كتبت عن الحرب أشياء كثيرة، سواء علي صعيد الكتابة الخطية أو المرئية حين يتم تجسيد الأولي ومنحها كمه. وقد شاء التاريخ أن يخرج علينا سليم بركات برواية حربية تتخذ من الحرب موضوعا لها. لكنها ليست برواية حرب بالمعني الضيق. لأنها لم تصف لنا الدبابات وهي تتراشق القذائف، والخطوط الأمامية للمحاربين وبسالتهم، ولكن اكتفي سليم بركات في ـ أرواح هندسية ـ برصد آثار هذه الحرب علي الناس ومن ثم الضياع والموت الذي يصير اليوم.
شيء عن الحكاية: إذا كان لنا أن نجاري منظري الرواية علي تصنيفهم المحكي إلي قصة وخطاب، فسنحاول هنا أن نقف علي القصة ـ الحكاية من حيث هي أحداث تجسدها شخصيات الرواية. مرجئين الحديث عن الخطاب من حيث هو طريقة في تقديم الأحداث إلي لحظة تناول التقنية في الرواية ولو في إيجاز لكن اللحظتين يصعب الفصل بينهما كلية.
يقول المؤلف عن الأحداث أنها لم تكن علي موعد مع هذا التأليف ص 6 لكن نري إليها هنا وهي علي موعدها الدقيق مع القارئ. مادام أنه يأتي في مرحلة تالية علي التأليف. دهر.نعاين في الرواية حدثا رئيسيا يدور حول العمل، يتجلى في البحث والمراقبة التي يخص بها خمسة لا مرئيون ينصبون للرواية فخها الخيالي ص 5 شخصا متحولا: أ. دهر. فهم سعوا من خلال توكلهم به إلي مراقبته حتى يتم التخلص منه. بدا وحده تنتهي مهمتهم، وتنشب الحرب وتهدم العمارة التي يقيم بها. فينتهي عملهم قبل أن يفاجأوا بوجوده علي ظهر السفينة وبالتالي انفلاته من الموت. عندما أمروا بالتحقق من مهمتهم ومن تم المراقبة الدائمة ومحاولتهم فهم ما جري لشخصية أ. دهر حتى نجا من الموت. ولن تتكشف هذه المسألة إلا بالانتهاء من الجزء الأول من الرواية. فمن خلاله نعلم أن أ. دهر اختفي في المرآة، ولما أتت الحرب علي العمارة لم يلحقه أذي، لأنه تعود أن يختفي في مرآة حمامه ص 169 ليظهر أربعة أيام أخري علي ظهر السفينة.
إن الشيء الوحيد الذي لم ولن يتكشف إلا بتأويل الحدث في كليته هو لماذا تكلفت الشخصيات الخمسة ذوات الكثافات العظيمة بتقصي أخبار شخصية أ. دهر؟ نطرح هذا السؤال ونحن نعلم أن الجد قد توعد حفيده أ.دهر أربعين عاما قبل ميلاده، وإذ يأتي الجد ناويا خداع حفيده، وبذلك وحده يتسنى له الانتقام منه، نري أن انتقامه يجيء كمحاولة تهذيب لما اقترفه من أعمال تخريبية. عندها تتكشف من خلاله علاقة الجد بالأشخاص الكثيفين. لماذا هذه المراقبة حول شخص أ. دهر.
ـ بم خدعك؟ سألوه، فرد:
ـ بهذا كله وأشار إلي الأنقاض.
فبادروه، هم متسائلين:
ـ أتعرف... فقاطعهم:
ـ أعرف. لم يكن في العمارة. فصرخوا معا بم خدعك، إذن ص 180.
لقد كان المطلوب كما تجلي في الحوار أن يوضع حد لحياة أ. دهر.
في ثنايا هذا الفعل تظهر أفعال هامشية تؤثث للفعل الرئيس وتؤسس لفعل الضياع والفراغ والتغريب الذي يشكل نسيج النص ـ ابتداء من نسيانه لأهله ـ غير أن هذه الأمور تختلف بحسب الأفراد، وما يمكنه أن يشكل فراغا للبعض وبالتالي ضياعا قد يكون شيئا صحيا بالنسبة للبعض الآخر.
عن الضياع الذي يؤدي إلي فقدان المعني ننقل هذا الحوار الباطني الذي تتمني المرأة نقله إلي زوجها الغائب فهي تتمني علي نحو جارح أن تنقل بخواطرها المشهد الذي تراه إلي الأب الغائب: يد أ. دهر ترتفع علي ساق ابنتك، إنه يتحسس ركبتها. ما الذي ستفعله؟ ستصرخ؟ اصرخ، الشاب لا يعبأ، يده علي فخذها، لن أتكلم، تكلم أنت، إنها تسترخي، فخذاها تسترخيان كل إلي جهة، لو تري سروال ابنتك، لو تري أولادك غير العابئين بما يجري، لو تراني. أنا. آه. ما الذي ستفعله؟... فليأخذها. لن نبالي حتى لو أخذها أمام أعيننا في القمر ص 166 تدعو المرأة زوجها لفعل شيء ما حين يبين لها أنه لم يكن قويا عليها وحدها.
أما عن الموقف الصحي فمارسه أ. دهر من خلال نسيانه لما يثقل كاهله من عادات، وهذه الممارسة هي ما صنعت منه إنسانا حرا.
كنموذج علي ذلك ننقل المشهد الذي يمثل لحظة تمهل بالنسبة للسرد والسارد.
يقول الأب لابنته: ـ لماذا تضحكين؟
ـ أتريدني أن أبكي يا بابا؟ فأجفلت، ثم تمالكت نفسي:
ـ ابنة من أنت؟
ـ ابنتك ص 129.
يمكن تصنيف الموقف (الخاص بالمرأة وب أ. دهر) بأنه صحي مادام استطاع التملص من أخلاق مبتذلة تظهر في الحرص علي شرف البنت وشرف الأسرة... كما تم التملص من الموقف السلبي الذي يتم عن فراغ حقيقي وقد يقود إلي الجنون، فما يتجلى ويبرز من مفارقة بين الأشخاص الذين يؤمون وكالات اتحاد الخيال حتى تتدخل لهم وتخلصهم من الحرب التي يعيشونها. وبين الساهرين علي محل وكالات الاتحاد. التي ظهرت كقنبلة مضيئة في كثافة الموت ص 156. فالناس ملوا الحرب وأرادوا التخلص منها بإنهائها لكنهم عاجزون عن تقديم تصور عن كيفية إنهائها فبالأحرى ممارسة الفعل لوقفها. فحين يؤكد وافد علي الوكالة أن الأمر الأساس لديه أن تنتهي الحرب، تسأله الموظفة اطلعت علي ما يريد الداخلون إلي الوكالة؟ فيبتسم الشخص في ثقة: ـ يريدونها أن تنتهي ـ لا تهمس الموظفة الأنيقة، وتردف: أنهم يؤجلون رغباتهم ص 160 ويضيع البشر وتبرز الهوة عميقة بين طموح العيش مع المواطن المسوس ومصالح ونوايا الساسة.
عن الموت: من أهم الموضوعات التي تبرز في نص ـ أرواح هندسية للروائي والشاعر سليم بركات موضوعة الموت بكل تجلياتها، ضياع فراغ، غربة إقصاء... سيوزعون علينا أحاليل من النحاس المطلي بالذهب، حتى يعرف القاصي والداني أن الإنسان قد ينقرض، لكن الفحولة ستبقي ص 161 وهو موت عام وشامل يحوي كل شيء حتى الله. ولن يعادل هذا الدمار إلا ما يمارسه أ. دهر من هدم يتمتم الرسام متصنعا الغضب ـ أأكلت الله أيضا؟ فهز أ. دهر رأسه إيجابا ص 102.
عن الشخصيات: إنهم أحداث تقيم صرح الحكاية. بمعنى أن الشخصيات أفعال في مجري العمل الأدبي. وهي مرئية وعدمها. فيما مسألة الحقيقة ففيها نظر. إذ لا يكفي أن تأخذ تعمد الراوي إخفاء هويتاهم، لنسمها بغير حقيقية. عدم ذكر هوياتهم بالسكوت عن أسمائهم واستحالة تحميلها من مكاتب الحالة المدنية هو من جهة أخري علامة علي زمن القهر والإقصاء الذي تدونه الملحمة الكردية.
الشخصية الغير مرئية: مثلتها شخصية أ. دهر مرة حين اختفي في مرآة الحمام كما مثلتها علي طول الرواية الشخصيات الخمسة الكثيفة التي كانت في عملية مراقبة ل أ. دهر.
الشخصية المرئية تمثلها بقية أشخاص العمل مع سليم.
المهم في هذا المقام هو توضيح كيفية إيجاد أسماء دالة للشخصيات من خلال أفعال مقرونة بهم من ذلك قول أ. دهر يا أبا السعلة، ابن من هذا؟ فيسعل الشاحب الذي شد رأسه بسلسلة إلي قضبان سريره حتى لا يحرك رقبته. وهو يسعل أبدا، يسعل حتى تجحظ عيناه ص 135 بهذه الطريقة يتملص الراوي من ندائهم بأسمائهم. والقائمة التي يثبتها الكاتب في مقدمة الرواية تبين ذلك أحسن تمثيل: صاحب العمارة، امرأة حولاء، قائد ميت... ص 5.
إذا ما حاولنا ترك هذه التسميات جانبا وعدنا إلي التمييز السالف بين الشخصيات الظاهرة والغابرة والمتأرجحة بينهما وجدنا عنوان الرواية مستمد من المتوسطة بما هي غابرة غير مرئية. من هنا عنوان: أرواح هندسية، التي تشكل القطب الأكثر جذرية في التخفي علي عكس شخصية أ. دهر الذي يشكل المسافة غير الملجومة التي تفصل المرئي عن اللامرئي ص 169.
في تقنية الرواية: لا يمكن فصل الحديث عن تقنية الرواية وعن الخطاب فهما كل واحد، ونحن إذا تملينا الجزء الأول وجدنا الحكاية لم تأخذ مسارا خطيا ومن ثم خضوعها لمشيئة الراوي. وقبل أن نعرف الفعل الذي حشر أ. دهر في السفينة، قدمه لنا الراوي وهو في السفينة تحت مراقبة الأشخاص الكثيفين. ويؤكد هذه القضية، المتوالية التالية التي يضعها المؤلف تحت عنوان: الجزء الثاني (الحكاية كما ينبغي أن تروي). مبينا أن الحكاية في الجزء الأول لم تكن بالشكل الذي ارتآه وربما وجدت عليه قبل روايتها. والنص السردي الذي بين أيدينا نجح سليم بركات بتمريره من مصفاة شعرية شفافة. وكأننا نقرأ عملا شعريا. استثمر هذا التعبير تلك الأجواء المفارقة في أقران الكلمات ونهوض الجمل علي علاقات انزياحية في تقديم رسائلها، وهذه العملية قد تجعل القارئ يدخل في علاقات تأويلية بإعادة الجمل إلي أصلها، ولنضرب مثلا علي اللاتكافؤ بين الدوال التي ينشأ عنها الانزياح نقطع سأل المرأة، فردت: ـ اختفي الحمام ـ أأكلوه؟ . سألها، فأجابت مبتسمة: أكله القصف، القذائف أكلت صناديق أعشاشه وشردته ص 163 . الحديث عن الأكل كفعل تقوم به الكائنات الحية، يتطلب توفر سمات في الفاعل أولها أن يكون حيا. وإذا ما وجدت سمة واحدة مخترقة فالدليل علي الانزياح قائم. ومن مناصفة الأكل المسنودة للقصف الذي لا يتوفر علي صفات الحي نفس الأمر ينطبق علي رمل حي 170 وهذه المتواليات مع غيرها تقوم في أساسها علي التخييل بمعناه الواسع. ليبقي اختيار شخصية الرسام موفقا لدخول التغريب إلي النص الذي حافظ علي نصيب الواقعي. لم يأت سليم بركات لتوظيف الخيالي في الغالب إلا سخرية للانفلات من ركود الواقع.
مع أرواح هندسية تم إعفاء الكون الروائي من الأشلاء والجثث المتعفنة التي أثقلت كاهل الكردي وما تخفيه في المرآة إلا تحصين للذات من تلك الكثافات المدججة التي ترمي إلي سحقه. لقد تفادى س. بركات السقوط في رواية الحرب التي يغتالها التوثيق والوقائع الجافة ليبقي الانقلاب الذي دشنته الرواية عاما لأن الحرب طالت الموضوعة المركزية للمحكي وكذا تقنيات الكتابة.
أرواح هندسية صفحة لاستئناف كتابة الملحمة الكردية. 05/07/1992 سليم بركات: أرواح هندسية. دار الكلمة للنشر، ط 1، 1987، بيروت (رواية) الأرقام داخل المتن تسجل لهذه الطبعة. |
القدس العربي
29.05.2003