محمد بوعزة
(المغرب)

في رواية " الأختام والسديم" يستمر سليم بركات في نهجه الروائي الاختلافي الذي دشنه منذ روايته المغايرة " فقهاء الظلام". يتمثل هذا النهج في اعتماد السرد الروائي استراتيجية تخييلية لفهم "الإشكال الكردي". ما الذي يجعل الفرد الكردي كائنا ضالا؟ ولماذا لا يشفع التاريخ للأكراد إلا بوجود إشكالي: شتات ومنفى، وكينونة مشروخة برحلة البحث عن مكان لهويتها وأحلامها وأساطيرها؟
وفي وضع ثقافي سياسي يتميز بسيادة الهويات المغلقة تتحول الهوية إلى ثقل وجودي يضغط على كينونة الذات ويشرذمها إلى كيان مزدوج، حيث يضطر الفرد إلى إخفاء هويته للاستمرار في الحياة.
إن مقصدية السرد بوصفه استراتيجية تخييلية في هذا السياق الوجودي الإشكالي هو بناء خطاطات chemas للفهم وللتفكير السردي في الفعل الكردي l'action، من أجل فهم صيرورة تشكلاته، وإضاءة مساراته العقلانية واللاعقلانية، الذاتية والتاريخية. أي فهم شبكة القوى المتحكمة في توجيه الفعل الكردي نحو مصير تراجيدي لا يخلو من مفارقات ساخرة، وما يترتب عنه من آثار وتداعيات على الذات والهوية ونمط وجودها.
من هذا الإكراه الوجودي الذي يتداخل فيه التخييلي والتاريخي، الكوميدي والتراجيدي، التذويت والذاكرة، يتجه السرد الروائي نحو سيرة المكان وتفاصيل الهوية حين تنتزع من أرضها وألفة فضائها ليزج بها عنوة في جحيم المنفى والشتات، فيشكل السرد انفتاحا مضاعفا على ذكريات المكان وعلامات الجغرافيا وندوب التاريخ المنطبعة بلهيب الألم في جسد وكينونة الذات، التي لم يستطع تاريخ الإقصاء والشتات من طمسها أو دفنها في غيابات النسيان.
في هذه الزمانية temporality المشروخة يشكل هذا السرد الاستعادي استراتيجية تخييلية للتحرر والانعتاق من العماء التاريخي،حيث أنه يصوغ مشروعا تأويليا يبحث في التباسات ومفارقات هذا العماء، في صيغة ملحمية تتشكل من تلاحم متوتر وصدامي بين التخييل والذاكرة ترتقي مستوياته الدلالية وفق دينامية تفاعلية مركبة، تبدأ من تفاصيل الفعل الكردي بطقوسه الطريفة والقاسية، التي تتعلق بطقوس العيش اليومي الكردي في أشكال عيشهم وتجليات فعلهم وتقاليد طقوسهم، وتنتهي بإشكالاته الوجودية والميتافيزيقية العسيرة، التي تتعلق بأسئلة الكينونة ومعنى الوجود الكردي.

المحكي/ تكسير ميتافيزيقا الخطية
من الصعب صياغة ملخص لأحداث الرواية كما هو شأن الروايات التقليدية الخطية، ذلك أن الحكاية في " الأختام والسديم" لا تنمو وفق نسق خطي يبدأ من نقطة محددة ،ويمر بتحولات ومنعطفات تشكل لحظة الأزمة والتعقد، لينتهي بتوازنات جديدة تستعيد لحظة الانفراج والحل. على نقيض هذا النسق السببي المغلق، تتبنين الأحداث في " الأختام والسديم" وتنتشر من خلال توليد مسارات غير متوقعة، تنتهك وحدة القصة الإطار وتقطع سببيتها المنطقية بفتح ثغرات وثقوب في مجرى الحكي، تنحرف عن الترسيمة الأفقية الكرونولوجية للقصة الإطار، حيث تخلق صيرورات جديدة مفاجئة للحكي.
من منظور السرديات تخضع هذه الصيرورات لأشكال من الانتظام والتنسيق، حيث يتم تأطيرها في شكل حكايات صغرى أو انشطارات مرآوية أو خطابات تأملية تعيد تأويل وقراءة مجرى الأحداث.
تتمثل القصة الإطار في حلول سبعة رسامين ضيوفا على " أردهان" الخطاط والنقاش في منطقة " ميدو" بكردستان، وهو ابن عائلة كردية عريقة. سيحل الرسامون عند "أردهان" بدعوة منه لرسم صور شخصية للعالمين المتصوفين، الشيخين النقشبندي والكيلاني، تليق بمقامهما القدسي:

( لا أكتمكم أيها المرفهون بالوهب الفردوسي ... لا أكتمكم أني في حيرة من أمري، قليلا. لقد أبلغكم رسلي بالغاية من تكليفكم الحضور إلى دارتنا. رأينا أن تكون لنا تحفة من جلال الوسائط بين العين وبين المستور. وتوسلنا بشرف الخصائص في المقتنيات الأكثر كمالا أن نحوز منكم على النفيس من صور الأقرباء في حقائق الله إلى الجلال العالم. أوقفنا قلوبنا، ومذاهب أبصارنا على السيدين العادلين في ميزاني علومهما الذوقية، الشيخين بهاء الدين الفاروقي النقشبندي، وعبد القادر الكيلاني، حفظ الله سرهما. وكانت بغية وجداننا أن نحظى بأربعة رسوم لكل جليل منهما، لكن غياب ميكر بابو أوجب خللا، وأوقع التقدير في الوسواس.") (ص38)

من هذه النواة الثيماثية ينطلق البرنامج السردي الذي تتكفل بتفعيله وتحريكه manipulation الشخصيات المحورية: "أردهان" والرسامون. يتسم هذا البرنامج بالغرابة والغموض والتجريد،بسب ما يتميز به المحكي من اقتصاد شديد في بناء شخصياته، ناتج عن ندرة الصفات والتعيينات في مستوى بناء الشخصيات،التي تمكن من إبراز أبعادها الاجتماعية ومظاهرها الخارجية الفيزيولوجية. تبعا لذلك، باستثناء التشديد على الهوية الكردية للشخصيات، لا يقدم لنا السرد وصفات جاهزة لمظهرها. هكذا، فكل ما نتلقاه عن شخصية "أردهان" المحورية عبر السرد هو انشغاله بالرسم والنقش، ومعاناته من الخصي،حيث تزوج تسعة نساء بغية الإنجاب، لكن دون جدوى. إلى جانب شخصية "أردهان" والرسامين السبعة تكتسب بعض الشخصيات قيمتها و حضورها من تواجدها في مدار فضاء "أردهان"، وأهمها شخصية " فرهاد " الطاهي في بيت "أردهان" و"زانا خاتون" المرأة الأولى في عصمة "أردهان"، و الأب"راوند لور" الذي ( اكتفى في أعوامه الثمانين، بخاصية اللمس وحدها. الذوق نفسه غدا لمسا.) (ص9)،وشخصية "أوسي أوسبخان بك" الأعور، المكلف بإدارة مقاليد خان سيده "أردهان"، وشخصية "النطاسي" الطبيب الذي يشخص علل وأمراض الرسامين بلغة تأويلية باطنية.إلى جانب هذه الشخصيات التي تحظى بحضور متميز، هناك مجموعة من الشخصيات العابرة في سماء الحكي تتكون من الخدم والأبناء والنساء والشخصيات التاريخية.
في مقابل هذه الندرة في سيميائية المظهر l'aspect نجد تشديدا وتركيزا على أنطولوجية الكينونة l'être، أي على الإشكالات الوجودية والفلسفية للشخصية. إن مكان تخلق ومعاناة هذه الإشكالات هو الداخل والذهن والوجدان وليس الخارج، والمظهر البادي للعيان. ويرتبط هذا البناء الاستطيقي باختيارات الكتابة لدى الكاتب "سليم بركات" الذي ينفر من ( الرواية الواقعية التي على شخوصها أن يثرثروا على سجيتهم كي يتماهوا مع" واقعيتهم".و أنا أنفر من هذا الصنف. .. فالأشخاص "الواقعيون" هم أكثر ثراء من أشخاص مكتوبين على الورق واقعيا.2) فالأمر يتعلق بمقصدية في الكتابة تترجم تصورات الكاتب الاستطيقية واختياراته الفنية والثقافية، الشيء الذي يلغي أي براءة موهومة في الاشتغال الفني على اللغة والتخييل.
إلى جانب ميزة الاقتصاد التي تضفي طابعا تجريديا على الشخصية،لأنها تقلص من الصفات التي "تعين" ملامحها و"تحدد" مظاهرها، يتميز بناء الشخصية بتشفير بلاغي يمتح من رمزية المستور والملغز والغريب اللامتوقع. وهذا ما يضفي الغرابة على عوالم الشخصيات. وتتولد سمة الغرابة التجريدية من إدراج الشخصيات في أوضاع ملغزة مفارقة لما هو معتاد ومألوف في الوجود الطبيعي، ومن توريطها في إشكال وجودي لا مخرج منه،يتبنى استعارة المتاهة والسديم. فشخصية "راوند لور" الأب تقيم في وضع ملغز،يمتد بينه وبين العالم الخارجي حجاب من الظلام. لقد قطع صلته بهذا العالم وانفصل عن معاييره وقيمه، واختار الإقامة في دهليز سردابي:

( راوند لور، اكتفى في أعوامه الثمانين، بخاصية اللمس وحدها. الذوق غدا لمسا. إصبعه تنتقل من الطعام إلى فمه، ومن التراب إلى فمه،ومن السطور، التي لا يراها في كتابه المهترئ، إلى فمه. يقرأ بلسانه لسان المعتزل في الدهليز. .. عاد بعينيه النازحتين من تيه النور إلى الظلام الكليم يتتبع قلوع الطهاة في عبورهم الأرخبيلات الأزلية.) (ص9 10)، إنه وضع العزلة الميتافيزيقية.


كما أشرنا سابقا، لا تروى أحداث القصة الإطار وفق نسق خطي أفقي،حيث يتم تكسير قدرية الخطية بالانفتاح على محكيات صغرى منشطرة،تحطم إكراهات السببية وقيود السلسلة العلية، بما تحدثه من قطائع ومفارقات في مسار الأحداث. ومما يضاعف بنية الانشطار في بنية الحكي اختلاف أنساق هذه المحكيات الصغرى وتنوع مرجعياتها الاستطيقية والثقافية، حيث تحيل على شفرات تخييلية متعددة، منها ما هو أسطوري، وما هو تاريخي، وما هو شعري، وما هو صوفي، وما هو عجائبي، كما أنها تمزج بين عوالم ممكنة متباينة، الإنسان / الحيوان، النبات/ الطير،الظاهر/ الباطن، المقدس/ المدنس، الحلم/الواقع…

تتفاعل هذه الأنساق الممكنة والعوالم الكوسمولوجية وتتداخل في بنية المحكي. فلا وجود للفصل بينها. الكل يتضايف ويندغم invagination في فضاء بيني l'entre deux، تلغى فيه فواصل الحدود ومعايير التراتبيات بين العوالم والكائنات، حيث يصبح بإمكان الإنسان أن يحاور الحيوان والنبات،وأن يتواجد في مكانين مختلفين في الآن نفسه، وأن يعيش في زمانين مختلفين( الماضي/ الحاضر) في لحظة واحدة، وأن يوجد في وضعيتين مفارقتين (الحياة/ الموت).في هذا الفضاء البيني تفقد الكائنات والحقائق هويتها المطلقة لتكتسب هوية نسبية مفتوحة على التحولات غير المتوقعة من حالة إلى أخرى:(طير فكرة. سواد في بياض. حجاب سواد من الظاهر وبياض من الباطن.) (ص15) لا وجود لأي تشفير إيديولوجي أو أخلاقي ينضد هذه العوالم الممكنة والكائنات في تراتبية هرمية، تعطي الحظوة أو الأسبقية لنسق على حساب نسق آخر.
ولنبين انشطارية بنية المحكي نعرض أهم المحكيات الصغرى التي تخترق خطية القصة الإطار وتشطرها في اتجاهات جديدة ومسارات متعددة :
تأمل السارد في رمزية الرقم سبعة ودمجه في سياق متخيل غيبي هو سياق النشأة والخلق: ("ميكر بابو ليس بينهم "، قال أردهان. تشمم الرقم سبعة رقم الميزان ذي المكاييل المتدلية من حزام العدم. هو ليس رقما، في الأرجح، بل نفس المشيئة بعد فراغها من تسطير الميثاق الممتحن. سبعة أيام بلاء قرب عقل النشأة.. .) (ص12)
محكي الرسم حيث يتحول اللقاء بين أردهان وضيوفه الرسامين إلى مناظرة حول هيرمينوطيقا الرسم ورمزية الألوان. ما هو موضوع الرسم؟ ما هي دلالات الألوان؟ ما علاقة الرسم بالكينونة والعدم والوجود؟ يتم استقصاء هذه الإشكالات في سياق المناظرة الكلامية بين شخصيات تنتمي لأهل الكشف الصوفي: (كيف سيقتسمون زاد اللون ومتاع الشكل؟ هم أمراء في مهنة التشخيص رسما. تحت أيديهم ممالك من صور الممسوسين بالكرم القدسي استعادوا بها خيال اللامعلوم ناطقا.) (ص12)
محكي النشأة والخلق: (منذ بزغ النور، المنضج للخمائر في قدره، بزغ الامتحان. أضيئت الخلائق المستولدة من كمال غيبوبتها في البرهة التي قدرت المشيئة لها أن تكون امتحانا... ) (ص13)
محكي طائر السنونو ( ذلك الطير الذي تبقى له منافذ إلى الفسطاط الحجري المغلق، كي تتكرم بعلوم نسله المزقزق حيوات السكينة الكبرى . ..) (ص15)
محكي " مأدبة الإعدام "، وهو عبارة عن كتاب فريد وطريف في هيرمينوطيقا ورمزية الطعام، ألفه " راوند لور" أب "أردهان" لمعرفة أسرار مذاهب الطعام و( ليحفظ لنفسه شرع الأحكام عن مران في خصائص انتقال العناصر إلى أطعمة، وانتفاع الحيل بالحيل في توليد الأجناس من روائح الطهو ونكهاته ..) (ص18)
محكي الأمير بدر خان، قائد كردي وأمير جزيرة بوتان. وهو عبارة عن محكي تاريخي تشوبه اختلاقات الأسطورة، وتلونه النكبات بطعم المأساة، حيث كان مصير الأكراد الخارجين على حكم العثمانيين الإعدام وقطع الرؤوس،( رؤوس بلا أسماء. ألقاب من طحين أصفر. وقد ترأفت العناية الجبرية برأس الأمير بدر خان فبقي بين كتفيه، كي يشهد عشر سنين من النفي في جزيرة الثور الإلهي ذي القرنين الحجريين مع نسائه الأربعين.) (ص21)
محكي ريشتي جناح الألباتروس اللتين يأمر الأب "راوند لور" الطاهي أن يستعملهما كترياق لإثارة الشهوة الذكورية لابنه "أردهان". (ص21)
محكي الشادهوار وهو عبارة عن حيوان ابن الظبية، يطلب الأب "راوند" من الطاهي أن يعده ويقدمه في وجبة لابنه "أردهان" المخصي، كي يساعده على الإنجاب.( شيء ما نائم في زلال ذكورة أردهان.آلة المابهة مع السديم نائمة يا سليل الفقهاء، فادهن عتلتها المحركة بمرق فيه خصي الشادهوار) (ص26)
محكي الإسكندر ذي القرنين، وهو عبارة عن محكي تاريخي تختلط به شطحات الأسطورة.(ص27)

محكي بدليس،( غلام الإسكندر، المتصنت على خزائن الهندسة الغريقة في إشارات الكهانة، انتشل الرموز الأكثر غبرة) (ص27)،قام بتشييد قلاع على نمط الأهرامات، وزينها بنحت ( سماه " طلسم الباب": آدمي من نحت بارز في صخرة عظيمة، يحمل على كتفيه ثعبان الحجاب الأبدي، المشرف من جهالة الجماد على الوجود المدون مسالك التصاريف) (ص27)
محكي الياقوت الأسمانجوني، وهو ترياق يستعمل (لدفع السموم جميعها، من الأفعى حتى الزرنيخ) (ص31)
محكي تيمور كوركان لنك في أرض ماردين، وهو عبارة عن محكي تاريخي، حيث سيتوعد هذا الخان بذبح الأكراد إذا لم يسلموا إليه الشيخ "موجود بن رونا" الذي فر إليهم بعد أن سرق التحف والنفائس التي أمره بحملها إلى عمه، غير أن الشيخ فر بها إلى حاكم قلعة الجزيرة الأمير "عز الدين" المعدود من حكام العزيزية. (ص31) قصة التيه والألم السيزيفي.
محكي الحجر، وهو عبارة عن وصف لأنواع من الحجر تستعمل لأغراض العلاج والتطبيب ("حجر الإسفنج": حصاة في خلية الحيوان الإسفنج تتداوى به المثانة إذ انعقد الكلس في المجرى. "حجر إقريطس":كحل للعين الرمداء... ) (ص33)
محكي "محي الدين أخلاطي" الذي بنى مرصدا لهولاكو ببلدة مراغة. (مرصد في مراغة هو عين هولاكو المنتدبة على أعماق السلالات، غذاها محيي الدين ببصر من علوم الهيئة يقلب الأشكال كالودع بين يدي الجماد الكاهن) (ص 45 46)
محكي نساء أردهان، وهو في معظمه عبارة عن محكي إيروتوكي يتوسل لغة التورية والمجاز، ويتركز على ثيمة خصي أردهان.
محكي الأمير "شمس الدين الكبير". وهو عبارة عن محكي تاريخي تختلط به شطحات الأسطورة. (شربت الوحوش من يدي الأمير عند كل نبع مر به. وحوش من كل نوع ولون.) (ص74)
محكي الرجال المقدونيين المنحدرين من جنوب جبال مقدونيا الذين اقترحوا على " أويس أوسنجان" إعداد وجبة مقدونية مخصوصة من شأنها أن تساعد "أردهان" على الإنجاب.(ص81)
محكي الشيخ النقشبندي الذي ولد في حقول بخارى،حيث أسس الطريقة الصوفية المعروفة بالنقشبندية وحملها إلى أهل الصين والهند وتركيا وأقاليم الكرد، ودون تعاليمه في كتاب "الأوراد البهائية".
محكي الشيخ الكيلاني الذي انطلقت طريقته الصوفية من جنوب بحر قزوين وانتشرت في ولايات الكرد، ودون تعاليمه في كتاب " الفتح الرباني والفيض الرحماني".(ص87) موضوعها الوصاية بمحبة الغريب. (" أوصى بمحبة الغريب حتى نحل إليه، في مزاعم الرعاة، أن آدم استوحش الوجود وحيدا بين أنهار الفردوس فعنت له مخاطبة نفسه بألسنة لا تحصى. جعل كل لسان شخصا متخيلا على صورته، غريبا يأنس إليه... ) (ص88)
محكي " ميكر بابو" المختص في علوم مراتب الشكل والصور والألوان والظلال وأبعاد الهندسة : الكثافة والعمق والكتلة.
محكي" بابا نجوق" وهو عبارة عن محكي تاريخي يسرد بعض أخبار الكرد في منطقة بدليس وما تعرضوا له من معاناة بعد تعيين ولاة أتراك عليها، اضطرتهم إلى الخروج منها والتعرض لمصائر المنفى والغربة والشتات.
محكي "هيزن" الكردي، مبتكر آلة الخزق، أي المنجنيق، حيث سيتعرض إلى التكفير من بعض الفرس والترك الذين رأوا في هذه الآلة تجسيدا للشر. (لعن هيزن. لعنت آلته بالأسباب المسخرة لها كي تقف إلى جهة الشر ضد نبي.) (ص114)
محكي صراع الطاووسين في الساحة الخارجية لبيت "أردهان"، الذي ينتهي بموتهما.
محكي الرجال الملثمين الذين وفدوا إلى خان "أردهان" للمبيت من أجل نسخ النقوش وإحصاء الرسوم. يتميز هذا المحكي بالغموض والإرباك ( نطق أحدهم : "نسألك المبيت، والزاد، والإقامة في المحنة". ابتسم أويس. قلب التورية بين يدي بصره:" المبيت والزاد من علومنا. أما المحنة فمن علوم الله، ومنازله".) (ص118)
محكي الطبيب النطاسي "أليف شيخ مدد الله"، طبيب مختص في علل الأجسام والخيال (أليف شيخ مدد الله… لما استقام له الخوض في مراتب الكيموسات، والعناصر، والكون، والفساد العضوي والاستحالة، والطبائع العاقلة والجاهلة، والأعراض والجواهر،…. وفراسة الممكن المجهول في تقدير الكيفية،.. . لما استقام له ذلك .. عم خبر تحصيله الجليل لإدارة علل الأبدان والخيال نواحي المثلث الفراغي بين بدليس وهكار وماردين) (130) سيشكل بموقفه التأويلي إرباكا لتصورات الرسامين السبعة، يقول دربند أحد الرسامين لهذا الطبيب :"خيالك صعب" (ص128) يشخص علل الرسامين بلغة تورية توقع الرسامين في فخاخ الحيرة والإرباك.(مد إصبعه السبابة في اتجاه الرسامين بلا تمهيد:"أنتما عندكما أرق الطير"، مشيرا إلى زغروس وجودي؛"وأنتما عندكما أرق زهر اليقطين"، مشيرا إلى سلماسي وجابان، "وأنتما عندكما أرق الفضة"، مشيرا إلى دستيدان وكالدي") (ص128)
تأمل السارد في هيرمينوطيقا الفجر ودلالاته في الرمزية الصوفية، ( فيه تنحسر موازين العقل المقبل على تدبير الخطط لشهوات البراهين وأحكام الغيب معا. وفيه تبتكر النقوش للمعصية الأزلية رئة تتنفس منها عفو الوجود عن العدم. الفجر عقل؛ قلم الكناية الذي يسطر آية الإفراج عن الظنون كلها، والشكوك كلها،) (ص132)
تكشف هذه المحكيات المضمنة عن بنية سردية انشطارية ذرية. فالمحكي لا يتشكل من قصة واحدة متجانسة، بل يتركب من حكاية سديمية ( الظاهر والباطن بلغة المتصوفة، والوجود والعدم بلغة الفلسفة) عبارة عن مجادلات ومناظرات عبثية لا تنتهي بنتيجة أو يقين. تقودها شخصيات تعيش في سديم المتاهة والإشكال. لا تنتمي إلا لبصيرتها الداخلية. ويتم سرد هذه الحكاية بشكل متقطع وتناوبي، حيث أن تضمين هذه المحكيات الصغرى وخطابات السارد التأملية يوقف تعاقب الحكاية، ويفتح في مجرى المحكي مسارات وصيرورات حكائية جديدة. وبالتالي، فإن المحكي لا يتشكل وفق منطق سببي تصاعدي، أحادي الاتجاه، لأنه يظل عرضة لهذه المفارقات والقطائع والصيرورات التي تحدثها المحكيات الانشطارية في خطية الحكاية. تبعا لذلك، ينتشر المحكي وينمو في اتجاهات ومسارات سردية متقطعة و ومتقاطعة، لا تخضع للتعاقب والانتظام النسقي الذي يجعل كل عنصر من عناصر النسق يرتبط بالآخر ارتباطا وثيقا في إطار وحدة نسقية مغلقة.إنه خيال السديم. ففي مقابل بنية النسق المغلق تطور " الأختام والسديم" بنية الصيرورة المنفلتة من منطق السلسلة العلية، والمفتوحة على خفة الاحتمالات الكامنة في قوة التخييل المتمثلة في القدرة على انتهاك الحدود والتشويش على الأنساق من الداخل وخلخلتها. إن هذا التشكيل الانشطاري الذري على مستوى الخطاب السردي يتوافق مع الحافز الوجودي الدينامي المولد للحكي وهو حالة السديم والعماء التي تسيج الشخصيات في ظلماتها ومفارقاتها.
على مستوى البناء التركيبي تنتظم هذه المحكيات المنشطرة شكلين خطابين:
الشكل التلفظي : حيث يتم سرد بعض " المحكيات " في سياق محاورات الشخصيات، فيما وراء خطية وكرونولوجية القصة الإطار. في هذا الشكل الخطابي يتعلق الأمر ب" أقوال" و" أفكار" وليس ب" أحداث" أو " وقائع"،لأن " الحكي " بما هو سرد أحداث يتراجع ليحل محله " التلفظ" و" الكلام" و " العرض"، الذي يستلزمه شكل المناظرة في حوارات الشخصيات. إلى جانب صيغة المناظرة تطور الاستراتيجية الخطابية في النص صيغة أخرى للشكل التلفظي هي صيغة التأمل التأويلي. وإذا كانت صيغة المناظرة ترتبط بالشخصيات المتخيلة، فإن صيغة التأمل التأويلي ترتبط بالسارد الضمني، الذي يتيح للمؤلف محفلا سرديا يتسلل منه إلى عالم النص. وتكون نتيجة هذا التدخل وقف خطية القصة الإطار،وتأثيث الخطاب بتأملات السارد في حقائق وكائنات عالمه التخييلي. في هذه الحالة أيضا، لا يتعلق الأمر بأحداث ووقائع،لأن صيغة الخطاب تتشكل من " تأويلات" و "تأملات" و"توريات" و"حدوس" و" تجريدات فكرية"، تعلن عن " حقائق" خارجة على كل إحالة مكانية زمانية. إنه عالم السديم والمتاهة الهرمسية.
الشكل الحكائي :حيث يتم سرد بعض المحكيات واستحضارها في سياق توالي القصة الإطار، حيث يتم إيقاف هذا التوالي بتضمين هذه الحكايات المستمدة من أنساق تخييلية متنوعة أهمها، النسق التاريخي والنسق الأسطوري والنسق الصوفي والنسق العجائبي؛ وتتركز جلها حول تمثيلات وصور الهوية الكردية في علاقتها بالهويات الغيرية. وعلى خلاف الشكل التلفظي، في هذه الحالة نحن بصدد حكايات صغرى مضمنة تقوم بتمثيلها شخصيات في زمان محدد ومكان محدد، وبالتالي فإن صيغة الخطاب في هذا الشكل السردي تتشكل من " الأحداث" و" الوقائع". إن الأمر يتعلق بمحكي الأحداث rècit d' evenment. وبحكم هذا الصوغ السياقي، يعبر هذا الخطاب عن " حقائق " مجسدة في عوالم ممكنة مرتبطة بإحالات مكانية وزمانية وتناصات تاريخية وثقافية. إنه عالم الأكراد في صراعهم من أجل امتلاك تاريخهم وتحريره من السديم والعماء.

المناظرة / اقتصاد الكلام
يتحول البرنامج السردي الذي حل من أجله الرسامون ضيوفا على "أردهان"، برنامج الرسم إلى اختبار في المعرفة يورط الرسامين في إشكال وجودي ومعرفي يتمثل في معضلة : (اللون محنة).
ينمو هذا الإشكال الوجودي في صيغة جدلية تتمثل في محاورات الرسامين و"أردهان" التي يتم سبكها في شكل أدبي تراثي هو المناظرة:
(" اللون محنة". جوبهت حقائق الوجود الصغير بالمنازلات الكبرى لحقائق الكلام:" البياض فراغ لا ينبغي للعقل أن ينسرح فيه باختلاق رسوم، أو تلوين أشكال، أو توليد نقوش. العالم على أهبة الخروج من محنة اللون إلى رخاء السديم" ) (ص111)
في هذه المناظرة التخييلية يتجادل "أردهان" وضيوفه الرسامين حول حقائق الوجود الغيبية ( الخلق والنشأة، العدم، العلم الإلهي،المصير، الغيب، الوجود، الجنة والجحيم... .). والمناظرة كتقليد فلسفي تراثي هي (النظر من الجانبين في مسألة من المسائل قصد إظهار الصواب فيها. فالمناظر هو من كان "عارضا" أو "معترضا". وكان لعرضه أو اعتراضه أثر هادف ومشروع في اعتقادات من يحاوره سعيا وراء الإقناع والاقتناع برأي سواء ظهر صوابه على يد هذا أو يد محاوره.4) وبطبيعة الحال تتحدد استراتيجية الحجاج والجدل في المناظرة بحسب نوع اختصاص المتناظرين ( الكلاميون، الفلاسفة، المناطقة، العلماء، الفقهاء .. .)، حيث يدافع كل طرف عن صحة أطروحته بدحض أطروحة الخصم. ومن ثمة يختلف أسلوب المناظرة من اختصاص إلى آخر.
إن المتناظرين في هذه الرواية هم شخصيات عرفانية من "أهل الكشف" و" عمال المكنون" (ص75). تنتمي إلى نفس النسق المعرفي وهو التصوف المعرفي الفلسفي. ومن خلال مضامين حواراتها نكتشف أنها متبحرة في علوم الظاهر والباطن. بل إن كل شخصية من هذه الشخصيات مختصة في علم من علوم الظاهر الباطن. وبما أن "الأختام والسديم" تجربة تخييلية مناظراتية، يبنى الخطاب السردي فيها أساسا على الفعل الكلامي الذي يتمظهر في طرح الأسئلة بين الشخصيات المتناظرة العارضة والمعترضة، ودعوة المناظر إلى التدليل على حقائقه، والتعليق على حقائق الآخر والاعتراض على كلامه.
لقد ترتب على هذه البنية المناظراتية استبعاد الحكاية في حد ذاتها، أو بالأحرى تراجعها إلى الخلف، وتركيز الاهتمام على استقصاء الثيمات الوجودية الفلسفية، لاستكشاف الإشكال المعرفي والوجودي للشخصيات. وإذا كان الجدل يبنى في المناظرة على ابستيمولوجيا اليقين وخطاب الحقيقة الذي يتمثل في إظهار صواب أطروحة العارض وخطأ أطروحة المعترض، فإن الحوار في " الأختام والسديم " ينزاح عن هذا الخطاب، لأنه يؤسس ابستيمولوجيته خارج منطق الصواب والخطأ:
( " خيالك كالمروحة"، قال دربند كرمان. وجه النطاسي طرف بصره إلى الرسام الجاثم في برزخ المقادير الصغيرة: " حين تعرق الحقيقة، التي لا تعرفها عليك بمروحة الوهم الذي تعرفه") (ص128)

فالاعتقاد بامتلاك الحقيقة ليس إلا وهما يدغدغ مشاعر المتكلم مثل المروحة. إن مجال الجدل بين هذه الشخصيات العرفانية ليس اليقين الذي يجعل كل متحاور واثقا من صحة خطابه ثقة مطلقة،لأن دينامية الجدل في "الأختام والسديم" تنطلق من كون الحوار هو مجال للعب البلاغي، حيث يتشكل في جوهره من توريات وصور تحتمل أكثر من دلالة، ذلك أن بنية التورية تقوم على الازدواج الدلالي L'ambivalence، وتتمثل في إيراد دال يحتمل مدلولين ، أحدهما قريب ظاهر لكنه غير مراد، والآخر بعيد خفي هو المراد، يعمد إلى إخفائه. لذلك، فإن استراتيجية تشييد الدلالة و الفهم في التورية هي التأويل الذي يقود مسار توليد المعنى من الظاهر غير المقصود إلى الباطن الخفي المقصود. إنه مسار توليدي دينامي تشييدي وليس معنى معطى مباشرا، بل إن سيرورة التورية الموغلة في الغموض والغرابة تنتهي أحيانا بين الشخصيات إلى اغتيال المعنى والإيقاع بالمتناظرين في شرك العماء والسديم والعبث:
("لم نفهم شيئا يا أخلي أليف"، قال أردهان مؤكدا كلمات دربند. " ما الذي لم تفهموه؟"، نطق النطاسي متصنعا استغراب اللسان العاقل. " أرق الطير. أرق زهر اليقطين. أرق الفضة. ما الذي لم تفهموه؟. الغراب أول كائن شهد قتل أخيه. اليقطين أول نبات اتخذه الآدمي سترا لفرجه. الفضة أول معدن كتب عليه اسم السماء".) (ص131)
إن خطاب النطاسي بتورياته ( أرق الطير، أرق زهر اليقطين، أرق الفضة) يضع محاوره أمام كثافة دلالية لا يمكن إدراكها إلا عبر جدلية الظاهر الباطن في الفكر الصوفي. فالظاهر يخفي دوما بواطن معينة، وحينما يكشف العارف الصوفي عن معان كانت باطنة في لاوعيه، فإنها تتحول بفعل ذلك الكشف إلى ظاهر، وتبعا لمنطق التضايف، فإن ذلك الظاهر الجديد يخفي باطنا يجب اكتشافه من جديد.. . تشكل جدلية الظاهر الباطن إذن مسارا تأويليا توليديا، يمكن العارف من إنتاج الدلالات عبر آلية التأويل، فكلما توصل إلى معنى معين، تحول هذا المعنى بدوره إلى علامة تخفي معنى باطنا مخفيا يحتاج إلى الكشف والاستقصاء. ومعنى ذلك أن العارف لا يقف عند مستوى معين من الدلالة، لأنه ينتقل من مستوى إلى آخر في حركة دائرية وليس في اتجاه أفقي . إن الكشف الصوفي لا يختزل في مستوى أحادي للدلالة، ولا ينطلق في اتجاه مستقيم من الظاهر إلى الباطن، لأن الدلالة الرمزية فضاء لانهائي يتشكل في مستويات منفتحة على الإيحاء والتوليد الدلالي.
يمثل الطبيب النطاسي للشخصيات حالة قصوى لخطاب العماء، فهو لا يتكلم إلا بخطاب التورية الموغلة في الغرابة، حيث يستبعد من هذا الخطاب أي قرينة ترشح معنى محتملا لدى محاوره. إن (خياله صعب) كما يعلق عليه "دربند". وهو(" بحر من توريات الغمام الناطق في الحدائق الناطقة". قال أردهان) (ص131)
إذا كان الحوار التقليدي ينهض على الاتصال الدلالي، فإنه في حالة هذه الشخصيات العرفانية يحطم هذه الاتصالية، لأن المسار التوليدي التكاثري لبنية التورية يفخخ هذه الاتصالية الدلالية بالازدواج الدلالي، حيث يضع المحاور أمام كثافة دلالية لا نهائية. يضاف إلى ذلك، أن الرمزية الصوفية تحول دوال الكلمات إلى رموز وعلامات لثيمات وجودية تحتاج إلى الكشف عن معانيها الباطنة. فالدوال المركزية في النص ( اللون، الظلام، المحنة، السديم، الظاهر، الباطن، النور..) تتحول بفعل الكشف الصوفي إلى علامات ورموز لإشكال وجودي يؤرق الشخصيات هو إشكال العدم والعبث.
لذلك، فإن إدراك الشخصيات لكينونتها يعني إدراك جوهر إشكاليتها الوجودية. وبالنسبة للكاتب "سليم بركات" فإن هذا الإدراك يتم عبر تأمل واستقصاء رموزها الوجودية التي تتشكل من هذه العلامات والرموز. هكذا يسبر السارد/الكاتب أغوار هذه العلامات متنقلا من دلالاتها الظاهرة إلى دلالاتها الباطنة، وفي هذا الانتقال الدائري تكمن كثافة الرمزية الصوفية ولانهائية دلالتها.

باعتبار السديمية هي السمة المميزة لهذه التجربة، فإن عملية اختراق هذا السديم وفك مغاليق ألغازه توكل للرسم كاستراتيجية تخييلية، حيث تتحدد مهمة الرسم في مفصلة articulation السديم. أي في خلق صور وأشكال للوجود تجعله قابلا للإدراك في كيانات لها حدود وتمفصلات ومرجعيات. هكذا، فالرسم يتيح للذات التحرر من ثقل المحنة عبر الامتلاك الرمزي للعالم، أي عبر هذه القدرة على خلق صور وتمثيلات لواقع التجربة المعيشة. فمن خلال استعمال الذات للتخييل ( الرسم) يتحول الوجود من حالة السديم (اللاشكل) غير القابل للإدراك (اللاتحديد) إلى حالة الكيان (الشكل) المتعين القابل للإدراك (التحديد)، لأن هذا التحديد يتيح للذات التعرف عليه، أي إدراكه من خلال مفصلته في مفهومات ومقولات وذوات :
( " لماذا نحب الرسوم والنقوش، يا أليف؟". " هي مفاتيح الخزائن رد النطاسي. " ل نحبها في الأرجح. لكنها المفاتيح التي لا نملك سواها لتعيين وجودنا الثني. الرسوم عقاقير. الخيال عقاقير...) (ص134)
يشتغل الرسم إذن ضمن منظور معرفي وأنثروبولوجي في صورة نسق تمفصل، وظيفته تشفير العالم، أي مفصلة هذا المتصل السديمي وتقطيعه إلى وحدات ووقائع قابلة للرؤية في صور (الرسم) والتمثل في حبكات قصصية ( السرد) والإدراك في مفهومات ومقولات (الكشف الصوفي)، لأن الرسم (التخييل) كما رأينا يطلق عمليات لتجاوز الحدود وانتهاك السديم. وبالتالي يشكل استراتيجية للتحرر من إكراه الوضعية ( السديم)، حيث يخلق عوالم ممكنة تلقي الضوء على الأبعاد الملغزة للوجود:
( " ألا تظن اللون يشقى وهو يستولد للخيال آثام الممكن؟"، سأله ميكر.) (ص122)
هذا العالم الممكن هو عالم الكشف الصوفي، حيث تنكشف حقائق الوجود للعارف الصوفي في صورة إشراقات وكشوفات وفتوحات ربانية. هكذا، فالرسم ليس مجرد فعل خطابي لترهين البرنامج السردي في الرواية كما يبدو للمحلل المشتغل بالسرديات، ولكنه من منظور هذا النموذج المعرفي نسق تمفصل لإنتاج الدلالات وتشفير العالم لتفادي حالة العماء التي تشوش على رؤية الشخصيات، أي على كيفية إدراكها وتصورها للعالم .

الختم / أطياف المعنى
يتشكل السديم دلاليا في النص كنقيض لثيمات الرسم والنقش والخيال. إنه اللاتعيين والمتصل عديم الشكل واللامتناهي. من هنا نكتشف العلاقة الدلالية بين السديم والرسم، والأختام والسديم. فإذا كان السديم يمثل مجاز المتاهة والعبث، لأنه يجسد حالة وجودية تكرس اللايقين وفقدان الاتجاه وبوصلة الرؤية، فإن الرسم والتخييل بصفة عامة يمثل الحالة النقيض لهذا السلب، لأنه يفعل دينامية استراتيجية الفهم لتجاوز حالة السديم والعماء، حيث يشتغل كنسق تمفصل لإنتاج المعنى، يتيح للكينونة فهم الوجود. والفهم هنا يتأسس كحالة إمكان، حيث يفتح الرسم ( التخييل) بتحرره من شرط الظاهر الآني المرئي تأملا في الوجود على أفق ممكن،هو أفق التحقق، أي التحول من حالة العماء إلى حالة الفهم. فالرسم ( التخييل) إذن تأسيس لمشروع أنثروولوجي هيرمينوطيقي يتمثل في تأمل لغز الوجود تخييليا لتحقيق إمكانية الفهم والكينونة. إنه يضع الذات على طريق ترهين المشروع، أي تحقيق هويتها وكينونتها. إن الرسم هو ما يشهد على آثار الذات وعلى إمكاناتها في ظل سطوة حالة السديم والعماء، حيث يكشف قدرتها على التحرر من هذه الحالة السلبية وتجاوز شروطها القهرية. وتتمثل في فعل التأمل الذي يجسد رغبة الذات في أن تخرج من حالة العماء إلى حالة الفهم لتحقيق ذاتها وكينونتها. بهذا المعنى، فإن الأختام التي ترد في عنوان الرواية تحيل على آثار الذات وعلى إمكاناتها وعلى نقوشها التي تشهد على وجودها وعلى أفعالها:
( تذيلوا رسومكم بأختام أسمائكم. ذلك حق المجاهرة بالخوف من الفقد. لكل عمل ختم. الأولاد أختام الآباء. الرسالة ختم الغياب. الهواء ختم الحياة. المني ختم اللذة. اللون ختم العماء.) (ص106)
الأختام هي ما يتبقى من مغامرة الذات في رحلة استكشاف السديم. إنها تؤسس على المستوى الأنطلوجي والأنثروبولوجي لشعرية الحضور والوجود والذاكرة في مقابل شعرية الغياب والعدم والنسيان المحايثة لاستعارة السديم، لأنها تنقش بصمات الذات في الوجود، وتؤشر على نمط للوجود في العالم، هو الوجود العرفاني الذي يتخذ من الكشف وسيلة للمعرفة والأنطلوجيا . إنها إمضاء الذات على خريطة استكشاف السديم. الأختام إذن بما تنقشه من آثار ورسوم وألوان في خريطة الوجود تعلن عن حضور الذات في مقابل الغياب كتجسيد للسلب. و تؤشر الأختام على دلالات الامتلاك، ذلك أن الرسم كاستراتيجية لتجاوز حالة السديم ( أي كسنن تمفصل) يرتقي بنمط وجود الذات في العالم من حالة الحضور إلى حالة أكثر أصالة هي الامتلاك، لأن فعل انتهاك لغز الوجود ( الكشف) يتيح للذات اشتراع إمكانات جديدة للوجود والعيش والفهم، أي القدرة على مضاعفة ذاتها بالتحول من حالة دنيا إلى حالة أرقى في سلمية استكشاف مراتب الوجود والحقيقة. وهذا ما يسمى في الخطاب الصوفي بمقامات الكشف، فالذات لا يتاح لها هذا الارتقاء المعرفي و الأنطلوجي من مقام إلى آخر إلا بامتلاكها لهذه القدرة المعرفية والسلوكية.
إن لجوء الكاتب إلى النسق الصوفي بوصفه نسقا تناصيا للكتابة والتخييل السردي، القصد منه هو تشكيل معرفة لها ابستيمولوجيتها المفارقة، مجال اشتغالها هو استكشاف المناطق الهشة للكينونة التي تقبع في الأقاليم السفلى للعقل والوعي، في مسار تصويري مركب وعلائقي يجمع بين العقلاني واللاعقلاني، بين العقل والشعور، بين الظاهر والباطن، بين المرئي واللامرئي، يتجاوز السقف الابستيمولوجي المحدود للعقلانية التي تختزل الطبيعة المعقدة للوجود في بعد واحد هو العقل، وتغرق فيما يسميه "هايدغر" " نسيان الكينونة . فالأمر إذن لا يتعلق في " الأختام والسديم" بشخصيات عرفانية تتخذ من النسق الصوفي مسلكا للهروب في الشطحات أو في ما هو لاعقلاني كما ينظر العقلانيون إلى الخطاب الصوفي. على خلاف ذلك، تطور شخصيات النص رؤيا للعالم من منظور أنطلوجي هيرمينوطيقي مخالف للعقل، و أكثر انفتاحا على الوجود والكينونة. وميزة هذا الانفتاح على الكينونة المقصية في الخطاب العقلي يكمن في أنه يوسع الأفق الابستيمولوجي للعقل، ويجعل هذه الرؤيا العرفانية تحلق خارج إكراهات النزعة العقلانية 11.

ضمن هذا المنظور الأنطلوجي التأويلي يطور "سليم بركات" أفقا معرفيا للرواية العربية يتمثل في استكشاف الكينونة في العالم. وفي حالته تتجسد هذه الكينونة تخييليا في مسار تصويري يتخذ من الإشكال الكردي موضوعا للاستكشاف والاستغوار. ما الذي يجعل الكردي "كائنا ضالا"؟ ما هي التمثيلات والصور التي يصوغها عن ذاته وهويته؟ ما هو دور الحكي في هذه الزمانية الكردية المشروخة برعب الكوميدي وسخرية التراجيدي؟ كيف يمارس الكردي وجوده في المنفى؟ كيف تواجه الذات حالة الشتات والمنفى؟ ما هي استراتيجيات الهوية في وضع يهددها بالمحو والتلاشي؟
تكمن أهمية هذا الحكي الاستعادي (الهوية، الذاكرة) في هذه الزمانية السديمية في أنه يدمج الكينونة في زمانية تخييلية تاريخية، ترسخ ارتباط الذات بهويتها وذاكرتها وأساطيرها ونماذجها الأسطورية العليا، وتجدر وعيها بالمكان والتاريخ والجغرافيا. هكذا، من داخل متاهات السديم يبلور المحكي رؤيا أصيلة تاريخانية تتيح للذات تجاوز عماء السديم بفهم القوى المتحكمة في تاريخ الهويات وسيادتها. فالمحكي التاريخي وإن كان ينتشر في النص في صورة بقايا منشطرة ضئيلة بالمقارنة مع هيمنة المحكي السديمي، فإنه هو الذي يحقق "اندماج الآفاق" بين الكينونة وتاريخها وهويتها وذاكرتها. ويتجلى ذلك في تمثيل ذهنية هذه الكينونة ووصف أفعالها من خلال شخصيات كردية تتمسك بأسمائها التي تفصح عن هويتها الكردية، وتستعيد ذاكرتها التاريخية والأسطورية وتنقش وعيها في الجغرافيا باستحضار أمكنتها وطقوسها في العيش. فزمن هذه الشخصيات إذن ليس السديم الذي يمثله المحكي التخييلي الخاص بمسار الرسم، ولكنه زمن تاريخي أيضا هو زمن تفاعل هذه الشخصيات مع ذاكرتها وتراثها و نماذجها التاريخيين (الأمراء والثوار الأكراد) الذي تمثله المحكيات التاريخية المضمنة في القصة الإطار ( قصة أردهان والضيوف الرسامين).
وتتجلى أهمية هذه الترسيمات التاريخية المضمنة في كونها تفتح المصير الفردي للشخصيات المتخيلة على المصير الجماعي وعلى الهوية الجمعية والذاكرة، يقول الطاهي في هذا السياق:
( " لي أولاد هم ختمي. سأنجز ذات يوم كتاب " مأدبة الإعدام" لأذيله باسمي، وألقاب سلالتي حتى الجد التاسع والتسعون.) ( ص106)
في ضوء هذا التعالق الدينامي المتبادل بين المسار التخييلي السديمي لمحكي "أردهان" والرسامين السبعة، وبين المسار التاريخي كما تمثله الشخصيات التاريخية والنماذج الأسطورية، تظهر مهمة السرد المعرفية في تشييد الذات وتشفير تمثيلاتها عن كينونتها والآخر والعالم، حيث تعيد وصلها بهويتها وذاكرتها في زمن الشتات والمتاهة. في هذه الحالة يتحول السرد إلى عنصر خلاق يبدع الهوية، حين يحرر سردياتها الكبرى من النسيان والمحو والشتات، ويدمجها في مشروع تأملي في مكر التاريخ ولغز الوجود، مشفوع بالتساؤل عن استراتيجيات الذات في المنعطفات الحاسمة واستنطاق مساراتها، منجزاتها وإخفاقاتها، من أجل فهم "ما جرى" لاستخلاص إمكانات جديدة للفهم والفعل في الحاضر، بتجنب أخطاء الماضي والاستفادة من حيل التاريخ . وتتأكد أهمية هذا الدور المعرفي الإبداعي الخلاق للسرد، إذا عرفنا أن الهوية ليست معطى جوهري ثابت، ولكنها تشييد ثقافي وتخييلي ف" الأمم خيال" كما يرد في الرواية. وهذا ما يؤكده النقد الثقافي ونظريات ما بعد الكولونيالية والمادية الثقافية في اعتبارها الهويات سرديات 12. كما بينا، يشخص "سليم بركات" الهوية كاستراتيجية سردية بعيدا عن سياسات الهويات المغلقة، ذلك أن سرد حكاية النموذج الفردي البنيوي ( حكاية أردهان) وإن كان يتم إدماجه في نموذج أوسع هو النموذج التاريخي الجماعي (حكاية الأكراد)، فإن هذا الإدماج لا يكرس وحدة الهوية وانغلاقها، لأنه يتعرض لعملية التساؤل والاستنطاق عن معنى الوجود في صيرورة تاريخ لا يشفع للأكراد إلا بوجود إشكالي تجسده استعارة السديم، ومن ثمة فإن هذا التساؤل عن الآنية( الدازاين Dasein ) بتعبير "هايدغر" يشكل إحدى إمكانياتها الذاتية والمستقبلية، لأنه يحررها من شرط الواقع الظاهر وإكراهاته القهرية (مكر التاريخ) ويتيح لها الاستفادة من مزايا استبصار "ما جرى" من أجل فهم " ما يجري" وتأمل "ما يأتي". وهذا ما يحميها من التقوقع في سراديب الماضي والذاكرة والتراث. ويتضاعف هذا الاستنطاق للهوية سرديا بفعل تقنية الانشطار السردي التي تحطم وحدة القصة الإطار وتكسر سببيتها المنطقية الكرونولوجية، بحيث تبدو الذات في حالة بحث سديمي مستمر عن حكايتها المفقودة وعن هويتها المشتتة.

د . محمد بوعزة
bouazzamohammed@yahoo.fr

أقرأ أيضاً: