احمد عمر
(سوريا)

عن روايته السابعة
( الاختام و السديم)

بدأ سليم بركات مسيرته الروائية برواية فقهاء الظلام، مستهديا بحكاية تؤوي شخوصها ورموزها، حكايته مختلفة وملتبسة ولم تنج من سطوة ماركيز وان انكر ذلك في حواراته، كان ذلك أول عهده بالرواية وما لبث أن تابع مغامراته السردية واستوى مذهبه الروائي في الريش، فطاشت الحكاية وتاهت واشكلت، والتبست البدايات بالنهايات ، واختلطت الحقائق بالتخاريف والاحتمالات بالأرقام وبلغ الأشكال اوجّه فتناهت الحكاية إلى حدها الأصغر في (أرواح هندسية) الناشزة بفراسخ عن خطه، ربما مرد ذلك، إنها الرواية الوحيدة الناجية من سير الكرد وبهظ احلامهم، فقد تقصى فيها مصائر الفلسطينين الخارجين من لبنان، غدا السرد في أرواح هندسية الحكاية، الغاية الوسيلة، واللحمة والسداة، والهامش الذي يذوب فيه متنه. واستمرت شريعته الروائية، المكتوبة ببلاغة يسميها بالبلاغة الثانية، لغة المعجم المستنفرة وكائنات الموسوعات النائمة التي يوقظها سرد يتأسى بالملاحم والأسفار ونبر الناطقين باسم السماء ، حوارات قليلة تتضاءل وتومئ، وتجري على السنة شخصياته، منسوجة بلغة المجاز والتوريات، وايماءات العرافين والكهنة وإشارات التخامين وظلال المتاهات التي يحاول استئناسها والحيرات التي يجري تدجينها، ثم يحررها من جديد. يجري في معسكرات الأبد، وثلاثية الفلكيون في ثلاثاء الموت(الكون، عبور البشروش، كبد ميلاؤس) على ما جرى عليه الأسلوب في الريش، اقل ضلالا حينا، أو اكثر رهقا أحيانا ، ولكن في روايته ما قبل الأخيرة( أنقاض الأزل الثاني) صارحنا الروائي لأول مرة بالحكاية، تلمسها القارئ مشخصة واضحة البنيان. بداية ووسط ونهاية، أنقاض الأزل الثاني رواية رقيقة كقصيدة، على الخلاف تماما من سالف عهده السردي المعضل، وعلى وجه الدقة، على النقيض تماما من أرواح هندسية التجريدية. في روايته الأخيرة (الأختام والسديم) يعود مرة ثانية إلى تتويه الحكاية وتضبيبها وتعذيبها بالإشارات والأحلام والمجازات المشهدية والتوريات وسترها بظلال الأسطورة وبنات الخيال، روايته تنهض على الوفرة بالمجاز وان نبتت من بذرة الندرة. كأنما يسترشد بمقولة المفكر وبحاثة الميثولوجيا الأمريكي الشهير جوزيف كامبل (المجاز هو قناع الله الذي يختبر من خلاله الخلود) يمارس كهانة الحروف والحبر، ويفر من المباشرة والتقرير فرار الصحيح من المجذوم بحسب القول التراثي.
تظهر الأختام والسديم وكأنها فلقة أنقاض الأزل الثانية، الجزء الثاني منها، أختها التوأم، ويخطر لي اقتراح تسميتها بأنقاض الأزل ما قبل الثاني، أو أنقاض الخلود الثاني ..ثمة ملامح متماثلة بين الروايتين الأخريين، أنقاض الأزل الثاني مبنية على خلفية الصوت، مسرحها قرية سيدروك، والاختام والسديم تنهض على خلفية الصورة في قلعة ميدو، ابطال الفلقة الأولى يبرهنون على وجودهم بالغناء ومراتب الصوت وفي الثانية يحاولون تدوين وجودهم بالرسم ودرجات اللون، يتتبع الراوي في أنقاض الأزل الثاني شؤون الغناء والمواجد والحناجر وفي الثانية شجون اللون والنقش والتدوين. الصوت والصورة دليلا وجود، بهما ابتدأ الكون. الوجود في سيدروك ينتهي بمذبحة ومأدبة إعدام وكذا في الأختام والسديم، الفارق الأكبر بينهما، فيما عدا وضوح الأولى، هو نبرة الرثاء الشجية فيها، فأبطالها ضحايا وحسب، في الثانية نبرته نبرة هجاء يصل إلى درجة جلد الذات. شخوص لم تشبع من بيانها ولم يشبع منها السرد فتسربت من أنقاض الأزل الثاني إلى الأختام والسديم فناظر الأباريق حميد داهي هو طيف فرهاد الطاهي، وكريم بابان يكمل حياته في هيئة شخص اسمه أردهان، الروايتان محمومتان بالعقاقير وأفعالها، قيافة الشخصيات قد تمتد ابعد إلى فقهاء الظلام، وكذا بعض رموزها، وهذا يحيلنا إلى مقولة النقاد الشهيرة: (الكاتب يكرر في نصوصه موضوعا واحدا) ولكل قاعدة شذوذ وللتكرير تجليات وصياغات وملابس واقنعة .
الروايتان تصوغان مشهدهما من التاريخ السياسي للكرد، انقاض الأزل تؤرخ روائيا لمشاهد في انهيار مهاباد دولة الكرد في أربعينات القرن المنصرم، والأختام والسديم تؤرخ روائيا لتلمسات الكرد الأولى، المتأخرة، لوعيهم القومي في القرن الرابع عشر، تقديرا.
نص سليم بركات كثيف الدسم، عنيد، يستمر بعد انتهاء القراءة، لا يسلم أسراره، القارئ مهدد دوما بالوقوع في براثن فتنة نصية، وقد تجره التفاصيل فيضيع عن المشهد بتمامه، قراءة بركات نوع من المجازفة لا تتأتى إلا بآلات التأويل، المشاهد مصورة بعدسة (التصوير البطئ)، البصر أقوى حواسه، ثمة مشاهد ترسم رسما ثلاثي البعد، حتى ليكاد القارئ لمسها باليد. سرده يقطر حلاوة في الخيال، في رواياته الأولى ( فقهاء الظلام، الريش، أرواح هندسي) كان الراوي يعرّف القارئ بشخوصه من بشر وحيوانات وكائنات و أشياء) كما يفعل الكتاب المسرحيون، تمهيدا وتسهيلا وتوطئة. ثم اقلع عن هذا العرف، مسلما النص بعناقيده للقارئ. هنا ،تأويل لرموز الرواية و ترجمات لشخصيات روايته الذكور، معظمهم ، بل كلهم ، سلبيون ، باستعارة المصطلح الواقعي الاستراكي:
راوند لور قاضي الطهاة - حفيد الامير بدرخان امير جزيرة بوتان المنفي ، سلف الكرد المعاصر، الضائع مثل اقرانه من امراء الكرد بين ضربات الشاه الايراني طهماسب والسلطان التركي-- مخلص لتراثه ، فهو يحفظ في دارته جرار ملأى برماد امراء بدليس الكردية الذين ينتهي نسبهم إلى آل ابراهيم ، هو مشغول بالثأر و الثأر اعمى.انه صاحب مشروع كتاب فاكهة الرقم الذي لن ينجز، يتساءل في نهاية الرواية : في أي عام نحن، فهو لا يعرف موقعه من الزمن ؟.الرقم أو العلم ، فاكهة عند الكرد وليس غذاء. اردهان، ابنه، مشغول مثل ابيه بتاريخ قومه ،ورث عنه حب الرقم و مشغول ، ايضا ، بتاريخه الشخصي ، بالانجاب، فهو عقيم . يحاول تحرير التاريخ الكردي من حاله الرعوية إلى حالة مدنية وعمرانية، وقد استدعى ثمانية من امراء التشخيص واكابر الرسم، لهذا الشأن. سبعة ملونين لتدوين التاريخ ولكن بحبر الصوفية والغنوصية ،اردهان واحد مشغول برسم دراويش الصوفية ؟؟ ينتهي إلى العدم اثر مؤامرة من ميكر بابو المزيف الذي يمثل الشر ( مع سبق الاصرار) في الرواية، ورسول الظلاميين ومقوض امارة ( ميدو) ،يتنكر في جلد ميكر بابو الحقيقي- معلم الرسم وامامهم الذي يصل متأخرا، ليصير شاهدا على محنة التاريخ وموته- و يدس السم في قوارير الملونين السبعة، ويقتلهم شما، وكذلك يقضي على طواويس الحديقة ، يحبّ لونا واحدا للكرد ، السواد .اما الرسام السابع المصاب بالشقيقة ، فينجو، وسبب نجاته انه مشغول بالغيب و ليس بالحاضر ، مشغول برسم الجنة والجحيم ، فلا خوف تنويري منه؟ بوري الهدد طباخ اللذة الجد ، انه واحد من الشخصيات التي تدبر للكرد اللهو وشوؤن المعدة لا العقل. فرهاد زنكنة، تلميذ نجيب من تلامذته ،الطاهي وحاكم المذاقات في ميدو ، له مقولة يرددها ( الطعام فقه الحقائق ) ينقش التاريخ في الامعاء.؟!، يجعل التاريخ القومي (الخريطة) علاجا وطعاما لمشكلة للتاريخ الشخصي . مثله الامير لقمان لش ، ناقش ومؤرخ لكن بالاتجاه المقلوب، فهو ينقش الخصى والنهود على النقد ، مدوّن متعة لامدون علم.
حتى الطبيب النطاسي العارف( الاليف شيخ الله مدد )، اخو اردهان بارضاعة. يصنف إلى جانب الحمقى. يحضر إلى ميدو لاسعاف الرسامين السبعةالمغدورين، له وصفات وترياقات، لكنه لا ينجح باسعافهم . مذهبه مذهب اللذة ايضا، مثل الطاهي فرهاد وبوةري الهدهد، ابيقوري اخر، يصف علاجا للمغدورين الستة هوالاقليماء، تشخيص صحيح للعلة : معرفة الجغرافيا السياسية الوطن. بالوطن يعيشون وما داموا بلاوطن فهم موتى؟!
الذكور في الرواية حمقى او ظلاميون ، و طائشون . بابا نجوق ، فقيه كردي في علم النسبة، وصاحب مذهب (اركان الظل ) اتباعه يلبسون السواد ويغيرون على الممالك و يعدمون النقاشين ، والقصارين وضابي الاختام ، والنساجين والخطاطين ، وسلخ جلود النساء في المواضع الموشومة بالحناء . ولأنه عدمي وغنوصي، يسر به السلاطين الترك والشاهات الفرس فهو يوفرعليهم حروبا. يموت في الرواية لكنه مذهبه يعيش . ومثله شمس الدين الكبير ، وهو مورد الحشيش الكيف ( الخشاش الابيض) ، والمخدرات ( طحين السماء الثالثة ) إلى اهل ميدو ، ليستمتعوا بمذهب بابا نجوق العدمي . حسين اخلاطي، واحد اخر من قائمة الحمقى ، شخوص الرواية، اسمه يدل على التخليط . يصفه الروائي بأنه وارث علوم الظاهر والباطن في الاسرار وعلوم الجفر. غنوصي ومتصوف. اويس اوسبخان بك الاعور ، متسلم مقاليد ادارة خان اردهان ، والموكل بخكمة الضيوف ، والمؤتمن على اقتصاد القلعة ، عوره يفضح حماقته وجهله. عينه الصحيحة لا ترى سوى الخصى طعاما لسيده العقيم ، ولا تشفع خرزتاه السحريتان في كشف السموم ، التي تقتل سيده والرسامين . ثمة ثوار ومناضلون بالتعبير المعاصر مثل (حاملي الاكفان )، يمكن تسميتهم بالبشمركة الاوائل ، انهم مناضلون غاضبون ، مناضلون بلا حكمة ويجيدون القتل و الانتقام، متأخرون في استيعاء الحس القومي الانبعاثي ، دليل طيشهم ذبحهم رهينتهم التي يحضرونها إلى خان اردهان الذي لجوؤا اليه ، شعارهم الطائش( بدليس او الفردوس ) ونجد مثاله في الشعارات الكردية المعاصرة كردستان او العدم . لا حل وسط عندهم!!

الابطال الايجابيون كلهم نساء، المخلص الكردي ، ان وجد فهو امرأة. يسمي الروائي زانا وزوجات اردهان ( اقلام الله ) . بركات يعول على الانثى في اعادة تاريخ الكرد إلى صوابه. ديدا، اخت اردهان الشخصية المحورية في الرواية . سواد جلدها الموروث من ام زنجبارية لا يشينها ، فهي مستودع التاريخ ومنشأ الحضارة، ولها حس نبوءة، وقدرة على الارهاص. الوحيدة التي تكشف بحدسها القوي نذر الشر في وجه المجرم ميكر بابو ، تصفه قائلة ، في (وجهه ذبابة نمرود ) لكنت لا احد يأبه لأشارتها؟
جيهان ارابيكم ، هي الربة الانثى في الرواية، وحارسة الغزالات ، وامرأة القلم ( كل امرأة قلم ) يقول السرد . ويمكن الاستناج ان كل رجل ممحاة. جيهان هي القيمة علىالتاريخ في الاسطورة التي يرسمها بركات ، الاباء يرسمون البطاركة، تقترح عليهم زانا خاتون رسم صورة جيهان بدلا من البطاركة ، والدراويش، لتفتح سبيلا جديدا للسلالة .و هي صاحبة مذهب في الغناء والصوت ايضا. الصوت رديف القلم والنقش. شاهم خاتون ، زوجة الامير شرف ، واحدة اخرى من ربات الرواية الاناث، ذراعها وحدة قياس ، تقيم مذهبا ، في الكلام الشمسي ، هي نقيض بابا نجوق، تعارضه في اركان الظل العدمي ، اتباعها ، ثوريون يسميهم الروائي ( عمال المكنون ) .المرأة مظلومة ، ومغيّبة .الرابعة التي تحضر في الرواية عرضا( دردي وا ) ابنة فرهاد الطاهي ، اسمها يدل على وجعها، و يعني ( هم الاخرين )؟!!
رموز واشارات اخرى:
الغزال رمز العلم الكردي المنتظر، جلده خريطة حية . زانا تحفر على اظلافه اسماء اقاليم الكرد . الطاهي الاحمق فرهاد زنكنة يخصي الغزال لأطعام اردهان اميره، يطعمه خريطته ؟! كوصفة لإنجاب الولد. تحزن زانا زوجة اردهان على غزالها وتندبه وتدفنه كأبن في حقول الريحان القرمزي وزنجبيل عمان والافستن الرومي والسرونجان . زانا تسمي الغزال (نفس العقل) اما الظلاميون وفقهاء (اركان الظل) فيرونه ترفا ؟ . تحفل الرواية بالرموز.. طواويس وألبارتوس وثور اسمه كيوثاء وعقاقير وخرزات تطرد الموت.. رموز ترصّع الرواية بجو اسطوري خاص ، وتفعمها بريح المكان الكردي والزمان الذي يجري في القرن الرابع عشر تقديرا. ( الكرد أيتام الكون) يقول أحد الساسة الكرد المعاصرين، تاريخهم أختام في السديم تقول الرواية الهجائية .