(في كتابه "الأقرباذين") مجموعة مقالات جريئة يجمعها كتابُُ صدر في السويد. للكاتب والأديب الكردي المعروف سليم بركات. وقد صنفت المقالات في أربعة أبواب معنونة " عصيان المنطق، خطرات في كشف المعقول، علوم المسالك، هواء قيد الدرسُُ أربعة أبواب مشرعة تعصفُ منها عواصفُ الحقيقة اللاذعة... تثيرُ الأسئلة بإثارة مشاهد من ذاكرة أرشفت الألم على مر السنوات وهاهي تقدم مخزونها الجريح الذي أخذ يسيلُ على قلم كاتب مؤمن بأن البوح هو في جوهره قصاصُُ وأن الصمت خيانةُُ أو يضاهيها، فآثر فتح الأبواب ونبش الأوراق والأرواح.... في المقال الأول نقرأُ عن ذاك الآخر " الكبير " الذي كم تؤلمه الحقيقة لأنه صانع الديماغوجية والتلفيقية وقد جند من أجلها الغث والسمين، في حين أن سليم بركات جند من أجل الحقيقة هاجس الإبداع ونزح به من الهمس الخجول الى الصراخ الجريء في منفاهُ الجديد دونما تردد أو عصاب. يرصدُ مشاهد الألم العارم.... ذلك الاختراع المفضل والمجند لدى سيد القوم الكبير، حيثُ تعذيب الزمان والمكان والتمثيل بهما، يمنحُ الفاعل الطاغية طاقة حيوية تستمدّ زخم الشر من سادية مضمرة ترسمُ أقدار بشر يتخبطون في أوحال الوجود عبر أزمنة يتناسلُ عماها أو تتعمدُ فقأ عينيها ولكن دون أيما إحساس ولو بليد بالذنب!. يقف سليم بركات على رابية التأمل.. هادئا وقورا، يمعنُ النظر في الأمكنة وأسمائها، أمكنة عاش فيها الكاتبُ في ذاك الجزء الكردي المقهور والمستباح من الوطن السوري، أمكنة داعبت أسماؤها الحميمة مسامعهُ منذ الطفولة الباكرة قبل أن يعلن الآخرُ النفير الشوفيني العام ويصدر الفرامانات بإعدام الأسماء لاغتيال التاريخ وإسكات نبضه وذلك من خلال تعرية جسد الوطن ونزع أرديته.... أليس هذا اغتصابا يجبُ القصاصُ من فاعله؟!. هذا القصاص ما أرادهُ بركات بكشف المستور عن الفعل والفاعل الذي يتخفى على الدوام وراء عباءة الشعار الخاوي المسلط على أرواح الناس وعقولهم كسيف الجلاد الذي لا مفر منهُ. هذا هو الاستبداد والخزيُ الذي يجاهدُ في الجهر والسر لإلغاء الكردي وأسمائه، لا لشيء إلا ليشعر بنشوة انتصاره المحتقن في حروب شوفينية لن توصل صاحبها إلا الى هاوية الفقر الروحي والأخلاقي. ولأريب إزاء هذا الفقر لن تكون نهايةُ الاستبداد سوى الأدران الخبيثة التي تودي الى هاوية سحيقة لا يُحسدُ على الساقط فيها. في كتابه وجد بركات أنه يجبُ التعامل مع اعوجاج المنطق بمنطق الحقيقة الفضائحية الجامحة.... فهل يرعوي الآخر بهذا المنطق المضاد أم يأبى ويستكبر؟؟؟! وفي مقاله" شعبُُ في حقول الرماية" ينحو الكاتب منحى المحلل السياسي لقراءة المنطقة الساخنة بعيد حرب الخليج الثانية، ولكن بهدف قراءة حال الكردي الذي جره الغربُ - كما جرت العادةُ- الى الحلبة ثم تركه لثيران قدره، ففي معمعان الصراعات الإقليمية والدولية كان الكردي هو المعلق من عرقوبه بين عواصم محيطة به تسيج فضاء خطوه وعواصم أخرى تدير العجلة من مواقعها البعيدة، وكانت الخاتمةُ أيضا هي سوق الكردي الى مقصلة الألم الجديد رغم عدسات الكاميرات وزعيق شعارات حقوق الإنسان الخرقاء، هذه الشعارات التي لم تكن ذات يوم مبضعا للجرح الكردي المثخن والغائر. ثم يترك الكاتب السياسة جانبا في الباب الثاني من كتابه وينأى عن أحاديثها التي تبدو ثقيلة دائما ولا طائل من ورائها، ليتحدث بشغف وهو الشاعر عن الشعر وأحواله ومبدعيه وناقديه. حيثُ يرى أن الشاعر الشائع ذا الحظوة لدى الجماعات الذي يمارسُ عن الجماعة فعل الحب والانتقام ولو كان ذلك من خلال كيان القصيدة اللغوي، سرعان ما تخاذله الجماعةُ غير مدافعة عنه إزاء النقد الغاضب معتبرة أن الشاعر وشعره يقعُ عليها واجبُ الإبداع والدفاع في آن معا. يا لأنانية الجماعة تبحثُ عن الجمال، تغترفُ منهُ ولا تتبناهُ، تداعبهُ ولا تقيه من سيل القبح الجارف وهو يبغي التهام مكامن هذا الجمال في قصيدة الشاعر الصبور على مشاكسات النقد الغضوب !. وفي موضع آخر يستعيرُ سليم بركات مستلزمات البناء والتفكيك على طريقة رولان بارت والمدرسة التالية عليه، كما أنه لا يتوانى أيضا في الاستفادة من تراث التحليل النفسي. كل هذا من أجل قراءة الظلال المتخفية في صورة المتنبي التي تعاقبت الأجيالُ على رسمها. يحاول الكاتب استنطاق عنصرين في الجانب اللامرئي من هذه الصورة وهما الفخرُ بالذات مدحا للنفس، ومدح الآخر وهجاؤهُ، رابطهما طموحُُ لا محدود في شعر فحل ملأ الدنيا وشغل الناس. فشاغلُ المتنبي في مدح الآخر، ليس كسبا لعطاء بل الإقامة في ملكية يزاحمُ بها ممدوحيه، ثم أن امتداحهُ لذاته هو محو لمدحه الآخر، انه كرّ وفرّ والمبتغى بحثُُ عن الأنا في الواقع بالشعر. ومن هنا يحدد الكاتب التصنيف الشخصي للمتنبي في النرجسية والنفاق والانتهازية والتقلب وكل ذلك بإفراط. واعتقدُ أن هذه القماشة السيكولوجية والتلاطم الروحي والجري وراء المدح ثم إلغائه بالهجاء هو حضورُُ للأنا الغائبة التي لا تعترفُ بسلطة الآخر... حضورُُ للأنا الثملة والطموحة اللاهثة لإثبات هويتها وتجسيد ذاتها على مسرح الوجود وهي في جوهرها تبحثُ عن الرسوخ في البطولة والمجد وتتخذُ في المتنبي الإبداع الشعري سبيلا حتى وصل به الأمرُ الى ادعاء النبوة واعتلاء الإعجاز إلا انه تراجع في صحوة الواقع الممتعض ولربما بقيت هذه النبوة راكنة في ركنه القصي والتاريخ سامحهُ واعتبر ذاك هرطقة غابرة لشاعر يلبي الحاجة الحماسية في جسد التاريخ العربي وهو في مرحلة ارتقاء عصبيته. وفي مقاله الأخير في الباب الثاني " خطرات في كشف المعقول" يدلو سليم بركات الروائي بدلوه مشاركا في نقد الرواية العربية دون أي تشنج و الوقوف على مفردات وعناصر بنائها، جاسا إياها بحرفية الروائي الناقد، ملقيا عليها الاضاءات الكاشفة من جوانب عدة تشملُ الشخصية الأساس والشخوص الثانويين والمكان والخيال واللغة ولكن أحيانا يبدو الكاتب وكأنه يطلقُ أحكاما تعميمية ولا يقدم للقارئ أمثلة بعينها من سفر الرواية العربية. فهو يرى أن الشخصية الرئيسية في هذه الرواية تتوسل الواقعية فتقعُ في النمطية أما الشخصياتُ الثانويةُ فأنها أشبهُ بكومبارس يعيشُ في الظل المعتم من الشخصية الأساس، ويرى أن الرواية العربية شديدةُ العداء للخيال وكأن الخيالي مقام الدنس حسب تعبير الكاتب نفسه ويبدو الكاتب محقا في رؤيته هذه بصفة عامة رغم استثناء طفيف، ولكنه لا يذكرُ سبب هذا الانغلاق في الخيال الروائي العربي....ونعتقدُ في هذا السياق أنه ربما كانت الفرصةُ مؤاتية لنضج الخيال وإطلاق لجام المخيلة، غير أن حملات التبشير بالواقعية الجدانوفية الجامدة والصارمة في الثقافة العربية عموما وأدت انعتاق هذا الخيال وصار السعي لتحريره عارا برجوازيا بعد أن تم أدلجةُ كل شيء تلك الأدلجة الحديدية الحمراء التي تجاوز عمرها السبعين عاما حتى انسحبت بعد أن تركت جثة الواقع متفسخة في عراء الأوهام. ثم يقف سليم بركات على روح هذه الرواية وأداة خلقها ونعني بها اللغة، فيتساءلُ لماذا أجازت العرب أاليه. النثرُ المنظوم باحتكار الأخبار والرواية ألفي سنة ولا يجيزُ اللاحقون للنثر الشعري، حلول المنزل ذاك الذي هو في مرمى اختصاصه ؟ ثم يرى أن لغة هذه الرواية شحيحةُُ منكفئةُُ ولا ريب أن ذلك يرجعُ الى نضب الخيال نفسه الذي أشرنا اليه. ويتناول بركات في مقالاته الأخرى موضوعات مختلفة قد تبدو جزائر متباعدة عن بعضها البعض إلا أن ما يجمعها هو الاسلوب التحليلي الشيق والعميق، فبالإضافة الى قراءته لواقع النقد الأدبي وعلاقته مع الرواية العربية، يتوقف الكاتب عند الرياضة ولا سيما كرة القدم منها التي تستجذبُ الملايين شرقا وغربا إليها والتوله بها، فيحلل الكاتبُ المشهد بالتحليل الدارس وبالطبع يلبس القضية مسوح السياسة ويأتي بالأمثلة حول الصراع الدولي والتجاذبات والتنابذات حول هذه الكرة المملوءة هواء يأخذُ بالألباب !. إنها مقالات تحقق شرطي الشكل والمحتوى بامتياز وكتبت بالأسلوب السردي المعروف لدى سليم بركات الشاعر قبل أن يكون كاتب مقال، حيثُ اللغة تكشفُ عن جسدها طواعية وتخضعُ لقلم الكاتب الذي لا يجد صعوبة في اكتشاف الامكانات الهائلة المختبئة في ثنايا هذه الجسد الخصب والمعطاء.كتابُُ هو نتاج موروث ثقافي واسعوثر، ويبدو جليا للقارئ الحصيف أن الكاتب قام بوظيفة الباحث والدارس ونبش في الكتب وأمهات الكتب لينجز مقاله بالصورة المثلى التي ترضيه تماما قبل قارئه. وأخيرا نقول أن عملية التلقي واستساغة هذه النصوص تستوجبُ الترفع عن التشنجات الإيديولوجية والعصبيات المريضة والدفينة في أقبية الذات السوداء وتلك الأحكام المسبقة التي لا تمتُّ الى الموضوعية بصلة...آنئذ فقط يمكن لنص بركات أن يكون ضيفاوسيما، خفيف الظل على القارئ. http://www.amude.de/amude/erebi/ramyari/ramyari5/ekrebazin.html
|