"لا" التعريف

قطعاً (بالتزامي جانب القَطْع، والجزم، والتسليم، والتوكيد)، كلَّما بسطتُ خيالَ علومي أمامي، كَوَدَعِ قُرَّاءِ الطالع السَّحرة، أو قرائه المشعبذين، لاستجلاءِ أثرٍ أقتفيه إلى مشارف التعريف بالشعر، غرقتُ ـ أنا وعلومي معاً ـ في مدخل السطر الأول. أستطيع "استمالةَ" الفقهاءِ النُّظَّار إليَّ باستعارة بزور مصكوكاتهم في خواصِّ "هذا الصنف" من إنشاءِ الكتابة مذهولةً، تتبادل فيها الكلماتُ ثوابتَها، والمعاني أقفالَ المتاهات. أستطيع "تعنيفهم"، و"إرغامهم" على النزول إلى ما "انتحل" به يقيناً في مذاهب تعريف الشعر، فانتصرُ للبليغ الذي ينتصرُ لي.

كلُّ نظَّار الشعر، على حقٍّ، بنسبةِ التزامهم الوفاءَ لحرية الشعر. وأنا على حقٍّ، أيضاً، بنسبة قلقي من هذا الإنشاءِ المُلْغِز، الذي أسمُه الشعر. لقد قاربتُ بعض توصيفاته، حيناً بعد آخر، بالتماس حوامِلَ شتَّى، متردِّداَ في اعتماد ما يليق بخاصيَّة القلق ذاته، لأن القلقَ فتنَةُ دِيْنِ النَّفْس ومذاهبِ أحاسيسها. لم أَنْجُ من كلامٍ كتبتُه في استعراض المأثور من ميولي، ولم ينجُ كلامٌ مني، حتى تحصَّل لي اعترافٌ مفرط في بساطته وتناقضه: لا أعرف.

أيكتب أحدٌ إنشاءً لا يعرف خواصَّ تدبيره جنساً من أجناس الكتابة، ذا فارقٍ صارخٍ في تكوينه؟ أتترتَّبُ عليَّ ـ إن قلتُ: نعم ـ تبعةُ حجْبِ الشفاعة عن مكنونٍ صرفتُ ستة وثلاثين عاماً ( منذ نشر قصيدتي الأولى وأنا في السابعة عشرة) على استحضاره صخرةً صخرةً إلى ظاهر وجودي؟ في الأرجح سينتظرني السيَّافون. بيد أنني، في حدود اطلاعي المتواضع على مناهج الشعر نَقْداً وتعريفاً، أردتُ بياناً يخصُّني ـ يخصُّ هذا التكليف، الذي تجشمته في خسارةٍ تتراصف طبقاتٍ، بقسوةٍ، في الأسطر، إرهاقاً بعد آخر للمعاني كي تتدرّب على الفجاءات. وقد عثرتُ على أملٍ لم يحسمه التقديرُ بعد، مسكونٍ بحذر الأمل من نَفْسه: انتصار الخيالِ خالصاً في انتصار الكلمة على يقينها.

أهذا تعريف؟ لا. لكن هذه الـ "لا" هي تدبيرٌ خجولٌ يسترق به العقلُ نظرتَه المرتبكةَ إلى السِّحر، ومصكوكاتهِ: الشِّعرِ، والذهولِ، والشَّغف.

السويد
3 ـ 5 ـ 2004