إذا كان الشعرُ هو الذي جسّدَ، حتى الآن، الملامحَ الأولى والنهائية للتفكير، حسب قول هربرت ريد، فإن سليم بركات يكاد يكون، في شعره خصوصاً، وكتاباته الروائية عموماً، قد جسّدَ الملامح الأولى والقصوى للذاكرة والطفولة والمكان.

هذه الملامح تتمظهر لديه في لغة تركيبية مهندسة بإتقان! لها عنفوان التحدّي وشموخ الجبال التي قاتل، وما يزال يقاتلُ أكرادها من أجل حرّيتهم واستقلالهم.

كما أنَّ لها (أي تلك اللغة) رائحة التاريخ الإنساني المعجون بدفء الجسد والأنوثة والورد والبراري والمواويل الريفية الحزينة لليتامى والمشردين أو الغائبين قسراً عن وجودهم وآدميتهم المسلوبة. سليم بركات شاعراً وروائياً، لا يقرأ، على كلّ حال، برخاء وسهولة على أسرّة من نعيم، بل لا بدَّ لقارئه أن يكون مُلماً بكل تلك الملاحم التي يختزنها كالبرق في قصائده، أردتُ، ملاحم الجبال والسهول والنجوم والأبطال والضحايا في الميثولوجيات القديمة لبلاد ما بين النّهرين وشواطئ المتوسط، وأيضاً في ميثولوجيات الروح والأشياء في انكساراتها الشديدة وتحوّلاتها في ديمومة لا تنتهي.

كما أن سليم بركات، إلى جانب هذا كلّه لا يركن في أي نصٍّ من نصوصه إلى لغة واحدة، تعرض، أو تشرّح تلك الملاحم بشفرات، رؤى حادّة، تكرّر نفسها بشكل ممل، عاجز ومشلول، بل إنّه لا يفتأ يجدّد أبداً لغتَهُ تلك، وكأنّه في صراع لا يرحم مع ذاته - أدوات مخيلته التي تحتوي على آلاف السنين من عمر أجداده وثعالبه وجنادبه الحديدية.

وهذا ما يزيد من صعوبة قراءة سليم بركات؛ لكن في الوقت نفسه ما يجعله مبدعاً مختلفاً وجذّاباً إلى أبعد الحدود.

أراني كلما قرأت نصّاً له، مضطراً إلى أن أحاط بقواميس مختلفة، كـ: قواميس الطير والنبات والحيوان والنجوم والإسطرلاب والسحر والكيمياء والبلاغة الجاحظية وسخريتها، لكن أيضاً بلاغة الأشياء اليومية في تعايشها مع الكائن - الكون أو اصطدامها الصارخ به، أو العكس.

من هذا كله، فإن صعوبة قراءة سليم بركات وفهمه باطناً وشكلاً لا تكمن في لغته المتفرّدة فحسب، بل إنها تكمن هناك، في رموزه وإشاراته السّحرية اللاواعية، وقبل كل شئ في خياله الجامع الذي يجرف أمامه كلّ منطقٍ ومعقولية وأيديولوجيات وقوالب لغوية - شكلية جاهزة أبداً للكسالى والمقلّدين الكثر.

أخيراً أودُّ أن أشير إلى أن سليم بركات في رحلته السيزيفية الطويلة في رحاب الأدب والشعر والرواية أصبح محط قراء عشاق كثيرين ما زالو يؤمنون بالكتابة كمتعة وشحذٍ للنفوس وللحواس وتخليصٍ للجمال والحرية والحياة من تفاهة الواقع وبراثن الصدأ الفكري المزمن؛ وهذا ما يجعله (أي سليم بركات) بالمقابل أيضاً يصبحُ محطّ أنظار حسّاد كثيرين هنا وهناك، لم يخل منهم عصر من العصور، على كل حال، في أي مكان على وجه هذه الأرض.

فتحيّة له، مبدعاً، خارجاً على قانون القبيلة الأدبية، والأعراف البالية، وأحد حافظي سرّ المخيلة البشرية اللا متناهية.

عن (القصيدة) /1