صباح زوين
(لبنان)

كلما عاد سليم بركات بكتاب، يعيدنا معه الى لغته الغنية، تلك التي يطيعها بقدر ما يطوّعها، وتتغلب عليه بقدر ما يتغلب عليها. اعتدنا سليم بركات في تجربته الكتابية الصعبة غوصاً في اعماق الفعل الكتابي حتى الهلاك.
فالكتابة لديه عمل شبيه بالموت من اجل اللغة. وشبيه باللغة من اجل ذاتها حتى الموت. لذا نراه متكاملاً في صنيعه، وأريد بالتكامل ذاك الذي يحوّل العالم كله أحرفاً وكلمات.
وأهم ركائز الكتابة لدى بركات المكان - اللغة. تلك الثنائية الفكرية - السردية، وما يتفرع منها طبعاً من معانٍ جوهرية أخرى، تشكل لديه أساس الصوغ. والمكان يعني كذلك اللامكان الذي يعود في استمرار الى كتابات بركات، لا - مكان الشعب الكردي من ناحية لا - مكان البشرية جميعها من ناحية أخرى.
الترحال، او عدم الاستقرار في المكان الواحد، هو حال الانسان مذّ كانت الخليقة. يذكّرنا الكاتب به. والبحث عن الفضاء الملائم للجسد واللسان، أساس القلق الثابت. لا وجود حقيقياً، وبالتالي لا لغة ان لم يحظ المرء بحدود واضحة يتنقل في ارجائها ليمارس هذين الظرفين البديهيين على النحو الطبيعي المفترض.
لذا نرى بركات، الفاقد مكاناً، والخائف على وجوده وعلى لغته، متخذاً الكتابة موطناً له. أما أدقّ تفاصيل الحياة التي تستند اليها كتابته، فليست سوى التأكيد على وجود حقيقي، بأرضه وشعبه ولغته وعاداته، وجود بعيد كل البعد عن الوهم المدمِّر (كسر الميم). لغة سليم بركات في حاجة الى تلك المحطات اليومية الصغيرة كلها لتتحقق من ذاتها ومن صاحبها.

اللغة:
تخشى لغة بركات الاندثار، التواري، فينعشها بأدوات العيش اليومي، بديكور الحياة العادية. إلا ان هذا الديكور يتخلى عن عاديته، ما أن تحوّله اللغة عملاً فنياً متفوقاً، حيث للفعل الكتابي الدور الاكبر في منح المفردات والجمل الطاقة الايحائية والتصويرية، الضرورية لإنجاز النص الابداعي. "ان الصوت برهان بصري تحت قباب السهول اللامرئية"، هنا نقرأ نموذجاً من نماذج بركات الكثيرة، حيث نجد ذلك الرابط المتين الذي يخلقه الكاتب بين الصوت والظرف المكاني. وهنا أيضاً الأهمية الكبرى التي يوليها، أثناء السرد، لعنصرين اساسيين في كتابته، هما الكلمة، وتلك الارض التي يتحدث عنها. وكأن الصوت هو الذي يخلق السهول، والحرف هو الذي يخلق الارض المفقودة. لكنه يقول لنا في واقعية جارحة، ان تلك السهول تبقى غير مرئية طالما انها بعيدة المنال، وتظل هي حلم متناثر على صفحات الرواية. ويظل الكاتب محافظاً على المناخ العام للترحال، موحياً للقارئ ان شخصيات الرواية في سير دائم نحو مكانٍ ما، وان التوقف الوجيز ليس اكثر من محطة هشة معرضة للزعزعة في كل لحظة. "... ريثما يحمل النهار إليهم خطط الضوء المرسومة كرات تتدحرج من امل الانسان الى امل المكان".
اذا كان بركات يرسم عبر صفحاته الصاخبة تلاوين الأمل البشري، بدءاً بالبط والأوز ولعبة المنقلة والمتاجرة بالبضاعة الأليفة المحلية، من محاصيل الزرع والأواني الداخلية، فلكي يلبث هذا الوميض متأججاً وحاضراً، كبديل من فقدان المكان.
واذا كان الكتاب عادةً، الارض البديلة لكل كاتب، فروايات سليم بركات هي بمنزلة الوطن البديل لشخصياته. فهو يحاول، خلال السرد، الحفاظ على اللغة الكردية الخفية، وعلى اللغة العربية الظاهرة (المكتوبة)، ذاك ان اللغة، أياً تكن، تبقى الارض الوحيدة التي يمكن امتلاكها ورسم تخومها. بل هي المكان الوحيد حيث يجوز التنقل في حرية تامة، بيد انها الحرية الأصعب لأنها في حاجة الى اعتناء متواصل وجدية للحؤول دون فقدان ذاك المكان.
"سلالة من النساء أمام الأنوال. يولدن أمامها، ويكبرن أمامها، ويُعدن أرواحهن المعارة الى قناديل مؤجّريها الخفيين، من غير أن ترتخي قبضاتهم على خشبات رصّ الخيوط". من يوم الولادة الى اليوم الاخير، يرغم الكردي على صون لغته عبر ممارساتها المستمرة، بلا كلل، وفي اعتناء من يعيد صوغها في كل عمل، شرط ان تتوافر الارادة والمثابرة.

المصالحة:
أوليست صورة الأنوال والنسيج انعكاساً للغة التي يحوكها بركات، ويعيد حياكتها، كل مرة، في دراية وشغف من يرى من الحرف والكلمة الأمل الاعظم لشعب فقد الامل؟! "عزلات نساء، اذاً، يدخلها البط والأوز مصالحاً بينها وبين خيال الأنوال. هما طائران يعرفان ان آلة النوّل تستدرج، بخيالها النسيج الى فتنة العبث... اللون فراغ تدخله النساء، والبط، والأوز، ودجلة، والضفاف الرابضة نموراً على شغف المتاهات الأنيسة". صورة فريدة بجمالها، هائلة، يضمّنها بركات أفكاره الأساسية المتعلقة باللغة ومتاهاتها وفراغ الوجود والتباساته.
كيف لا يفتتن القارئ "بفتنة العبث"، تلك الصورة الفاتنة؟ كيف لا يفتتن بالبط والأوز اللذين "يصالحان" (وهما عنصران واقعيان) بين وهم اللغة (النسيج) وحقيقة العزلة؟ كيف لا يفتتن القارئ "بفراغ اللون"؟ تلك الصورة المتناقضة التي تشير الى فراغ العمل الفني الذي يكاد يقتل صاحبه، لولا تدخّل الادوات الحياتية الملموسة والحقيقية، كالحيوانات التي يتكرر ذكرها، والمياه، وضفاف النهر...
لكن، بين الكتابة والحياة، يبقى الالتباس بغموضه وألغازه، كي لا تتم المصالحة تماماً، خاصةً في غياب ارض واضحة، ثابتة، معقولة. فيعود الكاتب يرى، عند كل شفقٍ، متاهات المكان المنسوجة بخيوط متاهات اللغة.

نُشرت في "النهار"

أقرأ أيضاً: