صبحي حديدي
(سوريا/ باريس)

I

القامشلي مدينة صغيرة تقع في أقصي الشمال الشرقي من سورية، تأسّست في عشرينيات هذا القرن لكي تكون محطة زراعية تخدم مواسم زراعة وحصاد القمح والشعير وبعض القطن، وسرعان ما أصبحت أبرز مدن وبلدات منطقة (الجزيرة)، التي سُمّيت هكذا بسبب وقوع سهولها المنبسطة الخصبة بين نهرَي الفرات ودجلة. والموقع الجغرافي لهذه المنطقة يفسّر تنوّعها الإنساني والثقافي واللغوي والإثني: من الشمال تحدّها جبال طوروس، ومن الشرق كردستان والعراق، ومن الجنوب بادية الشام وتدمر. وبالمعني السوسيولوجي والاقتصادي كانت علاقة البشر مع المواسم الزراعية قد جعلت منطقة (الجزيرة)، وبالتالي مدينة القامشلي بوجه خاصّ، تنفرد عن بقية المناطق السورية في أنّ معظم سكانها من الوافدين الذين قَدِموا من مناطق الداخل السوري (دمشق وحلب) بحثاً عن العمل الموسمي ثم استقرّوا، أو من المهاجرين الذين توافدوا من تركيا والعراق وأرمينيا هرباً من الاضطهاد العرقي أو السياسي.

ذلك جعل القامشلي موطناً لأقوام من الأكراد واليزيديين والأرمن والسريان والآشوريين والبدو الرحّل والعشائر المستوطنة الإقطاعية، الأمر الذي استدعي تعدّدية أخري علي صعيد اللغات والأديان والمذاهب والتراثات والأساطير. وهذا الموقع الفريد لمنطقة (الجزيرة) يذكّر، علي نحو مدهش، بالأبيات التالية من الشاعر اليوناني كوستيس بالاماس:


ذلك المثمّن القائم علي هندسة مربّعة، والذي قطنه محاربون قدماء
كان يتحكّم بالسهول، مثل ذروة مجلّلة بمشيب ثلجي معمّر
من بابل إلي سورية، ومن جبال طوروس إلي لبنان،
من قلاع طرسوس إلي خلافات بغداد. (1)


في القامشلي ولد سليم بركات سنة 1951، وفيها ترعرع ودرس وحصل علي الشهادة الثانوية وانتسب إلي جامعة دمشق ـ قسم اللغة العربية وآدابها في العام 1970، ثم استقرّ نهائياً في العاصمة السورية بعد انتقال أفراد أسرته إليها. وفي عام 1971، إذا لم تخنّي الذاكرة، نشر بركات أولي قصائده في مجلة (الطليعة)، الأسبوعية السورية التي كانت تضمّ قسماً ثقافياً دسماً وحداثياً، استقطب الأسماء الشابّة بصفة خاصّة. آنذاك، كان المشهد الشعري السوري يضمّ أمثال علي الجندي وممدوح عدوان وعلي كنعان ومحمود السيّد ومحمد عمران في صفوف الشعراء الأكبر سنّاً وتجربة ونتاجاً، (المكرّسين) لهذا السبب الجمالي أو ذاك السياسي؛ وكان يضمّ أمثال نزيه أبو عفش وعادل محمود وبندر عبد الحميد وإبراهيم الجرادي ومحمد مصطفي درويش ومحمد منذر المصري في صفوف الشعراء الأصغر سنّاً وتجربة واندماجاً في المؤسسة.

في خلفية هذا المشهد الأجيالي، إذا صحّ القول، كانت أشكال كتابة الشعر تخضع لضغوطات جمالية (صامتة، بمعني ما) من المعلّم الكبير محمد الماغوط، الذي أصدر مجموعته الشعرية (الفرح ليس مهنتي) ثم انزوي في رئاسة تحرير مجلة مغمورة اسمها (الشرطة)؛ وضغوطات أخري غير صامتة مارستها قصائد شعراء قصيدة النثر السورية، من أمثال سليمان عوّاد، سنية صالح، حامد بدرخان، وإسماعيل عامود. كان شكل التفعيلة هو السيّد بصفة إجمالية، ولكنّ (التعايش السلمي) مع أشكال الكتابة الشعرية الأخرى (وقصيدة النثر بصفة خاصّة) كان سيّد اللعبة في الآن ذاته، بدليل الترحيب الواضح بنشر نصوص الشعراء الشباب في منابر رسمية مثل مجلة (الطليعة) وملحق (الثورة) الأدبي، وشهرية (الموقف الأدبي) الصادرة عن اتحاد الكتّاب. آنذاك، أيضاً، اخترق سليم بركات هذا السطح الراكد، الرتيب، المتوافق علي تعايش سلمي بين الأجيال والأشكال والموضوعات.

وإذا لم تخنّي الذاكرة، هنا أيضاً، كانت قصيدة (نقابة الأنساب) هي الكتلة الثقيلة التي سقطت بغتة علي السطح الراكد وأحدثت ارتجاجاً عنيفاً كان من المحتّم أن يصغي إليه الجميع:


(هذا وجهي العصريُ)
أنا آتٍ
فليرقُبْ كلّ مليكٍ شحّاذ في أرض الردّة من أين تجيء الطعناتْ.
عبر تخوم الغربة في أجفان صبايا الله وعبر الساقيةِ
أختصرُ الزمن الخائف في عين النسوةِ، أزجي الزمن القرشيّ إليها
لا الدمع ونزف الفقراء ينيخ الرّحلَ، طوافي
خلف قوافل زغب.. فليرقُب
كلّ مليكٍ شحّاذ في أرض الردّة من أين تجيء الطعناتْ.
(هذا وجهي العصري)
بلا نعلٍ أرحلُ نحو بلاد الفرس وأمصار الروم وأرفع وجهي للظلمات أسائلها
وأسائل رجليّ الداميتين عن الأرض العمياء وهمس خفافيش سمائي
وبكلّ مثولي بين يد الغربة أصرخُ:
تصهل أفراس الحرب علي أبواب الكعبة يا أهل الشام ووحدي
أبسط للملتجئين إلي ظلّ الأحجار السوداء ردائي
أتقطّع حين ينوس الموت علي وجه الحُجّاج،
وبين الصدر المُشرَع للطعنة والرمح الظامي أتخثّرُ،
أزحمُ ملكوتَ الرهبة صَدْعاً يفصل عرباتِ الزمن اللاهث قُدّامي وورائي
أتصاعدُ في أنفاس الكعبة جمراً تتنفسه الصحراء فتحبو
حاملةً هزج قبائلها نحو قوافي الحرب؛ أزنّرُ نَسَبَ الراجل بالفارس، والهارب بالثابت في الحومة حتى يرخي النخلُ النادب جنحَ الدمع عليّ..
أبايع في حمحمة الأرماح لوائي
أضرب شرقاً، غرباً، ضرب اليائس.. يسقط وجهي الأوّلْ
أضرب.. يسقط وجهي الثاني
أتراجع بالحُجّاج إلي عرفاتَ غباراً يتكسر تحت حوافر ريح الوهن القاصمْ
ثمّ نموت لنحلمْ
ثم نقوم لنحلمْ
ثم نفصّد أوردةً كي نلمح في الدمّ مجيء الأشجار مع اليوم التالي عاقدةً
فرحَ الأنهار علي الهامات عمائمْ. (2)


كان الجديد واضحاً وطاغياً وآسراً، وكان صارخاً أيضاً: في هذه الفصحى الحارّة النزقة المصفّاة، التي لا ترجّع أصداء البيان العربي التقليدي ولا المجاز البلاغي المعتاد؛ وفي هذه البُنية الإيقاعية المتسارعة وفق تخطيطات متقطّعة ومتّصلة في آن؛ وفي هذه المرجعية التاريخية والتراثية الشفيفة بقدر امتزاجها الكثيف؛ وفي هذا التصاعد الدرامي لضمير المتكلّم المفرد، الأشبه بـ (أنا) جمعية لا تكشف عن تعدديتها إلا في الخاتمة المفاجئة؛ وفي هذا التقسيم البارع للسطور الشعرية، والتغييب الذكيّ للقافية، والهندسة السلسة للعلاقات التركيبية بين الجملة الإسمية والجملة الفعلية.

كان سليم بركات في التاسعة عشرة من عمره حين كتب هذه القصيدة، وكان الحضور الإنساني لهذا الفتي الكردي القادم من أقصي الشمال الشرقي (بجسده النحيل، وقسمات وجهه الطفولي، والدهشة الذاهلة التي لا تفارق محيّاه، والبراءة الطافحة التي لم تكن تطمس بريق الذكاء والتوقّد)، قد بدأ يمارس فتنة غير مألوفة في الأوساط الأدبية السورية مطلع السبعينيات، سرعان ما انقلبت إلي افتتان بالقصائد اللاحقة التي سينشرها بركات في الدوريات السورية: (مبعوث الفراشات)، (قنصل الأطفال)، (المطالبة بجسد فراشة غريبة). ولن يطول الزمن حتى تضيق العاصمة السورية بقلق هذا الـ (رامبو) الكردي المتمرّد الفاتن، فيغادر إلي بيروت باحثاً عن الحرّية الشخصية أوّلاً، والهامش الحرّ الذي سيتيح له نشر قصائده ذات الموضوع الكردي الصريح: (دينوكا بريفا، تعالي إلي طعنة هادئة)، (الكواكب المهرولة صوب الجبل)، (أنا الخليفة لا حاشية لي)، وهي القصائد التي ستشكّل العماد الأهمّ في مجموعته الشعرية الأولي ذات العنوان الطويل وغير المألوف:
(كلّ داخل سيهتف لأجلي وكلّ خارج أيضاً) (1973).

وكما أحدثت قصيدة (نقابة الأنساب) صدمة بهيجة في دمشق، كذلك أحدث نشر قصيدة (دينوكا بريفا، تعالي إلي طعنة هادئة) صدمة مماثلة، أكثر تعقيداً ودلالة في الواقع، حين نُشرت للمرّة الأولي في مجلة (مواقف) سنة.1972 كانت القصيدة تطرح اسم سليم بركات بقوّة، وترشق الماء البارد في وجه أعراف الكتابة الشعرية العربية في قلب بيروت، عاصمة الحداثات العربية، وتكرّس الشاعر ناطقاً بليغاً (بالفصحى الجبّارة غير المألوفة!) باسم الموضوع الكردي، في التاريخ والجغرافيا والحكاية والأسطورة. آنذاك، لم يخف علي أحد، وفي طليعتهم أدونيس رئيس تحرير (مواقف) الذي سارع إلي احتضان القصيدة مثل مجموعة بركات الأولي، أنّ هذا الصوت ليس جديداً فحسب، بل هو مباغـت وانشقاقي واختراقي.

وكانـت القصيدة قد أحكمت شـدّ الروابط بين الحكاية والفانتازيا؛ بين الوقائع المادّية ومحفوراتها السرّية في باطن الوعي؛ بين التجسيدات البدئية لما يجري علي سطح المحاكاة الطبيعية، والتصوير البصري التشكيلي الآسر؛ بين المكان بوصفه أكثر من مجرّد كيان جغرافي معرّف أو قابل للتعريف، وبين المكان ذاته بوصفه موقع التنقيب عن الاستعارة المفتوحة، عن الهاوية التي تتقلّب فيها حكايات البشر (الكرد والبداة والآشوريين والشركس)، وحكايات الحيوان (الذئاب والنعاج والكلاب السلوقية وبنات آوي)، وحكايات الطير (الكركي، الزرزور، الحجل)، وحكايات النبات (السرخس، الخزامى، العنّاب)، هذه التي تأتلف مراراً لتشكّل حكاية واحدة حاشدة لأسطورة تنفجر بعنف، في اللغة وخارجها، وفي الصورة وأعلي منها، وفي الإيقاع المنتظم والإيقاع المتفتّت.

وهذه القصيدة تسجّل، أيضا، أوّل أمثلة استخدام سليم بركات للنثر في قصيدة تواصل الاعتماد علي التفعيلة، وإنْ كانت تلجأ أيضاً إلي (تذويب) السطر الشعري المستقلّ عن طريق إدخاله في مقاطع تدويرية طويلة. ولعلّ بين أفضل ما أنتجته الكتابة الشعرية العربية المعاصرة التي تعتمد النثر، ذلك الاستهلال الأخّاذ الذي يفتتح القصيدة:

عندما تنحدر قطعان الذئاب من الشمال وهي تجرّ مؤخراتها فوق الثلج وتعوي فتشتعل الحظائر المقفلة، وحناجر الكلاب، أسمع حشرجة دينوكا.

في حقول البطيخ الأحمر، المحيطة بالقرية، كانت السماء تتناثر كاشفة عن فراغ مسقوف بخيوط العناكب وقبعات الدرك، حيث تخرج دينوكا عارية تسوق قطيعاً من بنات آوي إلي جهة أخري خالية من الشظايا.

II

في قصائد مجموعاته اللاحقة سوف يواصل سليم بركات بحثه المديد (الشاقّ والمدهش) عن توازن الأنواع، في المساحة الواسعة من حقول التنويع التي توفّرها ديناميات الشكل الأدبي. في قصيدة (قنصل الأطفال) (المجموعة الأولي) جرّب اجتراح نسق شعري تركيبي يعتمد إيقاعات الجاز والتتابع السيمفوني في آن معاً. وفي (أقتلوا روناشتا) (مجموعة (هكذا أبعثر موسيسانا)، 1975) اعتمد المشهدية المسرحية، والكورس، والمرونة النغمية للإيحاء بالأجواء الاحتفالية والرثائية والطقسية. وفي (الفصيلة المعدنية) (المجموعة ذاتها) قارب النثر من جديد، وإنْ كان قد فصل المقطعَين النثريَين عن جسم القصيدة بوسيلة منحهما عنوانَين مستقلّيَن: (سيناريو للشجر)، و(سيناريو للثلج). وفي (البراري) و(فراشات للعواصم) (مجموعة (للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك)، 1977) حاول تقديم الجملة الشعرية التي تكسر علامات الوقف والترتيب الطباعي للسطر الشعري، وترفد التشكيل الهندسي للصفحة بتفصيلات ملحمية وتغريب لفظي ومقاطع متجاورة محاطة بأشكال هندسية. كذلك تسجّل هذه القصيدة غنائية طافحة طارئة علي أسلوبية بركات، ومَيْلٌ إلي تشديد القافية، وإلي الإيجاز المقطعي والتكثيف اللفظي:


للشهداءِ
أنثر قلبي كفراشاتٍ
وأقود إلي أعشاش الماءِ
كبدي،
وعصافير دمشقٍ، وسمائي
وأهرول بين الأعشاش لأمسك موجاً،
أو عاصمة،
وأهرول بين الأعشاش لأمحو
هذا الزبد العربي عن الأسماءِ.

كلّ شهيدٍ يتقدّمني الآن،
وللشهداءِ
أنثر قلبي كفراشاتٍ
وأقول: انكسري يا أعلامُ وغيبي
يا قصبات النصر المترعِ
بالأظلاف وبالطيبِ
ولينطلق الأمراءُ إلي نصر أكثر مهزلةً،
ولينطلق السفهاء... سأعلو
نزقاً كالغزو علي واجهة الصحراءِِ (3)

وفي مجموعته (الجمهرات: في شؤون الدم المهرّج والأعمدة وهبوب الصلصال) (1979قدّم سليم بركات القصيدة الواحدة الطويلة التي اعتمدت علي شكل الكتابة النثرية، وتنويع المقاطع بين الفقرة الطويلة المدوّرة والسطر الشعري القصير، وتنويع الحرف بين أبيض وأسود، واستخدام الهوامش التي تحيل علي ملاحق القصيدة (البغل الأعمى، الحدأة، بنات آوي، بقرات السماء، العرائس، الأدراج)، كما اختتم القصيدة بتسعة أناشيد معتمدة علي التفعيلة، متفاوتة الحجوم، مشتركة في شحنتها الغنائية العالية ونبرتها الرثائية وبنائها الإيقاعي الرهيف. وفي هذه القصيدة الطويلة اتضحت أكثر فأكثر طاقات بركات اللغوية والتصويرية، وبدا أنّ لا حدود لعدّته التخييلية في توليد وشائج بالغة التعقيد بين الصورة البصرية والصورة الذهنية، وبين الدلالة القاموسية والدلالة المجازية، وبين مختلف طرائق حشد المعني وتنظيم مستويات استقباله.

في (الكراكي) (1981)، وهي أيضاً قصيدة واحدة طويلة من فصلين، جرّب بركات كتابة نصّ شعري سردي الطابع، روي فيه حكاية ديلانا وديرام (النموذج الكردي من فولكلور حكاية العشق الثنائي: قيس وليلي، جميل وبثينة...). في الفصل الثاني القصير قدّم بركات عدداً من الـ (تعريفات) للكائن الآدمي (ديلانا وديرام) وللحيوان (التَيْتَل، الوَشَق، السلوقي) وللطير (الهدهد، البشروش، السنجاب). بعد سنتين سوف يصدر بركات مجموعته السادسة (بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح)، وسوف يضمنّها قصيدته البديعة (فهرست الكائن) التي ستواصل تراث (تعريف) الكائنات الحيّة، وسوف تمنحنا تلك الفرصة البهيجة في استعادة أدب الحيوان العريق، والإحساس بموضوعات الطبيعة كأشياء مشاهدة ومُعاشة من الداخل وليس كمُدْرَكات ذهنية مفهومية. وفي العديد من الحوارات الصحفية أعتبر بركات أنّ الحيوان هو الحرية المتماهية علي نحو مطلق مع الغريزة، وأنه هو (اللادنس)، (الممتلئ بعافية الدور الأعمى الأكثر جمالاً).

وفي (فهرست الكائن) نقع علي وصف للفراشة، والفقمة، والُحباحب، والحجل، والقطاة، واللقلق، والحنكليس، والخُلْد، والعنكبوت، والحلزون، والديك، والزيز، والطاووس، والفهد، والعصفور، واليعسوب، والخفاش، والثعلب، والحمار، والغراب، والنسر. وفي وصف هذا الطائر الأخير يقول بركات:

أهو وصيّ الأقاصي يدوّن مديح الأقاصي، أم سَهرُ الريش علي حَجَر المكان؟ لا يا سهر الريش، لا واسعٌ أو مديدٌ إن تراءي من جناحٍ؛ لا جناحٌ لو لم يفق الواسعُ المديد. وأنتَ، عالياً، علي أيّ حال، تغزل الخيالات، وفي ظلّك يتماوج الصلب. مُره، واخفقْ كنبضة في الغد العالي، غد العاصفة وحدها آن تقرع الفراغ القديم.


مُرّ، لا:
فليمرّ الفضاء الحيران في ظلّك المحيّر،
وليخلع المرئي مهاميز عصيانه. (4)

قصيدة (حديد)، في المجموعة نفسها، مؤرّخة في (نيقوسيا، شباط ـ آذار 1983)، وهي تدشّن خروج سليم بركات من بيروت إثر الاجتياح الإسرائيلي لعام 1982 وترحيل الفلسطينيين من لبنان. وكان بركات قد ارتبط بمؤسسات المقاومة الفلسطينية في وقت مبكّر من إقامته في لبنان، وكتب يوميات بعنوان (كنيسة المحارب) (1976) يصف فيها حرب الجبل، وتعاون علي نحو وثيق مع محمود درويش في فصلية الكرمل)، ومع دار (العودة) للنشر، ودار (النورس) لنشر أدب الأطفال. ولعلّ بين أجمل قصائد بركات تلك التي يرثي فيها صديقه طلال رحمة، الذي استشهد في حرب الجبل.

(حديد)، إذن، هي أولي قصائد سليم بركات بعد استقراره في نيقوسيا، سكرتيراً لتحرير فصلية (الكرمل). وهي ترتدي أهمية خاصة في تاريخه الأسلوبي، لأنها أوّلاً تمثّل نوعاً من الارتداد الصريح (والعنيف ربما) إلي شكل التفعيلة الذي كان بركات قد أقلع عنه بصفة شبه تامّة؛ ولأنها، ثانياً، تمثّل مزيجاً ثلاثياً يتوازن فيه الموضوع الغنائي والرثائي والملحمي والسِيَري والتاريخي، علي نحو طارئ لم يسبق لبركات أن قاربه في هذا المستوي الرفيع من التكافؤ والتشابك والمتانة؛ ولأنها، ثالثاً، كانت تنذر بما ستكون عليه موضوعات قصائده اللاحقة، خصوصاً في التمثيل الميتافيزيقي لتفاصيل إقامته في المكان الجديد، كما في قصائد (منزل يعبث بالممرات) و(منعطفات. ظهيرة من ريش. دهاقنة يصفون الليل. غبار مسحور، وغَدٌ كالعدّاء يتهيأ لأزقّة الغيب).

قصائد مجموعته السابعة (البازيار) (1991) سوف تعكس عودته إلي نوع من السكينة الأسلوبية، والتأمّل الأكثر هدوءاً في التاريخ الشخصي والذاكرة الجمعية والمحيط الجغرافي، وسيكتب عن نفسه (في (أسري يتقاسمون الكنوز) و(تدابير عائلية))، وعن قومه الأكراد (في (مهاباد))، وعن صديقه محمود درويش (في (محمود درويش: مجازفة تصويرية)). وفي هذه القصيدة الأخيرة رسم بركات تفصيلات المكان في بورتريه من علامات ووحدات رهيفة ومتناهية الدقّة، تتناوب في التعيين والتجريد أثناء صياغتها لترتيب جديد من العلامات سرعان ما ينفكّ عن الانطباعات المألوفة التي تسندها اللغة إلي العناصر، فتتحوّل سيرورة الوصف إلي ما يشبه الرسم التنقيطي الشفيف لصاحب المكان (محمود درويش). المحبرة حمّي ذات مكاييل يندلق منها الصعتر، قربها تتعارك التواريخ كرعاة تداخلت قطعانهم، والغرف تتناظر، والرفوف الثقيلة تسهل خلسة عبور الكلمات من كتاب إلي كتاب، إلي أن تسير خاتمة القصيدة هكذا:

ما المكانُ الأسيرُ
حين تأخذُ في يدكَ الريحَ صوب مفاتيحها؟
ما الصدى؟ ما الحكاية، ما نزفها؟
ما الأنين الذي يتهادى بسلطانه في هوي الحبر؟ نهبٌ صغيرُ
يخبّئ للورد رائحة البُنّ في سهر قاد هذي الحديقةْ
إلي حيث يشكو الصباحُ
أنّه لم ينم في يديك اللتين اغتلى فيهما ذهبٌ لم ينَمْ
فأعدتَ الحديقهْ
إلي وَرْدها، وسرقتَ من العتبات الرقيقهْ
شعاعاً له قسمات المكان، وأرّختَ للترفِ
بالذي أسَرَتكَ البراعم في ظنّها، أيّ ظنّ
سيلقيكَ في شُبُهات من السعف
كي يري في أعاليه أنك أشفقتَ أن تنثر الريحُ أكبادها في يديكْ
فآويتها، والتجأتَ إليكْ؟
أيّ ظنّ سيأخذ وسعكَ؟ برقٌ
علي زنبق أو عسلْ
يتلمّس إنشاده ويغيرُ عليكْ
بشقيقاته يتهتكن مثل القُبلْ
فانتهبْ ما تشاء. المكائدُ من ألق، والحرير الأمينُ
يعيرك كتّانه،
والهبوب الذي أنت فيه هبوب السنونو. (5)

III

في برهة شديدة الخصوصية من مساره الأدبي، والشعري بصفة خاصة، كتب الشاعر والناقد الإنكليزي صمويل تايلور كولريدج (1772 ـ 4183):


ما من أحد يستطيع القفز فوق ظلّه
ولكن الشعراء يقفزون فوق الموت.


كان ذاك عام 1802، قبيل وقت قصير من اعتراف كولريدج باحتباس الشعر في داخله، وما يعنيه ذلك من فقدانه لواحد من أمضي الأسلحة لمواجهة حالة حادة من تضخم الإحساس بالموت. ولقد قدّم، في عمله النثري الفاتن (دفتر هوامش)، جملة تأملات ثمينة حول رغبة الشاعر في أن يموت مع موت الشعر، وأن (يذهب إلي ما بعد الكلمات، حيث الظلمة نور والسكينة احتفال).

سليم بركات في قصيدته (تصانيف النهب)، والتي تفتتح مجموعته الشعرية الثامنة (طيش الياقوت)، يباشر طوراً من تجربة الحياة مع الشعر، هو عكس التجربة التي وصفها كولريدج:
إنه يدشّن العقد الثالث من تجربته الشعرية بأكثر من محور قَطْع واحد مع أعراف العقدين السابقين، ثم يتأبط الموت بعد أن جاوره وجرّده من أية رهبة ميتافيزيقية، ويقفزان معاً فوق ظلّ مراوغ لا يليق إلا بالشاعر في لحظة شديدة الخصوصية من مساره الشعري.

بمعني آخر، في هذه القصيدة (ثمّ في القصيدتين التاليتين (الأقفال) و(استطراد في سياق مختزل)، خصوصاً وأن موضوعة الموت تطغي علي المجموعة بأسرها) يبدو سليم بركات وكأنه يدخل في جهاد مرير مزدوج مع النفس الشاعرة القديمة ومع الأعراف الشعرية السائدة، سواء لجهة تطوير التجربة الفردية من حيث انتهت في آخر مجموعة شعرية، أو لجهة مخالفة الأساليب والخيارات التعبيرية المحيطة التي استقرت نسبياً وحظيت بقدر كبير من الإجماع علي صعيد الكتابة والذائقة والتغطية النقدية. إنه أشبه بمن يجاهد لكي يكتب شعراً لا يذكّر بسليم بركات بقدر ما يحرّض علي معارضته، ولا يستدعي القراءة الآمنة بقدر ما يدفع إلي أخري منفردة محفوفة بالمشاق والعسر، ولا يستكمل مرحلة جديدة من النضج إلا إذا أماتَ (عن سابق عمد وتخطيط فنّيَين) قسطاً هاماً وغالياً من مراحل النضج السابقة.

إشارات:

(1) Kostis Palamas, "The Twelve Lays of the Gipsy." Trans. George Thomson, London .9691 P. 701
(2) سليم بركات: (الديوان)، دار التنوير، بيروت .1992 ص 35 ـ .36
(3) المصدر السابق، ص .7
(4) المصدر السابق، ص .218
(5) المصدر السابق، ص .313

وهذه، في الواقع، حالة نادرة من حالات تطوير التجربة الفنية الشخصية، يعلّمنا التاريخ الأدبي أنها تكاد تقتصر علي الشعراء دون الروائيين والتشكيليين والموسيقيين. وبغير جواز المرور الجبار الذي ندعوه بـ (اللغة الشعرية)، ليس للفنان كبير حظّ في تحدّي أنظمة المعني والدلالة والتعبير، ثم إعلان اليأس مما ترتّبه وترسّبه في القرار الجمعي العميق للقراءة، إذا لم يتحدث المرء عن إعلان التخوين والمقاطعة الشاملة. وكيف يحق لغير الشاعر أن يقول علي سبيل المثال:

أتصغي إليّ؟ أراكَ سهوتَ، أيها الموت، وأنت تحصي كتائب من أشباح تمهّد الوقت دفتراً دفتراً لانتصار الحدائق؛ ـ أشباح كلوعة تصعد المدرج إلي الحقيقة، ثقيلة في حديدها، وخُوَذها، لتُسْلمَ الباشق إلي اليقين.

أتصغي إليّ أم إلي حياة تسهر، أنتَ، علي كنوزها، أيها الموت؟ تعالِ ندخل أسواق الجزّارين الذين يستميلون الحكمة إلي فكاهاتهم، رافعين رؤوس الأغنام وأحشاءها إلي الموازين؛ وقد يقشّرون أظلاف الماعز، أو يهوون بالسواطير علي أضلاع الثيران. تعالَ، إنهم يصنّفون العضل، ويرققون الشحم كالمجازات، كأنما يعرفون أن المضغ الذي يقرقع إنما هو من فم الأرض تمضغ القيامة قبل نومها. (6)

اللغة هنا تدخل في علائق دلالية ذات طابع غرائبي (أشباح كلوعة، تصعد المدرج إلي الحقيقة، تسلم الباشق إلي اليقين، يرققون الشحم كالمجازات)، وفي تناظرات صوتية حادة أقرب إلي تنظيم النشاز من حول التآلف. وهي تقصي القارئ عن خطوط استقباله الواعي (التقليدي) لدلالات الألفاظ، وتدفعه إلي المستوي السحري الخام للمفردة حيث تدور عمليات الاستقبال في محاور استعارية ـ لاواعية (الأمر الذي سأتوقف عنده لاحقاً). وهذه خصائص لصيقة بتجربة سليم بركات وأشبه ببصمة شخصية طبعت نتاجه، ربما منذ قصيدته (دينوكا بريفا، تعالي إلي طعنة هادئة) والتي تفتتح مجموعته الشعرية الأولي، وانتهاء بقصيدته (تدابير عائلية) التي تختتم مجموعته السابعة. ولكن سليم بركات هنا غيره في المجموعات السابقة، والبصمة إياها تبدو وقد تجللت بغلاف يطمس الكثير من معالمها دون أن يفلح في حجبها تماماً.

وهو غلاف غير رقيق في واقع الأمر، لأن سليم بركات يصنع مادته من عناصر متواشجة تضم الجملة الاستعارية، والعمارة الإيقاعية العليا، والتصميم الطباعي الذي يضرب صفحاً عن تقطيع النص إلي سطور شعرية لصالح توزيعه مقطعياً، ثم اعتماد جرعة جديدة مفاجئة من الغنائية الخفيضة ولكن الصلبة والإنشادية والبوحية، تلتقي مع جرعة أخري من التوسيع الملحمي للموضوع المركزي والموضوعات التفصيلية:

تشيخ طويلاً أيها الموت فتنسي أنك موت ينساه الموتى. ومجازاتك من صوف أغبرَ أو من قطن مبلول، أيها الموت. مجرّاتك منكوبة. اسمك منكوب. وحبرك الليلي، الذي تدوّن به فراديس الأكيد يفتح الممرات ـ في السطور ـ لشموس الموتى.

يا لسريرك الذي تمسّد الحروب بأيديها القطانية، ملاءته القصيرة؛ يا للحروب تطرق عليك الباب في خجل، أيها الموت، لتشغلك كأنثى بحديث الذكر؛ يا لهباتك التي لا تقدمها مرتين؛ يا لدوّي السطر المحمول علي يديك وهو يمزّق الكتابة!

ونحن، في المثال أعلاه من القصيدة الأولي ذاتها، نفتقد بعض أسلوبية سليم بركات، أو نفتقد تلك الأسلوبية بمقدار يتناسب مع (التمويه) المتعمد الذي خطّط له في غمرة انشغاله بتحدّي السيرورة السائدة وممارسة اللعب الحرّ علي سطح الجملة مثلما في باطنها. هو ليس سليم بركات تماماً، ولكنه الشاعر ذاته الذي يعطينا أكثر من برهان واحد قاطع يجعلنا لا نتردد طويلاً في وضع توقيعه أسفل المقطع، بل واستذكاره علي هوانا، واسترجاع ما نشاء من مقاطع سابقة رسخت في ذائقتنا وليس في وسعه أن يحسن تمويهها إلي درجة التضييع أو التمويت.

هذه القصيدة كُتبت في عام 1992، وهي نموذج رفيع علي المخاض الذي اعتمل في نفس سليم بركات وهو يقسم طاقته التخييلية بين نص روائي يوظّف المادة الأسطورية والتاريخية الكردية، ونصّ شعري خاضع لضغوطات تلك العدّة اللغوية الفصيحة التي هيمنت مرّة وإلي الأبد، وكان امتداد معجمها الثر في الأعمال السردية بعد تلك الشعرية مدعاة ألق وقلق تعبيريين، في آن معاً. في القصيدتين التاليتين (والمجموعة تتألف من ثلاث قصائد فقط) يستريح المحارب بعض الشيء، وتهدأ فورة عبور الظل إذ يميل الشاعر إلي التصالح مع ظله اللاهث خلفه، وتنتقل صيغة ضمير المتكلم / ضمير المخاطب، التي تهيمن علي المجموعة بأسرها، من معادلة الصوت الذي ينتهك ذاته أثناء مساءلة الآخر (الموت، العدم، الشعر، العزلة، التاريخ، المكان، ...) إلي معادلة الصوت الذي استردّ ذاته من جديد عبر القصيدة، لأنه خالقها الذي انقلب إلي مخلوق لها علي حد تعبير هايدغر:

هَبْ شققتَ المعاني من تلابيبها، ودفعتَ الغد، خلسة، بيديك ليتهاوى علي الأدراج المنحدرة إلي كمائنها؛
هَبْ جمعتَ إليكَ المذعورين ليقتسموا رئتيك اللتين من حريق، وطحنتَ الأزل في أجران المجرّات، مقتدراً باقتدار الحمّي ذاتها، المنزلقة بدلافينها الصلصالية إلي الحبر؛ ـ هَبْ هذا:
لن تظنّنَ رجاءك إلا نسخاً من رقيم الفراغ الجابي.
فأعدْ، أيها المطوّق، مجازات الشكل لينجو اللون،
وموّه خندق النور من ظلال القيافين.
ففي يأسكَ نجاةُ الأكيد، وفي انشغالك عن الأقدار تشغل الأقدار بوسائسها.

وبقدر ما تبدو بعض المفردات في معجم سليم بركات أثيرة لديه، فإنها تظل أثيرة لدينا نحن بدورنا. ولسنا نفتقدها في الواقع، صانعة لتراكيب لغوية فاتنة، ومشاركة في الانتظام الخفيّ الدقيق لعمارات بركات الإيقاعية، ومفجّرة في دخيلة القارئ تلك الفضاءات الغرائبية المتينة في فصاحتها والمرنة المنبسطة في انتهاكها لشيفرات القول التقليدية. وحين نقرأ: (يا المآتُ ذو الصحاف المثلّمة كأنْ عضّها الأزل فأدمي الأبدية. ويا الذي ألمكُ ميزان وعدمك نزيف الخوف يتحرى الطبائع بحصافة المهرّج الذي من نبات؛ أيها الموت؛ يا الحاذق كوحشة، أيها الإرث النوراني للنسيان النوراني...)، فأنّي لسليم بركات أن يقصينا عن سليم بركات! ألسنا ندرك أن قوله (كأنْ عضها الأزل) أو (ويا الذي) لا يمكن أن يشبه البتة (احتمال) القول: (كأنما عضّها الأزل) أو (ويا أيها الذي)؟ ألا نقف علي خفايا نسيج لغوي متين يصنع عمارة إيقاعية متينة؟

وفي هذه المجموعة الثامنة جاهد سليم بركات للقفز فوق ظلّه، وجاهد لاستفزاز القراءة التي تقتفي الظلّ، فنجح مراراً وعلي نحو جدلي يُسجَّل في رصيده حتى حين كانت المشقة شرطاً محتوماً، قبيل وأثناء وفي أعقاب القراءة. والأرجح أن القارئ، من جهته، سيجاهد هنا وهناك دون أن يضلّ طريقه إلي سليم بركات، وسيسجّل ذلك في صالح دينامية متبادلة تبلغ أوجها في تلك البرهة الكثيفة من التصالح الإنساني والجمالي والتعبيري بين الشاعر والظل، صحبة الموت!

IV

الشكل المفتوح كان أحد أبرز الإستراتيجيات الأسلوبية التي استقرّ عليها سليم بركات، من أجل استفزاز القراءة والمجاهدة لتطوير شروطها في آن معاً. ومنذ قصيدته الناضجة المبكّرة (دينوكا بريفا، تعالي إلي طعنة هادئة) أُتيح لنا أن نقرأ ما يلي:

غ1ف

دينوكا

ماذا أقول للصيّادين الذين يضعون سروجاً فوق ظهور الكلاب السلوقية في سفح سنجار وجبال عبد العزيز؟ أنت مختبئة في مكان ما، ربما في زريبة، تشمّين التراب ومزاود النعاج. كبيرة أنت، بليلةٌ، مسكونة بالحصاد وبي.

أسمع والدك يصيح: دينوكا.. أسمع والدتك تصيح: (دينوكا، احملي خبز الشعير هذا إلي المهاجرين وقولي أن يستريحوا قليلاً).

كان عددهم يزداد يوماً بعد يوم.. من طشقند وخوزستان وأرمينيا والجنوب الغربي لروسيا حملوا أشرعتهم وصُرر السرخس إلي الجزيرة بلا أحذية أو مناجل. وكنتِ صغيرة لم تدركي أنهم يحتاجون إلي الماء وإلي امرأة مجنونة أو أرملة يدفنونها بعيداً في شقوق البراري لتنبت في سنيّ الهجرات عدساً وجنادب. أنت تجهلين كيف يمتلئ الأخدود بين (عامودا) و(موسيسانا) بجثث البغال والأعضاء المبتورة. تجهلين من أين يحصل البدو علي بنادق فرنسية، ولماذا ينتفخون علي تخوم القرى حين يهجمون عاصبين رؤوسهم بعباءاتهم.

قيل: خرجتِ من جهة العراء، وخرجتْ (بريفا) من جهة العراء، ومن جهة العراء خرج الله، وجاءت الدهشة والطلقات الفارغة التي جلبها الصبية من براميل قمامة السراي. وقيل إنك عدتِ بقطيع من النعاج المبتهجات وكبش واحد يخرّ كالمحارب في كل موضع مبلل بالبول.
دينوكا.. دينوكا..
أنا متعب، ولا أسمع صوتك حيث أري هضاب (معيريكا) وعربات الأكراد المحمّلة بالقش).

غ2ف

أنا خلفك يا ابنة أيّامي الزانيةِ
أدعو ورق العنّاب إلي حيرة شعب: (خُفّ إلي ضاحيتي
يا ورق العنّاب بسورية)، عجّلْ بالله، أنا مشغول بدخانٍ يعصمني من حرية أجيال تقتنص الأجيالَ، مداي سروج وعجاج
أقترح اسماً آخر فيه لمائي
وأصاحب ثدييات العصر إلي بهو سمندله وخزاماه، إلي ثدي فاجأه الله وراء السنبلةِ.

غ3ف

أخرجُ من أعرافي ودياري جندياً من جند الوثنيين،
وأخرج مرتزقاً بالنحل إلي أزهار الغرباءْ
فليكنِ الموت إذن ملءَ تراباتي
وليكنِ النهرُ رسول الإعدام، أواكبه حتى مسجد آبائي بالأنباءْ
وأنا السابح في الياقوت المغلق والأيام المغلقةِ
أنهال علي لغة الأحلام العامّة بالطعناتِ، وأجعل وجه الأطلنطي
شرفة مومسة تتهيّأ للقافلة الشبحيةْ
وأخلّي جسدي السفليّ يسوح بمزرعة تتشابك فيها الدمعة والسوسنةُ
وأخلّي لنداماي مسارب حول ضفاف الأبديةْ. (7)

في النمط غ1ف تبدو الخصائص الموسيقية الكامنة علي نحو موروث في اللغة الطبيعية وكأنها تتشكّل وتُستنطق علي أفضل وجوهها إذا عملت جنباً إلي جنب مع بعض أنواع المعني (ولا سيّما المعني الأسطوري) لتحقيق الإستقطاب الشعري. علاقة كهذه هي، في حقيقتها، خلخلة أو إعادة صناعة للشيفرة أو جملة الشيفرات التي تحملها المفردة المستقلة، والتي تزيغ أو تغتني أو تنفجر عند تواشجها مع مفردة ثانية. وتُلاحظ هذه الأوالية في أمثلة من نوع: (يحتاجون إلي الماء وإلي امرأة مجنونة أو أرملة يدفنونها بعيداً في شقوق البراري لتنبت في سنيّ الهجرات عدساً وجنادب)، أو: (أنتِ مختبئة في مكان ما، ربما في زريبة، تشمّين التراب ومزاود النعاج. كبيرة أنتِ، بليلة، مسكونة بالحصاد وبي)، أو: (حملوا أشرعتهم وصُرَر السرخس).

من جهة ثانية يقوم تنظيم الفقرة في ثلاثة أنساق تكاملية (المشهد المكاني، المشهد الإستعاري، المشهد المكاني الإستعاري) وشبه متساوية في تركيبها النحوي المضغوط، باستنباط عمارته الإيقاعية الخاصة، سواء في التلاوة أو القراءة الصامتة. وشعر سليم بركات زاخر بهذه العلاقة بين التراكيب الشكلية في اللغة، خصوصاً وأنّ المفردات والعبارات تمتلك ميلاً طبيعياً للاصطفاف في أنساق إيقاعية ـ دلالية ذات شخصية تكاملية، كما في نموذج الدور الإيقاعي والدلالي الذي تلعبه مفردة (قيل) في المثال التالي: (قيل: خرجتِ من جهة العراء، وخرجتْ (بريفا) من جهة العراء، ومن جهة العراء خرج الله، وجاءت الدهشة والطلقات الفارغة التي جلبها الصبية من براميل قمامة السراي. وقيل إنك عدتِ بقطيع من النعاج المبتهجات وكبش واحد يخرّ كالمحارب في كل موضع مبلل بالبول).

النمط غ2ف يعتمد التفعيلة، لكنه يكسر نظام التقطيع الشعري، ويستكمل تفتيت حدود اللغة الشعرية/النثرية بالنهوض علي الدرجة صفر من المجاز (حتى تكاد الاستعارة تختفي نهائياً)، فيبدو سليم بركات أشبه بمن يثأر لطغيان الإيقاع علي النثر الطبيعي بتغييب أوالية التواشج بينهما، كما تبدّت في النمط غ1ف. لعبته، هنا، محفوفة بالمخاطر، إذْ أنّ المجاز هو حقل لقاء شعرية اللغة الطبيعية بالمخيّلة، إلي درجة تجعله لا يأخذ شكل غطاء اللغة بل شكل تجسيدها وكشف مغاليقها. بعبارة أخري، الاستعارة فكر الشاعر الفعلي وليست مجرّد تقنية إبدال تدعم الأسلوب، وهي تمرينه الخلاّق الذي يُلزمه بالغوص عميقاً في ــ وبعيداً عن ــ سطح الواقع الذي رسمت اللغة مفاصله وخرائطه عن طريق المصطلح والكليشيه.

ومنذ قصائده الأولي المبكّرة برهن سليم بركات علي مراس رفيع في استخدام الاستعارة، وفي حجبها تماماً حين يتقصّد تحقيق أغراض فنّية خاصّة بينها تلك الدرجة صفر من الاعتماد علي المجاز. ففي مثال النمط غ2ف يكون التعويض الأوّل عن درجة الصفر المجازية لـ (حيرة شعب) و(حرّية أجيال) أو حتى (مداي سروج وعجاج) هو التخطيط الإيقاعي المشدود للمقطع بصفة عامة، والتخطيطات الثانوية المتلاحقة لأيّة عبارة تنتهي بعلامة وقف أو تشكيل إلزامي نافٍ للتسكين بصفة خاصة (الكسرة في (الزانية) و(السنبلة) بهدف التقفية والربط الموسيقي مع (ضاحيتي)). أمّا التعويض الثاني فهو العلائق التصويرية البصرية بين المدى والسروج والعجاج، وثدييات العصر في بهو وسمندل وخزامى الماء، والثدي الذي فاجأه الله وراء السنبلة.

النمط غ3ف ينطلق من مسلمة الشعر الكبرى: الموسيقي التي تتيح للشاعر أن يقوم بما هو أكثر وأشدّ تعقيداً من نقل الرسالة، الأمر الذي قد يغريه بنسيان الرسالة ذاتها والإنجرار خلف الإيقاع اللفظي من أجل الإيقاع اللفظي، كغاية قصوى بذاتها. ومن اللافت أنّ سليم بركات برهن علي سيطرة مدهشة علي شدّة وخفوت الإيقاع في المقطع القصير مثلما في القصيدة بأسرها، ولم تكن تلك السيطرة مبكّرة بالقياس إلي سنّه آنذاك (21 عاماً)، بل كانت متفوّقة تماماً بالقياس إلي مجايليه من الشعراء، وبالقياس أيضاً إلي عدد لا بأس به من أولئك الذين يكبرونه سنّاً وتجربة.

فيما بعد سوف يقدّم بركات مئات التنويعات علي هذا النمط الثالث تحديداً، وسوف يطوّر تقنيات بالغة التعقيد في مضمار التزويج الناجح للعلاقات الدلالية والعلاقات الموسيقية، أو تلك الكيمياء الصوتية الساحرة التي حاول أبو حيّان التوحيدي استكشاف قوانينها الغامضة. وفي المثال التالي من قصيدة (قلق في الذهب)، مجموعة (بالشباك ذاتها...)، يكشف بركات عن الكثير من مفاتيح واحدة من بصماته الأسلوبية الأثيرة:

أيُّ قَنْصٍ؛ هَوَت وعولٌ فبدّدتُ بعضي أسيً عليّ وعدتُ

كي أراني، هنا، في ظريف من الحطام، أو ثِقلٍ ليس يُروي وإنْ رواه الرمادُ؛
كي أراني رفيفاً من المراثي إذا يرفّ منها الجناح والبُعد بي ينقادُ
أيّ قنصٍ؟ سيذرف الليلُ قلبي إلي الصباح، ويخفي الأليفَ عنّي الجمَشْتُ
فرهينُ المشاع إنّي، مطوّق باللهاث الخفيف للماء، والحيّ حولي حصادُ
والفضاء أسرَّ، فعدْ بي، يا قلب، عُدْ بي إلي مشاغل الريح حيث المكيدة حبرٌ، وروحي
نساءٌ يداهمنَ من حواري المغيب هذا العراء. (8)

الصوت هنا يتنقّل بين القول والغناء، وتدخل الكلمات في علائق دلالية ذات طابع غرائبي (ظريف من الحطام، رفيف من المراثي))، وفي تناظرات صوتية حادّة تارة وطليّة طوراً، تندغم في التواتر الهندسي لحروف العين (في السطر الأوّل) والراء (في السطر الثاني) والحاء (في السطور الثلاثة الأخيرة). والحال إنّ ضمير المتكلّم يلعب هنا دوراً شديد الأهمية في استكمال ألعاب العلاقة بين الوَقْع الدلالي والوقع الموسيقي، لأنّ القارئ إنما يزجّ بنفسه في هذه الشبكات من تشريد المعني، ويمارس نوعاً ذاتياً من إقصاء خطوط الاستقبال الواعية ـ الاصطلاحية للألفاظ والمعاني والدلالات والإيقاعات، ويدفع بنفسه إلي ذلك المستوي السحري الخام للغة، حيث تُصاغ العلاقة مع المعني بعيداً تماماً عن الكليشيه، وفي قلب تشكيلات استعارية غير مألوفة لضمير المتكلّم وهو في قلب مواجهات غير مألوفة بين العناصر والأشياء والأزمنة: رماد يروي، ليل يذرف القلب، جمشت يخفي الأليف، حبرٌ مكيدةٌ، حيٌّ حصادٌ...

إشارات:

(6) سليم بركات: (طيش الياقوت). دار النهار للنشر، بيروت .1996 ص.20
(ـ.سليم بركات: (الديوانـ.ص 7 ـ.12
(8) المصدر السابق. ص .255

V

في مناسبة راهنة (9) ، أتيح لي أن أناقش مسألة التمييز بين الفضاء الطبيعي والفضاء التشكيلي في اللغة الشعرية، معتبراً أنها واحدة من أبرز الإستراتيجيات الأسلوبية التي تكفل لقصيدة النثر العربية المعاصرة إمكانية واسعة لاكتساب أرض جديدة في العلاقة مع القارئ، وفي سياق محدّد هو منافسة القصيدة الموزونة، سواء استخدمت عمود الخليل أم التفعيلة. وقد كان شعر سليم بركات أحد أمثلتي التطبيقية.

وقد أوضحتُ أنني أعني بالفضاء الطبيعي ذلك الحيّز الذي يُدرك بدءاً من الجسد الإنساني وإلي الخارج المقابل، سواء أكانت عناصر ذلك الحيّز مشهداً متعدّد الأجزاء (كما في الإطلالة علي منظر طبيعي) أو مشهداً وحيد الجزء (كما في النظر إلي شجرة عزلاء)، أو مشهداً مركّباً قائماً علي الفراغ المادّي والامتلاء الرمزي (كما في الوقوف أمام بيداء صحراوية أو بطحاء مغمورة بالثلج). والشاعر في مواجهته لهذا الفضاء الطبيعي يقيم توازناً من نوع ما بين مخيّلة ترشقه خارج نفسه، وذاكرة بصرية تشدّه إلي داخل نفسه، ومكان يغلّف المخيّلة والذاكرة فيُبقي الشاعر خارج نفسه وداخلها في آن معاً.

الفضاء التشكيلي، في المقابل، هو الفضاء الطبيعي وقد انقلب إلي رؤيا إبصارية خارقة لوسائل الإدراك المعتادة، وانهارت فيه علاقات التراتب الوظيفي الثلاثي بين المخيّلة والذاكرة البصرية والمكان، وتكوّنت عناصره من مزيج تركيبي لا يسمح بتبادل أو إعادة توزيع أو قَلْب الأدوار بين عناصر التوازن الثلاثة هذه فحسب، بل يسمح بتحويل الالتقاط الشعري لذلك الفضاء الطبيعي إلي التقاط بصري تشكيلي علي الصفحة المطبوعة ذاتها: اختيار شكل هندسي لتوزيع النصّ، تدوير أو قطع السطور الشعرية وفق عمارة غير مألوفة، إفساد القواعد المعتادة لعلامات الوقف، استخدام قياسات أو ألوان مختلفة للحرف الطباعي، وما إلي ذلك.
وعلي سبيل المثال، يقول سليم بركات في القسم الأوّل من قصيدته (ديلانا وديرام)، مجموعة (الكراكي):

هذا عالمٌ يُتلى. هذا حبرٌ يُتلى. وديرام ممسكٌ بريشة الجذور يخطّ رسائل للضباب الوالي، هادئاً، لا يفكّر في نبيذٍ ما، أو في نهبٍ، بل في النهر المعلّق فوق المدينة؛ النهر الأعزلِ الجسورِ، الذي يهيئ أعشاشه للُهاث الأسلحة، ويستطلع الحجرَ. وديرام يحصي من شرفته ملوكاً يمرّون، وممالك تجتاز الطريق متوكئة علي عِصيّ البازلت، ناقراً بأنامله علي غشاء المشهد، كأنّما يستوقف الغبار العابر ليحمّله زهرةً ما، أو طبلاً، إلي الأعياد التي تتهرّأ نعالها من الرقص علي المياه. ويرفع بصره، ثانية، إلي الأعلى، إلي النهر الجسور ذاته، المعلّق بكلاليب الآلهة، صارخاً:

(لماذا تتبعني أيها النهر؟
لماذا تنفخ في بوقكَ النُجَيليّ فيصعد المنشدون إليك، حاملين أعضائي في بُرعمٍ، ويقظتي في أباريق الصلصال؟
لماذا تُريني القرى بين عَفْرتَيْ إبطَيْكَ،
وتحزمُ المدينةَ، في جريانك، بحبل من السيفيرِ وزيزفون الطمي كحزمة الشوفان؟
لماذا تتبعني أيها النهر؟
لماذا تحمل قنديلكَ والأرضُ واضحةٌ كما تري؟ أنيْصٌ أنتَ، بأشواك فضيّةٍ، أم مَرْموطُ يقضم جذوع الحروف؟
مهلاً إنْ كنتَ سهمَ الشمالِ، أو نورج المحارب. مهلاً مهلاً،
لكَ أعيادُكَ، ولي أعيادي،
وكلانا عالقٌ في شبكة المساء الحلو،
المساء المنثور كالسكّر علي رغيف المدينة.
وكلانا جُرنٌ تطحن العاصفة فيه عدسها،
فلماذا تتبعني أيها النهر؟
لماذا تكشفني لنخيل البحر المتّشح بهزائم الساهرين ساهراً يؤجّجُ الحقولَ، ويحرّض النبات علي الأعمدة؟
دعني أيها النهر،
دعني في مداي المغلق بثلاثين كبشاً، وسريرٍ واحدٍ تتخاطفُ النساءُ عليه مملكةً لم تكتمل. (10)

ومن الواضح هنا أنّ الفضاء الطبيعي يتألّف من أجزاء متعددة، ولكنها أجزاء لا تصنع أيّ (مشهد طبيعي) متجانس في وسع الذاكرة البصرية أن تستعيده علي الفور من مخزونها البصري. وفي هذا المستوي الأوّل تكون القراءة ملزمة بالانخراط في (تشكيل) مشهدية مركّبة من نوع غير مألوف (إذْ ليس في وسعها أن تشكّل مشهداً أحادياً من نوع مألوف مسبقاً)، وتكون قواعد التشكيل مَرِنة ومفتوحة وحرّة وخاصّة بكلّ قارئ علي حدة، ولكنها في الآن ذاته تظلّ محكومة بقواسم مشتركة عليا هي أجزاء المشهد الطبيعي كما اندرجت في القصيدة. في المستوي الثاني تكون القراءة ملزمة باستحضار موقع الشاعر الإنسان في هذه المشهدية التشكيلية (وهو، أيضاً، استحضار القارئ لنفسه في المشهد)، الأمر الذي يفضي إلي التماس زمنية الفضاء الطبيعي، وهي زمنية تشكيلية بدورها لأنها تقوم علي أفعال متغايرة الأزمنة، وعلي صيغتَيْ التصريح والسؤال، فضلاً عن العلاقة التبادلية بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب.

في المستوي الثالث تكون القراءة مُلْزَمة بتكوين استجابة دلالية إزاء الصياغات التشكيلية لعلاقات المخيّلة والذاكرة البصرية والمكان، كما في (دعني في مداي المغلق بثلاثين كبشاً وسرير واحد، تتخاطف النساء عليه مملكة لم تكتمل): أهذه استجابة مجازية بلاغية صرفة؟ أهي استجابة بصرية؟ أهي استجابة ذهنية رؤيوية؟ أم هي مزيج من هذه أو تلك؟ وفي مستوي رابع لا بدّ للقراءة من أن تتخذ موقفاً من هندسة توزيع السطور والفقرات والمقطع بأسره. أيّ انطباعات تخلّفها هذه الهندسة؟ هل تساهم في صناعة إيقاع متباطئ أم متسارع؟ هل تقوم بضبط الاستقبال، أم تُفلت زمامه؟ هل تتكامل أم تتنافر مع الفضاء التشكيلي الأعلى الذي يغلّف القصيدة الطويلة الأمّ؟ وما الفارق؟
غير أنّ القراءة مُلزمة بتطوير مستوي خامس شاقّ بقدر ما هو محرّضٍ علي توليد جماليات تشكيلية عالية، مستوحاة من ذهول الكائن أمام عبقرية المكان، أو بالأحرى أمام أعجوبة انكشاف خصائص بعينها من عبقرية المكان، لم تكن وليست مرئية خارج برهة انقلاب الفضاء الطبيعي إلي فضاء تشكيلي. والمرء يتذكّر قول شارل بودلير:

آه، كم العالم كبير في وضوح المصابيح
وكم العالم صغير في أعين الذاكرة.

واستدعاء الذاكرة، أو الذاكرة البصرية علي وجه التحديد، هو معضلة المستوي الخامس من قراءة تجهد لكي تصالح بين مخزون الصُوَر الطبيعية وبين الطارئ التشكيلي الذي يعيد استقلاب تلك الصور دون أن يطمسها، أو يغلّفها بأغشية استعارية دون أن يحجب قوامها العضوي أو مكافِئاتها المعيارية. وديرام في قصيدة سليم بركات هو الشاعر الواقف في قلب العالم، ساعة انكشاف المكان، أمام نهر يتبعه حاملاً قنديل إيضاح الواضح ((لماذا تتبعني أيها النهر؟ لماذا تحمل قنديلكَ والأرضُ واضحةٌ كما تري؟)). وديرام هو الجسد الإنساني وقد انقلب إلي مركز لإسباغ الزمن علي الفضاء الخارجي ((ديرام يحصي من شرفته ملوكاً يمرّون، وممالك تجتاز الطريق متوكئة علي عِصيّ البازلت))، ولكنه المركز الذي تتصارع فيه ذاكرة بصرية طبيعية وأخري منبثقة من إبصار المشهد علي نحو رؤيوي. وفي النصّ السابق يمكن العثور علي خمسة أنماط من هذا التصارع:

  1. ـ بين الصُوَر المتماثلة في كيفية الفعل والمتغايرة في مادّة الفعل: (هذا عالمٌ يُتلى. هذا حبرٌ يُتلى)؛
  2. ـ بين الصُوَر المتعارضة في كيفية الفعل والمتماثلة في مادّة الفعل: (لماذا تكشفني لنخيل البحر المتّشح بهزائم الساهرين ساهراً يؤجّجُ الحقولَ)؛
  3. ـ بين العنصر الملموس موصوفاً في صورة مجرّدة (النهر المعلّق فوق المدينة)، وبين الفعل المجرّد والمادّة المجرّدة (النهر (الذي يهيئ أعشاشه للُهاث الأسلحة)، والنهر الذي (يستطلع الحجر))؛
  4. ـ بين الكائن الإنساني (ديرام) والعنصر الطبيعي (النهر، العاصفة) والموضوع المادّي (الجرن، العدس) والفعل الطبيعي (الطحن) المرفوع إلي مستوي استعاري: (كلانا جرن تطحن العاصفة فيه عدسها)؛
  5. ـ بين الصورة الثابتة (سهم الشمال، نورج المحارب، رغيف المدينة)، وبين الصورة المتحركة (ناقراً بأنامله علي غشاء المشهد، تنفخ في بوقك النجيلي، تحزم المدينة في جريانك).

وفي جميع الأمثلة السابقة لا تملك ذاكرة القارئ البصرية أيّ مخزون صُوَري طبيعي يسمح بالتفكير في (عالم يُتلى)، أو (نخيل متّشح بهزائم الساهرين)، أو نهر يهيئ الأعشاش للُهاث الأسلحة)، أو (جرن تطحن فيه العاصفة العدس)... أكثر من ذلك، يبدو النصّ السابق ــ وربما شعر سليم بركات بأسره ــ وكأنّه لا يستمدّ بُنيته الإجمالية إلا من هذا الاحتشاد الزاخر لأمثلة التصارع بين مادّة العالم الطبيعي وصُوَر التقاط المادّة ذاتها علي نحو رؤيوي تشكيلي. ورؤيا بركات تقوم تارة بإسباغ المحتوي السحري ـ الطفولي علي المشهد المألوف، أو تقوم طوراً بترقية عناصر الطبيعة الخام الواضحة إلي عناصر تشكيلية متسامية في مشهد رؤيوي خارق للمألوف، إلي جانب أنها ــ في الحالتين ــ تنتهك أعراف الذاكرة البصرية وتحفّز علي الرؤيا التشكيلية خارج تلك الأعراف.

غير أنّ قواعد القراءة الأولي لأيّ نصّ أدبي تظلّ شبيهة بقواعد عزف مقطوعة موسيقية للمرّة الأولي: لا مناص من الالتزام بما تقوله العلامات المدوّنة علي السلالم الموسيقية. وفي النصّ الأدبي تبدأ هذه العلامات من القراءة (المنتظمة)، أي تلك التي تبدأ من اليمين إلي اليسار، وتمرّ علي الكلمات كما رتّبها المبدع في السطور، وهي تالياً مُلزمة باستقبال بُنية السطر النحوية والدلالية والمجازية كما شاء المبدع تقديمها، ومُلزمة بالسير في السياق الرؤيوي الذي حاول الشاعر صياغته. بمعني آخر، ليس من حقّ القارئ أن يبدأ نصّ سليم بركات من منتصفه فإلى الأعلى، أو من ختامه فإلي المنتصف. وليس من حقّه أن يبدّل عبارة (نخيل متّشح بهزائم الساهرين) بعبارة أخري تقول (هزائم متّشحة بنخيل الساهرين). وليس من حقّه (إذْ ليس ذلك في وسعه عملياً) أن يستنبط سياقاً مضادّاً مستوحي من قَلْب عبارة سليم بركات إلي أخري تقول (لبلاب متجرّد من يقظة النائمين) علي سبيل المثال.

هذه، بالضبط، هي كبري نقاط الارتكاز الدلالي لنصّ ينتهك الذاكرة البصرية المختزنة.
فالقارئ مُلزم هنا بتخيّل ما يريده الشاعر أن يتخيّله، وفق القواعد التي يرسمها الشاعر وليس استناداً إلي أيّة قواعد (قياسية) أو (معيارية) متفق عليها. وما دامت كلّ الكلمات، ما عدا أسماء العَلَم ربما، قادرة علي صناعة المعني بالضرورة، فإنّ مَلَكات توليد المعني هي وحدها التي تنشط وتتنبّه حين تقف وجهاً لوجه أمام معضلة انقلاب الفضاء الطبيعي إلي فضاء تشكيلي طارئ لم تتخيّله الذاكرة البصرية من قبل، وهو غير مدوّن في طبقاتها وتواريخها. وأمّا إذا احتوت النصوص علي مقدار عالٍ من الموّاد المساعدة علي إحياء الذاكرة البصرية، فإنّ حظوظها في توليد المعني سوف تكون محدودة لأنها ستتناسب عكساً مع مقدار تقاعس المَلَكات عن الانخراط في التخيّل الطارئ غير المدوّن في الذاكرة البصرية.

* * *

يعلّمنا تاريخ الإنجازات الإبداعية الفردية درساً كبيراً مفاده أنّ أعمال الأدب الاستثنائية قامت بواحد من إنجازَين: إمّا أنها أسّست أسلوبية جديدة، أو تسبّبت في محاق أسلوبية قديمة، الأمر الذي يعني أنها ــ في النتيجتَيْن ــ حالات خاصّة للغاية. وأدب سليم بركات نموذج رفيع علي تلك الحالات الخاصة: شعره ضخّ حياة جديدة في المشهد الشعري العربي المعاصر، وروايته أحيت عالماً سردياً يكون فيه العجائبي مادّة كبري جبّارة لالتماس وإعادة إنشاء العالم الفعلي. الأهمّ من ذلك، وهذه ليست مفارقة البتة، أنّ سليم بركات الكردي كتب بلغة عربية فصحي ــ حيّة، دافقة، بليغة، إعجازية، فاتنة، طليقة، بالغة الثراء والجسارة والجزالة ــ ولعب دوراً كبيراً كبيراً في تحديث قوامها التركيبي واستخداماتها البلاغية ووظائفها الخطابية، الأمر الذي يغني عن القول إنه بات بؤرة استقطاب ومعيار قياس ونموذج تأثير.
.. الأمر الذي يغني، أيضاً، عن الجزم بأنه وراء تأسيس أسلوبية جديدة في الشعر كما في الرواية، وأنّ من الطبيعي أن ننتظر منه المزيد...

إشارات:

(9) في (مؤتمر الشعر العربي الأوّل) الذي نظّمته جمعية (فاس سايس) في مدينة فاس المغربية، أيّام 27 ـ 30 نيسان (أبريل).1999 وانظر النصّ الكامل للورقة في صحيفة (القدس العربي): 5 و.1999/5/6
(10) سليم بركات: (الديوان)، ص.191