حاوره: عدنان حسين أحمد
في الشعر، كما في الرواية أو السيرة الذاتية، يظل النص الذي يكتبه سليم بركات عصياً، متمرداً، وإشكالوياً، لا يرخي الطبع، ولا يسلس القياد للقارئ والناقد في آن معاً. فكاتب من طراز سليم بركات لا يعّول كثيراً على البناء المعماري التقليدي الذي استنفده نجيب محفوظ ورعيل طويل من الدائرين في فلكه، لأن نصوصه شائكة ومشاكسة تستمد قوّتها من كنز الميثيولوجيا الكردية، ذلك المنجم الفريد الذي وقع عليه سليم بركات بعد عناء طويل، فلا غرابة أن تأتي أبنيته السردية متداخلة متنافذة مع بعضها البعض حد التماهي، وبالتالي فأن مدوّنته السردية تحتاج إلى قارئ من طراز رفيع مدجّج بمعرفة شمولية لا تبدد عزمه عند الصفحات الأولى من متاهة النص المحبوك بالملغز والمحيّر الذي لا تستوعبه الحواس الخمس دون الاستعانة بالحاسة السادسة، أو الركون إلى المخيلة إبّان تأججها وإنخطافها الصوفي. في هذا الحوار ركّزنا على سليم بركات روائياً، ومع ذلك لم نفِ هذا الرجل المبدع حقه، فعالمه الروائي أكبر من أن يستوعبه حوار، أو حفنة حوارات جادة رصينة، آملين أن نلج، عمّا قريب، غابته الشعرية المكتظة بالتساؤلات العسيرة الغامضة. وفيما يلي نص الحوار الشيّق مع الروائي والشاعر الكردي السوري سليم بركات.
رسن الخيال المشاكس
مَنْ دلّكَ على خزائن اللغة العربية، ومَنْ قادكَ إلى أدراج البلاغة المقفلة، وكيف تسنى لك الإلمام بها حد التألق والإدهاش. مَنْ مِن هؤلاء الأدلاء الذين أخذوا بيدك إلى منجم اللغة والأدب، وضيّعوك في براري الإبداع الشاسعة؟
- محاكاة المجهول هي التي قادتني إلى أن أتتَّبع ما تبيحه اللغةُ لنفسها مِن تهتُّك، وما يُبيحه اللفظ من الانقلاب على معناه، وما يبتكره نظام المعنى، في انحلاله سديماً إلى سديم، من الخيانة الطاهرة. النِّكال بالحقائق التي ليست حقائق، والنِّكال بطبيعة النسق المدَلَّلة كدِيْن، والنِّكال بتاريخ العلائق بين الإشارة ومفهومها، هو بعض مما يلهمني أن الحرية في البلاغة ليست إلا قيادة البلاغة، برسن الخيال المشاكس، إلى عبودية اللامحدود. إنه أمر على قدْرٍ شيطاني من الإدعاء. لا بأس.لكنني، قطعاً، أبيح لنفسي إدعاء الانتساب إلى المعُضْل، ذلك الشريك الذي ينتظرنا في المنعطفات النبيلة، التي تحفظ للغة قَدَرَ وجودها الشهويِّ الهاذي، وقَدَرَ إيمانها بالفراغ الموَّلد لأنساق الثِّقل الكبرى: مغامرات العدم الذهبية التي يقرؤها أطفال الوجود الذهبي. النمطية الجمعية للسان المتناسخ صورة عن صورة حرّضتني على أن الممكن الساحر لا يمكن ذبحه فداءً لقدسية التاريخ المرتجل زمنياً، والهوية المرتجلة زمنياً، والكمال المرتجل تفصيلاً على مقاس الأمم (الخالدة). وأنا، إنصافاً لي، لست من المحيطين بخزائن اللغة قط، خزائن اللانهاية المسحورة، لكنني أتتَّبع أخبار القيَّافين المفقودين.
