محمد جمال باروت
(سوريا)

محمد جمال باروتتصدر تجربة سليم بركات عن غنائية كونية ملحمية، تشتبك فيها أزلية العالم مع زواليته. يبدو بركات في هذا الاشتباك وكأنه مبتكر نوعاً من "لغة عليا" تقوم على أنقاض اللغة "العادية"، وتمثل علماً أسمى للعالم في سيرورة وحدته وتضاداته اللانهائية. فيتخطى حس التضامن مع الأشباه إلى حس التضامن مع العناصر الكونية. مع العناصر الكونية. وبتعابير تودوروف يتخطى بركات في "لغته العليا" لغة التواصل اليومية ما بين البشر إلى لغة التواصل مع العالم، التي تتحول فيها العناصر الكونية من موضوعات إلى كائنات، وتشير إلى وعي بكونٍ شاسع لانهائي لا يشكل كوكبنا إلا جزءاً منه. ويبدو بركات في ذلك شاعر تلك الوحدة ما بين الأرض والكون، التي تحضر فيها اللغة الثانية، أي لغة التواصل مع العالم، أو اللغة العليا. تظهر هذه اللغة بالتالي وكأنها جزء من لغة الكون، إذ تكتشف "المعاني" الوجودية أو الأنطولوجية الكثيفة للأشياء، بشكلٍ لا نرى فيه الكون بل نحياه. لا يمكن للغة العليا هذه أن تكون بالتالي إلا كلية أو شمولية. ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في شعر بركات في "الجمهرات" التي يستيقظ فيها الضمير الكوني كله في شروطٍ "نثرية" تنفيه. وإذا ما توقفنا قليلاً عند هذا العنوان الدال سيميوتيقياً على عقدة تحولات، فإن الجمهرات في مستوى أول من مستوياتها ليست إلا المقابل الأولي أو البدائي للجماعات الاجتماعية المنظمة والمتراتبة وفق علاقات التحكم والسلطة. فالجمهرة عفوية غريزية بقدر ما هي الجماعة المنظمة أوديبية. والجمهرة مشاعية بقدر ما هي الجماعة طبقية. بكلامٍ آخر ليست "جمهرات" بركات إلا الكينونة البدائية الأولى للكائن، التي ينهض فيها زمن التوافق بين "الروح والعالم". تحضر هذه الكينونة تشكيلياً في شكل تدمير للبعد الثالث أو المنظور الذي يبرز الجمال في أشكاله الواقعية أو الإحالية "الأيقونية". تنتج بدائية العالم الشعري أو جمهراته عن هذا الفعل التدميري، إذ يؤسس بركات هنا حساسية بدائية أو وحشية بالعالم، بالمعنى الأنتروبولوجي الذي يواجه ما بين المتحضر/ البدائي، المنظم/ العفوي، الطبقي/ المشاعي، على أن نعطي "البدائية" هنا معناها الشعري الغني في سياق رؤيا تعود بالكائن إلى طفولته الأولى وليس معناها الازدرائي الذي تكشف عنه الأنتروبولوجيا الكلاسيكية. ففي هذه الأنتروبولوجيا الأخيرة ليست العلاقة ما بين المتحضر والبدائي إلا علاقة تفاوت معياري ما بين أعلى وأدنى، تتحكم فيه علاقات السيطرة والسلطة. يكتسب مفهوم البدائي تبعاً لذلك مضموناً تبخيسياً ميَّز الفكر الأنتروبولوجي الكلاسيكي، في حين أن البدائي في عالم بركات هو مثال جمالي يكشف عن عودة إلى كينونةٍ أسمى، كان فيها الكائن متجوهراً مع الكون. البدائي هنا هو تلك الوحدة البدئية ما بين الكائن والعالم التي دمرتها مفعولات السيطرة "العقلانية" عليه. بكلامٍ آخر يعيد بركات إلى العالم السحر الذي نزعته عنه تلك المفعولات، ويرده إلى طفولته الأولى في زمانٍ جديد ينفيها. فإذا كانت لغة التواصل ما بين البشر تحيل إلى عالم تم نزع السحر عنه وإغراقه في النثر فإن لغة التواصل مع العالم يحيل إلى عالم يستعيد أبعاده السحرية والماورائية الكلية. يكتسب العالم الشعري هنا بالضرورة طابعاً رؤيوياً، أي طابعاً ميتافيزيقياً وحدسياً في آن واحد يكون فيه الشعر طريقة معرفة داخلية مباشرة. لعل هذا ما يفسر إرجاء المعنى في هذا العالم إلى لانهاية، إذ لا ينقل معنى بقدر ما يبتكر دلالة تتصل بما سبق لمرلوبونتي أن سماه "المعنى الحيوي" أو "الوجودي" للعالم أو بما تسميه الشعرية الحديثة بـ"التكثيف".
