محمد علي محمد

عن (أنقاض الأزل الثاني)

بني سليم بركات فعله الروائي على ثلاثة مفاصل رئيسة هي:
أولاً ـ السقوط: بدأ السقوط الفعلي الأزل الثاني / جمهورية مها باد / بانحسار الحماية السوفيتية عنها والتي كانت الدولة السوفيتية والمولدة لها.
سقطت مهاباد تحت مدحلة الجيش الإيراني، وكانت من تداعيات السقوط القتل والموت والدمار. أرخى ملاك الموت بظلاله على العاصمة. لم تنتهِ فصول القتل والموت بإعادة الجمهورية إلى حظيرة الحكم الإيراني، بل تلتها حملات البحث والملاحقة والمطاردة لرجالات الدولة.
سلمت الكرملين عنق القاضي الدمث إلى مطحنة العصف الفارسي. أعدم رأس الجمهورية قاضي محمد. "جسد القاضي محمد يتدلى من عامود وسط حديقة من الحبال نبتت في أطرافها رؤوس متكسرة الأعناق. إعدامات بختم ذي نصفين أحدهما إيراني والآخر بلشفي..". استرجاع إيران لمهاباد لم يعنِ أبداً موت الجمهورية / الأزل / يمكن للرئيس والقائد الرمز والزعيم أن يموتوا. أبداً لا يمكن للأزل أن يموت / فهو خالد أبدي / إلا بموت تاريخه وحضارته وثقافته، وهذا غير ممكن. بالأزل خسر معركة، لكنه لم ينتهِ.
إذا كانت هذه الأنقاض هي الأزل الثاني، بالتأكيد هناك أزل أول وثان وثالث، وحتى لو لم يكن هناك أزل أو وطن لأوجد المبدع / الروائي / أزلاً أو وطناً في مخيلته ككل الأشياء التي تبدأ لحظة نشوؤها في المخيلة. ثم تولد لتصبح ملاذاً يلوذ به الإنسان.
كان السقوط مدوياً فاجعاً مهيباً / مهاباد بكل جلالها وهيبتها ووقارها و رونقها واشراقتها سقطت.
زعزعت المسلمات والثوابت اليقينية. كان موت الرئيس القاضي محمد وسارة ميمان والأشجار والطير وموت الشعر والأغاني موتاً للأزل موتاً مؤقتاً جزئياً.
ثانياً: الهروب (البدء من جديد): كان العناد في مجابهة جنبات هضبة / كأي خودان / أي ثور الله/ إمعانا في الهرب إلى البعيد. لم يكن الهروب بحد ذاته هروباً من الموت بقدر ما كان تأسيساً لبداية جديدة أو استمراراً للأزل الثاني، هروب الرجال الخمسة وإنقاذهم للفائف الجلدية التي تحوي أختاماً ودساتير ومواثيق الجمهورية بداية البدء.
خروج البرازانيين من العاصمة ومجابهة الجيوش الإيرانية والتركية على طرفي الحدود هي الحالة المؤجلة لإنشاء كيان ثالث ورابع الخ.
أزل ينهض من تحت الأنقاض، البحث عن خزائن الأشعار والأغاني والملاحم في مجاهل الوطن / مانوسار وخان / و/ جكر عمشة / اللذين امتشقا الهمم ورحلا إلى الأقاليم والكور الكردية بحثاً عن هذه الخزائن إحياءً للأزل.
إنها الحالة المخاضية لولادة كيان أو إحياء لكيان مؤجل. دوي سقوط مهاباد هز الأرجاء والأقاليم والكور الكردية أرعد فرائس الطير..، مما أنضج الكمأ في مجاهل التيه من بحيرة / وان / وإلى الخابور ومن تبريز إلى دجلة ومن الشرق إلى الغرب، حيث تنهض أمام الرجال الخمسة و بغالهم التترية هضبة كاي خودان ليمتطوها، لتبدأ من جديد رحلة البدء لإحياء وطن / هم يحملون في عظامهم عزيف الحزر فر من مهاباد / عبر الرجال الخمسة و بغالهم التترية وسط المدينة / ساحة جوار جرا / المصابيح الأربعة كأنهم غير مرئيين وراء سجف الغيب/.
جلي تفرد الروائي لعملية الروي.. وسلبه أدوار كل الشخصيات مهيمناً عل مفاصل النص ونسيجه، مذ بدأت الرواية تطرح فعلها الدرامي سقط الأزل، سقط الوليد الثاني للأزل.
