مختارات

في السنين الأخيرةِ هذه، المرميَّةِ على قارعةِ حربٍ أكثر نكالاً بما تبقَّى من تاريخ عربي، تناهى إليَّ -أنا كاتب السطور الملقاة على كاهل الفضيحة -ما ظننتُه مزاحاً في التصنيف، فإذا به، عبر همسٍ يتصاعدُ، عنصريةً في التصنيف.
أوساط من كتبة النقد "الأكاديمي"، يتامى الواقعية الاشتراكية وأخواتها، وحفنةٌ من العائدين إلى "عمقهم العربي" بعد تيهٍ في الأممية وأخواتها، يتداولون "شرعية" انتسابي إلى الكتابة العربية، لأنني، في بساطة، لم أفصِّل لأبي بنطالاً يتماهى به مع الزيَّ العربي، وتركت أمي في زيٍّ لا يشبه ما ترتديه نساء العواصم. ثم تركتهما، بعد ذلك، يتحدثان الكردية إلى جيرانهم، من غير ترحيب بخطط "محو الأمية" عن اللسان الكردي بإنطاقه المعرفةَ الكلية، الأزلية، في الحرف العربي. ومنذ قليل، في مثال ركيك عن امتداد هذا الهمس إلى شواطئ الأمم الأبعد، أوصى ناقد داراً ( في مقالة معلنة بالإنكليزية) بعدم الوقوع في "فخ" ما أستدرجُ دور النشر الغربية إليه، لأنني أتوجَّه بكتابتي ـ في زعمه_ إلى الغرب، و أتقصَّد "سهولة" البناء، وسهولة اللغة، لأوفر على الترجمة "شقاء" ملاقاة الكردي في نصف الطريق إلى روحه.
أنا كاتب لم يبدأ توسُّل "أقليته" بعد حرب الخليج لتكون مرتَّبةً في تعبيره كملاءة سرير يحملها إلى "شفقة" الغربيِّ على "هويته". لم أبدأ بعد حرب الخليج المهولة في إهاب "أمهات" الكشوف لأتوسَّل إلى حظوة في الترجمة. لم تبدأ كرديتي حين اعترف جورج بوش بوجود إبادة أصمَّ أذنيه عنها أول الأمر، فقررتُ استغلال صحوة ضميره كي يترجمني المترجمون إلى لغة اليانكي. كتبتُ باللغة الأشد ضراوة في التنقيب عن نحاس الكردي، وفحمه، فيما كان في مستطاعي بلوغ الترجمة بتدبير سهل كالركاكة المحمولة على إنشاء طاحن، يحمله البعض تحت إبطيه إلى أصدقاءٍ "مفاتيحَ" في المشورة لدى الدور الغربية، حيث تجري ترجمات بأكملها على إبريق من القهوة.
لم أذهب في اتجاه الترجمة إلى لغة أخرى، بل في اتجاه ترجمة روح الكرديِّ إلى عربية تخص شريكي العربي، الذي ينبغي أن "يتعرَّف" إليَّ بعد اغتراب في صحوة قوميته التي ألزمني بتهجئة إعرابها. ذهبت في اتجاه شريك منعني عن اللغة الكردية فذهبت إليه، متسامحاً، بلغته، التي هي اقتداري على تدبير حريتي في بلاغتها، وتدبير هويتي في نُبْلها الأعمق، مستغلاً استغلال العاشق تواطؤها مع أعماقي على تدبير المعنى، الذي يستحقه كردي في الإشارة إلى دجاجات أمه، وتبغ أبيه.
الملفت في الأمر، حقاً، أن "الهمس" المتنامي عن "التشكيك" في النوايا الحقيقية لأدبي، يأتي من وسطٍ احتفى همساً بصدام حسين، وصموده المرتفع على الأنقاض، تباكياً على العمق العربي الذي جرى تهشيمه. لا طائل من التذكير بتواطؤ صدام حسين والغرب لإشاعة البرهة الأكثر دويّاً في الخسارة، لأن هذا الوسط "المتحصِّن" بسجاله في تقديس الديمقراطية، وتشريف "الاختلاف"، يريد لنفسه استئثاراً ببوَّابة المعنى، وتحديد خواصه.هكذا وجدنا "أصولية" جديدة للقراءة ترى تعبير "الأقلية" (الشقيقة) تطاولاً على طموحها في احتكار التعبير عمَّا تعتقده هي، بميزان مكسور، واقعاً رديئاً، واستبداداً، وإلغاءً للهوية يستوجب النقد. هي "أصولية" تلتقي وشقيقتها الإسلامية في استنزال الممكن الديمقراطي إلى شرعية لإلغاء الآخر إذا استوى لها السلطان.
يستطيع هذا الوسط، المشَّاء بخليط من انكسارات لغته على جبهة الأممية، تحويل صدام حسين إلى تجريد في لعبة الحنين المُفْتضحة إلى مجابهاتٍ على مقاس شعاره المثلوم: اجتماع "الإمبريالية" الكونية ضد العراق. أمَّا تفاصيل اجتذاب صدَّام لآغا ممنون إلى فطيرة تفاح الخليج، واستنزاف العراق في حرب العبث على جبهة فارسَ، وتنشئة "التعددية" الحزبية على يدي إبني عمَّيه المأسوفين على شبابيهما، وإبنيه، وترفيه الجاذبية الديمقراطية على مائدة "مجلس الثورة"، وجمالية البحث عن ألفاظ الجهاد، و"التقدير" العاصف للأنوثة بجعل كل شأن خطير، عاصف، مهول، قوي، مزلزل، منسوباً إليها: هي أمُّ الفوز بالخسارة _أمَّا هذا كله ففيه من ثوابت "البهاء" العقلي ما ينبغي تفويض النظر إلى نتيجته: "الحصانة" الأخيرة للأمة في رمز الرفض "للخضوع، الذي أوجب على صدام حسين، من قبل، تفويت التمرد على "الحصانة" في شماله الكردي، بإعلان "غزوات" الأنفال، المتاح ببركة اسمها للجندي أن ينهب بيت "المواطن" الآخر، عبر إعادة معنى الدولة -عِمق الحصن العربي- إلى أصله في البيان الطبيعي: الغابة. وإلى إعادة لغة النهب، بإسراف صفيق، إلى خطاب الدولة، وأخيراً إلى استعارة نَسَب "الأنفال" في السياق الديني للتدليل على مواجهات الخير المطلق، ممثَّلاً في عائلة حزب البعث، ضد الشر المطلق مرتدياً شروال الكردي وعمامته. فهل "الهمس" المتخصِّص، في أنديته، بأحوال أدب كرديٍّ "يتوجَّه إلى الغرب الشرير"، مسعى إلى "أنفال" على جبهة أخرى؟
كيف رأى هؤلاء في تعبيري الكرديِّ عن قَدَر الكردي، ووجوده، وممكناته، دعوة إلى تدبير حماية مَّا من نوع "Provide Comfort"، وهو ما يعني استدراجاً من كتاباتي للغرب كي يتدخَّل في سيادة النص العربي، و ينتقص من "مباهجه"؟. حين نحا الغرب إلى تقديم العون، في شكل حماية، كان أكراد العراق يتجهون، أنصاف موتى، في ثلوج الممرات الجبلية، بآلاف آلافهم، إلى تركيا "الرحيمة"، هرباً من "السعادة" التي وعدتهم بها طائرات الأب القائد السَّمتية، فهل غدر الكرد بالروح العربية إذا قبلوا حماية الغريب من الموت بغاز الخردل الشفيق، الرؤوم، الذي تخصَّصت مصانع الأسمدة في تحويله إلى نفع لعظام البشر؟ ويحهم إذاً. إنهم يعرفون كم غدر بهم الغرب الصامت ـ رحمُ الإستثمار في خرائب صدَّام، لكنهم استعذبوا، في فوضى الطحن وفوضى الوعود، أمل الخلاص من عبودية العائلة البعثية، ورماة سهامها عن يد الكيمياء، قبل أن ينكص الغرب إلى الاكتفاء بمراقبة عراق مهلهل، ليتدبَّر وجوده سلطاناً على منابع الدم الكوني ـ النفط.
لماذا لا يكون التعبير العربي عن الاستبداد العربي، في الأدب، توسلاً، إلى الغرب لاستدرار شفقة الترجمة؟. لم ألجأ إلى ذلك. الأكراد الذين كتبت عنهم فيهم اللص، والجاهل، والقوي، والمتعب، والعنيد، والمحبط، والقاتل، والجَسور، والعالم، والأمي.لم أحول قرى الكرد إلى ملاعب لتدبير الوعي "بحتمية الخلاص التاريخي". كتبت عن الكرد لأنني كردي،وجاري كردي، وأهلي موزعون في قرى كردية، يتكلمون الكردية، ويؤدون الصلاة بالعربية، وللَّه جلَّ جلاله لفظٌ في لغتهم لا يجعل منه إلهاً آخر غير الذي للعربي، فلماذا لا أكتب عنهم؟ لماذا لا أكتب عمَّا يجعل اللغةَ ولادةً لحقيقتها كمشهدٍ، وعلاقات؟. أأنا أتطاول على "شأن داخلي" في الأقاليم هذه؟. هل الكرد "شأن داخلي" ينبغي على الكاتب استئذان الرقابة العربية كي يتوجَّب تصريفهم تصريفَ أفعال اللغة، ووضع علامات إِعراب بلغة الضاد على مخارج أسمائهم؟. القتل شأن داخلي. الذبح شأن داخلي. النظام شأن داخلي. السجن بلا محاكمة شأن داخلي. مصادرة الإنسان شأن داخلي. الثواب والعقاب شأنان داخليان. منع المخاطبة بالكردية، أو الكتابة بها، أو تداول كتب بحروفها، شؤون داخلية. الكردي شأن داخلي في أمصار أشقائه، إذاً، فلماذا يتدخل المتدخلون في شقاء الصينيين، والأفارقة، واللاتينيين؟ لماذا التعريض ببينوشيه، وتشاوشسكو، وعيدي أمين، و سيسي سيكو، وماركوس؟. كلهم يتصرفون بحيوات "داخلية" هي مِلْكُ الزريبة؛ ملْك طلقات علي حسين المجيد المتفجرة بعد سقاية الضحية بنزيناً، وملك أخي رئيس في بلد آخر يتيح للسجناء هرباً من السجن ليتصيدهم بالبندقية. كلها شؤون خاصة في إخفاء معارضين بسرقتهم من بلدان أخرى،هيا، أكملوا موعظة الشأن الداخلي، وأعفوا أنفسكم من تنظير التدخل في صَفْوِ العالم.
ليس مخيفاً قط، وليس خيانة أن يصلي المرء لنجدة تصله من خارج مَّا، تعيد الحرية المغمى عليها من الرَّكْلٍ إلى صوابها. الوسط المذعور من انهيار "العمق العربي" ينتظر التغيير، أبداً بالعامل الداخلي، النقي الدم، القادر كصفعة كيم إيل سونغ (التي تزيح سلسلة من الجبال شديدة الانحدار) على الإطاحة بحديد النظام وفولاذه. إن "الشأن الداخلي"، كمصكوكٍ في الأخلاق المُحْدَثة، "ميثاق" الأنظمة المُعلن كي لا يبيح أحد لعامل خارجي ترويض أحدٍ آخر من فصيلها، فيغدو الأمر عرفاً، ويجري في زيد ما جرى في عمرو. "العامل الداخلي" مقولة تحصين أكثر ألقاً من كنوز قارون. لكن ما وجه "التمييز الكردي" الذي أتوجه به إلى الغرب ليخفَّ إليَّ على صهوة جواده، معيناً كعامل خارجي على ترشيد الواقع "الذهبي" الضَّال"؟. إذا كانت كتابتي عن الكرد "تحريضاً" على الترجمة بعامل "الإثارة" المُغرضة في موضوع كهذا، فالأمر يعني، إذاً، أن الواقع العربي، أمينٌ على رخاءِ النفوس، صحيح الجسد، عادل المشيئة (؟!!).
لم أترعرع في بيت تشرَّب النظرَ في خصائص كونه عرقاً آخر من هذا العالم. كان أبي الملا، بلقبه الديني الصغير، يرى العرب أقرباء الحقيقة لأنهم فرع الأصل النبوي، الكامن في جِبلَّة الخَلْق الأول، وهُمْ خطابُ الله إلى الوجود العارض. لكنني، حين تفوَّهت عَرَضاً،ذا يوم، بما يذكِّر بِعرقي، أعدَّت لي المدرسة محاكمةً ذوَّبت عظامي هلعاً. كل أساتذة المدرسة الإعدادية و الثانوية اجتمعوا لوضع المحاكمة على سكة أصولها، وتباروا- إلا أستاذ الكيمياء الشيوعي، والجغرافيا الفلسطيني - في إعادة عقلي إلى مسلك الحقيقة: إذا ادَّعيت أصلاً كردياً، عُدْ إلى تركيا. هكذا قال معلم الأدب العربي، ذو الشيب في العارضين. الأكراد هم من تركيا، إذاً!!. وافدون طارئون. أعرف أن والد جدي قَدِم من جهات قزوين إلى أرض متداخلة الأعراق، لم ترسمها الخرائط، بعدُ، مبوَّبة بخطوط زرقاء، وحمراء، وسوداء. جاء إلى أرض كان فيها شركاء لغته، وشركاء ثيابه، وشركاء حكاياته عن البسالة، والخيبة، والغرام المعذَّب، في أقاليم صغيرة، كل إقليم قرية لها اسمٌ كردي.
قبل أن أولد، بسنين عشر ربما، لم تكن ثلاثة أرباع هذه البلاد بلاداً بعد. ومع ذلك طلب مني معلم اللغة العربية أن "أعود" الى تركيا!! بالطبع لم أطلب منه، هو، أن يعود الى الجزيرة العربية، بل ـ بعد ما طردت من الصف الإعدادي الثالث ـ تقدمت الى الامتحان وفق "النظام الحر"، فنقلت خطواتي، جرجرة، الى الصفوف الثانوية. وها أنا أود أن أكتب الى ذلك المعلم أنني ابتعدت قليلا عن مصافي العروبة التي يديرها بشهامة أشعار الفخر، غير أن شركاء له يتبعونني الى اللغة كي يعيدوا إليها "استقلالها" من احتلال كردي يتوسل بها الترجمة الى لغة الغرب الغاربة .
لم اخترع شعباً على مقاس خيال الغرب. لم أهن الشخصية العربية في أي نص. أم تراني أزاحم البعض على جزء من خيال المكان؟ إنه مكاني أيضا. إنه المكان الذي يحق لي، مثلهم، إعادة ترتيبه، والإضافة إليه، وصوغه، وتصويره على حاله. فإن ذهبوا في الأمر الى وجوب تصنيفي كاتبا كرديا، خارج مملكتهم، فإنما لم أدَّع، قط، أنني غير كردي. أي: لم "أخدعهم"، فجاءة،لأقتنص ما " يثير" الغرب، و" يحرض" على الترجمة. منذ " دينوكا بريفا"، في العام 1973، وأنا مسترسل في القبض على" البرهة الكردية". فليقرأوا "البرهة الكردية" بالحق الذي يقرأون به يابانياً مترجماً الى العربية فيبتهجون بإضافة شئ ما الى معرفتهم بأحوال العالم في نص أدبي. أم أن وراء الأكمة عودَ زرياب؟
لم أساوم في اللغة. لم أساوم على جعل النص رقعة معرفية بجسارة تحميل المعنى حروباً على جبهاته المتعددة. لم أساوم على استدراج نفسي، وقارئي، الى امتحان يصل الى حدود الملغز، كون الملغز باباً من أبواب الحقيقة الى التيه العادل. وأنا، بضراوة البناء عندي و تركيبه، الأكثر صعوبة على الترجمة. فأي غرب أتوجه إليه بأثقالي هذه؟ تعاقب على إحدى رواياتي مترجمان الى لغة واحدة، ثماني سنين، وهو وقت لم يستغرقه صدور مائة رواية عربية في لغات أخرى." كاتبكم الكبير.... يترجمه المترجمون على المقاعد في انتظار المترو. أنت صعب، أنت فاحش الصعوبة"، ذلك ما كتبته إلي مسؤولة عن تدبير النصوص العربية مُتَبَّلَةً على مائدة الغربي. ربما هي "الاعتناقية الفكرية"، في مقامها من الفراغ الراهن، تزيِّن الاختبال كموضوع "جدير" بثقة النَّظار وقد طُحنوا بتسارع الانهيار في منظومة المرحلة. ما من شئ واضح، و الذين أوقفوا خطابهم على الديمقراطية، و الاختلاف، يختتمون النص بنقطة من "أمهات" النقط المبذولة من بيان صدام و بلاغته. ربما هم يتسلون, لكنها تسلية دموية في انتظار انتشال فكرتهم من طوفان المأزق.