مختارات

سليم بركات

لطالما تهيأ لي أن اليأس هو جرم الشعر الأقصى، لأن إخفاق الحقيقة في ترتيب كمال ما، ينعطف بالكلمة في اتجاه لا يقينها، حيث يتقوّض النظام الذي كان أملاً غير محتمل قط، بوطأته المعرفية المنجزة المعنى.
إخفاق المعرفة، أيضا، حامل للشعر، ومولد لفتنته. والكمال المتماهي للمعنى، بشعابه الموصودة، هو معبر الشعر إلى فضائه، حيث الملغز اقتدار قدسيٌ على تأويل الكلمة بشعائر السحر الأول، غير الممسوس.
أيكون الملغز- كصفة للشعر- تهمة، بعدما جاهد الشعراء المحدثون في التحزب ل"الغامض" بتبريرات نظرية، ضد الملغز، الذي فيه "شر" الطلسم المتعالي على المعرفة؟
الغامض يفتضح أبداً. الملغز السري هو الذي لا يفتضح، مفتوحا لخاصية التعاقب في إشارات الكون. والكون يأس المعنى من أن يستظهر اللامحدود: هكذا الشعر هو الكون في أمومة اللغز، وأبوة اليأس.
غير أن الشعر، في بلاغته القصوى مبشر بالظاهر، مع ما يترتب على ذلك من تناقض لا يلبث- في التمعن- أن يستوي اتفاقاً وتطابقاً. ففي العرف يجري أخذ الظاهر على كونه الحدود القاصرة- كصورة- للباطن المكتمل. أي أن الشعر، على سند من هذا المنطق، هو المبشر بالصيرورات السرية خلف شفق الظاهر.
لكن الظاهر كمال مستبطن. والظهر غاية نفسه في الجلاء المحسوب كمالاً.
الظاهر- شكلا- هو المطلق، لأنة لا يتقوّض إلا لينبني، متوارثاً نفسه، فيما المحتجب تأويل ينسخ بعضه بعضاً في اليقين العارض للمعرفة، فيحكم الظن باقتدار لا برهان فيه.
خاصية الكمال- الذي هو فردوس القطيعة حاصل الغاية لا حاصل بعده. يتجلى وينغلق بكيموسه غير منجذب إلى إضافة قط. أي تتماهى خاصية الكمال في الظهر، ويلتحم الطباق.
فإذا تهيأ أن اقترب الشعر من جرمه، تجاذب والظهر مراتب المعنى، في الكليّ الهاذي للشكل المرئي، حتى يتجانس المنشأ مع علته الأولى في السر الطيفي للكثافة منقلبة إلى عرض يلتهم - بكامله - الجوهر.

أن يكون انتصار مزلزل للبلاغة، فإنما ينبغي تحويل غاية اللغة إلى إفناء للخاصيات، التي هي الصفات في المعرفة، وطرائق تنضيد الألفاظ كعلاقات مشمولة "ببركة" التشريع. وهنا واضح لزعمي، وحدي، أن البلاغة كمين من كمائن التنجيم؟ تقدير مختلق لعبور الألفاظ بين الأبراج وغاية الخيال في إبرام عقد بين القول ومعناه الأكثر جسارة. فلماذا يصار إلى تقنينه في خدود من الأنساق؟ لربما لم نستطع، كجيل معاصر، أن نعود بالبلاغة إلى فكرتها كإطلاق مجنون لبسالة الحروف كي "تفضح" بنعمة الحرية، إلى أقصى ما يحتمل الإفصاح.
جيل أخر، ب "تهور" مبروك، سيجمع البلاغة في غلالة التنجيم. وإلى ذلك الحين سنحاول ألا ننسى أن اللغة نظام العادة وسيفها، والبلاغة المرجوة، في قيامتها الثانية، ستكون إرهابا للغة، أي إرهابا للمعنى، كي تستحوذ على اللايقين، لأن الشعر لا يقين، بل هو الثغرة الأزلية في سور الفكر يتسلل منها الوجود إلى سره الدموي.
أعود إلى اليأس مستبشرا به، وإلى بلاغته كأمل، لأزعم- أيضا- أن من مشافهاته يدوّن الشعر، ففي اليأس، وحده، يشج المعنى نشيجه العالي، ويغرورق، فلا تبصر البلاغة الوجود- إذ ذاك- إلا والشعر اختبالٌ في صميمه، ممسوس بمشيئة القول الآخر، المستولد من رميم القول المتوارث تشريعا اختالا.
في الخطاب الاجتماعي، وناظمه النثر.
ربما ما من شيء نقتنصه الآن، في "التبشير! بجدوى ما للبلاغة، والشعر، والمعنى: لقد احترقت الغابة، والرماد وحده- كنز العقل.

السويد آذار 1999

أقرأ أيضاً: