أحمد الحسيني
(سوريا)

في تاريخ الآداب العالمية، ثمت نجوم ساطعة على شعوبها أبدا، وثمة رموز استطاعت من خلال قدراتها على الخلق والابتكار ومن خلال وعيها الفردي العميق أن تشكل وجدان ونبض تاريخ شعوبها. تلك الرموز تحلم، تتأمل، وتعشق أيضاً. وتكتب كتابة لكل زمان ومكان. هؤلاء الى جانب انتمائهم الى هوية قومية وجغرافية وطنية يظلون في نهاية الأمر منتمين الى هوية أشمل وأعمق وأقصد بذلك هوية الإبداع.
هؤلاء المواطنون في مملكة الإبداع، يسعون بدأب الى اكتشاف جوهر الذات الإنسانية ويحفرون في جسد الكون بحثاً عن الحقيقة وحين يؤسسون لمبادئ في الفكر والمعرفة، يخففون عن كاهلنا وطأة الزمن ويمنحون حضورنا قي هذا العالم الكثير من الدفء والأمان. أنهم وباختصار لا يتركوننا وحيدين مع أسئلتنا.
و سليم بركات، العاشق أو القطب، الى جانب انتمائه الأصيل الى مملكة الإبداع، كان ولا زال وسيظل نجمة من الذهب على الكرد؟ هو أكثر من ذلك بكثير.
في الأدب العربي هناك القطب الأكبر، الشيخ الأكبر: محي الدين بن عربي وسليله ادونيس. الإنكليز عندهم شكسبير، السويديون عندهم سترنبرغ و غونار إيكلوف، الأسبان عندهم سرفانتس، والروس عندهم دستوفسكي، التشيك عندهم كونديرا، الطليان عندهم امبرتو إيكو، والكرد عندهم سليم بركات. الميدالية الأكثر لمعاناً وجدارة على صدر الكرد وثقافته الحديثة.
وأجمعهم، ملّكٌ للإنسانية كلها، أجمعهم كنوزها التي في البريق، مثل النجوم.
سليم بركات هو القطب الكردي الكبير، مع ملاي جزيري الذي سبقه بمئات السنين، في دمهما تجري روح العاشق.
لماذا العاشق أو القطب، لأنهما وحدهما يفعلان، ما يفعله سليم بركات.
منذ ثلاثين عاماً يكتب روح الكردي ونحاسه بلغة صارمة ونزقة لا تليق إلا بالملحمة المأساوية للشعب الكردي. لم يستخدم المشهد الكردي في إبداعه كمادة استهلاكية كما يفعل الكثير من كتاب الكردية كي يكسبوا العاطفة السطحية والتضامن المؤقت من القارئ. إنما الكرد في إبداعه، يتواجد دائماً في الموقع الأكثر دوياً للكلمة وفي المتراس الأكثر خطورة للتعبير.
يحفر بعيداً في دهاليز الذاكرة الكردية وبخياله الأسطوري الوقاد ينفذ الى جسد التاريخ الكردي القريب والبعيد، ليجعل لنا من كل أسطورة حقيقة ومن كل حكاية فرصة تأمل ممتعة، ومن كل حدث مشجباً نعلق عليه دهشتنا. كل ذلك بجسارة فانتازية مذهلة تؤمن بأنه على الإبداع الحقيقي أن ينميّ ذوق القارئ ويطور وعيه وملكاته وفهمه لأسرار الوجود.
وككردي، ودون أي تردد، أؤمن بأن التجربة الإبداعية للقطب سليم بركات هي المشروع الثقافي والحضاري والمعرفي الوحيد التي ستؤهل الكرد للدخول الى الألفية الثالثة، المشروع الذي سيوقظ العالم على روح الكردي، كي يعود مثل طائر الفينيق من رماده ويحصل، بعد كل هذا الموت بالخردل، على شرعية انتماءه الى حضارة هذه القرية الكونية.
لكن لماذا حياة الكبار دائما صعبة وملآى بالعذاب؟
هكذا رأيت في حياة سليم بركات.. المنفي من القامشلي الى دمشق، ومن دمشق الى بيروت، ومن بيروت الى نيقوسيا ومنها الى ستوكهولم التي لم تدرك حتى الآن بأنها تستضيف مؤسس مذهب جديد في الشعر والرواية باللغة العربية وأستاذ بدون منازع للرواية الكردية كما يقول الروائي الكردي بافي نازي، كما أنها أي ستوكهولم ستظل فترة طويلة كي تعرف بأنها تستضيف أكثر الحراس أماناً لثلجها ولإيقاع شتاءها الطويل.
ومع ذلك فعل ما يفعله العاشق أو القطب.
الأدب المؤسس، المكوِّن، هو المتفرد والمتسلط أيضاً، كل سطر فيه جديد، مبتكر، عاصف: لغة، مخيّلة، مكاناً، عذاباً، أشخاصاً وقصص حب، وقد دأب سليم بركات هكذا منذ أولى سطوره قبل ثلاثين عاماً الى اللحظة هذه وهو جالس بيننا.
كتب سليم بركات أكثر من عشرين كتاباً، ما بين قصص الأطفال والسيرة الذاتية والرواية والشعر، وفي كل كتاب كان يقوض، ويزيل، ثم يبني بناء لا يشبه بناء أحد سوى نفسه.
من أين كل هذه المخيلة؟
أهي صلصال إنساني شامل؟ أم روح الكرد في الإبداع؟ في الظن هما الاثنان مضافاً إليهما عبقرية سليم بركات المتقدة مثل الحياة نفسها.
في شعره أسس لغة صعبة، وعرة، فيها من الغناء والملحمة والحساسية والانفجار والعذاب ايضاً الشئ الكثير، وهو في كل نص شعري يذهل قارئه ويدفعه الى التساؤل، من أين تأتت له مقدرة الخلق المستمر!
في رواياته كذلك والتي يستحضر فيها مكانه الكردي مشفوعاً بمكان إنساني عميم، فيه من السحر والذكاء الخارق، يجعل القارئ في السؤال مرة ثانية، والحيرة: أمن المعقول كل هذا الفيض الإبداعي؟
في السيرتان هو كذلك.
في حوار مع الروائي والقاص الكردي بافي نازي الذي عاش لسنوات في استوكهولم والمقيم الآن في موسكو، يقول سليم بركات هو أستاذ الرواية الكردية بكل امتياز.
وأقول هو العاشق وهو القطب، فلولا وجود هاتين الصفتين فيه، لما استطاع أن يخلق ويؤسس. هو مثل طاغية يترك أثرا يدوم طويلاً.