إلى سليم بركات

في يُمناه، الشينُ ـ الولعُ.
في يُسراه السينُ ـ اللغزُ.
"شين" البنفسج والليلك المتهالك في الطرقات، "سين" الهجران؛ لا السين أغدقت عليه أمومةً وحليباً، ولا الشين منحته كرةً، يسجّلُ أهدافاً في الأشواط الشحيحة الممنوحة له، ولا الملاعب شهدت طفولةً تتفتح باطمئنانٍ في ظل الأبجديات.
صفق الباب خلفه على الأنقاض الأزلية، بعثر في الكلمات "موسيسانا"، منتظراً "عبورالبشروش".
شابٌ, تلقّفه "الكركي"...
وهما ـ سليم بركات وطائر الكركي ـ المنسلان من السين والشين, يعبران الأمواج, تتوالد بحارٌ من كفيه, ومحيطات.
تاركيْن التخومَ في عواء بنات آوى، حلّقا، مبتعدَيْن في الغياب...
هل بعثرتهما الحدود بأسلاكها الشائكة؟
هل أخذتهما الرياح لأرخبيلٍ ينوء وينأى؟
أَتَركا الحدود تتعارك, مقتفيةً رائحتهما والريش المتطاير في جسارة التحليق؟
سيأتيان بالنفير عالياً, فيهتف كل داخلٍ لهما, وكل خارجٍ من معسكرات الأبد, يطهوان طهواً تختطفه الجنادب, يختطفه النيلوفر واللوتس البهي.
على جناحي كركيّه يمد الرُّقم, يتجاذبان الصكوك والسبائك, يلجان مجاهل الأصوات, ينعق الغراب بعيداً, يسترسلان في المدّ، وفي علوم المعادن, إلى قلق الماء في المفاصل..
اكتملي بالنزق ياجهاته،
تعجّلي يا الأزاهير في تذكّرهما.
وولهَ الرمل على الشاطئ حين هجراه،
في صباحٍ مهتزج
الشمال على يمينه،
يهِبُ للمطر صدرَه
ويديه للصلصال،
منبجساً من الذّهب،
سائلاً من الفضّة،
لامعاً كالثريا
على يساره الرّقة،
صاعداً ملكوت الله
منقّباً
ممتناً، معاتباً
بسّاماً
ولطيفاً كنسمةٍ في الشمال.
للقدر أن يضع شعباً في فوهة بندقية، فتستولد منه الرياحين والعبيثران.
لـ كركيّك بذخ الهواء, ولكَ نعمةُ التحليق, ولنا نحن - المستولَدين من وردةٍ في فوهة بندقية ـ متعةُ النظر، والسماء تتسع أكثر، لكما، لهديل الحمام, للأطياف الشاهقة في مناكفاتنا والعواصف.

***

"نوش الظهيرة"، قالها لي، محمد عفيف الحسيني، مستدركاً النسيان في متعة تدابير الطهو تحت شجرة البرتقال:
ـ "هذا وقت نوش الظهيرة مع سليمو".
دقائقُ، وكان صوته يشدو عبر الهاتف:
ـ "أيقظها يا ديرام، وأيقظ الحلم من تحت أهدابها".
ـ أيقظيه ديلانا, أيقظي الترف وأشكاله الصديقة, واشهديه إذ تتفتح أهدابه عن طيور, فهو يقظةٌ ليس إلا صباحٌ ممسكٌ بصليل المياه, وهو قوسكِ ترمين به, حين ترمين رحمك كله في نشيدٍ أخير.
ـ أيقظيه, أيقظيه ديلانا".

نوش الظهيرة بطعم البرتقال, من "موسيسانا" المبعثرة في حروفه وزمهرير ستوكهولم, إلى الحب المتدفق من أصابع شاعري العفيف محمد، إلى اجتيازنا البشروشي شفتي "أكيسا"، في فم "دلشاد".
من "المختصر في حساب المجهول"، وبلاغة الرّقة المفرطة - إلى حد القسوة - في صوت سليم بركات وعشق فراسخ الخلود.
ذلك اليوم ـ الظهيرة، ونحن نتحدث معه، على بعد مئات الفراسخ بيننا.

***

ارمينا بحفنةٍ من بزور اليقطين "أكيسا"،
وواصلي انتظارك خلوَّ السوقِ.
تنهض "أكيسا" من الجروف، وهي تهتف عالياً:
ـ "لا تقتلني برقتك, الكثير من الفراسخ لا زالت ترغبنا, سنزرع اليقطين هنا, نملأ أكفنا بالملح، نتناسف لغز احتفاء المعصمين بالذهب, وفضة البروق:
ـ هاتِ شفتيك أملّحهما،
واشربني دفعةً واحدة في الفرسخ القادم".

حلب 28 ـ 05 ـ 2004