محمد بوعزة
(المغرب)
bouazzamohammed@yahoo.fr

(أطروحة دكتوراه مغربية عن سليم بركات)

نوقشت بكلية الآداب، جامعة محمد الخامس بالرباط، يوم 2 تموز (يوليو) 2002 أطروحة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه، شعبة اللغة العربية وآدابها، وحدة البحث: السرد العربي، الأنساق التداولية والمعرفية، في موضوع: بناء الدلالة في النص الروائي: فقهاء الظلام، الريش، معسكرات الأبد، لسليم بركات نموذجا، تقدم بها الناقد الباحث محمد بوعزة، وقد تكونت لجنة المناقشة العلمية من الأساتذة:

د. سعيد يقطين.. (رئيسا)
د. محمد الدغمومي.. (مشرفا ومقررا)
د. زهور كرام (عضوا)
د. احمد بوحسن (عضوا)
وبعد المداولات، تقرر منح الباحث درجة الدكتوراه في الآداب، بميزة مشرف جدا وفيما يلي التقرير الذي تقدم به الباحث أمام اللجنة العلمية:
يطمح هذا الموضوع بناء الدلالة في النص الروائي الى تحليل النص الروائي العربي، باعتباره بنية دلالية. ومثلما تؤكد فرنسواز روسم: إن كل رواية هي بذاتها كلية مبنية ودالة، أي أنها تشكيل من عناصر بنائية وتركيبية تتضمن بالضرورة دلالات ومعاني. وحيث توجد بنية توجد دلالة، وعبر تفاعل هذين المحفلين يتأسس النص الروائي وينتج ادبيته وأفق تلقيه. ما هي الكيفية التي يدل بها النص الروائي؟ وعلام يدل؟ كيف يمكن البحث في دلالة النص الروائي؟ كيف يساهم القارئ في إنتاج هذه الدلالة؟ ما هي طبيعة الدلالة الروائية؟ وما هي علاقتها بالأنساق الدلالية الاخرى، المعرفية والثقافية؟
أسئلة وإشكالات من شأن تمحيص السؤال فيها، أن يعمق فهمنا لمسألة اشتغال الدلالة في النص الروائي، ولكيفيات ومستويات هذا الاشتغال. وفي حالة النص الروائي العربي، فان مقاربة هذه الأسئلة، تمكننا من ملامسة الأنساق الدلالية والتخييلية والمعرفية للرواية العربية، وتحديد أهمية وقيمة موقعها كنسق ابستيمي وسط الأنساق الثقافية المحددة لتمثلات وصور المجتمع عن ذاته وهويته ومستقبله ومشروعه.

1 ـ في الإشكال والمنهج والرؤية:
إذا كنا نعتقد أن الشكل هو نقطة الارتكاز التي دونها لا يتأتى ولوج فضاء الرواية، بمختلف أبعادها الإيديولوجية والرمزية، فان هذا الافتراض البنيوي لا يعني استبعاد هذه الأنساق، بقدر ما يحدد مسار المقاربة واولوياته. إننا ننطلق من مقاربة تفاعلية نسقية تسلم بتفاعل
واندغام الأنساق المحايثة والتداولية للنص، مما يشيد جدل توتراتها وأثارها المتبادلة، بحيث يكون وضع كل نسق محددا وفق شروط اقتصاد هذه الحركة، وهو ما ينفي وجود حظوة متعالية سابقة لنسق ما علي حساب الأنساق الاخرى، بعيدا عن حركة الآثار والتفاعلات المتبادلة.
بناء علي ذلك لا يمكن الزعم بدلالة ثابتة للنص، أو معني حقيقي تنحصر مهمة الباحث في العثور عليه.. إن النص يرشح بدلالات متعددة، تخضع لشبكة معقدة من العلاقات الظاهرة والمضمرة، وهذا ما يجعلنا ننظر الى الدلالة بوصفها سيرورة نصية تداولية، يتحكم فيها محفل الإنتاج ومحفل التلقي. ولكن عن أي دلالة نبحث؟
يتحدث تودوروف عن ثلاثة مظاهر للنص الأدبي، المظهر اللفظي والمظهر التركيبي والمظهر الدلالي. ويضيف الباحثان شميت و فيالا ثلاثة مظاهر أخرى، المظهر المادي والمظهر التداولي والمظهر الرمزي. في أي مستوي من هذه المستويات نبحث عن دلالة النص الروائي؟
إن هذه المستويات بتعدد مرجعياتها وتباين علاماتها، المنتمية الى مقولات مختلفة في الكيف وليس في الكم (شكلانية، جمالية، رمزية، أيديولوجية) هي ما يشيد دينامية النص التي تفعلها دينامية القراءة. وبالتالي فان عملنا لا يتوخى إثبات معني للنص أو العثور عليه وتفسيره وفق حقيقة برانية، وإنما ينصب أساسا علي رصد كيفية تشكل هذه الأنساق بتحديد جمالية وشعرية كل نسق وترهين تضميناته المحتملة، ثم الارتقاء بالتحليل في خطوة ثانية لكشف تفاعلاتها، وما ينتج عنها من تشاكلات وأطياف دلالية، رمزية ومعرفية.
استنادا الى هذه الافتراضات، نقارب الدلالة بوصفها سيرورة بناء مستمرة تخضع لشبكة من العلاقات النصية الدينامية، تسمها بطابع التحول والتعدد. غير أن أشكال الدلالة والمعني يسلمنا الى أشكال آخر، يرتبط بعلاقة الرواية بالعالم سواء سمي هذا العالم واقعا أو أيديولوجيا.
إن الروائي المعاصر ـ وكما بينت فرنسواز روسم ـ يشتغل علي الكلمات لا علي الأشياء، ذلك إن الرواية وان كانت تبطن رؤية للعالم والإنسان، وتتقاطع مع التاريخ والايدولوجيا، فان الروائي لا يمكن أن يعبر عن هذا العالم إلا بالانسحاب منه، وإعادة تشكيله وفق قوانين اللغة والجنس الأدبي.
هذا الأسلوب الجديد في الكتابة المتمثل في الوعي المتزايد بأهمية الرواية بوصفها اشتغالا علي اللغة، نجده حاضرا لدي سليم بركات الذي نأخذ متنه الروائي نموذجا للبحث والتحليل:
وأري المحاورات لائقة، من غير تعميم بالطبع بالرواية الواقعية، التي علي شخوصها إن يثرثروا علي سجيتهم كي يتماهوا مع واقعيتهم وأنا انفر من هذا الصنف.
فالأشخاص الواقعيون هم أكثر ثراء من أشخاص مكتوبين علي الورق واقعيا.. أريد أن اقرأ ـ واكتب ـ شخوصا لن التقيهم في حياتي قط، وان اقرأ ـ واكتب ـ وقائع لن تحدث قط... في الحقيقة إن القارئ ينصب لنفسه مكيدة منذ البداية، بمحاولاته البحث عن التقاطعات الواقعية والمتخيلة في الرواية.
تبعا لهذا الوعي الجديد لا تطمح الرواية الى عكس واقعي خارجي، أو نقل تجربة معاشة، بل تطمح الى الكشف عن إمكانات الكتابة الروائية بوصفها اشتغالا علي اللغة والتخييل. ولكن هل يفضي هذا الوعي الجديد الى اغتيال الواقع؟
إذا كان الروائي الجديد يدرك انه يشتغل علي الكلمات لا علي الأشياء و الوقائع فانه يدرك انه يعيش وسط عالم إشكالي ومتحول، يشكل له مصدر قلق محفز للكتاب، يقول: سليم بركات:
لا ابدأ رواية بلا إشكال، الحياة إشكال، الأمل إشكال كاليأس، الحضور والغياب إشكالان.
لذلك، علي الرغم من حرصنا علي المقاربة المحايثة لدلالة النص الروائي، فان هذا لا يمنعنا من رصد امتدادات هذه الدلالة في السياقات الثقافية المتنوعة التي تندمج فيها، وتتفاعل معها. إن الواقع يرتبط بسياقات متنوعة وأنساق متعددة، مما يدحض أي تصور جاهز له. وكما بين الباحثان شميت و فيالا أن الواقعي le reel مفهوم معقد مركب، يحيل علي سياقات متعددة ومتنوعة أهمها:
المرجع:le referent ويعني مجموع العناصر الخارجية التي لا يحيل عليها النص.
التواصل la communication: ويعني أن النص شكل من أشكال التواصل، يقيم علاقة بين الملتقي والمرسل.
أطراف التواصل: إن كل نص يصدر عن مرسل ويتوجه الى قارئ برسالة.
المناصات les intertextes : وتعني مجموع العلاقات التي يؤسسها النص مع نصوص اخري.
المعايير الجمالية les normes esthtiques: يتعلق الأمر بالمعايير البلاغية واللغوية والشعرية التي يخضع لها النص.
السياقات الاجتماعية والتاريخية: إن كل نص له مراجع تاريخية واجتماعية، تحدد موقعه في ثقافة خاصة.
بفعل تأثير هذه المحددات المتعددة تظل صورة الإحالات والسياقات في النص مشوشة وخاضعة لمنطق التوتر والجدل، وهو ما يفضي الى تنسيبها، إن المتلقي عندما يرهن علاقات الخطاب بالمرجع، يستند في ذلك الى تصوراته عن عالمه أي الى ما هو مشيد في ذهنه كأنموذج قياس للواقع أو خطاطة وبمعني آخر، السياق تشييد خطاطي.
في ظل هذه المفاهيم نسجل هذه الفرضيات كمنطلقات للقراءة:
إن النص الروائي دينامي ومتعدد المستويات.
إن الدلالة الروائية دينامية وذات طابع علائقي، عبر لساني.
إن الواقع بناء خطاطي.
وباستحضارنا لهذه الفرضيات النظرية، نسلم مبدئيا بإمكانية قراءة النص وفق مقاربات عديدة، تراعي طابع التعدد والتعقد في النص الأدبي. علي مستوي النموذج النظري يشكل المنظور المعرفي ـ بالنسبة لنا ـ المرتكز الأساس في قراءة متن سليم بركات. ينهض هذا النموذج علي اعتبار السردية أنموذجا للصياغة الذاتية وصياغة العالم ومن ثمة تتحدد مهمته في كشف الدور التشييدي للسردية في صياغة أنساق الفهم وإنتاج المعرفة بالذات والمحيط، للتفاعل مع العالم من اجل تحقيق سبل مشروع الذات.