الواقع أن المستوى الثقافي للشخصيات حدا بالروائي إلى سلب أدوارهم. ليقينه بعجز الشخصيات على إيصال الفكرة أو المعنى إلى الآخر، ولعدم قدرتهم على استنطاق لغة قادرة تضمين المعنى أو الفكرة في متن النص.
الجمل الحوارية القصيرة جدا، ً دفعت بالروائي إلى الغرق في السرد والوصف وكان الوصف وقفاً على البيئة المحيطة بأجواء الرواية. شغف الروائي بالوصف بدأ بتسليط الضوء على كافة عناصر البيئة وإبراز سماتها المميزة. شكلاً ولوناً ورائحةً بلغة تحمل روح البيئة، لكشف مواضيع تلامس مخيلتهم وتسكن مدارات رؤيتهم الإنسانية، ولمشاركته يومياته، استنطاقه للأشياء والجوامد كالأحجار والنهر والجبال هو الحشرات والطيور والسماء. الفرش ورسوماتها، البسط وألوانها، والبلس وأشكالها، والزرابيات ورسوم الطير التي تزينها، وريشها في التكايا، إنها الصور الأكثر غنىً ووضوحاً؛ وتأثير أبناء المجتمع الذي كان وقوداً لصراعات الآخرين. إنه التعويض عن الحرمان. الوقع المأساوي الذي يعيشه الراوي / الروائي / والوجه الآخر والمتمم لوطن يحلم به، لقد لامس الوصف ضمير الأشياء، حيث يستدق ويشف ليختلس صوت، والأصوات له، ووصف ما لا يرى، ورسم صورة الأشياء المبهمة في الذاكرة وتوضيح تلك الصور في وعي الروائي الباطني، فيكشف ما لا يكشف، وما لا يقع تحت دائرة الحواس والوعي، من هنا سيطرت الصيغة السردية على النص، وهي العامل الخفي لاكتشاف الأبعاد المؤثرة في دخيلة الراوي. إن سيطرة الروائي على وعي الشخصيات واستلابه لحوار وأدوار الشخصيات، تعد إيذاناً بخلق تنوع لغوي/ لغة روائية / لعرض فكرة النص، وإبراز الجوانب الجمالية، مفصحاً له إيراد مساحة تقترب من الفضاء الروائي، وإحالاته العديدة بدمج عناصر عدة في سياق واحد، مراوحاً بين الدلالات الخارجية / كالهضبة والنهر وسيد روك والإوز / وبين الأصوات الداخلية محدداً بذلك نمطية تفكير ومستوى وعي الشخصيات وأبعادهم النفسية. وانعكاس ذلك على تعاملهم مع بعضهم البعض، لكشف اللغة المستخدمة التابع للبيئة / كريم بير خان ـ جميل فاركو ـ كاسو /.
السرد الوصف المكثف للأشياء وإيراد الإشارات والرموز، وهي دلالات العناصر الروائية كإحدى مكونات الخطاب الروائي.
الفضاء الروائي الواسع والرحب كالبيئة الريفية وثوابتها وتحولاتها الاجتماعية، تصنف الرواية في خانة الرواية السردية الوصفية. من حيث لغتها المركبة التي تحوي على معان عدة. مفتتحاً الوعي الفكري على جوانب مهمة ولغة فريدة لم تخلُ من تعابير وأسماء غريبة لحيوانات وطيور وحشرات. وهي إحدى مورثات البيئة الريفية / كناش ـ عزيف ـ الزرقم ـ دعاميس ـ السرمان ـ دعاسيق / وهذا ما يلقي الضوء على انتماء الروائي ومدى تعلقه بهذه البيئة، إلى جانب امتلاكه لثقافة موسوعية وإطلاع لا بأس به على الصوفية يمتحن بها رؤيته لعام الكوني الصوفي. مما أعانه لإيصال رؤيته وفكره إلى الآخر؛ كانت لغته بنت البيئة واضحة التعابير وسلسة على الشريط اللغوي الروائي، وخصوصاً في وصفه لأساس البيت الريفي:
(في تلك الليلة آوى الغرباء الخمسة أول مرة بعد سفر في العراءات إلى حدائق وثيرة الرسوم على لحف ناعمة وفرش سابحة على غزوات الترف الرقيق أحست انتقالات الأرواح بين وسائدهم أرواح الطيور التي امتلأت بالحشايا الناعمة والوثيرة بريشها تحت رؤوسهم المستسلمة لخيارات العماء ما بعد الصور، كل تهيأ لشفق نومه سرب ملتمع الأجنحة بالبذور المتناثرة حمراء من سنابل الشعاعات المنسية على بوابات الغيم أرواح ستين طائراً في الوسائد الخمس المحتضنة خزائن أنفاسهم في كل وسادة اثنتا عشر روحاً لحقت بها بلا امتزاج). غلبت عنصر الوصف علة ما عداها، لم يتوقف على الأساس المنزلي والطبيعة والبيئة الريفية، بل انسحب على الشخصيات وفعلها، بل لوصف الجسد واستغراقه والغوص فيه ـ أبلغ دلالالة على امتلاكه لخاصية الوصف. المرأة و الرجل و شبقه .. انكب بجرأة نادرة على غير المألوف بالنسبة لبيئة كبيئة فليدروك. رسم دقائق الجسد لونه طعمه ورائحته وشكله ونعومته، موغلاً في تفاصيله ودقائق أجزائه. لمعان ملمس بطن سيكانو المرأة ذات الخمسة عشر ربيعاً زوجة علي بن جميل فاركو بلغة بلغت من البساطة والهتك والبراءة المزعزعة للأخلاق، لم يكن سوى تجسيد للرغبة المتعطشة للمرأة بأقصى حالتها ـ انفلات من عقال خجله وحياء رغبته وإغارته بجسده ويديه ولوعته وبقيته الباقية على جسد المرأة الطافحة بالرغبة ما هو الوجه المنتشي المضاد لحالة المبدع:(مساحيق كاسو الحارقة جرّدت رابية اللحم المنذور لشقائق النعمة أسفل صرّة سيكانو من زغب الوقت كي يعود اللحم خالداً أملس الخلود. نقياً بهبوب اللوعة الرحيمة عليه من عماء المني المرح العصيان..).
الفضاء الروائي: نسج الروائي عناصر النص الثلاثية بتواشج مع الأحداث، كل عنصر حسب تلاءمه مع العنصرين الآخرين / الشخصية ـ الزمكان / على مدى ثلاثة فصول بنيوية. كل فصل وحدة من بنية (أنقاض الأزل الثاني) بأحداثه وتطوراته.
أولاًـ الشخصيات الروائية: منذ اللحظة الأولى نتلمس في متن النص شخصيات متعددة وفق مستويات ثقافية متقاربة. ليس الرواية رواية بطل فردي أو ملحمي، ليس رواية شخص يتفرد بامتلاك وشائج البنى الروائية. تجاوز الروائي ظاهرة الشخصية الأولى أو البطل الواحد. بل اعتمد على شخصيات متعددة لكل واحدة دورهت ومفرداتها ومستواها اللغوي. ليستطيع بذلك رسم دورة الأحداث وسهولة تحديد البنى الروائية. حيث لكل شخصية دورها و لغتها وحوارها ومنطقها الفكري.
نوهنا في البداية استحواذ الروائي على أدوار الشخصيات النصية عن طريق الحوار السردي كان هناك نوعان من الشخصيات:
أولاًـ الشخصية الواقعي: وهي الشخصية القادمة من خارج النص، بل هي شخصية التي صنعت الأحداث، وهي بطلها الفعلي، وهي خارج دائرة الإبداع الروائي. وهي الشخصية الحاضرة الغائبة.
أ ـ شخصية القاضي محمد: الشخصية التي صنعت الأحداث، والذي أرخى بظلاله على أحداث الرواية. رجل دين يملك عقلاً متفتحاً ونظرة ثاقبة، دمث بسيط مخلص لشعبه إلى درجة التضحية بنفسه وذاته لإنقاذ شعبه من طاحونة القتل. وهو رئيس جمهورية الكرد الأولى: (زرر جبته على هيكله النحيل، وانتظر خيل الجيش الإيراني الذي رفعه بحبل نحيل إلى الجسر المعلّق بين ضفتين). الشخصية التي انتصرت على الموت بموقفه: (أعدم بختم ذي نصفين أحدهما إيراني والآخر بلشفي).
ب ـ الملا مصطفى البرزاني: الرجل القادم من وراء ستار الأزل، الآتي بطوفانه الجليل، ليساهم في عرس تخليد الأزل. وبعد ذلك، جابه خيل علوم الفناء متجاوزاً أنحاء التاج الإمبراطوري مخترقاً أطراف قبعة أقاليم أ تاتورك/ التصق لحن الأقدام بالأحذية. التفافات كهمة اليأس من تركية إلى إيران، ومن إيران إلى أزمنية إلى تركية ومن تركيا إلى مشارف اللامكان السحيق في العبث بمصائر الأمم. كان الشخصية المهيأة لتأسيس كيان أو إحياء كيان. هذا / الرجل / الشخصية المنقذة للأزل. إنه القدر المنذور لوطن قادم.
(كان على الجمع أن ينجوا من قيافي الشاه / تأكيد وصيغة أمر بالبقاء / من الجيش الإيراني والإفلات من قبضته/. الذين لم يكونوا ليتوقفوا إلا على البوابة الروسية.. /
ج ـ ستالين: حاكم الكرملين الذي سلم عنق القاضي محمد ـ الجمهورية ـ الجلاّد متمنيا مكافأة فعلته الوصول إلى حدائق الذهب الأسود والاستحمام بمياه البحار الدافئة.
ثانياً ـ الشخصية النصية (الفنية) هي التي ابتدعها الروائي، يوجهها نحو الآخر ـ المتلقي ـ منتجة بذلك لغة محركة لأحداثها. وهي لسان حال الرواية. مستكشفاً بذلك فضاء النص الروائي بكافة مستوياتها الفنية واللغوية:
أ ـ كريم بير خان: تمثل ضمير ووعي سيدروك جمهورية الظل تلك الكرة الكردية، رجل عصبي، الجسد قصير، كثير التأمل والتفكير، قليل الكلام، وهو الوجه الأدبي / الروائي / لشخصية قاضي محمد، وبالتالي موته كان موازياً لموت قاضي محمد.
جميل فاركو: الشخصية الأكثر ارتجالية والأكثر تألقاً على مسرح سيدروك، سواءً بنفاذ بصيرته ورؤية ما لا يراه الآخرون، بالرغم من عماه والتي احتلت أكبر مساحة من الرواية بكل شيء، سواء بمجابهاته مع غريمه سرعو أو بسرعة بدهيته، تبوأه عرش الغناء والصدارة في سدرو. وأما بميله الزائد للإشادة بعضوه التناسلي والأعضاء الجنسية للإناث والذكور، بل وحتى الحيوانات.
بلغت الإيماءات والإشارات بمواطن الإثارة لديه إلى حد دفع بزوجته إلى صلم خصيته، أو كادت تخصيهما له، بالرغم من فحشه الزائد في بيئتة الريفية المحافظة، إلا أنه كان المطلوب دائماً في مضافة كريم بيرخان، ربما حرمانه من نعمة البصر كان سبباً في ميله الشبق نحو المرأة، أو نحو المناطق المثيرة / الجنسية / عنده تعويضاً عن نقصه. من هنا كانت حواراته الأطول وتتسم بالسردية ولغة متفردة بلونها.
ج ـ شريف رندو وزينو ميفان، وآخرون شخصيات مكملة لحركة الأحداث في النص، وهم الهاربون من الموت وهم ضمير الجمهورية وحاملي أختامها ومواثيقها. وهذه الصورة التي ترجمت فكرياً ومعنوياً على بقاء الجمهورية بإنقاذهم لتلك اللفائف الجلدية. زينو ميفان كان صوت مهاباد وضميرها الشعبي وراوية تاريخها وأيامها، مخلداً ذلك في أغانيه في الاحتفالات الوطنية والمناسبات القومية وأعراسها.
د ـ مانو صاروخان وجكر عمشة: رسولا جمهورية سيدروك وزعيمها كريم بير خان إلى مجاهل موطن الأشعار والأغاني في جزائر الوطن أنهما أكمينا كريم بير خان على خزائن الأبد والتاريخ. رحلة البحث عن البعث لإحياء أزل نائم / ميت / مانو ساروخان العالم بتصاريف الصوت وهبوب المعاني، وصناعة الكلام لنثر أريجها في مضافة آل بيرخان / جكر عمشة الخبير في مجادلة المجهول، والضارب على خفايا الاتجاهات. والعالم بارتياد المسالك الآمنة. أنهما الباحثان عن خلود أو لإنهاض سيدروك و وزر النهايات المأثومة ومن متاهات الضياع جامعاً الأغاني لتخليد أمجاد الوطن / سيدروك / هؤلاء الشخصيات المتماثلة في كل شيء تأريخ الوطن الأم كردستان / رندو ـ ميفان ـ فاركو ـ ساروخان / إنهم يمثلون الوطن الحي القابع تحت الأنقاض.
و ـ بزر آبادي يمثل العنصر الفارسي المتخم بالحقد يمسح جنبات وسفوح كاس خودان، وضفاف الأنهار والسهول، يلفه نار الثأر من رأسه إلى أخمصه، يصارع الجهات، ويقتفي الآثار ومطارد آهو و فيروز آبادي وشهبو نظيمي مترجمة وذهدان نوري قيافة، موطداً العزم على قتل شريف رندو ـ و زينوميفان / فهو المثيل والشبيه بالشاه بكل جبروته وحقده وتعصبهـ وهو القابض على زمام الأمور في مملكته. كان مدار حركة الشخصيات محدوداً جداً إلى جانب تقزيم أدوارهم وسلبه لغتهم وحوارهم و كانت أكثر شخصيات مستولدة أو مستنسخة من الشخصيات الواقعية. وهم صورة عن الشخصيات الصانعة للأحداث خارج الزمن النصي أي الزمن / التأريخي / مختزلاً الأحداث كلها على متن زمن روائي.
ثانياً ـ الزمن: إن المؤشر الحقيقي للأحداث أو الزمن الفعلي هو الأحداث نفسها التي أرخت للرواية محددة الزمن التاريخي. إن رسم الأحداث الحقيقية هو رسم لزمن مثل دخول السوفييت إلى إيران خلال الحر العالمية الثانية. وكذلك دخولهم لأذربيجان الإيرانية وشمال شرقي إيران إقليم كردستان. دلائل تشير إلى زمن حدثي مؤشرات مقطعية تشير إلى الزمن الروائي اللانصي؛ أما زمن النص / الرواية / فهو الزمن الذي ابتدعه الروائي مؤشراته البيانية هي/ الخريف ـ الشتاء ـ المغيب ـ الليل ـ الفجر ـ الصباح / لم يتقيد الروائي بوضع إطار للزمن أو أي تحديد وقتي للزمن التأريخي، ليصول يجول دون الاحتكام لوحدة زمنية في بنية الحدثية للرواية تجاوز المسافة والمساحة، فهو يقبض على اللازمن، لا بداية له ولا نهاية له، إنه زمن دائري مؤرخاً بذلك لتاريخ الكرد. مبتدأً بزمن خيالي فانتازي مفتوح. وهو نشأة الشعب الكردي بحسب ما يراه بعض المؤرخين العرب والأكراد من نسل الجن، وهي رواية ساقه الكثيرون من العرب / وهو أن الملك سليمان أمر الجان بأن يجلب أجمل الفتيات من أوربا. و في طريق عودتهم / الجان / سمع الجان بنبأ وفاة النبي سليمان. فتزوج كل جني بالفتاة التي جلبها وهم على / جبال جودي وزاغروس آرارات / من هنا نسب الأكراد إلى الجان.
ثم يرتقي بالزمن التأريخي إلى نشوء دولة الميديين / الزرادشتيين / ماراً بطريقه، متلقفاً أخبار زينفون / أناباسيس / في رجعة عشرة آلاف جندي إغريقي إلى بلادهم، وكيف يتصيدهم الكردوخيون في مطاوي جبالهم ووديانهم. منتهياً بالإنكليز والأمريكان ومبشريهم.
هذا الزمن الدائري أو الشبه / الدائري / يحيط بنية النص الزمنية، يشير لحقيقة واحدة وأزلية تثبت في ذهن المتلقي. وهي بأن الزمن هو دورة حياة الشعب الكردي. الخالدة والأزل واستحضار الزمن الخيالي / الفانتازي / والتاريخي والعصر / الحديث / تعني مسلمة واحدة واستمرار وجود الكرد رغم محاولات الإلغاء من الوجود.
الشخصيات والزمن والمكان لا موت ولا نهاية بل أزل.
قدوم البارزانيين إلى بلاد السوفييت و بقاؤهم هناك، ومن ثم وصول مانو ساروخان وجكر عمشة إلى سيدروك، تأكيد لأزل قادم من خلال التراث الثقافي الشعبي وصلابة رجاله، صورة البارزانيين الحقيقية وصورة مانو ساروخان وجكر عمشة الفنية المبدعة، وجهان لصورة واحدة حقيقية واحدة، تضاف إلى حقائق الأسطورة والتاريخ، بالرغم من غياب الزمن النصي للتاريخ وعدم إحساس المتلقي به، إلا أنه كان الأكثر إفصاحاً وحضوراً ودلالة على ترسيخ فكرة الأزل.
يبدأ الزمن بالسير نحو الأمام ثم ينعطف بحدة نحو الوراء... الوراء...، الوراء زمن سحيق لا محدود، ملغياً نقطة البداية، لتبقى دورة الزمن مفتوحة حتى اللانهاية إنه دورة الأزل الكردي.
إذا كانت الرواية سرد ووصف، بالتأكيد فهي حافلة بالأماكن وجغرافيا وتضاريس مساحة تغطي كردستان من أقصاه إلى أقصاه؛ يكفي أن نستحضر / مهاباد ـ ساحة جوار جرا / لتعني كل أجزاء كردستان كل الدساكر والبلدان التي تقتسم كردستان: (دوي سقوط جمهورية الكرد الأولى. التي ظلل السحب تخومها، بضع مئات من الأيام وهزّ الأرجا . دوي الدم رجَّ الأثداء الصخرية لمنابت الكرد). هذا المكان الأزلي هذا الحيز الجغرافي / رجّ منابت الكرد / كم هي كبيرة هذه الكردستان كم تضم من السماوات والفضاءات والتضاريس والتي سرقت من هيبتها دول أخرى.
ـ المكان هو: العنصر الروائي الثالث، هو البطل الثاني للرواية كونه اشتمل على أكبر مساحة من مساحة العنصرين الآخرين للنص.
بقدر ما كان الأزل مفعولاً زمانياً فهو مفعول مكاني / بنفس الوقت / بعيد دون نهاية وهو أنقاض، والأنقاض تعني المكان. فكم بعيد هذا الأزل حتى يمثل هذا العنصرين الأساسيين في بنية تقنية النص. المكان بالنسبة للروائي هو الهاجس الذي يؤرقه، لذلك كانت الأشياء والأمكنة تمر تحت منظاره الوصفي لبلوغ وطن أو إحياء كيان يلزمه حيز أو جغرافية، ليقام عليه هذا الوطن. لذلك نجده يُكثر من وصف الأشياء الصغيرة كالحصى والرمال والأحياء ضفة النهر انتهاءً بـ / جبال جودي وجبال برادوست وسهول الجزيرة وكردستان وهكاري / فأول الأمكنة الرمزية التي اتخذت موقعها على الشريط اللغوي / كاي خودان ـ ساحة جوار جرا / هذا الوصف المتدفق بقوة نفخ في هذه الأشياء الحياة، فأفضى عليها النعومة والدفء وألقاً وجمالاً، بحيث تحولت الأشياء هذه إلى شخوص مفعمة بالحياة وينطق / الماء ثرثار صامت الحصى ثرثارة صامتة. ما يخفيه الماء سيفضحه الحصى، سيتولى الحصى إقتفاء الآثار الدافئة / يقول ظله للمكان كل حصاة بحجم حدقة الآدمي .
من الأزل القاني نرسم صورة الحياة، فالأحداث المتداخلة في سياق النص الروائي تتشابه إلى درجة التوأمة. ما بين الأحداث التاريخية الحقيقية التي أتقن الروائي حبكها في متن النص الروائي سقوط مهاباد ومقتل رجالها، يقابلها سقوط سيدروك ورجالاتها أيضاً، فكان التماثل بين الواقع والخيال متقارباً إلى حد بعيد، فالأنقاض لا تعني نهاية الأشياء، ربما كان السقوط هو فقدان للوعي. لكنه حتماً يعني عودة للوعي والانتفاض من تحت الأنقاض، لتبدأ بداية جديدة / كان على الجمع أن ينجوا من قيافي الشاه/.
اللغة الروائية كانت تفتقر لتلك الجمل المركبة التي تحمل وجهين أو أكثر من معنى وإن كانت هناك الكثير من الإشارات والرموز التي تكون خطاباً روائياً مباشراً، إضافة الإشارة إلى الأحداث لم تكن تعني الكثير بالنسبة لموضوع الحبكة. الحوارات القصيرة القليلة جداً والتي استعيض عنها بالوصف والسرد الطويل.
وكانت لغة النص متوافقة مع البيئة الريفية البسيطة وكان / جميل فاركو / هو الاستثناء من لغته وصراعه وحواره، مثلما كانت الشخصية ولغتها إبنة البيئة، وكذلك كانت لغة الرواية حيث غزارة في الأسماء الغريبة للحيوانات والحشرات والنباتات والطيور، إضافة إلى شذرات من لغة صوفية أضافت إلى ثقافة الروائي وتعددت مشاربه، إنها محاكاة العدم وليست للعدم.
فوتوغراف سليم بركات: مزكين كمو

عن تيريز.
كوم 22/09/2003