( 1 )
بداية، لابد أن نتعامل مع سليم بدقة متناهية في تفسير المفردة. ومن ثم الصورة أو الجملة، إلى البناء المتكامل في النص العصي. وإلحاق هذه المفردة أو الصورة أو البناء الكامل في وحدة التفسير الكلي ضمن سياقات ربما لم نتعود فيها على فهم الجماليات الفلسفية المطروحة. وخاصة حين يقلب اللغة وما فيها نحو الساكن الأزلي.
تعامل حاد، قاس وأحياناً كثيرة نافر يتعبك و يتركك تختار العودة دون أن تحقق شيئاً منه.
لماذا هذا التراكم اللغوي القادم بعباءة من نسيج الأقوام الملتحفة العربية, وتسريع السياط في الهواء لجر عربات المدن النائمة في أسفل المعادلات الناقصة التي خلفت ما نحن عليه من لغة تتجاوز أهلها ؟!!.
هل العربية التي تطرح هي الخلاصة الحادة النقية. و ما دربت عليها من لغة قريش؟
أم أنها مجموع لغات, تشابكت في وحدة الصيغ العامة و تشكلت منها اللغة العربية ؟!!
لن أدخل في هذا المضمار، وأتركه للنحاة الأفذاذ أن يعيدوا منحة العربية ويستقيموا على مفردات أصيلة، ومتفرعة وأعجمية، وغيرها. لأن القواميس بما فيها, تتضارب في الكلمة قبل المعنى المتباعد عنها, دون أن توجد اشتراكاً حقيقياً لمبنى هذه الكلمات وتفاعلها ضمن الفكرة.
أشير إلى هذه النقطة الهامة، وأتمنى من المعنيين والغيورين على فهم الحياة, أن يكشفوا العلاقة العميقة في هذا المنهج , ويدركوا أسباب إمساك اللغة من قبل عظماء وعلماء غير عرب، من سيبويه إلى آخر المطاف. وهذا السؤال أحتفظ به لنفسي قبل الآخرين، لكنه سيكون المفتاح الأشمل لفك جريرة الثقافات واندماجها, وتكوين معايير أخرى تتلون مع الزمن والتاريخ . وأن يثبتوا تأثير العربية على ثقافات الشرق وخاصة الهندية والفارسية والصينية , وما يحيط بهم من الذين يكتبون بهذه الأحرف , علماً أنهم أخذوا الثقافة والمعرفة من هؤلاء في بداية النفوذ العربي الإسلامي .
من هنا تندمج اللغة المركبة, لدى سليم بركات الكردي بتواشج الذات المتناحرة على الوجود, والجملة المبهمة في لغة عربية مطعمة بالأعراق الأخرى. فنشعر، من الشكل، أن هناك تضاداً أو صعوبة فهم، وتكثيف لحالة جد مضطربة لأنه يعيد اللغة إلى منبتها الأولي. وبدلالات من عبق الامتزاج قد يرفضه الآخرون ولا يريدون الاعتراف به ضمنياً ولا علناً. فالتسيد لغةً, بكل قوامه في البطش المستمر أسقط من العربية الكثير, الكثير . وتحولت مهام الحكام إيجاد قوة تحمي السلطة وبمفردات تخص هذا القائم بأمر الله الحاكم المطلق، ولغة تتناسب والوضع الذي فيه. وأقولها بصراحة، أنها انسحبت إلى زمننا هذا وبترقيات أكثر بطشاً لدرجة ما عادت ترى التغيير، إلا في تلبيس المؤامرة للشعوبيين الذين يستنطقون حقوقهم التي محقها الأوصياء.
هل من شواهد ؟!!...
كثيرة جداً, وتباينت بشكل فضائحي أثناء الخلافة العباسية. وما بعدها ؟!!
ما يهمنا من المقام، إن أغلب الدارسين لفكر سليم بركات ونصوصه، يثنون ويمدحون هذه القامة التي استحدثت اللغة الميتة/ المطمورة / في شكل لا يقاوم، وتجاوزت الدهشة إلى العمق الفلسفي. ورغم ذلك, يتخبطون في فكّ رموزه التي يستخدمها, لأنهم لا يروا البعد الآخر من الإدراك اللغوي الحقيقي في بنية اللغة العربية, المكتسبة من اللغات الأخرى، والتي لا تزال تحمل جينات وصبغيات مختلفة, تستطيع تشكيل فضاء يختلف عن الفضاءات المنعزلة, والتي تقوقعت فيها اللغة بدءاً من الإسلام واستحداث انقلاب فيها بسيطرة العثمانيين على موازينها في فلك غيبي كرّس الجمود بوجه يمدح تسلطهم, واستمرارا للحال التي هي عليه الآن, وضمن أطر ضيقة عاجزة عن التخلص من هذه القيود, ودخولها في أزمة حقيقية, وهي أحد الأسباب الهامة لأزمة المثقف والسلطة, التي عزلت الفكر وجمدت اللغة في مساحات, رغم بعض النشاز والخروج عليها .
ومن هنا، وهذا المنطلق، يجب التعامل مع سليم بركات بعيداً عن تأبط النزعة الانعزالية في مقامها القبلي والعنادي، والتي لا ترى غير ذاتها المتضخمة وتنفي الآخر كلياً.
وبالطبع, الحال ليس مع سليم بركات وحده، بل مع مجموعة المثقفين والفنانين والمبدعين والمفكرين, الذين يكتبون بالعربية ويتعاملون مع الإبداع من خلالها. وهم كثر من المغرب إلى المشرق وغيره. والذين يتهمون من قبل دساكرة الإبداع الحاكمي بالتخريب والخيانة وغيرها, من الألقاب تساقطت ولا تنفع مع الحالة التي نتراهن فيها على قرية العالم. وبرأيي, أن تتضافر الجهود الخيرة في كشف ملابسات هذه الحالة القائمة, ودراستها وفقاً لما يمليه الضمير الراقي، المتجاوب المندفع نحو تحقيق الحقيقة، وأن لا نختبئ خلف ضمير خائف يستدل للسلامة وطمر الحق والحقيقة.
( 2 )
في هذا البحث المتواضع لن أتداخل في بنية كاملة من نسيج بركات، لأنه بحاجة للتوقف أمام كمٍ هائل من الأسئلة وسأختار قصيدته (تصانيف النهب) وتجريدها عن كل ما كتب سليم. وأفكك الخيوط ضمن سياق الموت / فلسفة الحياة/ وتناول التجربة التي تثيرها هذه القصيدة في معتركنا الحياتي.
فلسفة الموت، هل تتجزأ في التعبير ؟!! .
وهل يحق لنا مواربتها خلف الغيب والتمسك بوحدانية السيطرة على الرقاب من قبل /عزرائيل/ والذي يسير من قبل الله وفق نظام مدبر في العلم الأزلي نحو نهاية التاريخ والحياة.
لا يركز كثيراً على مهمة عزرائيل, كسيد يقود الموت وفق سجلات القضاء الرباني كما تتناوله الشرائع السماوية, باستجرار الروح إلى بارئها وترك الجسد إلى التراب القادم منه. بل يناطح الغيب، ويرى أن من أسباب وجوده هو الموت الذي يدك الحياة وفق قوانين وشرائع لا يملكها, وتسير من قبل الرهبة المستحدثة في الإنسان بامتلاكه أدوات الفتك الفظيعة. وبالتالي يخمد دور عزرائيل في قبض الأرواح، وتنتفي بذات الحالة الألواح المحفوظة. (بالسعاة القناصين يضيقون بين أجفانهم في مسافة الجرف الأزلي المشرف على الهاوية ذاتها, التي يعرق ظلامها حياء حين ينقل الله القيامة من لوح إلى لوح ) ص 16
سؤال محير في طلاسم الأسئلة، يقذفها سليم في قاع الكينونة، كحجر مرمي في بئر لا قرار له و لا نعرفه. نسمع صوت الحجر، يرتطم بجدار الغيهب ناشراً صدىً يدغدغ الذات في تناغمها، بإيراد من إخراج الصرخة الحرة في اكتشاف مكنونات متراكمة، مغيبة التفسير، محلقة في الإحساس.
والأصعب في دهشتنا، دافعاً سطل أحجاره المغسولة السيليكاتية، المنقاة دفعة واحدة إلى فوهة البئر. لتحدث جلبة وارتطاماً يتصاعد كالراقص على الجمر في امتصاص الحريق المتنافر في جسده من الداخل والخارج. ولا ماء يغمس اللهيب, إلا لقطرات السائل المنتحة من هذا الجسد المعرق، في سطوع المحرقة الداخلية، إلى أشكال الأسئلة نحو الغيب في بُهم الكينونة.
من أين نبدأ بسليم؟
أيحتاج للتعريف؟!!.
أم يريدنا أن نرى ما فعلته حجارته المرتطمة بجدران العمق فينا واستنطاق الماء في الهجيع ؟
كيف يمكن تفكيك اللوحة الهائجة بمزيج الميتان في دم الثواب على مقربة النار ؟
و هل يمكن تقسيم المساحة إلى قطاعات، نسبرها وتسهل علينا عملية الدخول ؟!!
أمامي النص، بحبكته القاتلة. وكل الأسلحة لا تفقه طيشها الهادر في مهارة القناص.
وأمامي المسرح, وما به من مكونات متداخلة تستحضر الشخوص والكائنات ما قبل البدء وسديم الفتك. بدءً بقابيل وهابيل وإلى لحظة هذا القلم، بحبره المثلوم عبر أقنية الفصاحة، تتحرك وفق سجلات الدفاع عن شطط الموت الأولي, في هابيل المنتدب وصاية الموت في زمهرير الجسد المعلق بذاك السؤال المحير لغزاً بغزارة التكهنات والعدالة الإلهية في وجود الشر. ومن كل هذا ... أين سليم ؟!!
هل تركنا في بهرجة الشهود الباحثة عن ذاتنا في مأساة الطيش. واعتكف على دواته في مختبره، ليدفع الحصى ثانية قبل أن تغلق الستارة على مشهد أدخلنا في الصدع المزلزل نبحث بين ردمياته عن سلاسل الحكمة في المجهول وكشف الجحيم ؟!
أمامي النص في الكيميائي المتألق بمختبره !!!. ولأن معادلته تتوالد في نتاج صدمات متتابعة رخية وأخرى حادة ، صدمات الكهرباء لجسد بقلب متوقف.
يجعلنا ننتفض بإحياء النائم فينا وعودة الدم لشريان القلب المتجعد، ودقاته عبر النبض في توجس الروح وتحليقها.
أمامي النص. مخالف مُتحدٍ، يضع العربة أمام الحصان. عجلات للأعلى والحوذي يبالغ في كبريائه معلق برقبة الحصان. كيف يكون المشهد ؟!!
هذا حالنا، والنص. هذه ذاتنا المضطربة والمشهد. لندخل قليلاً في مختبره أو لنلقي نظرة على مادة الموت في / تصانيف النهب / .
في النقيض: العلوي - السفلي (الخوخ - النبات المهرج), الأمل - اليأس (النور -الاعتذار)، اللقاء - الفراق (الملاك و النساء - الحبر المستعصي)، الصمت - الثرثرة
(الكراسي - الدهان المقشر)، النعاس - السهر (التثاؤب - الجيران القلقين)،
الستر - العراء (المعطف - العزلة)، الصخب - الهمس (النقر - الضجر)...و هكذا.
في الحركة: شكل الشاحنة - العتلة - السلسة - البكرة - الرقاص - الميزان... الخ
في الوجل: إطراقة الزاهد المفكر - المرشد ....إلخ.
الكيميائي: القوارير الزرقاء - المعادلات على الورق الصقيل - مضخات المياه -
أنابيق - عضل و قطن الجراحة - مساحين - نواظير - أقلام الرصاص - / الكوبيا / _ السطل - الفرشاة ..... و هكذا .......
الموت - الكائن : مونولوج داخلي ينطلق من سفر التكوين (السديم، المادة، الحيوان)
و صراع الخالق في المخلوق .
الإنسان المنتج من مداعبة الأيدي البيضاء الطرية للغيب في شهوة أروع تكوين مستولياً على الحقيقة المستندة على أرث منهوب من فاجعة المكان /العبد/ للمكان /السيد/ . بداية الميراث (قابيل _ هابيل). وكنت الفيصل أيها الموت هكذا يفتتح رحلة البدء، من أنكيدو المجندل والموت في بحث جلجامش عن الخلود لموت الموت في سهوه.
أين سليم من هذه البداية [ أيها الإرث النوراني للنسيان النوراني ، ستتبعني مُذ ساقك اليقين في يأسك إلي ، و حرضني الأمل _ بكلمات النهاية _ أن أعتذر إليك عن جرح خصك به الموت أيها الموت ] . ص 9
حوار جميل رغم قسوة الكشف عن عورة الموت، المرتبط وإبليس /الشيطان/ في اتجاهين مختلفين لتحقيق البقاء في هيمنة الرب على مقود الكون. الشيطان بإغراءاته في مسك الفضيلة وميزان الخطيئة. والموت الذي يضع حداً نهائياً لهذا الغيب كاشفاً موت الموت في هدأة الله. [ أيها الموت: ركلة تفتح الباب، ركلة تفتح الأبدية على فجورها، ركلة تفتح باب الفردوس في ثغرة سياجك المصنوع من قصب الذرة، ركلة خفيفة تدحرج الكون إلى إعجازه ] . ص 19
دقة الكلمات في ميزان روح، الأزل /القديم/، الأبدية /الدهر/. هكذا يوقفنا سليم في بقعة يحوم الموت حولها هراطقة الأنفال، يجرون الموت نحو المهزلة في سهاد. ويعيثون بخرائط المكان الذي يطحن المكان لسلاطين يغوون الموت لبسط سلطانه على المكان المطحون. وكأنه يؤرخ الموت في سجلات البطش، محدداً نوازع الإنسان على الإنسان ليرث الأخر. حوارٌ، يكشف ضعف الموت المقموع المُسَّير نحو الخراب في تقمصه ضمن هذه النوازع المدفونة في اضطرابات النفوذ الأعم. ويبعد خلافه من حالة التقادم وتلف الجسد وفق ترهل طبيعي يفقد سبب بقاء الروح فيها.
الموت في فلسفة سليم من هذه الزاوية، تحصيل حاصل لاستمرار الكينونة وتسلم الإله /الرب/ مقاليد الزعامة الأبدية . ودون الموت تفقد هذه الخاصية، ويستريح الله من أعباء الكون المتمثل للعيان بشكله الحالي. وتتحول الحياة بما فيها وهي عليها إلى الطمأنينة المفقودة على الأرض، غير المرئية والمتوالدة للشكوك في أصل الحياة نحو الأزل في الغيب الذي لا يتداركه. [ أَ أُمهِلتَ فأمْهَلتَ الله ؟ ] ص 38
ولكن البعد المطروح، يتمثل في حوارية الحياة ضمن استنطاق الموت الشاهد عليها. الشاحنة ببوقها المزعج، تدفع عجلاتها إلى دروب اللامعقول الطويلة .
ينفرد بسخرية لاذعة لهذا الموت الغبي الذي يقوده متعجرف للاستيلاء على الكنوز وهو في بلاهة لا يتدارك سرها. ويرشده للخلاص من سكاكين القصابين بتهكم حاد مشيراً إليه أن يتخذ احتياطاته في مواجهة هؤلاء وأن يسلك كالخائب في دهاليز الكلس والجص متجنباً مناكبهم التي تتحداه .
وكأنه يقول للموت، أنك لست وحدك القائم على الخراب فالجزارون أيضاً خدشوا الغيب. ولكن بطريقتهم الخاصة في الحيوان /الكائن الآخر غير الإنسان/.
يتحدث عن الموت الذي فقد خصوصية عمله، وأصبح ألعوبة بيد الإنسان أو متواطئاً معه أو خصماً ونداً ويمكنهما أن يجندلاه في غفلة ويبعداه عن مهمته الحقيقية : [تحسس مطواتك التي كنهارك في جيبك، أيها الموت، فقد يحتجزك الحمقى في الأسواق المسقوفة بقرون الثيران، ليستنفدوك قبل أن يموتوا أيها الموت]. ص21
هؤلاء الحمقى الذين يشطبون الحياة في الطرف الآخر /الحيوان/ يؤطرون حقيقة الموت قي استلام هذه المهمة بعيداً عن قدرة الآخرين في إملاء إلهي. وتدار المقصلة في هذا الطرف بسخرية من عبث الخلق، حيث يتسلح هؤلاء بهذه المقدرة وسحب البساط من تحت الآخر والانفراد في تخريب الكائن /الحيوان / وقتله وبسط سيطرتهم دون الغيب .
الموت في استدراجه، لمحاكمة المتهم في إطلاق صراخه إلى ضمير القاضي الذي هو متهم بذاته. والشاهد، الذي نجي من مجزرة الموت المخمور في دسائس السادة، يستنطق الموت المخدوع في جرائم ارتكبها بدلالة حكمة الرب, أم شهوة المخدر في موائد
السُكر ؟
السرد القسري للغنائية الداخلية, والمخبأة في تراص الصور الثابتة والمتحولة:
الثابتة في الشكل المتكون باندماج الذاكرة والعين, والمتحولة في مسك الزمن المنتحل شخوصاً وذوات ذات حجم وشكل معينين وبعد فراغي.
الثابتة في استباق العين قبل أن تتوالد انتفاضات العقل, لتؤكد الرموز المستترة الهادفة لتشكيل نسيج اندماجي, مغاير تماما لما تبحث عنه النصوص في ثنايا فلسفة شاملة متكاملة , تتزاحم بتوارد الصورة تلو الأخرى لتمزق الكامن فينا وخلق أسئلة ضمن أخرى. هذا الشكل نراه مثلا للموت (شاحنة - شخص يتحسس مطواته - يأكل الكرفس - حيوان ,..... إلخ ) (كن رزينا كما يليق بمترف أن يكون) ص15
المتحولة, وهي التي تتكاثر بشكل سرطاني. وباعتقادي هي أداته الأكثر وضوحاً في ما كتبه, وخاصة بإسقاطاته المتميزة بدهاء متماسك, مسيطر, ومتمكن في تغير بنية الكلمة في تكرارها الإيجابي , وإدخالها في غنائية الكلمة قبل الجملة التي تصعقنا بتسللها في خلايا الجسد قبل الروح. سواء كانت هادئة مريحة, أو صاخبة متعبة, كما في الشواهد التي
تتدافع ( الضوء - اليقين -........ إلخ ) . (أنت مثلي تشهد ختان الفجر, ومشاجرات الضوء, وكذلك النزال الصباحي بين المكان وحماقاته) ص17. (في اليقظة الكسولة للكمال الكسول) ص 28. (على نهار مغلق على مساء مغلق على الضياء ينشج نشيج الريح إذ تضيق الريح ذرعاً بالهبوب الذي هي فيه) ص32.
لا أريد الدخول في ما كتبه بركات (مجمل كتاباته), ولكنني أؤكد على هذه الخصوصية
لديه, وبزغت منذ البداية في تشكيلها (الحكائي - القصصي - الملحمي ) ليس في نصه الشعري بل في الرواية وحتى في سيرة الطفولة والصبا. وانسحبت على كتاباته الروائية بشكل واضح ومكثف وغرائبي في الزمان والمكان. وهذه الذاكرة المتشكلة في بيئة مختلفة في طقوسها وأعرافها, ومنبتها وهويتها عن المركز الذي تحدثنا عنه في البداية. في فضاء لغة مستنبطة منها ودمجها ضمن المدلول اللغوي المغاير, أعطت خصوبة غرائبية في شكلها المغاير, مكنته في تناول وتطويع المفردة وفقاً لمنبهات العقل الباطني وسيرورته للكائن المستدرج من المكان إلى إبداع مزجي منفرد. ويمكننا سحب هذه الحالة, إلى مثيلاتها في كل بقعة أدخلت عليها اللغة العربية / الإسلامية, سواء تحدثت بها أو استنبطت مقاييس ومعارف منها . هذا اللاهوت المندمج في ذاكرة بركات, المتغير في الحكايات والملاحم وقصص البدء, والتحول العشقي في منبت التكوين, دفعته إلى ابتكار أداة اللغوي المسكون بيقظة لغة مغايرة المنبت واللفظ والتعامل, مسكونة في حافظة داخل أخرى. كيف ذلك ؟.
إنها لغة الأم, المنتشرة في كل اشتهاء للحنين المطبق على أنسنة الذات المنقطعة عن نبع الحرية, المتلازمة في إشعال وإزكاء اللهيب في مداولات زمنية طويلة, أرخت لواعج خاصة. ولكن الحافظة الأخرى التي دخلت وجدان بركات في تعامله معها, ومن خلال التراكمات الشفهية المتداولة, بتركيبية نظامية مغربة وغريبة عنه, عن طريق الكتابة والمدرسة التي أسست فيه تناقضاً حاداً, ومزاجية مركبة. شبكت الفكر الشفاهي المؤسس في لغته المحكية المنطوقة , إلى لغة كتابية تنفض العبث في مجايلات تدون الذات قبل أن تكون لغة توضيحية في نقل الميراث إلى علم آخر. وهو البعد الإنساني, بما فيه خصوصيته كانتماء لهوية تخصه وتتلاطم على مدار التاريخ في البحث عن كينونة الاستقرار. بالطبع, لا نضع التاريخ خلف ظهرنا وما قام به من قبله, بني جلدته في إضفاء هذه الخصوصية الخصبة على تراث عربي, نتداوله في شخصيات عملاقة أثرت المكتبة العربية والفكر الإنساني. ولكنها تصب جميعها في الإرث اللاهوتي - الصوفي الإسلامي مجازاً, أو في التاريخ الديني الممزوج في بعض جوانبه الفلسفية التي تخدم المسار ذاته. بينما بركات استفاد منهم في الدخول إلى العالم اللامحدود, وإسقاط الهم الإنساني الملتصق بهذه الخصوبة في توليفات تستند إلى استجلاء الموروث, بنفس مزجي يواكب قوة اللغة الموروثة, وفتح المدارات المغلقة دون تحطيمها أو كسر الروابط والبحث عن الذات المنفردة. وليست فكاهة, بقدر ما هو واقع لا يمكن إلا التعامل معه كحقيقة تخص المفردات المتداخلة والشرح المسهب, من الصعب توضيحه حين يشعر العربي نفسه غريباً رغم أن الكلمات المتزاحمة عربية المنشأ وكردية السلوك , كيف؟
هناك مفردات, تتشابه لفظاً في اللغتين ولكنها مختلفة في المعنى والمنطق. وبالتالي سببت شرخاً في الذهن, ما بين التقاطها هنا وهناك, ومع الزمن سببت تراكمات جميلة, كونت مزيجاً في البنية وفي أحادية اللغة القرآنية حصراً. وأخذت منحى آخر في التفسير والاجتهاد, وإدخال الموروث الآخر ضمن المسيطر الأحادي. وهنا لا أهدف فتح الأبواب ودراسة هذه الظاهرة, في كل بنية من المشرق إلى المغرب وإن كان هذا ضرورياً ولا بد منه. لكنني أريد التأكيد على هذه الخصوصية عند بركات, لكي نتعامل معه بشكل صحيح وندخل عالمه, من بابه الواسع دون أن نحطم نوافذه وهو بانتظارنا في هدوءه واستقبالنا بود لنعلن عن تعبنا للوصول إليه بعد مشقة ؟!!.
وحواره الشيق والموت ضمن المكيدة التي استند عليها في (تصانيف النهب), ليس هو مما عولنا عليه في تفسيرنا فقط . وهذا الرأي ليس لأنني من بني جلدته, وإن كان لنا مثله هذا الترابط في ثقافتنا وحياتنا اليومية .ومدى تداخلها بتكوين بنية الجملة والفكرة المنبثقة وهذه الخصوصية. فبنية النص السردية, الحكائية لديه, تختلف عن نماذجها في الحكاية العادية, لأنها مرتبطة بالبداية التاريخية التي ولدت في ذهنية الشعب, وتضخمت إلى شكلها الملحمي بدلالات تناقلت من جيل وآخر بإضافات وروح جديدة, عززت انغماس الأمل وتعويل الخلاص ضمن تكوين البطل المنقذ, في خصائص لا يمكن أن تتحقق دون رمز إلهي يضفى عليه.
وهذه حال الأقوام المنفيين عن هويتهم وينشدون الحرية. وتتدفق منذ اللحظة الأولى في نشيد الأم للطفل المدغدغ بحضنها, تغني له الأمجاد لينام في صوت الحزن والعشق وسلطان الموت حين ينتشر كوباء في الغزو والفتك بأرواح آمنة. ومن هنا يسرد بركات وبائية الموت, بشكله المختلف ويدخل في المكان مباشرة, واستيلاء الحقيقة على العرش نهباً .
يحدثه ككائن متمثل بشخص يستدرجه إلى المحاكمة المبطنة, في إسقاطات لا نرى للأمكنة من اسم سوى كردستان التي يريد من خلالها أن يثبت مسرح الموت وساحات
معاركه فيها, وفضح الموت الذي تقمصه الإنسان ليرث العرش. (و لك الزهر الممتحن, والقوافل العابرة من كردستان إلى المديح) ص30 .
ومن خلال بناء (قصصي - حكائي). يحادث الموت بوجه النقيض (الحياة) بداية معالم الغيب المنتمي ليقين الموت المرتبط والخلق. ومن ثم يستدركه إلى صخبه , وما يمكن فعله من دمار وتدوين آثاره من ممر الأعمدة الذهبية إلى بساط ثمين وثريات وكتب منضدة على رفوف شهوة الغيب إلى خزانة يريه معاطف الأجداد اللامعدودون وانهيار الإمبراطوريات وتسلطها على بعضها, وهكذا حتى الآن, بشكل مدهش ومزيف.
ويتواصل في النص ,ببراعة المسيطر على سبر خفايا نوازع الموت . وتسجيل اعترافه الضمني, وإدخاله أخيراً إلى البداية المنتهية المفتوحة في دار البلدية التي تمثل منبع القيادة في حياكة المؤامرات لطحن مكان ما؟ (سأستودعك الموت أيها الموت, في المشهد الممسك بالأفق - نزيفك الصامت, حيث يسلخ العادي المكان كالجزة بسكينه. سأستودعك مبنى البلدية الذي ينتصب أمامه الذئب في هيئته الإسمنت [ ذئب المبنى ذي المداخل السبعة) ص55 _56.
هذا الشكل السردي, لإيصال الفكرة إلى نهايتها وضمن توليفة بناء الهيكل العام لها,
واستخدام تقنيات مستحدثة, متطورة, تختلف عن البناء (الحكائي - السردي ) العادي
جذريا ً, والتي تعتمد الحدث ومتغيراته في وصفيات تسقط النص في الرتابة وبنهاية مكشوفة . وسنوضح الاختلاف إلى أسباب كثيرة :
- بنية الفكرة, أو الحدث تتجذر في خلق أفاق متعددة, تتصاعد الشاعرية فيها بممسوس التناغم اللغوي وتبعدها عن شروحات الحدث الوصفي, بقدر ما تنغرز في العمق وبمسار فلسفي يتبلور في إثارة الأسئلة في الخبايا, ومحاولة اجتثاث العادي من الإحساس الذي يتلون في مسار النص, ودخوله اللعبة في حذر على عكس الأنماط التقليدية التي تسير ضمن الحدث إلى خاتمة الحكاية. بينما هنا تظل مفتوحة, وتحرضنا للعودة ذي بدء إلى مواكبة الحكاية لاستلهام, وكشف خلل الشكوك المثارة في الأسئلة المدمجة بأجوبة شاسعة. (أتصغي إليّ أم إلى حياة تسهر, أنت, على كنوزها وأيها الموت؟) ص 20 (أنت لا تنام, فلم استراقك السمع على النوم, أيها الموت؟) ص27. (وغدك غد يستأجر الحقيقة كحمال لأمتعة الغيب) ص29. (تشيخ طويلا أيها الموت فتنسى أنك موت ينساه الموتى) ص32.
- غرابة الهيكل المشيد عليه النص, ضمن إغلاقات الصورة المتحايلة (الشكلية_ الفراسية). وتشكيل دوائر منفردة تتداخل في بنية , ينفرد بها بركات بكمها ونوعها وتطبع بصماته الخاصة جداً, حتى تكاد (الجملة - الصورة) أن تكون نصاً تبنى عليها مجموعة أفكار. (صمتك نقي, ولكنك شريك ثرثار أيها الموت) ص10. (كأنك تتأمل البذخ الأعم للمغيب, وتصغي إلى الجماد ينشدك ما تتلكأ النعمة و من ارتباكها, في إنشاده) ص14 .
- دمج (الزمان - المكان) في سيرورة الكائن وتحولاته, دون أن يؤرخ الكائن في قائمة الزمن. وتنوع الأربطة بين الكائن في اختلافه الحيوي و الجمادي, وكأنه مختبر لكل الوجود يستدل بوشائج عميقة في تكوين معادلات الغيب ضمن الوجود. (ألهذا أنت يائس كحديقة تنصب كمائن من ورد, وتختزل الأرقام في دفتر الهواء الصيرفي) ص34.
(لكنني آسى لنكبة المساء المفتون باليقظانين, يشحذون النهار كالمدى على حجر نسيه الموت في خلائك أيها الموت) ص36. (ابق جاري. ما عليك: سأدللك, أنا المترف, بهبات تلزمك أيها الموت, كأنما يتوسل الرجاء إلي أن أرفع على كتفيك سراق اليقين, وأؤكد لك قَسم العظام المسنونة كرماح تحمي البوابات) ص41. - ملحمة سحرية تفاوض الغيب في استبقاء الممكن ضمن حالة تجريدية تصفع الروابط دون تحطيمها لترتخي في مصارحات، وحوارية تكشف جزءً من العلاقة العارية لتمثيل حالة الارتباط بواقع مكلل بافتعال الغيب وفي شخوص لها الحكمة والسلطة لتغيير الممكن وتقويضه من النشوء النجمي. (ويتهدل رقاصك المكسور , متعرياً من نشوئك النجمي لتغدو شريكي, الذي يكيل معي - في الميزان ذاته - مجرة الدم ويقطينه المعرش) ص13. (كل سينتشلك من الغرق بخطاطيف الموعد الماجن, كل سيمهلك مهلة لا موت بعدها أيها الموت) ص42
وهنا تتغير الحالة السردية في التركيز على انعطاف الفكر الملوث بتقاليد متوارثة إلى تنشيط الذاكرة في البحث عن أسرار العلاقات المحرمة أو الدخول في أسئلة غيبية تتدرج في حظوة الكفر والعصيان. وذلك عبر ترويض الموت من داخله في إباحات يلتقطها المحاور بشخصية المتغير في الصفات، كأننا أمام عدة أصوات تنفض عن الموت اعترافاته بسؤال يفضي إلى المطلوب. وبالتالي أسقط من يدنا التعامل مع نصه في تراكيب مكثفة ,وكأنها خلاصة اختصارات لصوره المتعددة في اغلاقات تتلاقى بشكل وآخر إلى الجواب التساؤلي في نهاية كل مقطع, يغير فيه حالة التعامل مع الموت. وكأنها راحة لأخذ نفس عميق ليعاود التواصل مع تحول إلى منحى آخر. (كل شيء أكيد ببيانك, أيها الموت: مدائحنا, والجيوش التي تتسلى بالنرد حيث المذبحة على أتمها كفرج, حيث الأرض المؤرقة, دون سماء, دون ندم, دون حكمة أو أنين - الأرض في تيهها - الأرض الذاهلة أبداً في جمال القرين) ص43. (وأنت كشاف الله أيها الموت, عجولاً تشرف على المنتهب, وتشاكس المقدور) ص49. وهنا تطول الحالة السردية التي لا تقتل الأسلوب المتبع في (حكايته-ملحمته) بقدر ما تضيف أسلوباً ومنهجاً, متحرراً من العقد والوصايا في شرح هيكلية جاهزة. لأنها في الأصل, تعتمد الوميض المنبثق من الجملة-الصورة التي تحير الذهن وتوقفه في فلك الجمال الفكري والحيوية المنشطة, للانشداد نحو عوالم متضاربة متخالفة، وساحرة في آن واحد. (أتتقدم إليك بتدوين يذهبه الإخباريون في المنسك الأول للريح, أيها الموت؟ أتتقدم, مطرقاً, إليك, أم تمتحن ثقلك الحي في اللغز الحي؟) ص50. وهذا الاضطراب الذي تخلفه الجملة- الصورة تحرك الباطن من الذات وتدعو للمتابعة في ربطها بالتي تليها لتشكل فكرة تلو الأخرى، تكسر حاجز الرتابة المصاحبة للسرد في نقلها للحدث أو الفكرة. والتأكيد هنا على بنائية تتضمن في ترتيبها على اللامعقول وأحياناً على التجريد ,لتلتقي في تشكيل نص يعتمد التسلسل في تفتيت الحاجز بين هذه الرؤى/الأساليب/ باعتماد الحلقات المتفرعة منها في بناء طقس, يعتمد على تصوير المعنى بلبوس تتقصى الفلسفة المستندة على الخلق والخالق. (واعذر الذهول يدفع القطيع الأكبر من بهائم النور وسباع الباطن, كما المجرات, إلى الكثيف الشهواني, بحمد القديم العابر بتنانينه المتلألئة كالأفلاك, كأنما أنا وأنت, رقيقين, مسحنا أسرارنا بزيت السمسم, ورققنا الذهول شفافات, أيها الموت) ص53. وضمن نزعات لا يمكن الرضوخ لها إلا في إبراز الشكل الملحمي المتكون من أدوات تبرز براعة بركات فيها ومدى دقته في أن يكون حداداً ونجاراً وقصاباً وكيميائياً و........الخ.
ولا يمكننا التهرب من حقيقة, الإرهاق الذي قد يسببه نصه لامتلاك ناصية المقود, والدخول في تشريح الهدف الذي يحققه لنا من معاودة, التعامل بحساسية وحذر في مواجهة الألم الجميل المواكب لصراعنا مع ذاتنا في بهرجة بركات، وبالتالي نتحصن بأدوات لا يمكن لأي كان, الحصول عليها أو تجهيز نفسه ليقارع نصوصه دون إحساس غامض فينا، أننا لم نصل إلى ما نريده ونكتفي بقراءتنا المتعددة للنص، بل يجبرنا إلى حين وآخر وبحالات مختلفة لتفكيك الرمز الحيوي في صداماته. - السريالية القتالية ... تجاوزاً لهذا المعنى تجعل نصوص بركات بعيدة كل البعد عن السردية الفجة والتقليدية ويدخلنا في الحلم الذي يريده في تشويق المعنى المرتكز على هذه الحافة تماماً، ويوقظ فتنة الوجودية من خلال هذا السريال المكدس في صوره البالغة للمبارزة ولالتقاطها ونحن في مسار ضيق جداً أو على السلك الجمبازي أو على وتر الجحيم والصراط, وخوفاً من سقوطنا في متاهة لانهاية لها إن لم نكن يقظين في عناده المقصود للإمساك بخيط تلو الأخر. ومن هنا أعتبرها سريالية قتالية لأنها تضغط المكمن الهامد فينا وتصعقنا بمشاهدات من أعماقنا وكأننا في غفلة منها ولا تنتمي إلينا، وهذا الخليط الأسلوبي المنبثق من حافظة الذات الكبيرة لمدلولها اللغوي، اللفظي إلى بث في الحافظة المركبة دون إسقاط الذات في ترجمة المعنى الاستباقي من ذاكرته الملحمية وانغماسه في المفاصل الرحمية الأخرى, شكلت منتجاً جديداً، مطاوعاً للإبداع وثرياً في هذا التجمع المقصود والمثابر من قبل ذواكره الملتهبة الماهرة- الماكرة. وتجانساً غير طبيعي يصعب نفيه، ونبذه بقدر ما يشكل خصوبة تؤسس لمدرسة يمكن أن تكون انطلاقة للمواقع الأخرى في تزكية هذه الحالة وبمقاييس تخصها وانتمائها المختلف. (وأنت, كوراق حصيف, تموه الحبر على الحروف بحروبك التي تحشد لها أحلاف العنب, هنا , حيث ثغور الفاكهة هي الثغور التي يتسلل منها العداؤون بأقدار الفاكهة, حيث حنق الغبار يبلل المساء العاقل, حيث اليقين الماكر, والعصافير المرتطمة بذهول الحدائق, حيث قطيعة الليل بين الألم والحمى, حيث المجاذيف, والأقنعة الرحيمة كأنما فاكهة تحتال على الفاكهة, حيث الأمل يغتصب شقيقاته على السرير ذي القوائم التسع, حيث الدهاء الذي من ورد يشرف على خسائر الحقول, حيث القلاقل الكبيرة هي قلاقل الصعتر, والشغب الكبير هو شغب النعناع, حيث الشك - ضاحكاً - يلقم العذوبة, بيديه, حساء الآلهة) ص23 - 24.
- عودة إلى شكل الصورة وانسياحها في التعقيد اللغوي ونبش الكلمات المقبورة أو المطمورة والتي تتكاثر في نصوصه وتسير في منحى مخالف إلى حد ما, لما هو عليه الحال بلغة ومفردات متداولة ومفهومة دون اللجوء إلى القاموس. فما الذي يريده بركات من هذه العودة؟ و هل يمكننا ضمن هذا السيل الجارف أن نتفرغ ونستخرج المعنى المحدد من القاموس؟
باعتقادي أن بركات لم يتقصد هذه العودة، لا بل ساقته قدريته كذات مختمرة في لغة مختلفة/هوية/ محكية متناثرة في وجدانه وذاكرته. إلى لغة تحكمه وتفرض عليه للمتابعة والامتداد في شكل الحياة ولتكون الفيصل في تعبيره عن ذاته المندمجة بهذه الحالة. والذاكرة فيه وليدة الطقوس الدينية/ الميثولوجية /التي فكت له الحرف والمفردة لتشكل الأساس الذي دفعه لامتلاك مهنة الإبداع ضمن لغة رصينة مدرجة في تقليبها بموازين النحو والصرف والمعنى.
والاحتكام إليها أكثر من اللغة المتداولة وخاصة تعامله مع اللغة, أكثره مع الكتاب ولم يتعامل شفهياً بها إلا في وقت متأخر نسبياً. وأسست بالتالي تباعداً مع المعنى المستخدم أو اللغة المتموضعة في الثقافات اللاحقة من عصرنا هذا.
ومنذ البداية كان نشازاً في صرخاته التي خلقت استغراباً في الوسط الثقافي, بامتلاك للغة صلبة تطرح الجديد في مفردات مطمورة أو منسية. وانسحبت على تجربته كلها دون استثناء .
وللتعامل مع نصوصه، لن يختلف اثنان على ضرورة استعمال القاموس لفك المفردة الجديدة التي تتبعثر هنا وهناك ضمن سطوره. وزادها غرابة لاستخدامه المكان المنتمي إليه بكائن يتجلى في النبات والحيوان و الصخور إلى رموز تخص المواقع والأسماء. و دفعنا إلى قواميس خاصة بالحيوان والنبات وغيره، ليزيد من صعوبة الاقتراب من نصوصه التي تشكل هيكلها بهذه المؤثرات جميعاً. هذه البداية لا تفك طلاسمه, والتي تتجاوز القواميس بإسقاطات تاريخية و وثائقية تزيدنا صعوبة في أخذ النفس. وهذا ينعكس سلباً على الذين يريدون الدخول في عالمه. ويكرس حالة من الحذر أو الاقتصار على مجموعات معينة تستطيع أن تمتلك الوقت والثقافة الكافية لتخطي الحاجز البدائي في عالمه، والدخول عميقاً لامتصاص الرحيق الفكري والثقافي من ثراء إبداعاته.
ورغم كل هذه الصعوبات، يشدنا بركات إلى عالمه بقوة وينشر العذوبة في أعماقنا كلما تجاوزنا حقلاً من حقوله في رائحة طيبة متنوعة تثير الدوافع الكامنة للانغماس أكثر فأكثر في الاقتراب من فخاخه ويلتقطنا كالقطا والحجل.
ويداعب الوهج والحلم من عيوننا القلقة وهي تتفرس وجهه الضحوك.
وما أجمل أن تحتفي بزائر ليس عادياًَ، ينسيك وجودك وأنت في دهشتك، يتحرك كالمكوك, يجهز وليمة اللقاء في مطبخك. ويدك لا تتوقف في شده لاحتضان وهو يتقافز يقطع الهندباء المأخوذة من سلال الملائكة, ويفتح براميل الكساد ليخرج الكرفس ويقضم منها لتعض البقية بشهوة وفرح .... أهلاً بزائرنا العزيز ولنا عودة .
القامشلي
نيسان 2004