مختارات هاوية مستسلمةٌ حيواناتُ الشاطئِ للشاطئْ مستسلمةٌ كفّاكِ لكفيَّ، ومستسلمةٌ أنهاري لنواعيرِ الحقلِ وغرَّافاتِ الأحجارِ. مستسلمةٌ أبعادي للصرخاتِ، وهذا نَفَسي يستسلمُ حول حفافيكِ ويشحذُ مارجَهُ ويفاجئْ خيطَ الحبِّ المتدلّي من كوكبكِ الأبديِّ. نهضنا، نهضتْ حيواناتُ الشاطئِ بين ضبابِ الجسدِ المهراقِ وأنسجةِ الأشجارِ وتزاحمتِ الأمواجُ على بَرزَخِنا فاستسلمنا، واستسلمتِ الأمواجُ. فغزلناها وغزلنا جسدينا بالغيم إذِ الغيمُ صهيلٌ وزجاجُ وتلوَّنّا بالماءِ وبالقُبَلِ والأمطارِ. من "الفصيلة المعدنية" 1973 *** ميزان فلتمت أرضٌ بأرضٍ، ولتَنَمْ في خوذتي الأخلاطُ من كُرْدٍ وجوَّاليْنَ: إني فسحةٌ منذورةٌ للكيمياء، وفي يدي كبدٌ أدور به كنوَّاسٍ على الأعشاشِ: مُرّي يا حمائِمُ، يا عصافيرَ الغضارِ، ويا غرانقُ، يا إوزٌّ، ويا سُماني، يا دجاج الماءِ، يا بازيُّ، يا حدّاتُ، يا جُهْلُوْلُ، يا دُرَّاجُ، يا بطريقُ، يا زرزورُ، يا خُطَّافُ؛ مرّي، فابتهالي ليس إلا نزعةً من آدميٍّ يحتفي بإناثه إذْ هُنَّ يفتحنَ الغضارَ كوردةٍ للنيزك الملكيِّ، أو يخطفنَ محور بعلهنَّ مشاكساتٍ رعدهُ؛ مرِّي وئيداً يا قرنفلةً مسوَّرةً بأنفاس العناكبِ؛ قد تطاوعني البراري مرَّةً في يأسها فأردُّ كلَّ فصيلةٍ رَدَّ الصواري نحو موجةِ مأتمٍ، وافرّقُ الأكبادَ بين مكيدةٍ ومكيدةٍ، ولربما دحرجتُ أقمارَ البراري في غشاءٍ يابسٍ وقذفتُ كل مدينةٍ في يأسها، وأنا أديرُ الوقتَ كالخزَّاف، مستنداً إلى كرةٍ تفيءُ إلى جوانبها الفلولُ. ولربما سيَّرتُ أقماراً على إهليلجِ الصرخات، أو أحنيتُ جذعي فوق نجم محاربٍ، وكشفتُ كيف يجيءُ موجٌ هازلٌ مستطلعاً موجي فيهذي الأرخبيلُ. ولربما شيَّعتُ سوسنةً إلى جرحٍ وعابثتُ المواليَ حاشداً في خوذةٍ مشقوقةٍ شمساً يفاجئها الأصيلُ. بانقسامٍ مُذهلٍ؛ بالعشب يحشدهُ دمٌ أو زنجبيلُ ولربما غيَّرتُ مسرى طعنتي نحو اعتدالِ الروحِ، أهتف: ساعديني يا لبونات العراءِ، ويا صفيحاً قادماً في أسرِهِ الجسدُ الصقيلُ، ساعديني يا حُبارى القتل، إني حازمٌ أمري على شَرَكٍ سأدفع نحوه الأيامَ والريحَ النفيسَةَ، خائضاً في بركةٍ من تُرَّهات العالم المحلولِ مثلِ كتابةٍ، ولربما أمسكتُ قرميدَ البيوتَ مُقبِّلاً هذا الزجاجَ، وذاكَ، أو هذا السياجَ، وذاك، أو متسائلاً: ماذا ستحمل لي بيوتٌ حلوةٌ؟ ماذا ستحمل لي حجارتُها؟ وأين النحل؟ أين طنينه فوق الأزاهير الجسورة؟ أين مَنْ ألقَتْ إلى لغتي زجاجاتٍ مكسَّرةً، وأطلقتِ العنادلَ في خرابٍ حائمٍ كالصقرِ؟ مُرَّي يا لبوناتِ العراءِ بمأتمي، وأحِطْ بنعشي يَا عراءُ. ها هي العرباتُ تأخذ شعبها متحاذياتٍ تحت خنشارِ السفوحِ، وها هي البلدان تركضُ، والهواءُ يستطيرُ كقلبِ عاشقةٍ؛ أحيطي يا لبوناتِ العراءِ بمأتمي، فدمي عَجُوْلُ والمدى مثلي شريكٌ قابضٌ بيدٍ على ميزانهِ، والأرضُ تعقد عروةً في وسْطها رئةٌ وميزانٌ ثقيلُ. من " البراري" 1976 *** مهاميز الغمامات بهيجاً، بهيجاً فَلْيَكُنِ الحصارُ في يقظةِ الحيِّ. بهيجاً، بهيجاً فَلأَكُنْ حين أشْعِلُ الأرضَ بعد هذا بالجمهراتِ، طاعناً كالمحاربِ بنصاليَ الأرجوانيةِ المرايا والأسماءَ، ولي جَهَالَةُ الصباحِ وأنقاضُهُ، صاعداً درجَ المذبحةِ لأجرفَ البقايا التي أغْفَلْتها الحوافرُ والأسلحةُ؛ صاعداً لا أريْحُ الأنْوالَ من نَسْجها، وأهيْبُ بالنَّسَّاجاتِ أنِ اصْبِغْنَ بالنحاسِ الخيوطَ، وأكْثِرْنَ من النقوشِ على نسيجِ الخرابِ. وقد ينتابني ما ينتابُ الأنقاضَ من حنينٍ إلى انْدِثارٍ بهيٍّ، فأهتفُ: لا، يَتُها النساجاتُ أكسرْنَ أنوالَكُنَّ، واتركْنَ للغبارِ أنْ ينسجَ النَّسْجَ من صخبِ اليباسِ ويأسِ الجذورِ، ولْيكُنْ بعدي مدىً ضيِّقٌ، ومفاتيحٌ تذوبُ كُلَّما رفعتْها البراعمُ نحو أقفالِها، وليكنِ مساءٌ كوحيدِ القرْنِ، ثَقيلاً يطأ الأبواقَ الصلصاليةَ والأعمدةَ، ويجرفُ الغزالاتِ؛ لا صحوَ فيهِ إلاَّ لبَجَعٍ هائمٍ وخلدٍ أعمى. ولْيكُنْ نهارٌ وطيءٌ بعدي، ذوشروخٍ، يجوسُ في المدى الهندسي للخرابِ كإوِزَّةِ المستنقع، زَحْفُهُ زَحْفُ فقْمةٍ تجرُّ ذَكَرَها المقتولَ، أو كأنَّما أطبقت الغيومُ بأنيابها عليهِ، وشقَّقَتْهُ مخالبُ النباتِ. لَيس فيه شَرْخٌ إلا وفيهِ كوكبٌ مهرِّجٌ وحدَّادون يطوفون بمطارِقهم حولَ حدْوَةٍ لا تُرى.وليس في تجاويفِهِ غيرُ قرونِ الذَّبائحِ ونفيرِ الهباءِ. وأهتفُ: أكثرَ، أكثر احتداماً فَلْيكنِ الحجرُ بعدي، فَلْيُطِلَّ على العراءِ بأسلابهِ ودفوفهِ؛ فَلْيمسِّ بطيلسانهِ وخِزَّهِ التخومَ. وأعلى فليكنْ هَرْجُ اليباسِ، وأشدَّ مَرَحاً فَلْتكنْ خليلاتُهُ الراكضاتُ بتيجانهنَّ الصغيرةِ من الجذورِ ورؤوسِ الحدآتِ الميِّتةِ: "أيها اليباسُ، لعلَّكَ لم تقفْ بيننا قبل هذا، أو لعلَّكَ كُنتَ تنظرُ أبعدَ وأنت واقفٌ بيننا، فأغفلتَ هذه البقيَّةَ..خُذْها أيها اليباسُ، خُذْها بَوْصَةً بوصةً، وقميصاً قميصاً، ومُدَّ في إيوان أعضائِنا المائدةَ لنملاَ لكَ الصِّحافَ الخزفيِّةَ بساعاتِنا (ساعات النَّهبِ وانحسار الكائنِ عن بَرْزَخِهِ، حيث تَنْتَشِرُ قُلُوعُ الخفيَّ، وتتعرَّى الصواري لفحولةِ الجهاتِ)، واخْتمْ بخَتْمِكَ المصاريعَ، مهرولاً، كلَّما ختمتَ مكاناً إلى آخر، وحولكَ عُجولُكَ ومصابيحُكَ، مُطِلاٍّ من الأعلى كأنَّكَ عُرْفُ ديكٍ أو زرافةٌ. أيها اليباسُ...". وأنت يَتهُا الغيومُ ذوات العكاكيزِ البحريةَ، يا فضَّةَ الرَّحِمِ، فَلْيَكنْ مجيئُكِ مجيءَ تيْهٍ. وأهتفُ: أجْرا فليكنِ الرمادُ، طليقاً كشهيقِ منْفَاخِ الكُوْرِ، ورئتُهُ الخطى التي لا تعود: "أجرا، أجرا كُنْ أيها الرمادُ، خاوياً دَمِثاً في الخواء، وافْتَحْ صناديقَ حلِيَّكَ للنهبِ، هاتفاً: ألاَ لا يرجعَنْ أحدٍّ دونَ نهبٍ، ألأ لا يَرْجِعْنْ أحدٍّ". وأهتفُ قُمْ أيها المعدنُ، وليكنْ رنينُكَ انبجاس الهزائمِ واندحارَ البذورِ؛ ثَمِلاً شُدَّ إليكَ الينابيعَ عضواً عضواً، والْثُمِ الشفاهَ الخَبيئَةَ في الأعشاب، كأنكَ سقفٍّ لن يُؤويَ إلاَّ الذي لهُ رنينُكَ الثَّمِلُ. بهيّاً فَلْتَكنْ أيها المعدنُ في أشْكالِكَ ونهبكِ، حاضراً حضورَ الذي لا حضورَ إلاَّ به، ولْتَكُنْ مُباغِتاً تختُم الدمَ بخَتْمِ الصَّليلِ والفِلْزِ. أما أنتَ أيها النباتُ، يا مركبةَ اللهاثِ وتوأمَ الحركةٍ، فاخلَعْ خمارَ المدائح التي صاغَها الخارجون من وقتهم، وليكنْ يُخضُوْرُكَ شَتِيْتاً، وأليافُكَ سَكرى بأنين الثمارِ في ذُبولها. وُلمَّ انسياباتكَ الناعمةَ أيها النباتُ، لَمَّ فِراءَ الأكمامِ المهيأةِ للنحلِ والفراشاتِ. وأهتفُ: فَلْتكنْ حَدَأةً هذه المياهُ أطبَقَتْ عليها الفِخاخُ، آناً تنقُرُ الحديدَ، وآناً تنقرُ الجناحَ من هياجٍ وذُعُرٍ؛ ولْتَتَخَبَّطْ وسْطَ مهاميزِ الغماماتِ والظلامِ، غَبْرَاءَ فضَّتْ عن جرائِها الموجَ، وعن يَرَابْيعها غشاءَها القصديريَّ: "يَتُها المياهُ، يا الحاضنةُ تحت أثدائها الجراءَ واليرابيْعَ، فَلْتكوني حَدَأةَ اليابسةِ وأسْمَالَ المُهرِّجِ، ولْتَكنْ يدُكِ اليدَ المُمْسِكةَ بالحناجرِ وأعلامِ الوقت". وليكنْ بعدي نشيجٌ بطيءٌ.. من "الجمهرات" 1978 *** البغل الأعمى حين تكسَّرت الموجةُ ذاتُها، موجةُ الدَّلبْوت والقُنَّبِ، وئيداً خرجَ البغلُ الأعمى بقطيعهِ الأشْقَرِ من البغالِ العمياء. وكانَ انْ تَجَمَّعَتْ حولَهُ العجولُ الشريدةُ، وهرولتْ إليه التَّيَاتِلُ فوْجَاً فَوْجَاً كأنَّها تَنَسَّمَتْ غبطةَ العَرَاء بالقوائمِ الأقوى، ولامَستْ خَطْمَها شُعاعاتُ الصَّخبِ النَّحيلةُ في زحامِ الحوافرِ... وكيف لا تهرولُ التَّيَاتِلُ والعجولُ، إذْ يرتدي الغبارُ قناعَهُ المحبوْكَ من الجلودِ الحيَّةِ، وتهزُّ العذوبةُ قَرْنَيْها المُلْتَفَّيْنِ كَقَرْنَي ذَكَرِ الْكَوْدِ احْتِفَالاً بالوريثِ الأعمى لأرضِ العَمَاء؟. يقيناً أيها البغلُ يقيناً أنّكَ نَصْلُ انْبِثَاقٍ غامضٍ في السُّكُونِ المُجَمَّعِ الصَّلْدِ كَبِلَّوْرَةِ الخَواتم. من "الجمهرات" 1987 *** بنات آوى في النَّفيرِ الأولِ لأبواقِ الظلامِ، كانتْ بناتُ آوى الأميراتُ يَدْلِفْنَ، خِلْسَةً، إلى عواصمهنَّ الضائعة في زحام اليقطين ومراكب البقول، كأنهنَّ شِهابٌ مُعْتمٌّ؛ شِهابٌ طويلٌ من الوَبَرِ والحناجرِ، دحرَجتْهُ روحُ اليقظةِ الأخيرةُ إلى حلمِ النباتِ، وكأنهنَّ تَفَتُّحُ السهولِ الخفيُّ بعد ما أطبقَتْ زَهَراتُ الأقاليمِ أوراقَها على الحديدِ والهَرْطَقَة. يهِْ يا بناتِ آوى، يا حبيْساتِ نعمةٍ لَمْ تَكُنْ للكلابِ أو للثعالبِ، فَلْيَكنْ صوتُكُنَّ المتلألئُ مقْبَضَاً في يّدِ الرَّهْبةِ؛ مقْبَضَ مِنْجَلٍ أو بابٍ مُضْرِفٍ على النهارِ المتهدِّل في سريرهِ الدمويّ. من " الجمهرات" 1987 *** بقرات السماء بقراتٌ مضيئةٌ، بقراتٌ غامضةٌ ذاتُ جلودٍ غامضةٍ تدخلُ الزُّقاقَ السماويَّ، واحدةً تلوَ الأخرى، رشيْقةً يُجلْجِلُ حَجَرُ الخِوارِ من خلفِها في الفراغِ المديدِ. ومن كوكبٍ إلى كوكبٍ، من نيْزكٍ إلى نيزكٍ، من فراغٍ إلى فراغٍ تتحرَّكُ أذيالُها كَيَدٍ تَهشُّ عن عسل الآلهةِ نَحْلَ الأباطيل. بقراتٌ تدخل الزقاقُ السماويّ، ومن خلف قرونها يتقلَّدُ المساءُ مراسيمَ الرعدِ والفحولة. من "الجمهرات" 1987 *** تَيْتَلٌ تَيتَلٌ على الهضبة، وسكونٌ يرفع قرنيه عاْلياً كالتَّيتل. فلا تقتربَنْ أكثرَ أيها الدليلُ، ولا تبتعدَنْ أكثَرَ، مكانك هو المكانُ الذي ترى منه الجذورُ الجذورَ، والأرضُ ميراثَها. تَيْتَلٌ على الهضبةِ، وسكونٌ صلدٌ يرفع قرنيه عالياً كالتَّيْتَل. من "الكراكي" 1980 *** ديرام وديلانا I انْظر إليها يا ديرام، انظرْ كيفَ تجمع أمامَ قلبكَ أسرابَ الإوزِّ، وتغزلُ الغيومَ. انظرْ إليها تتهادى قطيعاً قطيعاً من آخرِ السفوحِ، يدُها في يدِ الأفقِ الراعي، وثوبُها ينحسرُ -حين تعبرُ الجداولَ قفزاً- عن جذورٍ لا تلمسُ الأرضَ، بل تلمسُ المديحَ الذي تتغطَى به الجذورُ كلُّها. فإذا رأيتَ أن تأخذَ يدها في يديكَ فخَذِ الأفقَ أيضاً، وإذا رأيتَ أن تضمَّها فَلْتَضُمَّكَ الجذورُ ليرشُقَ الثمرُ بأنفاسِك الثَّمَرَ، أو لتهرعَ إليك الأرضُ مُمْتَشِقَةً سَيلَها العَرِمَ من اللَّبنِ والأشكال. II أيقظيه ديلانا، أيقظيه من سُباته الموشَّى بعذوبةِ ألفِ قلبٍ سكرانَ، وأيقظي معه الصباحَ ليمضيا إليكِ معاَ، مُعَفَّرَيْنِ بالشهوةِ وبالغضارِ والمرحِ، فهو الأخيرُ الذي ستريْنَهُ هاذياً ينفخُ في أبواقٍ هاذيةٍ، ويملأُ، كالنَّادلِ، بالبطولةِ كؤوسَ الغرقى، واقفاً في المهبِّ ذاته، في المهبِّ العريقِ للجذورِ واغتباطِ الوحشيِّ بالوحشيِّ. وهو الأخيرُ الذي سترينه مُقْبلاَ إليك كإشارةٍ أطلقتْها العاصفةُ قبل أن ترتدي خوذتَها الدمويَّةَ، وتَشُدَّ ملاءَةَ المائدةِ فتنثَر الأواني على رخامِ الأرواحِ. أيقظيه ديلانا. III أيقِظْها يا ديرام، أيقظْ فراشةَ الغيبِ ويُعْسُوْبَهُ الذهبيَّ... أيقظْ ديلانا، وأيقظْ معها البيتَ حجراً حجراً، ثم أيقظِ الساحةَ المحيطةَ بالبيتِ، وأيْقظِ السياجَ. وإذ تنتهي من ذلك كُلِّهِ أيقظِ الصباحَ النائمَ قربَ السياجِ، وقُلْ تعالي ديلانا، تعالي لنشهدَ السطوعَ الحيرانَ للأرض وهي تَذْرُفُ الحديدَ والبهاءَ على درعنا الآدمي، ولنكْشِفْ، بعد ذلك، ثديَيْنا لنصلِ الحقولِ، مرتجفيْنِ من عذوبةِ النَّصلِ إذْ يغوصُ إلى حيث يجري السمسمُ والزعفرانُ، كأنَّما نحاولُ، معاً، أن نكونَ الجراحَ التي لا جراحَ بعدَها... هيا أيقظْها يا ديرام. IV أيقظيهِ ديلانا، أيقظي الفتى الذي يتململُ تحت الشُّعاعِ المنسابِ على صدرِهِ العاري. أيقظيهِ وأيقظي النهارَ والأرغفةَ، ثم املأي دلوَكِ -الدلوَ الذي تسقيْنَ به حيواناتِ الصباحِ التي لا تُرى -املئيهِ شَرانِقَ قَزٍّ وتوتاً مما يتساقطُ من المدائحِ، لتخيطي بالحريرِ والتوتِ هذه العذوبةَ المُسْدلةَ حول ديرامَ. أيقظيهِ أيقظيهِ ديلانا. V يقِظْها يا ديرام، وأيقظِ الحلمَ من حلمِهِ تحت أهدابها، ثم ألقِ على ديلانا حصاةً من الوقت لتموجَ كسطحِ النبع، وتَتَّسعَ دائرةً دائرةً، كلُّ دائرةٍ عربةٌ، وفي العرباتِ البقولُ والطرقُ. هيا بالله عليكَ، فها هو رسولُ الأوديةِ يقطفُ لكما عناقيدَ الضبابِ، وينثرُ على سياجِ البيتِ طفولةَ الخُزامى. أيقظْها، أيقظْها يا ديرام. VI أيقظيه ديلانا، أيقظي قناعَ الملهاة -هذا الفتى المطوَّقَ بمناجلِ الآلهةِ. أيقظيه لئلاَّ يفوتكُما ندى الصباحِ العجولُ وغواياتُهُ المضحكةُ، فلربَّما عرفُتما أن للندى صهيلاً في العشبِ، وأبواقاً تُؤذِنُ بالهرطقةِ المَرِحَةِ للترابِ المَرِحِ. أيقظيْهِ، أيقظيهِ ديلانا. VII يقظْها يا ديرام، أيقظْ هذا البذخَ السماويَّ -ديرانا، وانثرْ عليها حَبَبَاً من الضحُّى وأشيائِهِ الباذخةِ، فإذا ترامتْ أمامكَ يَقْظى اسْتَطْلِعْها كما يستطلعُ النّباتُ النّباتَ. واجلسا معاً تستظلُّكما القُبَلُ، وتُغوي بكُما الأغاني الأغاني. أيقظْها، أيقظْها يا ديرام. VIII يقظيهِ ديلانا، أيقظي الشُّعاعَ الآدمي - ديرام إذْ يَتَحَدَّرُ سكرانَ من بهاءِ الذَّكَرِ، ولا تجعلي حِجاباَ عليهِ يديْكِ أو اللُّهاثَ. مديداً فليكُنْ، واضِحاَ مَشُوْقَاً تتراءى في شِفَافَتِهِ العناقيدُ والبراعمُ، فلتملكيْنَ كُلَّهُ، وكلَّ ما يتراءى فيهِ، معاً. وتملكيْنَ أن تكوني المَخْدَعَ اللآدميَّ للنباتِ وأحلافِهِ من غمامٍ وأجنحةٍ. أيقظيهِ، أيقظيهِ ديلانا. IX يقظها يا ديرام، أيقظِ الدمَ الحيَّ وأشكالَهُ الصديقةَ، وتكلَّلْ ليقظةِ ديلانا بنفيرٍ رقيقٍ، فهي يقظةُ عرشٍ تَتَدانى في سُلطانهِ الينابيعُ وتستحمُّ الجداولُ. وهي قوسُكَ ترمي بهِ - حين ترمي - ذاتَكَ كُلَّها في نشيدٍ أخيرٍ. أيقظها، أيقظْها يا ديرام. X أيقظيهِ ديلانا، أيقظي التَّرَفَ وأشكالهُ الصديقةَ، واشْهديهِ إذ تتفتَّحُ أهدابهُ عن طيورٍ، فهو يقظةٌ ليسَ إلاَّ صباحٌ ممسِكٌ بصليلِ المياهِ، وهو قوسُكِ ترميْنَ بهِ - حين ترميْنَ - رَحِمَكِ كلَّهُ في نشيدٍ أخيرٍ. أيقظيهِ، أيقظيهِ ديلانا. XI يقظها يا ديرام، أيقِظْ غُدَّافَ الزبدِ ديلانا، وانشرْ قلوعَكَ حين تتملْمَلُ من دغدغاتِ دمِكَ الصباحيَّ، فأنتَ مُقْبِلٌ على دمِها بسحابٍ عُريانَ. أيقظْها، أيقظْها، أيقظْها يا ديرام. يقظيهِ ... أيقظْها ... لم أشَأ أن أوقظ الأرضَ في ذلك الصباح. لم تَشَأ أن تُوقظني الأرضُ. من "الكراكي" 1980
وميضٌ مُرٌّ نانْيك يتها الأبديةُ، يتها المحفورةُ مثلي على خوذةٍ، سأصْلحُ من هَيْأتي قليلاً، سأصْلحُ من هيأةِ اليابسةِ، وأنسِّقُ المياهَ إناءً على مَسْطَبَةِ الروحِ قبلَ تدخلَ العدميَّاتُ بنبالهنَّ الآجريَّةِ يقنصْنَ الكواكبَ وتوابعها؛ قبل أن يخترقْنَ مطالعَ الأغاني بحروفٍ مَلُوْلَةٍ، أو يطعنَّ الغزالةَ الحائمةَ حولَ أبجديةٍ لا تُرى. وسأصْلحُ من هيأةِ الليلِ فيدخلُ الحُلَمَ طائشاً في عباءاته الطائشةِ، فأنا الدليلُ لن أدلَّ أرضاً، بعد هذا، إلاَّ على رُعبِها، سأزيَّنُ الرعبَ بقَنْزَعَةِ الببغاءِ، وسأمتدحُ حدَّاديْهِ المُعفَّرِيْنَ بهُبَابِ الأقدارِ. بل أنا الرعبُ الدليلُ ستتبعني الأنقاضُ، ويَسْتهدي بيَ هدهدُ الهباءِ الأخيرُ: هكذا أعزو إلى نَفْسي ما تعزوهُ المناجلُ إلى نَفْسِها. وأشردُ، إذ أقول هذا، شرودَ ديرامَ على الشُّرفة الغبيةِ، ناظراَ إلى البوقِ الأبعدِ، بوقِ النهارِ المُلْتَمعِ تحت وميضٍ مُرٍّ. ناظراً إلى الأفق يتهادى بجلدِهِ الصِّئْبَاني بين الخوذاتِ، ثم أغمضُ عينيَّ فأستعرضُ وُلاَةَ النهارِ، الوُلاَةَ الأكثرَ بطشاً في النهارِ، الأكثرَ مَرَحاً في الليلِ، وأستعرضُ نساءَهم اللَّواتي يعرِّيْنَ الخادماتِ لكلابهنَّ، هناك، في الأرضِ التي تتدلّى كعنقودٍ من داليةِ الغروبِ الأبديِّ: وُلاَةٌ، ونساءُ وُلاَةٍ، ودورٌ ولحدٌ يصعدُ الممثلون فيه الى المسرح وينتحرون. من "الكراكي" 1980 الحيوان الأخير هذا هو أنتَ، أيها المنتفضُ تحتَ بروقِ الحبرِ. هذا هو أنتَ، وقربكَ طلٌّ سكرانُ، ظلٌّ مما تلقيهِ الأرضُ، في غروبها، على رغيفِ الكائنْ. هذا هو أنتَ، صلبٌ كروحٍ صلبةٍ يرنُّ على حوافها قرعُ عكاكيزِ الظلامِ المائةِ، وخلفكَ مائةٌ من النساء يطحنَّ، في جُرنٍ واحدٍ، يقظةَ البطولةْ. هذا هو أنتَ، دأبُكَ دأبُ المؤرِّخِ، لكن تؤرِّخُ المياهَ وحدَها. بسيطاً تؤرِّخ المياهَ. بسيطاً تُغوي الحبرَ ليتهيأ الحبرُ لسباتِ الكلامِ، لتبقى وحدَكَ يقظانَ في حلمِ الحروفِ؛ يقظانَ حتى آخرِ انتحارٍ للأرضِ قربَ مرآتِها. تهيأ، إذاً؛ تهيأ للذي ينثرُ الحديدَ في روحهِ، ويحرثُ المساءَ بمحاريثِ البحرْ. من "فهرست الكائن" 1982 *** اللَّقلق مَنْ للأبيضِ الحزين؟ مَنْ لعشبٍ يعرِّي بناتِ النهر؟ منْ لضفافٍ تسرقُ شمعدانات المياهِ؟ منْ للريحِ تتشبثُ بساقينِ نحيلتينِ، ومنقارٍ يلتقطُ الريحَ من بِرْكةِ النهارِ؟ منْ لأنينٍ يرتدي قلنسوةَ العرسِ؟ منْ للربيعِ، شرُطيِّ الفصولِ، الآمرِ باسمِ عذوبةٍ لمْ تكنْ؟ مشعشعاً كالصرخةِ يرتفعُ الأبيضُ الحزينُ في فضاءِ حناجرنا؛ مشعشعاً كالصرخةِ يرتفعُ الأبيضُ الحزينْ. من "فهرست الكائن" 1982 *** الحجل انَ ما كانَ: مرحٌ سلَّ السفوحَ كسيفٍ؛ مرحٌ سلَّ الفضاءَ وأهوى على الأعشاشِ فتطايرتِ الأرضُ سُمانى، ونُحاماً، وكراكيَّ، حتى امتدَّ برقٌ من الطير بين غدٍ ضائعٍ، ومديحٍ ضائعٍ، فقلنا تطايري، تطايري أكثرَ يتُها الأرضُ؛ تطايري بجعاً، ونِمْنِماً، وغرانقَ، ولتتطاير حولَ ردائكِ الغضاريِّ سلالاتُ وحباحبُ من فضةِ اليأسِ، فلنا في النشيدِ أرضٌ أخرى، رخيمةٌ كَغَبْغَبَةِ حجلٍ يستدرجُ الأنثى. لٌ؛ تذهبُ الأرضُ ويبقى حجلٌ في المدى. حجلٌ؛ يذهبُ المدى ويبقى حجلٌ في النشيدِ. حجلٌ؛ حجلٌ أفقُنا. حجلٌ ظلُّنا. حجلٌ بدايةُ الكلامِ. حجلٌ كلامُنا. حجلٌ، حجلٌ. إشهدي يا مدارج تهوي إذ تهوي الأرضُ، وأكتبْ أيها اليأسُ بالريشةِ الباقيةْ. من "فهرست الكائن" 1982 واحديداً واحديداً من دُعابات وهمسٍ، واحديداً يُؤكَلُ، الآنَ، على مائدة البحر؛ حديداً غافلاً عن شهوةِ الغيبِ؛ حديداً كابتهالِ الشجرِ الأعمى إلى الكاهنةِ العمياءِ في خُضْرَتهِ؛ واحديداً ثرثرَ التاريخُ في حضرتِهِ بكلامٍ صدئ، رافعاً نجوى من الملح ومن قهقهةِ الرملِ إليهِ؛ واحديداً ضمَّ في شهوتِه جُندبَ الفجر، اختطِفْنا بيدٍ زرقاء، كُنْ عيدَ نباتٍ، وادفع الحاضرِ كاليقطينِ يَدُّحْرَجْ حَثيْثاَ من غدٍ لاهٍ إلى لاهٍ سواهْ. [كنتُ في ذاكَ المتاهْ كابنِ آوى. كنتُ ما تقتلهُ اليابسةُ الجذْلىَ، وتُحييْهِ المياهْ لم يكن لي غيرْ منفايَ صدى يُرْجِعني صوبَ أعضائي، وكانتْ تتهاوى شُرفاتٍ شُرُفاتٍ، وزُقاقاً فَزقاقاً، حجراً بعدَ حجرْ. يه، مثلي كَمْ تَغاوى مَطْلِعاً في غضبٍ، أو عُصاراتٍ بها يهذي الثَّمرْ]. وغواياتي غواياتُ مديحٍ. من "الحديد" 1983 *** المشيئة نها المشيئةُ التي تضربُ الأرضَ بقناعها، وأنتَ رنينُ الضربةِ. فتموّجْ إذاً. تموّج مُنْزَلقاَ من ورقةٍ إلى ورقةٍ، ومن لهاثٍ إلى لهاثٍ، وأقْضُمِ الأبديَّة بأسنانِ الخنشارْ. لا تَقُلْ إنَّ تلك الصاعقةَ المتدثِّرة بمعطفها الفرائيِّ هي لكَ. لا تَقُلْ إنَّ العذوبة سوْطُكَ الذي تقودُ به جيادَ النبات، والنهارَ إوزّةٌ شردتْ من حقلِكَ الحديديّ، بل التمسْ ذاكرةَ التُّفاحِ بكلماتِ الغُصنِ، وأطلِقْ يديكَ كذهبٍ مطحونْ. غزالتُكَ هناك؛ غزالتُكَ البلَلوريَّةُ تحت الشجرة البلّلوريَّة، وقلبُكَ هنا، يهزُّ قرْنيهِ ليرُدَّ الفجر ذا الفراء عن سريرك الذي يهوي عميقاً، الى حيثُ لا نعاسَ يرعى بقراته البيضاءْ.إنها المشيئةُ التي تضربُ الأرض بقناعها، وأنتَ رنينُ الضربةُ. من "الضباب المُتَّزِن كسيد" 1984 لا تكن شاحباً فلْنَتَفاوضْ كسيِّدَيْن. أجلس هنا، أمامي، فأنا جالسٌ ومعي ما تريد، وحدّق فيَّ كما ينبغي لخصمٍ أن يُحدِّقَ، ثم ضَعْ على المنضدة ما تحتوي جيوبُكَ؛ الحديقة أوَّلاً. إنني أرى الجذورَ تخترقُ السُّترة، والترابَ يُعَفِّرُ قميصَكَ. هنا، على المنضدة.. الحديقة أوَّلاً. ثُمَّ هاتِ السحابةَ تِلكَ، التي تبلِّلُ حوافَ القبعةِ، وتتدلَّى خِصَلٌ باردةