غسان زقطانأحياناً أفكّر في إعادة ترتيبهم في سياق آخر، أن أمنحهم أدواراً أخرى، مختلفة وموازية لكل هذا الذي يدأبون دائماً على إرساله نحوي، أولئك الذي جمعتني بهم الكتابة والرحلةُ...، الذين تأملتهم طويلاً في بيروت أو دمشق أو قبرص...، ووضعتُ خلفهم أسهماً وإشارات كانت تؤدي دائماً إلى حيثُ أجدهم ...

سليم بركات يبدو سائق دراجة نارية هنا..

لا أظنُّ أنّها تغييرات كبيرة تلك التي طرأتْ على عوالم سليم منذ أغلق خلفه باب العائلة في الشمال السوري وحتى منفاه الإسكندنافي الذي يتشكّل الآن، مروراً بدمشق وبيروت وقبرص ... وما لا أعرف.

لقد بقي رعويّاً، بطريقة أو بأخرى، معنياً بالنباتات وامتلاك الأفق، وشقّ المسالك ومراقبة الطيور وتربية الابن كما له أن يربّي نسراً في حقل دببة.

لو امتلك الجلُ بيتاً لاهتمَّ، أولاً، بالحديقة، ولن تكون منسّقة على الإطلاق، ستكون هناك فوضى خاصّة يديرها هو، ولفكر جدّياً بمدفأة وفأس لتقطيع الأخشاب، وخشب ليتمكّن من تقطيعه، وسيعلّق بندقيّة على الحائط، ويضع مقعداً هزّازاً في مواجهة النافدة التي عليها أن تمنحه مشهداً كاملاً من الإفريز وحتى خطّ الأفق، وبالتأكيد سيختارُ منزلاً مستقلاً وبعيداً عن أقرب الأحياء السكنية، وسيفكّر أن جيرة الجبل أفضل بما لا يقاس من جيرة ناقد.

أمّا إذا امتلك سيّارة، فستكون بلا شكّ مجهزة للرحلات الصّعبة والتّسلّق.. وليس سيارة بلهاء تواصلُ ذهابها إلى مكتب وسط المدينة، .. ولو مُنح الخيار في الصّداقة فسيختار أشخاصاً لا يحبّون الكتابة ويجيدون الصّيد ونصب الخيام في المنحدرات وإشعال النّار ونصب الفخاخ للثعالب في السّهول.. وسيتردّد إلى حانة منزوية وضيّقة روّادها قليلون، وستربطه علاقة طيبة بصاحبها أو صاحبتها، لا فرق.

قد يبدو الأمر كلاسيكياً إلى أبعد حدّ... ومتداولاً، لكنني أتحدّتُ، هنا، عن جدّية الاختيار وقوّته، متفادياً، قدر الإمكان، حيلة رومانسية تتراكم هنا وهناك في بلاغة مفرطة يقودها كتّاب وشعراءٌ مفرطون في شعريّتهم.

وربّما كان الأمرُ برمّته متعلقاً بتفاديه الدّؤوب لبلاغة الآخرين محتفظاً بتلك المسافة الخاصة والمفتوحة التي وضع فيها حياته ومقتنياته وأدواته .. بما يشبهُ أثاث جوّال سيحزم أمتعته، بينما نحنُ نتحدث!

مشغولٌ بما مضى، بالأشياء التي حدثتْ، وفي ما يُشبهُ المناداة يكتبُ.. استدراجَ الموتى إلى لعبته والدُّخول إلى سجون قديمة ليفتك قيود أسرى ميتين، وسيهشّ في مروره طيوراً ويهرسُ زهوراً تحت قدميه، .. الصّعودُ من جديد إلى الجبل ومراقبة خيول البدو، في الحكاية، وهي تندفع نحو قرى هاجعة حيثُ سينكشفُ الغطاء عن بنت كردية شقراء..

فقراء يواصلون غزو فقراء في أطراف منسية ومهجورة!
بطولاتٌ تخلّت عن بلاغة اللغة واحتفظت ببلاغة الّسحر، ومثل سائق درّاجة بارعٍ وجرئ يندفعُ داخل اللغة دون توقّف، تلاحقه أصوات انهيارات الأمكنة وتراكم الأنهارِ، وتطاير خلفه ومن حوله الفاكهةُ والثمارُ، وتفرُّ قطط وحشيّة وقد قوّستْ ظهورها وانتصب شعرها مثل أكوام أبر ملوّنة، وستنبحُ كلابٌ من شدّة العتمة، وتتنهّدُ امرأة في حقل ذاهل، وتزعقُ دجاجاتٌ لم يحصل عليها شاويش الحكومة بعد، ويفكّرُ أولادٌ بمرور نيزك .. وفي الظّلالِ سيصعدُ رجلٌ إلى مرتفعٍ ويفتحُ عباءته السوداء لتطير هناك غيمة من السّنونو، وجائحةٌ من الزرازير...

ما أتذكّرُ بالضّبط نوع ذلك الطائر، أهو الكراكي؟

عن (القصيدة) /1