الخرائط الخفية
يحلم الفنان التشكيلي بالوصول إلى ذروة التجريد، كما يحلم الكاتب بالوصول إلى ذروة الاختزال والتكثيف، وقد وصل الروائي سليم بركات إلى برزخ الاختزال والكثافة المنشودة، لكنه ضحّى بالمبنى الحكائي الذي يقوم عليه معمار الرواية. ألا تعتقد أن حركة القص والروي لا يمكن لها أن تكتمل دونما نواة حكائية متنامية؟
- كنا أتمنى أن أكون من هؤلاء الذين يسهون عن (النوى) الحكائية في أقاصيصهم كي أتشرد في (نفْسي) على أبواب السرد المنقلب إلى تيه. لكنني (صارم) في بناء البرج (المتهدم). أبنيه مهَّدماً كما هو في خيال ذاته, كما يحلم برج أن يبني نَفْسَه مهَّدماً. لا انقطاع في السيرورات عندي: بداية أولى، ونهاية أولى لما ليس بداية أو نهاية. ذلك أمر في صلب النقصان الساحر الذي سيغدو عادياً ميتاً إذا صار كمالاً. وتخمينك أنني أضحي بالمبنى الحكائي فيه قدر من المبالغة. فرواياتي تبني أحداثاً، وشخوصاً في سيرورة واضحة جداً، من مطلع شمس السرد حتى مغيبها. والأرجح أن ما أضحَّي به، حقاً،هو أن أقدّم للقارئ سياقاً مريحاً يؤكد به مقدرته على قراءة عادية كرتابة التدخين. يقيناً كلما وضعتُ ورقة بيضاء أمامي أجدِّد امتحاني المخيف أمام قارئ طالما ظننته شرهاً إلى المجهول، ذكياً حتى التخمة، فطِناً، قديراً في التقويم، عارفاً، لا تفوته السهولة أو الركاكة. يصيبني هلع من أن أكون نسخة أخرى من النص المتداوَل. أبدأ بالإشكال لأُقارب هذا الوجود المُشكل. أدفع الامتحان إلى النهاية أمام نقد العقل، ورقابة الخيال الموهوب: معمار الرواية، عندي، هو اشتراك قارئي في صوغ الخرائط الخفية لمحنة الكتابة ذاتها.
غموض المصادفة الطاحنة
لقد صرّحت غير مرة بأنك لا تبدأ كتابة الرواية من غير إشكال،ورواية ( فقهاء الظلام )تعزِّز هذا الإشكال وتؤكده من خلال شخصية (بيكاس)، أليس كذلك؟
- أظنني تحدثتُ مراراً عن شخصية ( بيكاس ) الغريبة في (فقهاء الظلام). وها أنا أحاول، من جديد، أن أجد شرحاً يقنعني أولاً ، لأنني- نفسي - وجدتُ (بيكاس) يذهب في كل اتجاه، كأنه يمتحنني. لم أعرف، وأنا أُقلِّب في خيال علومي الصغيرة، كيف اختصر عبثَ القَدَر الكردي في نسق يحفظ لنفسه صموداً أمام مقدرة التحليل على استنفاده. ولأنني كنت بصدد كتابة رواية، للمرة الأولى، بعد حذر طويل خوف الوقوع في براثن المعطى الروائي العربي الموقوف على شهوة المُستعاد، بناءً ولغةَ بناءٍ، فقد آثرتُ دفع الأمور إلى أقصى ما تحتمله من سطوة الإشكال. لن أدعي، قط، ولم أدَّع قط، أن هذه الرواية على قدر كبير أو صغير من الأهمية. لكنها ،قطعاً، لا تشبه رواية أخرى في اختزال قَدَر إلى إِشكال على هذا النحو: يولد طفل غريب لعائلة. ينمو في يوم، ويختفي. إنها لعبة فانتازيا عادية. لكن تلك العائلة، التي يتوجب عليها تقديم أجوبة،في كل برهة من غموض المفاجأة المصادفة الطاحنة، هي صورة المشهد الكردي على درجة الحقائق المُمزقة كأجوبته المُمَّزقة في بحثه عن إِقناع نَفْسه أولاً، والآخر ثانياً، أن(بيكاس) مخلوقٌ عارض، عقاب، امتحان من الله، عبث. (ببكاس) ليس شكلاً، والعائلة تريده شكلاً لتؤكد مقدرةَ لسانها على الوصف: ذلك هو الكردي. فيما الآخرون، من حوله، يصِفون الأشكالَ التي تخص تواريخهم، والتي ينسبونها إلى تواريخهم عنوةً.
ديمومة البراهين
لماذا اعتبرتَ رواية (أرواح هندسية) من أعقد رواياتك. ألأنها عالجت الحرب اللبنانية بوصفها نموذجاً للحرب الكونية القذرة. كيف تنظر إلى أسلوب السهل الممتنع الذي يعالج أفكاراً بسيطة بأساليب فنية عالية؟
- لطالما أُعجبت ب (الأمير الصغير) لإكزوزبري، و (أليس في بلاد العجائب) للويس كارول، و(رحلات غاليفر ) لجوناثان سويفت، وقصص الأخوين غريم. أمثلة صغيرة على البسيط الساحر، المُلْغِز في آن واحد، المُتراكب عُمقاً في التحليل. أُعجبت بقصص والتر سكوت، وفيكتور هيغو، وألكسندر دوماس، السلسلة في سردها. كثير آخر، لا يُحصى، أَلهبَ خيالي أمام باب (السهل الممتنع) كتعبير مصكوك ردئ في دلالته الجوفاء. أيُّ سهل في(غاليفر) أو (أليس) أو (بيضاء الثلج) أو (الأمير الصغير)، أو نوادر جحا؟ فلنصرف النظر عن(السهل) إلى ( الممتنع ) ولنجعلْ إقامة خيالنا فيه، حيث الامتحان الحقيقي لمَلَكة الرؤيا. لا أفكار بسيطة في(أساليب فنية عالية)، بل أفكار عالية، لا غير. البسيط استدراجٌ كالمعّقد الغامض. البسيط شقيق المركَّب. قطبان لا يستقيم أحدهما إلاّ بالآخر. البسيط بسيط لأنه اختراع التعقيد. والتعقيد تعقيد لأنه اختراعُ الممكنات التي من صفات البسيط. هناك، فقط، ما هو فنيُّ راقٍ، أو تلفيق ركيك. بورخيس متاهةُ معنى دانتي سطوة المتعدد. هوميروس هذيانٌ. جويس ثرثرةُ المعنى حتى الإغماء. ثرفانتس شوق المعنى إلى القطيعة مع ذاته. (ألف ليلة وليلة) لعبة شطرنج بين يدي معنىً هاوٍٍ ومعنىً محترف. واللائحة لا يطولها تقدير. أنا في صفِّ (المحنة) التي لا تطهِّر الروح، بل تعيدها أكثر دَنَساً كالحقيقة. أَتلحقُ أنتَ، بي؟. (أرواح هندسية) نزوع شرير إلى مقاربة القطيعة مع (السرد الطاهر)و (المعنى الطاهر) و (التشخيص الطاهر) للعلائق المعرفية. هي رواية حرب لا تلد من حرب، بل من ديمومة البراهين على أن الحرب إرثُ ذهنيُّ خالص كالمخيلة الإنسانية.
فخاخ التقنية
في رواية ( الريش ) يتداخل الواقع والحلم، بل يصل إلى ذروة التشويش السردي أحياناً حينما نشكِّك في مجيء ( مم زاد ) إلى قبرص للبحث عن الرجل الكبير. هل تتعّمد هذا النوع من الكتابة المتأرجحة التي تترك القارئ معلقاً ببندول الوهم الذي يتحرك بين مِدْماك الحقيقة وبرزخ السراب؟
- من حقي كروائي، أن (أتعمّد) نصب فخاخ للقارئ. التقنية لعبة قصدية تتبادل فيها المهارات الصغيرة أدوارها على رقعة العقل. لكن تلك القصدية هي ما ينجزه التلقائي من المشافهة حكياً حين يغدو تدويناً. الوصل، والقطْع، والتدوير، والبدء من النهاية، والانتهاء بالبدء، وإعادة توزيع المشهد على نحوٍ ملتوٍ، والإيهام، كلها مراتب نقْضٍ وإبرامٍ هما من عِقْد التأليف وخواصه. هما احتيالٌ يبتدعه الزمن للإيقاع بالزمن. التقنية دورةُ تخريب نبيلة للتاريخ (القدسي) الذي يقدم به عقل النظام الاجتماعي، ولسانه التعليمي، (حقائق) هويته (الطبيعية ). في(أرواح هندسية) تتبلبل الملائكة في سعيها إلى تأكيد (النسق الواقعي) لزمن الإنسان بالبحث عن أربعة أيام مفقودة من حياة طفل. في (الريش) حلمُ (آزاد) هو واقع (مم). وما يفعله (مم) داخل حلم أخيه هو واقع أبيهما. وما يفعله الأب في واقعه هو إشكال التاريخ السحري: كل واحد يخلق الآخر من ضرورة حاجته إلى نصٍّ أكتبه أنا. أعلى القارئ أن يتبلبل في هذا؟ منذ متى كان( القارئ ) واقعياً واثقاً حتى التخمة من تلفيق الفكر الكسول للواقعية المغمى عليها من ثرثرة (رُسُل) الواقعية المنكوبة؟ تعالوا إليَّ كي يلفِّق أحدنا الآخرَ على قَدْر (هيامه) بالحقائق.
العلوم الجسورة
في ثلاثيتك المهمة ( الفلكيون في ثلثاء الموت ) وفي أغلب أعمالك الروائية الأخرى ثمة نزوع لشحن النص الروائي بالمعارف المتنوعة حتى لتغدو الرواية حقلاً سيميائياً يستدعي الشرح والتأويل. ما أهمية هذا الشحن المعرفي في البنية الروائية؟
- حين ينكبُّ القارئ العربي على جيمس جويس، وبلزاك، وكونراد، ودستويفسكي، على سبيل المثال، سيتباهى في عرض علومه الثقافية، أمام الأقران، عن تعدد لا نهائي لخطاب المعرفة في سطورهم، من اللغة حتى النفسانيات، ومن اعتقال برهات (الانعطاف التاريخي) لظواهر الواقع حتى البحث الأعمق في خصيصة (العالم الجديد)، الجشع، وعلاقته ب(العالم القديم) المنهوب بعبودية علاقاته الداخلية قبل أن ينهبه أحد. وفي سياق (المنازلات ) الكبيرة هذه سيتشعب التحليل، كالمؤسسة القائمة منذ قرن على قراءة ما لا يمكن استنفاده في (يوليسيس). القارئ العربي هذا، المتتبع للناقد العربي الباحث في (أساطين) الرواية الغربية، يَنْشَدِه ب (العلوم الجسورة) في البلورات عند هرمان هسه، إلى الانحلال العضوي للخلية عند هنري باربوس. ومن مراتب فلسفة الزمن عند بورخيس إلى (منابع الحدس) في القرون الوسطى عند إمبرتو إيكو: يا للشساعة!!! حقل المعرفة مباح للحصاد في الرواية الغربية. إيتالو كالفينو سيعتبر كل عمل أدبي لا يتمتع بصفة(حقل معرفي) عملاً سطحياً. نحن نحب إيتالو كالفينو، أليس كذلك؟ لم تكن هناك حاجة للإقتداء بتصريح لإيتالو حتى أعرف أن استدعاء أي عنصر طبيعي هو استدعاء من عمق خصائصه، ومن عمق اللغة التي تدل عليه في خيال العلم المحيط به. للأشياء أسماء، وصور، وتاريخ، وأفكار، ومخاطبات خفية، وحروب وصيرورات من الغيب حتى المُخْتَبر. لا أستطيع تفادي تقليب النشآت المجهولة والمعلومة لكل شاردة أو واردة في كتاب لي. سأهين الوجود وأهين العدم معاً، إذ سهوتُ عن ذلك. والكتابة سلطة لا ينبغي صرفها في إهانة ما تتغذى منه، وإلا صارت سوء استخدام للسلطة: كما يفعل موظفو أممنا.
نسيج البسالة المحيِّرة
في الحوار القيِّم الذي أجرته معك مجلة (تافوكت) قلت بأنك (تريد أن تكتب عن شخوص لن تلتقيهم في حياتك قط، وأن تكتب عن وقائع لن تحدث قط ) هل صادفك مثل هؤلاء الشخوص، ومثل هذه الوقائع؟ ألا تثيرك الحياة اليومية، شديدة الواقعية؟ ألم تكتب قط عن أناس واقعيين، وهل نعِّد مجمل رواياتك من نتاج المخيلة؟
- الواقع، غني، مذهل، نسيج البسالة المحيّرة في خصائص يغذِّيها حتى الإعجاز. أنه(حدث) لا تجاريه اللغة، ولا يقاربه الوصف. و (الواقعية) ليست مشهداً، أو علاقة. إنها حالة ما ورائية إلى ملموس لا يتفق ذوقان في تأكيد عناصر الطعم فيه. أيعني كلامي أن لا نقترب من الواقع، أو أن لا نمحض (الواقعية) ثقة التأليف والتدوين؟ لا.لكننا، في بساطة، نسفِّه الأمرين بالإدعاء أن العالم هو ما يقتبسه لسان الكاتب (الواقعي) لدعم شهوة بامتلاك المعرفة الكلية عبر بصره، وبعض أفكاره التي تتلجلج من مرحلة إلى أخرى. سأترك الواقع، و(الواقعي) يتدبرَّان لي، باقتدارهما العاصف، ما لا يحتاجان إلى تكراره حول صفاتهما. سأتركهما حرَّين ليحرَّراني من نير الدوران حول نفسي حتى الاحتراق في التبسيط، والتلفيق، باسميهما. سأذهب لما هو لي: الشخص الذي يحرِّضني بالمجهول فيه على صوغ المجهول فيَّ، والحدث الذي يحرِّضني، ب (لا - حدوثه)، على أن شغفي هو حدوثُه في خيال كتابتي.
الوجود الممزَّق
هل تعتقد أن كتابة الرواية هي كشف للذات (العالم الأكبر) أم أنها كشف للوجود برمته.وأما زلت تمتحن خيالك بعد كل هذه النتاجات الراسخة التي أثريت بها المشهد الروائي العربي؟
- الرواية ليست كشفاً عن شئ. الشعر ليس كشفاً عن شئ. عالم الذات (الأكبر) وعالم الكون (الأصغر) صفات من خطاب النظر التأويلي، والنظر السببي المعلول. لا عالم كبيراً ،أو صغيراً، هنا أو هناك. البرهة الواحدة من برهات النَّفْس، في انشغالها بتدبير اللُّحمة لما هو ممزَّق من هذا الوجود الممزَّق، هي كل شئ، من الأزل إلى الأبد. لا أعرف معنى لسياقات الكشوف، من الخيال الصوفي حتى خيال الألسنية النبيلة.لا أبحث عن كشف، بل عن المُعْضل، المُشْكل، المتمرد على فظاظات المعنى، اللامتصالح، المتحايل، المارق، المسكون، المختبل، المنغلق، المستوحد في قطيعته الإلهية مع أي تقديم للمعرفة، من فوق، إلى القارئ. ليبقَ المُعضل معضلاً، والمُشكل مشكلاً. فليتقدم معي القارئ إلى التيه. أريدُهُ جَسوراً.
ملابسات الخيال الفكري
كثيرة هي الأنساق الدلالية والعلائق اللغوية المبتكرة في نصوصك الروائية. هل أفدت من المدارس والتيارات الأدبية الأوربية الحديثة في كتابة نصوصك الروائية التي لا تنتمي إلى الأفق السائد، بل تتقاطع معه، وتنبو عنه كثيراً؟
- لم يحصل في حدود قراءاتي غير الكثيرة، أنني عثرت في النقد العربي للرواية سؤالاً يضع اللغة الروائية العربية على محك. كل الذي يتداوله، بسذاجة لا مثيل لها، هو سطر واحد: (هل لغة الحوارات بسيطة واقعية، أم صعبة متكلِّفة؟). لا محاكمة لطبائع السرد، ومراتب الوصف، وملابسات الخيال الفكري، أفلسفة كان أم تأملاً وجدانياً؟، أم تحليلاً للعلائق وتأويلاً للظواهر في المشهد النفساني والطبيعي. أعترف،بأسى، أنني لستُ ممن يقرأون الأدب بلغات أخرى. أقرأُ الترجمات. وبالرغم من التفاوت الهائل في مراتب الترجمة نفسها أستطيع، بحدس ما، أن أعيد صوغ التقنية اللغوية للذين أجد لغتهم خيالاً من عواصف المعرفة، في الرواية، من هرمان ملفيل إلى بورخيس، ومن وليم فوكنر إلى توماس مان،ومن دانتي إلى رابليه، ومن شارلوت برونتي إلى فرجينيا وولف، ومن الإيطاليين كالفينو إلى ميشيما، ومن كازانتزاكيس إلى أوستورياس.هنالك كثيرون في السياق الذي يجعلهم كتَّاباً على صرامة (أسلوبيتهم)، يدفعون السرد، باللغة عمودياً، حتى حُمَمَة البركان. ذلك ما لا يوجد في تاريخ الرواية العربية، المستأثرة بالقصِّ على عواهن الكلام المستوفي قصدَهُ الإخباري، أو بإضافة بعض الإنشاء المصكوك بالتلقين، كأنَّ اللغة، في ذاتها، واسطة إلى محاكاة الحركة في الحيِّز، أمام البصر، فيما تُعفى من مهمتها كمعرفة تبتكر، بالمحوِ المتكرر، تاريخاً إضافياً للمعنى.قطعاً، يوجد روائيون جدد جيدون في العربية، وهم من جيلي. لم أجد في السابقين ما أنتمي إليه خيالاً أو لغة، لم أجد همَّاً هناك، لم أجد امتحاناً أم نكبة، لم أجد امتلاءً أو فراغاً.
الإلغاء بالتجاهل
روايتك لا تمنح نفسها بسهولة في القراءة الأولى، لصعوبتها، وتلونها، واغترافها من حقول معرفية عديدة، فالثيمة الأساسية تتوامض بين السطور، ومن الصعب الإمساك ببؤرتها. هل تعتقد أن هذه الصعوبة هي السبب الأساس في خلق هذه القطيعة بينك وبين النقاد؟
- تحدثتُ عن تشُّق النقاد العرب باستعارة السطور من لوكاتش، وباختين، وبارت ربما. والظاهر لي، ولغيري، في سنين انقراض النقد المتخصص هذه، أن الوافدين من أنقاض (الواقعيات ) النظرية، (يسندون) مباحثهم بأسماء الأساطين الكبار، دستويفسكي، غوغول، جويس، كونراد، كافكا، هنري جيمس، توماس مان أسماء يستعرضونها في السطور كتلاميذ إتقنوا حفظ الدرس حرفياً. لكنهم ، في تطبيق، (معارفهم) البائسة على نص يخرج على سياق المُعطى المنكود، السهل الكسول، يتبلبلون، فيتجاهلون النص. ذلك أسلم السُّبل: الإلغاء بالتجاهل، والمحو بالإهمال، والإعدام بالاستنكار.
- *هل نستطيع أن نفتح كوّة صغيرة لنطل من خلالها على بالون خيالك السحري الذي يتنّقل بين مضارب الكرد التي امتدت من مهاباد شرقاً حتى سوريا غرباً، ومن أقصى العذاب الكردي شمالاَ، حتى أقصى الفجائع جنوباً؟ ما الذي لم يفصح عنه سليم بركات في هذا الشأن حتى الآن؟
- أنا، نفسي، لا أعرف مدخلاً إلى خيالي. أنه امتحاني حتى الموت، لكنني ألمح ما يعرضه الوجودُ عليه من صورته كعدم، في الفاصل الذي مصيراً، وألمحُ الكرد يقودونه كقطيع ضأن إلى مراعي النكبات. صمت لا أخلاقي يحيط بمصائر الكرد. والصمت العربي هو الأكثر ضراوة. لا أشحذ خيالي على هذا المبرد. خيالٌ جُرْحٌ يستلهم البسيطَ ذا التاريخ المفرط في تعقيده.
توصيف الفاجع
في رواية (أنقاض الأزل الثاني) يموت الهاربون أو الغرباء الخمسة الذين يغادرون جمهورية مهاباد المفجوعة، لكن موتهم كان موتاً درامياً مروّعاً، هل أردت لموتهم أن يكون معادلاً موضوعياً لموت مهاباد الرمزي والمؤقت؟
- ليس الفاجع مقتل خمسة أكراد، في سياق (إعدام) جمهورية بأكملها، بل تلك المطاردة، بإصرار، لكردي يحلم بكونه كردياً. من (مهاباد) إلى (حلبجة) نزيف واحد في المشهد، ومكافآت القتل تتوالى بسخاء على القاتل. لن أسترسل في توصيف الفاجع، المعادل لميتات رمزية أو واقعية. كل الدول المحيطة بكردستان، تتلمس في ذبحها الحلال، رقبة الكردي، وتاريخ الكردي، وأسماء آبائه وأحفاده، كأنه طفرة لم يكن حرياً بحقائق الطبيعة أن تُنشئه على مثال شعب ووجدان.
جريدة (الزمان) لندن