يغدو الشعر هنا طريقة معرفة وكينونة وليس مجرد طريقة تعبيرية عن العالم. إن لغته العليا هي هنا لغة رموز ديناميكية بالمعنى "الرمزي" العالي للرمز وليست لغة رموز أيقونية ملونة بأطياف مجازية. الرمز الديناميكي -الرؤيوي بالضرورة- هو رمز تكويني، لا يحاكي العالم بل يخلق عالماً جديداً، في حين أن الرمز الأيقوني رمز تعبيري. يتيح ذلك لنا الاقتراب من العلاقة النوعية بين هذه الرموز الديناميكية المشبعة بـ"المعنى الحيوي" أو "الوجودي" أو "الكثافة" وبين العالم الشعري البدائي الطفلي. فالكلمة ليست تعبيراً بل فعلاً خالقاً تكوينياً للعالم، يقوم من خلاله بركات بخلق سفر تكوينه الخاص، الذي يتلبس فيه العالم ويتلبسه العالم. يحتشد هذا السفر بأسماء وأمكنة مهمشة وأزياء ووجوه ونباتات وأنساب وأمصار وآلهة وأساطير وشعوب مختلطة متمازجة، وبحمائم وعصافير وإوز ودجاج وحدآت وبغال وزرازير وخطافات وعناكب وماعز وحجل وتيوس، ورند ونعناع وياقوت ولوتس وسرخس وسنابل وزبيب، وبعربات أكراد وبأغانيهم وأمكنتهم، وببدو وفلسطينيين، وبأساطير وحكايات حب وبطولة وقتل، وكأن الشعر ابن القاع التحتي الشمولي للعالم، وكأن العناصر احتشدت كلها في موكب احتفالي "أنسكلوبيدي" واحد هو موكب "الكوني" بكليته المشروخة وبطوليته التراجيدية، وجلاله المضخم باليأس، فلا يعود ممكناً تمييز الشاعر عن العناصر الكونية التي يتلبسها وتتلبسه.
يبدو عالم بركات هنا عالم الصيرورة اللانهائية، أي عالم الصيرورة التي لا أول لها ولا آخر، التي ينفي فيها كل شيء نفسه باستمرار، وتنهض فيه تكوينات الولادة والاضمحلال، يكتسب العالم داخل وحدة عناصره الكونية في هذه الصيرورة أشكال التضاد والجدل والتغاير والتبدل والتقمص والتناسخ والتحول من صورة إلى أخرى، والتي ليست إلا مقولات الصيرورة، يشكل التحول "الميتامورفوذي" منهج هذه الصيرورة. إنه بالمعنى الأفلوطيني المحدث الذي ترتد إليه "ميتامورفوذات" بركات، منهج التحول من كينونة إلى كينونة أخرى، يرى فيها بركات الحجر في ثياب الهواء والهواء في ثياب الحجر. وبهذا المعنى أيضاً فإنه منهج الوحدة البدئية ما بين الكائن والكون. لا ينفتح ذلك على نوع من صوفية حديثة إلا لأن الصوفية الحديثة نتاج ميتامورفوذي، إلا أن صوفية بركات الكونية محتشدة بالعناصر. وما يسميه الأفلوطيني المحدث بـ"الميتامورفوس" هو ما يمكن لبركات أن يسميه بـ"التحول". تغدو الأنا الشاعرة هنا أنا بطولية كونية ممتلئة بوحدة العالم وتضاداته، ينسج فيها بركات "الخصومة نسج الحاذق" و"يبتكر المداخل ويهدمها". فالأنا الشاعرة/ الكونية مسكونة في تحولاتها "الميتامورفوذية" بـ"حمى الجدل" الكوني الشامل
سأحشر الأضداد
حشر الأحناش ووحدي
بحناني وشكيمتي وبأس القرنفل
سأكون الخوذة على كل رأس وسأكون
الدليل الدموي في الأجساد المهيأة
للعراك
يتحول العالم الشعري وقد غدا موكباً كرنفالياً إلى حلبة ملحمية بطولية تتواجه فيها الأضداد والنقائض. يتخذ هذا الموكب صورة تشكيلية محازية تتجاوز فيها العناصر المتنافرة، محطمةً منطق التشكل أو التشابه، وكأن الأنا الكونية البطولية هي محور تحول تنافرات الكون إلى كيان متناغم ومتشقق في آن واحد. كأن تضادات الكوني قد تكثفت كلها في تلك الأنا.
ولكنها الخصومة، واحتمال النقيض بالنقيض، لكن سيكون لكلينا أن يزج بالآخر في جداله المعدني، لا ميثاق، كلانا هاجس، وكلانا رنين الدرهم على رخام الماء، ونفير النفير، أعزلاً إلا من بوقٍ صلصالي سيحشد ما لا يحشد، أمام سلطان الدم، ولسوف ترتد خطوة فأرتد خطوة، ولسوف تقف من ورائك الجذور والرمال، وتقف من ورائي الجذور والرمال، ولسوف تمتد يدك إلى المقبض الزبرجدي للصباحات، ولسوف تنظر إليَّ ملياً، وأنظر إليك ملياً، لا ميثاق، كلانا عارف أن الفاصل البارد من الحصى والظلال -بيني وبينك- ليس رئة أو دعابة مهرج، وأن هذا الفاصل البارد، المدخر لصواعق الظلال، وكنز الباسل هو الحلبة.
إن "الباسل" و"الحلبة" و"الخوذة" و"الخصومة" و"النفير" و"المقابض" و"الغزو" و"الهتك" و"الاقتحام"... إلخ هي تغايرات صورة الإنسان الكوني "القوي" الممتلئ بالكون. فهذا الإنسان مفتون بفعل "القوة" الذي هو أحد أفعال بطوليته الملحمية. يشير ذلك في إطار "كثافة" العالم الشعري إلى أن الإنسان الكوني البدائي في آنٍ واحد، يقبض على وحدته وضديته معاً. فما عاد ممكناً للرائي أن يستعيد زمانه الملحمي الكوني الأول حين كان هو العالم والعالم هو إلا في وحدةٍ ضدية مع الزمن النثري القائم الذي يحضر في عالم بركات تحت أسماء عديدة منها "الهندسي". لكأن عالم بركات في مستوى من مستويات تحولاته هو ذلك العالم المقتلع من بدائيته أو من تناغمه الكوني مع ذاته، والمقذوف في حمى الجدل والتضادات. يفسر ذلك ثنائية البدائي الرعوي/ المديني المتحضر، والجمهرة العفوية/ المؤسسات التراتبية في عالمه مثل الدولة، الجيش، المنصات، الأحزاب
- قديماً، في القديم القريب
حين دحرج الشمال
أعمارنا على امتداد سكة الحديد
بين "تربيسي وماردين"
وفاجأنا صوت القطار الكهل، أول
مرة، معولاً تحت
ثقل الماشية، وانقراض الحكومات
الكبير كانت القرى
تجر عرباتها أمام سور المدينة
وكان الواحد منا يلتفت إلى قرينه
هاتفاً:
"يا للدولة الجميلة
يا للجيش الجميل،
يا للأسلحة الجميلة،
يا للرصانة الجميلة،
يا للحزب الجميل"
من السهل هنا تمييز الضدية ما بين العوالم "الهندسية" والتكوينات "الجمهرية" في شكلها الرعوي، أي في شكلها البدائي الخاص. وتكمن مأساة البطل الكوني في أنه يستعيد "جمهراته" في زمنٍ نثري ينفيها. من هنا يشع هذا الإنسان بالبطولة بقدر ما يواجه تراجيديا الاضمحلال. ففي متوالية الصور الكبرى للاختراق والاقتحام والقوة والغزو والهتك والاشتباك يمكننا تمييز الصور الكبرى لتراجيديا الزوال والإمحاء. لعالها تراجيديا الإنسان الكوني، الذي يحتشد بالعناصر ويمتلئ بها ليبصر في نهاية نشيده البطولي احتضارها وتواريها وزوالها. إن لحظة اقتلاع الإنسان الكوني من جمهرته، وشطره ما بين شق شعري وشق نثري، هي لحظة امتلائه بشبكة التضادات والتناقضات التي تمزق كلية الكائن. وهي حمى تضادات عالم فقد طفولته الأولى ويحاول استعادتها. من هنا تتزامن في وقت واحد الصور الزوالية مع الصور التكوينية. وكأنه "الملحق" في نهاية "الجمهرات" يمثل احتضار وتكسر العناصر التي تكونت، وانسحابها الوئيد من الحلم الكوني الواحدة تلو الأخرى، وتشردها في الفراغات والفضاءات اللامتناهية: بقرات السماء، وتواري البغل الأعمى، وارتطام الحدأة بالقبور المعلقة في بهو الكون، ومضيها من رماد إلى رماد، وبنات آوى وهن يدلفن إلى السرير الدموي، وتشييع العرائس، والتفاف المشيعين، واستسلام الأدراج للطعنات، وكأن بركات يرثي فجيعته بوحدة الكون واحتضار عناصره.
يأخذ الاضمحلال هنا صورة كونية "ذوبانية". يكتسب العمر شكل قوس يمتد من لحظة تكون إلى لحظة اضمحلال. غير أن القوس يتحول إلى دائرة، يفضي فيها كل تكوين إلى زوال، وكل تألق إلى انطفاء، وكل تخلق إلى فناء، وبالعكس. وداخل هذا الحطام الكوني يبدو الكائن مثل ثلج يذوب ويتحول إلى صور مغايرة في توالي الزمن
غير أن الذاكرة
لوت الوقت كعود الخيزران
فرأينا عمرنا أشبه بالقوس، ومن
ثمة أصبح دائرة
ورأيناه في الحطام
ثلجنا الهارب من عام لعام
يمكن اعتبار هذه الحركة المزدوجة من الولادة التكوينية والموت الاضمحلالي صورة من صور الجدل أي صورة من صور الصيرورة وتغايراتها المختلفة والمتعددة. من هنا تبدو "الأناشيد" في "الملحق" مرثيات للكون البطولي، وتهجئة للموت، ومسافات حنين، وتقوس فاجع، ودوائر حصار أزلية، وبقايا حطام. وهو ما نراه في هيمنة الصور "الاثناتوسية" المتواترة التي تحيل إلى العالم الدلالي للزوال والانطفاء، وكأن الانطفاء قدر منقوش في صلب بطولي، ليكون كل قبر قبره. بكلام آخر يبدو بعد الاضمحلال والتواري (الذي يكشف حس الرعب من زوالية العالم) مظهر آخر لـ"يقظة الضمير الكوني" في حمى الجدل والصيرورة. ولعل تلك الصور "الاثناتوسية" التي هي وجه آخر للصور "التكوينية" تعيد بوصفها نوعاً من الصور الكبرى الكلية الممتلئة "حيوياً" أو "وجودياً" بالعالم السؤال عن العلاقة ما بين الشعر والميتافيزيقيا إلى أوله. فما يسميه الميتافيزيقي بالمماثلة التي تقود إلى الله هو نفسه ما يمكن أن يسميه الشاعر بالرمز الديناميكي التكويني الذي يكشف علاقات غير مرئية ما بين الشعر والعالم. وكأن بنية اللغة الشعرية بتعبير كوهين ليست إلا بنية الكون.
ينهض في منطق الصيرورة الذي يحكم عالم بركات نوع من صورة عليا تعمق الجدل في العالم المقتلع من طفولته بوصفه وحدة ضدية. يذهب بركات بالعالم في هذه الصورة العليا إلى أقصاه. كل أقصى يحتمل الذروة والاضمحلال في آن واحد. يمكن تكثيف هذه الصورة العليا بصورة بركات عن "جدال الجدال"، التي تحضر في استبدالات صورية متوالية: استسلام الشاطئ للشاطئ، نفير النفير، تفريغ الفراغ، فتح المكان لمتاه المكان، تشريد الشريد، ملء الرياح بالرياح، جعل العراك بالعراك، إباحة الإباحة، تتويج الرماد للرماد، محو الأختام للأختام، تضليل الجهات عن الجهات، اتساع الخطى للخطى... إلخ. وإذا كانت هذه الصورة توالدية ذاتية، فإنها تشير إلى قبض تراجيدي على العنصر. بمعنى آخر إن نزعة تعميق جوهر العناصر بتوليدها اللانهائي من دينامياتها نفسها هي نفسها نزعة محوها واضمحلالها وزوالها. فكل شيء في عالم بركات يتكون ويصير ويتصادم ويتحول ويبلغ "الجبل" ثم يضمحل ويتوارى في عالم تحكمه الصيرورة. إن جنازة الكوني هي هنا البعد الآخر لموكبه الاحتفالي الحاشد.
لا يمكن في عالم شعري تكويني لشكل القصيدة أو نوعيتها كما نعرفها إلا أن ينكسر. إذ ليست القصيدة مجرد شكل هندسي تنظيمي لغنائية بركات بأبعادها الأسطورية والملحمية والرعوية والبدائية بل هي شكل وجودها، التي تبدو فيها بنية اللغة الشعرية بنية الكون. ينفتح شكل الوجود هذا على أشكال كثيرة، تبدو فيها القصيدة وكأنها تتوالد ذاتياً في مناخ الصيرورة اللانهائية. فتتخطى النوعية التقليدية للقصيدة إلى شكل مفتوح على أجناس أدبية وكتابية أخرى، تتيح محلاً للتفاصيل والأرقام والأمكنة والسرديات والمسرحة والحواريات والأصوات المتعددة والأناشيد البطولية والحكايات والأساطير ولغة الكهانة. وهي بوصفها عقدة تشابك ما بين أجناس عديدة يتم تهجينها، تقترب مفعولاتها أحياناً مما نسميه اليوم بتعبير متواتر بـ"النص" الذي لا يكون سوى هجنة نصوص، يتراسل فيها التخييلي مع العجائبي مع المرجعي، ويحولها الشاعر في فضائه الجديد ويبتكر شكله. يقص الشاعر ويسرد ويحكي ويغني، وكأنه مؤرخ "ميتافيزيقي" تراجيدي لماورائيات البشر والأمكنة والعوالم. وقد حاول بركات في تجربته المتنوعة والغنية بالأشكال أن يوصل تعددية أشكاله، وتداخلاتها وهجنتها إلى أقصاها، وأن يمضي بها إلى نهايتها، أي إلى حدود تكسير النوعية، لتكون شكلاً مفتوحاً يستعيد بنية كتاب الكون المفتوح، الذي كان بركات واحداً من أهم قراء لغاته البعيدة، واستبصره دوماً بوصفه ليس وجوداً مكوَّناً بل وجوداً يتكون ويصير باستمرار. وإذا كانت الحداثة قد دمرت الأبعاد الخيالية والأسطورية للعقل، وحولت العقل إلى عقل أداتي في خدمة علاقات التحكم-السيطرة فإن الحداثة الفنية التي كانت في اتجاهها العام مضادة لهذا العقل الأداتي وموصولة بطفولتها البدائية الأولى وأنماطها الأصلية، التي هي أنماط الكائن الكثيف الممتلئ بالمعنى "الوجودي" أو الأنطولوجي للعالم، تجد في شعر بركات علامةً أساسية من علاماتها، ليكون الشعر لغة الكائن المنبجس مباشرة من بدء البدء، والذي يعرف أن الكوكب ليس إلا جزءاً من كون فسيح، أي ليكون بكل بساطة اللغة العليا للكون المفتوح.