لستُ قارئاً جيّداً لسليم بركات الروائي والناثر، رغم إعجابي الشديد بموهبته الفذّة على هذين المستويين الإبداعيين، لكنني قرأت مبكراً أعماله الشعرية في دمشق السبعينات، عندما كانت الحياة رحبة، والآفاق مفتوحة على احتمالات كثيرة. في ذلك الوقت وصلتنا من بيروت "دينوكا بريفا تعالي إلى طعنة هادئة" و "هكذا أُبعثرُ موسيسانا" وبعد ذلك قرأتُ "البراري" في بيروت خلال الحرب الأهلية عندما استقبلني سليم بركات وقادني في مشوار طويل داخل غابة البنادق الفلسطينية، سيترك آثاره العميقة على حياتي ككلّ.
سحرتني في البداية لدى سليم عنايته الفائقة باللغة، ولا أستطيع، حتى هذه اللحظة، اكتشاف الأدوات الخاصة لهذا الصائغ الماهر، لغة نظيفة وصافية تجرح من شدّة الجمال والقوة، إضافة إلى احتفاء خاص بعوالم الشمال السوري الذي هو عالمي الشخصيّ أيضاً. سأظلُّ أحتفظُ لسليم بامتنان خاص، لأنّه من الكتاب القلائل الذين عمّقوا إيماني بجمال اللغة، وحضروها في مواجهة القبح والبشاعة والرداءة. إن استثنائية سليم لا تقف عند الحفر الدائم في مناجم اللغة واكتشاف ما يمكث في النّاس، بل كذلك في صياغة أسطورته الخاصة، أقاليمه وعوالمه التي تتنوّعُ وتغتني، وفي كل عمل جديد تأتي حافلة بالدهشة والمفاجآت.
إن تسجيل شهادة عن الكاتب الحقيقي خارج لغة الصحافة السيّارة، وبعيداً عن المناسبات العربية التقليدية التي يظلُّ الموتُ أعلاها مرتبة، هو من أعسر الامتحانات التي يواجهها المرء. إلا أن تجربتي الشخصية في القراءة، تمكّنني من الحكم على هذا الكاتب الذي سوف تكشف الأيام التي لم تأت بعد، أنه أحد أهم من كتبوا بالعربية، بل هو كاتب عالمي بامتياز. وإن كنتُ أعرف أن اطلاع سليم على الإنتاج الثقافي العالمي، من خلال لغات أخرى غير العربية، يكاد يكون محدوداً، فإنه مع ذلك يعطي الحكمي عليه قيمة إضافية، وهنا يمكن الاستثناء؛ أي في اكتشافي الشخصي قبل كل شئ، والالتزام بشروط الكتابة فقط، في وقت يكثر فيه الخلطُ في الكتابة العربية السائدة، بين الكاتب والوظيفة والسلطة والسياسة إلى حدّ بات استقبال إبداع الكاتب من دون مقدمات ضرباً من ضروب المستحيل. وإذ أشَدِّدُ على هذه النقطة تحديداً، فذلك نابع من معرفة دقيقة، في أن سليم لو لجأ إلى توسل الشهرة والجوائز عبر الوسائل السياسية، لكان علماً ليس من السهولة بمكان تنكيسه. وفي تقديري الشخصي أن إيمان سليم العميق بالكتابة، وإخلاص الكاتب لها دون غيرها، هو الذي حفظ له ذاكرته الإبداعية، ومكنه من أن يسجل أرقاماً قياسية متتابعة.
هذه ليست شهادة نقدية، في ما يتعلق بإبداع سليم بركات، وإنما كلمة سريعة اضطرني إلى تسجيلها على عجل الصديق الشاعر نوري الجراح، الذي يحاول من قبرص تأثيث منفاه الجديد بمطبوعة جديدة. لكني في كل حال أحتفظ هنا بحقي الشخصي في تحية سليم المقيم في شمال الكرة الأرضية اليوم، له العزاء في احتفاء الأصدقاء والغرب به، في حين تنكره المنطقة العربية، وتسقط عنه حق الهوية الكردية وجواز السفر.
عن (القصيدة) /1