو تطريب. جملة تكاد تكون خالية من الإيقاع أو الإيقاعية. مع ذلك، ثمة قوة غريبة في هذا النشاز الذي تمثّله القصيدة لديه. ربما هي قصيدة تتعمّد القفز فوق مفهوم التناسق الهارموني، مفضّلةً عراء التناقض ورحابته، عبر استثمار جدلية الشكل والمضمون، والاشتغال على اختلاف الداخل والخارج، وفضح الوحدة الكلية، التي لا تضمر، في الواقع، سوى النشاز الكامن فيها، وذلك عبر رؤية المعاني الشعرية وفقاً لنسق فلسفي، متعرّج، ومتناقض. يكفي القصيدة هنا أن تكون نصاً مسفوحاً على بياض لانهائي. قصيدة قاسية ومصبوبة، مؤلفة من استعارات مسكوبة، ومنقوشة بمهارة لافتة. قصيدة تجد معناها في فعل حدوثها، وفي كونها الأثر الماثل للعيان أمامنا. بهذا المعنى، يشارف نص بيضون تخوم القطيعة، مقترحاً أسلوباً شعرياً جديداً، يلبي، في جانب كبيرٍ منه، حاجة الشعرية العربية الحديثة إلى قصيدة منحوتة، متوازنة، تتحدى الذائقة المستقرّة، ويكون رهانها الصنعةَ الفنية لا التلقائية، والتوازن العاطفي، لا الميلودراما.