2 ـ الرهانات:
الرهان العلمي: بالنظر الى راهن النقد العربي نلاحظ أن البحث في النص الروائي والسردي عموما، قد ظل رهين السرديات، وهو ما جعل هذا الإطار النظري يصل الى ما يشبه الأفق المسدود، وبالتالي أصبح في حاجة الى دماء جديدة لتجاوز افقه المحدود، وبث الحياة في أدواته واجراءته. لقد انغلقت السرديات علي نفسها في قضايا شكلية (السارد، الصيغة، الزمان....) تتعلق بتقنيات الخطاب، الى الحد الذي جعل احد أقطابها، وهو جيرار جينيت يصفها بالسرديات الحصرية.
في ظل هذا السياق، ظهرت تطلعات وجهود باحثين تدعو الى توسيع مجال البحث في السرديات بالخوض في قضايا ظلت مغيبة عنها، أو بالانفتاح علي نماذج أخرى. استجابة لهذه التحولات نطمح الى توسيع مجال البحث في السردية، بإثارة إشكال الدلالة في النص الروائي. كما نسعى الى تغيير وجهة البحث في دلالة النص الروائي التي ظلت رهينة مفاهيم التماثل والانكماش والإسقاط في السوسيولوجية التقليدية، حيث اقتصرت علي البحث في مضمون النص الروائي من منظور إيديولوجي خارجي يلغي أدبية النص، ويقترح تأويلات للنص بوصفه مماثلا لأبنية مجتمعية وسياسية.
الرهان المعرفي: الى جانب هذه التطلعات النقدية والاستطيقية، نطمح الى محاولة بلورة نموذج معرفي يبحث في الدور التشييدي للسردية، بوصفها سننا واصفة تطرح آليات معرفية تمكن الذات من أن تصير أكثر فهما لذاتها ومشروعها ومحيطها.
إن دراسة الدلالة في إطار هذا المقترح المعرفي ليست بالأمر الهين، ذلك إنها تستدعي مفاهيم متعددة، المعني والتأويل والفهم، وطرق اكتساب المعني وأوليات اشتغال الذهن، مما يجعلها تنفتح علي اتجاهات مختلفة سواء داخل العلم الواحد مثل اللسانيات والسرديات، وتخترق الحدود بين الاتجاهات والنظريات. ويوضح هذا التشعب والامتداد الوضع المتداخل للدلالة بين الاختصاصات المتعددة.
يفرض هذا الوضع المفارق علي الباحث مضاعفة المعرفة والتكوين، خاصة في العلوم المعرفية التي يتأسس عليها النقد المعرفي، من فلسفة وانثروبولوجية أدبية ومعرفية وعلم الاجتماع النفسي وعلم النفس المعرفي، ونظريات العماء والذكاء الاصطناعي.. وهي معرفة تحتاج الى بذل مجهودات مضاعفة للتمكن من أدواتها ومرجعياتها، والي تضافر جهود الباحثين، كل في اختصاصه لتبادل الخبرات والنتائج.
إن حافزنا الكامن وراء هذا الرهان المعرفي، هو حاجة النقد الى كشف الأنساق المعرفية والدلالية للرواية العربية، بحيث يتحول الى نمط للمعرفة يشارك في التشييد الاجتماعي Social Construction من منظور معرفي وعلمي، الى جانب الأنساق المجتمعية الأخرى، الفكرية والفلسفية والثقافية والإيديولوجية.

