حاوره: عقل العويط

عقل العويط* في تجاربك الشعرية تقدم نموذجاً كتابياً مفتوحاً على النص الطويل، وكأنّ هذه التجربة لا تجد متنفسها إلا ضمن مساحة لغوية وتعبيرية شاسعة. سليم بركات، ما معنى أن تكتب نصاً طويلاً، وكيف تحدد هذا المفهوم التعبيري؟

ـ لأننا لم نتفق بعد، في الصياغات النقدية وفي خطاب التجربة، على تحديدٍ لماهية الشعر، فإنما نقع، كشعراء، في منطقة شاسعة من الحرية. وخلاف الذائقة هو خلاف على الشعري لا على النسق الكتابي.
ففي حين يكون الاختزال اللغوي وإيماؤه تكثيفاً للحال إلى شذرة، تكون الشساعة استظهاراً للحال كلها، ليتخذ المشهد، لا الإيماء، كماله. فإذا نظرنا، من مكاننا في الحرية، إلى الاختزال كقفص يغلق الحال على سيرورتها في النسيج الزمني الذي يحمل ـ بخاصة امتداده غير المتقطع ـ متتاليات من الاختزال والسرد، ومن الإيماء والتصريح، ومن الإبرام والتفكيك، فيكون للنص ألق حريته.
للكمائن أشكال. منها المحاسبة: أي حين تختبئ خلف ساتر لتُباغت، وفي الهيئة هذه، لا يرى القنيص إلا برهة ظهوره. والمشارفة: أي حين تستطلع من مكمن عالٍ، مشهد القنيص وما يحيط به طراً. وأنا بطبعي أحب المشارفة، ليكتمل لي أن أستعرض القنيص في حريته أولاً، قبل أن يطبق الشعري عليه كغاية قول.

* هل تكون، في معنى ما، اللغة هي الشعر، أو ذريعته؟ وإذا كانت اللغة هي الصيغة النهائية للتأويل الشعري، فكيف تحدد هذه اللغة، وما خلفيتها الإنسانية والنفسية لديك؟

ـ لا أريد الاستشهاد بكثيرين، قديرين، يرون في الشعر تظاهراً للغة كبداهة في التدليل على قول شعري، وهو ما صار الاختلاف فيه إلى نقصان. غير أن اللغة سلطة في اشتغال الفكر على تأكيد ذاته بالبرهان. والبرهان عقد اجتماعي، يخلص إلى تنميط الإقناع على صورة القياس والمقاربة.
ولما كان لدينا إدراك، يؤبه له، بالتصنيف اللغوي، فإنما يصير في مستطاعنا عزل الشعري من بين ذلك باللجوء إلى "اللاتصنيف"، أي ما لا يقع في منطقة من المجالات المصنفة.
فاللغة الشعرية هي، بمبالغة مقبولة، ما يقع خارج لغة المحادثة بمعناها النفعي، وخارج لغة العقود بمعناها القانوني، وخارج لغة السرد التوضيحية بمعناها الحكائي، وخارج التجريد المشتغل على خطابه الفلسفي. غير أنها تستبطن، في سياقاتها، مجتزأ من سياق كل لغة أخرى، لأنها هي الكلام في حريته السابقة على التصنيف المعياري.
ولأن لغة الشعر هي الهامش الأكبر من حول سلطة الفكر الصارم، فهي المكمن الجاذب للتعبير عن الحال التي لا تفصح عن نفسها في منظومةٍ سدتها البرهان. والحال الشعورية، لا التعينية، منفلتة كسياق، لا يستوعبها إلا ما هو منفلت بدوره عن التعيين: تلك هي خاصية الشعري وموضوعه. أما خلفية اللغة التي أستذكرها في مقاربة "مفهوم" شعري، فهي مجمل نسيجي ككائن، ببيئتي، ومجتمعي، وجذوري، وترهاتي، وأحلامي أيضاً. لكنني أوضح أن ما من لغة تسبق الحال، وما من حال تسبق اللغة. فالذي أقوله، في ذلك القدر من الألفاظ وروابطها، هو ـ تحديداً ـ حالي في أقصى تعبير عنها في برهتها الكتابية. وحالي نفسها هي ذلك القدر من الألفاظ وروابطها في أقصى ما يتهيأ لها من نسيج تعبيري، في البرهة التي تزمع حالي على النظر إلى نفسها في لغة.
ونحن إذ نعتمد إلى إلغاء القياس في تركيبنا اللغوي، وفسخ العقد بين الألفاظ، وتهشيم الصور الموصوفة بسديم آخر، فإنما نعبر، تحديداً وبيقين مشرف على حريته، عن ضرورة لا تستقيم في السياقات المفجعة للقانون بتعريفه الشامل، بدءاً من نظام العلاقات وانتهاء بنظام النبر اللغوي، والضرورة تلك هي الخلفية الإنسانية، والنفسية للغتي,

* استطرادا، كيف تفسر الشعر، أو الخطاب الشعري، من منطلق نظرتك إلى اللغة؟

ـ أعتقد أن ثمة توضيحاً لهذا في الذي قلته من قبل. وأنا لا أستطيع تفسير "الشعري" إلا بالاستناد إلى اللغة كمنشأ، وأصل، وجوهر، وسياق، خارج القياس، الذي هو سند السلطة بالمعنى الشامل، أي: سلطة النظام، والمجتمع، والنمط. فالنبوءات ـ قبل أن تصير قياساً للفكر وللسلوك ـ كانت سديماً لغوياً مقارنة بـ "عيانية" لغة الواقع الاجتماعي آنذاك.
إن لغة الشعر، بتحديد أكبر، هي تلك التي تنحدر قط إلى أن تصير لغة قياس. والمسألة هينة ـ هنا ـ نظرياً. لكن، مادام الشعر يقع في الجانب الأكثر بطشاً من الحياة، فأنا ـ كالآخرين ـ أجهد قدر ما تسمح لي مَلَكتي غير المؤكدة، أن يتم فسخ العقد أكثر فأكثر بين الألفاظ، وأن يتم تهشيم الصورة، لا بالمعنى البصري، بل بمعنى التوصيف الاجتماعي للمخيلة كمحرض حقيقي للحنين إلى "سياق آخر" للحياة.

* الأمكنة، والأسماء، والحيوانات، والشوارع، والمدن، تحتل مكانة واسعة داخل تجربتك الشعرية، أو الروائية، حتى لكأنها تصبح حالة أساسية لابد منها لقيام النسيج الكتابي لديك. هل هي مهمة في ذاتها، إنسانيا ورمزياً، أم هي مجرد "نزوة" لتدل من خلالها على "التخريب" الذي تمارسه فيها؟

ـ قطعاً، حين يتحدث كاتب عن كائن، أو مكان، فهو يرمي إلى السيطرة عليه، تماماً كما كان يفعل ساحر الكهوف الأولى برسم القنائص على الجدران، أو بتقليدها. غير أن "السيطرة" في الكتابة، تختلف عما هي في الواقع، لأنها قد تعني الحرية أيضا، بل بالتأكيد. فالكتابة عن مكان ما، بمقدار من الحنين، تجعل ذلك المكان منفلتاً من واقعيته، حراً في سحر آخر. والكتابة، بغضب، عن مكان ما، تعيده إلى سديم يمكن تشكيله ثانية، أي حراً، أو تحييه من جديد، في صورة أقل فظاظة مما هو عليه في واقعه. وقِسْ على ذلك في الكتابة عن كائن بشري (حباً وهجاء) وخلافه.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فان ما تشير إليها من أسماء، وحيوانات، ومدن، وشوارع، هي مقومات كل كتابة. وهي "بواعث" لغوية للتدليل على "حقيقة" تقع في الجهة الأخرى من الموجودات العادية. ثم أن للتأكيد عليها، وتكرارها، في كتابة شخص مثلي، دوافع تخص المخيلة التي لم تستكمل، بعد "إبرام" عقد جديد مع فجيعة أخرى، أو أن هذه الأسماء، والأمكنة، والحيوانات، هي "أقنعته" الحقيقية في سياق "وهم" واقعي، ليس عليك إلا أن تمد يدك، عبره لتلتقط نفسك أكثر ألَقاً.
إنها ليست مدخلي إلى "تخريب" ممكن، بل أحاول انتشالها من الخراب، بوصفها غير ما هي عليه في صورها؛ بل بوصفها يقيناً في وجود قلق، بل بوصفها رواة يمْلون عليّ أدوارهم الجديدة بأسمائهم ذاتها.
الأسماء هي أسمائي، والحيوانات هي طبيعتي، والمدن نفسي، والشوارع مخيلتي التائهة. وهي، معاً، بالأنين الخافت في الكتابة، نعشي المضيء، فان أيقنتُ أن الحياة هي أسماء وصور، أيقنتُ أن الموتَ يدونها لتحيا.

* المنفى، أين أنت منه في شعرك، وكتابتك النثرية، وفي أي معنى يدل على المنفى الداخلي؟

ـ بنوع من الاعتراف أقر بأنني لا أعرف شيئاً يدعى "منفى" لأنني لم أكن، في يوم ما، أملك ما هو نقيض المنفى.
في كل مكان لم أكن مواطناً، بحقوق مقبولة. لا ضمانات قط. لا حرية كلام. شتات عائلة. أخوة مسجونون. أخوات في أصقاع أخرى كثيرة. أوراق ثبوتية ضائعة. أدب غير مقروء. يستطيع شرطي أن يطردني من بلد إلى آخر. جواز سفري باسم ليس لي، ولا أعرف متى يسحبونه مني. غير أن الأكيد، وحده، حتى الآن، أن لوالدي قبراً على تخوم مدينة القامشلي: هذا هو أنا.
فأين المنفى من غيره؟ وفي كتابتي، ذاتها، لا أعرف أين حدود المنفى الخارجي من المنفى الداخلي. ثمة سيرورات. ثمة ورق أبيض وفجائع بيضاء. ثمة لهاث يقتفي اللهاث في اتجاه لفظة أو صورة. وأخيراً ثمة هذا التأمل الفاحش، بين كل صمت وآخر، وصخب وآخر، كأنما لم تهتد الأرض إلى مدارها.
المنفى ؟ أليست الكتابة، ذاتها، منفى، لأنك لا تحسن الإقامة في مكان؟ أليس أشد نفياً أن ترى هذه الكتابة، التي هي تعويض محض، تصير غريبة أكثر فأكثر؟ والمفارقة أنك تختار، في هدوء أو غضب، المضيَ إلى نصك الأعزل، المختلف، وسط عودة "الأثرياء" إلى سدة "أبوة الحداثة"، وإلى تزكية الأدب بجوائز يصفق لها المدعوون الذين أفاقوا. في عواصم أوربا، فجاءة، لإعادة الأدب إلى "نصابه"، على الشارع الذي رموا فيه قشور الموز.

صحيفة الحياة، 1990