3. لماذا سليم بركات ؟
تتخذ هذه الرسالة من روايات سليم بركات فقهاء الظلام، الريش، و معسكرات الأبد مجالا للقراءة والتحليل، بغية التعرف علي منطق اشتغال الدلالة فيها، وأنساقها التخييلية والمعرفية. إن هذا النموذج الروائي غني من حيث الإمكانيات التخييلية والسردية. وبقدر ما يشكل هذا الثراء التخييلي تحديا واختبارا لأدوات ومسارات التحليل، لأنه يتوسل استراتيجيات نصية معقدة تحتفي بجمالية الإشكال واللغز والعماء. فانه يغري بالمغامرة لاستكشاف أطيافه الدلالية المحتجبة وراء الظلال والعتمات، ولكن العزاء هو لذة القراءة. الى جانب هذا المعطي النصي، تشكل روايات سليم بركات بؤرة تحول وتمفصل بارزة في متوالية الرواية العربية، بفضل اعتنائها الدقيق بالتخييل السردي. وتمثل هذه الخاصة ملمحا استطيقيا مميزا للروائي سليم بركات. فمنذ نصه الروائي الأول فقهاء الظلام ـ وفي ظل هيمنة النموذج الواقعي بكافة تجلياته ـ دشن هذا المسار الروائي الجديد الذي يولي الأهمية المركزية لمكون التخييل، يقول سليم بركات: اعني، إنني في اليوم الأول لجلوسي الى ورقة بيضاء كي اكتب الرواية، قررت خوضها بجسارة اليائس من واقع الرواية.. رواياتي صعبة، اعرف ذلك، فسيفساء مدروسة. اعرف ذلك، متقاطعة الواقع كلعبة بلا ميثاق. لو رغبت في سهل من السرد، وحيوات مبذولة في الشارع، كنت فحت علي نفسي، في الواقع الضحل للرواية العربية المحطمة الخيال والإشكال، سخاء من المديح والترجمة، أنا صعب، وكتابتي اشتغال قدري علي واشتغالي علي قدري.
لقد انتقل سليم بركات الى حقل الرواية العربية، بعد تجربة طويلة ومتفردة في حقل الشعر العربي الحديث، بهدف بعث دم جديد في شرايين الرواية العربية، بالمراهنة علي عناصر الخيال والإشكال والترميز.

ويمكن أن نختزل جمالية الشعرية الروائية عند سليم بركات في السنن التالية:

  • المزج بين ما هو واقعي وما هو تخييلي.
  • توظيف الخارق والعجيب: النبات يحاور النبات والطيور تحاور نفسها والإنسان، يتحول الى حيوان.
  • شخصيات مأزقي وغامضة تقع في المتاهة وتعيش وجودا إشكاليا.
  • استقطاب المثيولوجي والماورائي، بإثارة أسئلة الوجود حول النشأة والمصير والقدر، وتوظيف متخيل الموت والملائكة والعوالم الأخروية.
  • النزعة التأملية في مصائر الكائنات مما يجعل رواياته تنضح بالمعرفة والفكر، خاصة المعرفة المتصلة بعلوم الباطن والإلهيات والفلكيات.
  • استقطاب عناصر الجنون والهذيان والشك والحلم، مما يضفي علي عالمه الروائي طابع التشظي والتفكك والغموض.

كما يتضح من هذه السنن الاستيطيقية والموضوعاتية، يستلهم النص الروائي عند سليم بركات شعرية الغرابة، مما يحطم تقاليد السرد المعتادة لدي القارئ. إن هذا النموذج الروائي يتعمد التفرد عبر استلهام عناصر الخيال والإشكال والترميز، حيث يصهرها في كثافة شعرية مرهفة يتحول معها النص الى ارموزة مجازية تقذف بالقارئ في متاهات الملغز وفخاخ المعني.
تستدعي هذه الروائية المغايرة تجاوز القراءة العادية، وتدشين قراءة مختلفة قادرة علي استكشاف عوالمها الدلالية وأنساقها المعرفية.
ومن الاباب الموضوعية التي دفعتنا الى اختيار هذا النموذج الروائي، إهمال النقد وابتعاده عن هذه التجربة الروائية المتفردة. وقد عبر سليم بركات عن استيائه مما سماه بصمت النقد تجاه أعماله الروائية، يقول: لا أوهام لدي.. موت النقد الأدبي المتخصص أمر مفروغ منه، هنا الآن نقد انطباعي، صحافي إنشائي العبارة، يصلح لحال كل نص. وهو نقد لتصفية حسابات شخصية، ولتدبير علاقات. خائف مذعور من النص غير الكسول.. كلنا يطمح في قليل من الثناء كي يعرف انه في وضع المسؤولية أمام قلمه وحبره. الصمت اللامنصف، الراهن، يثير شعورا باللاجدوى والاكتئاب.
فهل آثار النقد الابتعاد عن سليم بركات لعماء متنه الروائي وتمنعه؟ إذ يفرض علي الناقد إعادة النظر في أطره وخطاطاته الجاهزة، والتسلح باستراتيجيات جديدة ذات كفاية استكشافية، لأنه يجد نفسه أمام عالم روائي مخالف لما هو سائد ومألوف.

4 ـ معمارية البحث:
يتضمن البحث ثلاثة أبواب، الباب الأول والثاني نظريان، والباب الثالث تطبيقي. اهتم الباب الأول والثاني برصد الإشكالات النظرية التي يطرحها مفهوم الدلالة في مرجعياته العلمية والمعرفية، لتتبع تحولاته وابدالاته، من اجل صياغة تصورنا للدلالة الروائية.
في الفصل الأول تركز اهتمامنا علي تفكيك الوضع الابستيمولوجي للدلالة، من خلال مقاربة مقارنة تستقرئ أسسه النظرية والتصورية في البنيوية وما بعد البنيوية. الشيء الذي مكننا من رصد التحولات التي طرأت علي مفهوم الدلالة، حيث انتقل من المقاربة المحايثة الى المقاربة عبر اللسانية التي تركز علي الطابع الدينامي والسياقي للدليل الذي يتجلى في مفاهيم التعددية والإنتاجية والتناص والاختلاف والدلالية.
بعد هذا الاستقراء لأبعاد مفهوم الدلالة في نماذج نظرية مختلفة (اللسانيات، السيميولوجيا، نظرية النص، الشكلانية، البنيوية، ما بعد البنيوية)، وتمحيص حدود وفعاليات كل نموذج، خلصنا الى اعتبار الدلالة نسقا للترميز وسنن تمفصل.
اهتم الفصل الثاني باستقصاء الأسس النظرية والمفاهيم المؤطرة لمفهوم التعددية، سواء المتعلقة بدينامية النص أو دينامية القراءة، واستنباط العوامل المؤسسة لهذه التعددية، باعتبارها ظاهرة دلالية وتداولية. كيف يتحقق تعدد المعني؟ هل يتعلق الأمر بظاهرة لسانية؟ أم بسيرورة سيميائية تداولية؟
وبالنتيجة، انكب الفصل الثالث علي تفكيك الاستراتيجيات التأويلية التي يطرحها إشكال التعددية. هل يتعلق الأمر بتعددية محدودة أم لا محدودة؟ وما هو رهان التأويل؟ هل هو بنينة وضبط هذه التعددية أم مضاعفتها وتتبع سيرورة آثارها اللانهائية؟ هكذا عرضنا لموقفين متعارضين من التعددية هما التأويل المتناهي والتأويل اللامتناهي، وكشفنا المرجعيات المؤسسة لكل برنامج والغايات المحددة لرهاناته، وخلصنا الى تحديد تصورنا لرهان التأويل باعتباره نشاطا سيميائيا تتحكم فيه سيرورة بنائه لموضوعه، ويشكل النص وسيطا محددا لحركة وغاية هذه السيرورة.
في الباب الثاني انتقلنا مما هو ابستيمولوجي، الى تخصيص مفهوم الدلالة الروائية في السرديات ونظريات الرواية. حيث عرضنا في الفصل الأول منه لوضع الدلالة في السرديات البنيوية والسيميوطيقا السردية، الذي لا يخرج عن مفهوم المحايثة، ثم عرجنا علي مشاريع التوسيع التي فتحت السرديات علي ترهينات تداولية مستقاة من السوسيونقد والسوسيولسانيات ونظرية القراءة والتلقي. ثم عرضنا لأسس وغايات موقفنا الذي يطرح تصورا معرفيا للسردية يستلهم منجزات العلوم المعرفية، الهيرمينوطيقا، الانثروبولوجية الأدبية والمعرفية، علم النفس المعرفي ونظرية العماء، إضافة الى السرديات باعتبارها نقطة الانطلاق.
وفي الفصل الثاني من هذا الباب حددنا سمات وطبيعة الدلالة الروائية، انطلاقا من نظريات الرواية التي مكنتنا من تحديد معالم وابدالات الابستيمي الروائي، ومن السيميائية النصية التي مكنتنا من تحديد العلامات والأنساق المشيدة للمتخيل الروائي. وخلصنا الى اعتبار الدلالة الروائية ظاهرة دينامية ذات طابع علائقي، يتفاعل فيها ما هو نصي وتناصي ومعرفي وثقافي.
في الباب الثالث انتقلنا الى الإنجاز، لرصد خرائطية وتشكلات الدلالة في المتن الروائي لسليم بركات. يقارب الفصل الأول منه بنية المحكي، حيث نظرنا الى النص بوصفه تشغيلا للغة، ومن ثمة فان دراسته تتم عبر كشف بنيته السردية والنماذج البنيوية المؤسسة للمحكي التي تعكس اختياراته واستراتيجياته في البناء السردي. في الفصل الثاني من هذا الباب، تركز الاهتمام علي استنباط الأنساق الدلالية التي تشيد المتخيل الروائي للمتن. في مرحلة تفكيكية أولي، استجلينا سنن وعلامات كل نسق علي حدة، وفي مرحلة تركيبية ثانية، كشفنا التشاكلات الدلالية التي تنتظمها.
وتوسع الفصل الثالث في إبراز التشييدي المعرفي للسردية، حيث رصد عمليات البنينة والترميز التي تشكل في مجموعها، ما يسمي في علم النفس المعرفي بالتأويل السردي الذي يمكن الذات من فهم ذاتها وتأويل الإشكال لتفعيل مشروعها.
واستكمالا لنتائج ومعطيات الفصل السابق، اهتم الفصل الرابع باستقراء مفاهيم ومبادئ الابستيمي الروائي الذي يصوغه المحكي، لتحديد طبيعة وشكل النسق المعرفي المبثوث في نسيج المحكي، من خلال مقولتي العماء والانتظام، ثم انصب البحث عن استنباط آليات التنظيم ـ علي مستوي أفقي وعمودي ـ التي تفسر قوانين العماء، الشيء الذي مكننا من رصد دلالاته وإيحاءاته وانتظاماته.
وفي الخاتمة تم تركيب الإشكالات والقضايا التي اهتم البحث بتمحيصها وتفكيكها، واستخلاص النتائج والأهداف التي تطلع الى تحقيقها.

المصدر: جريدة
السفير - بيروت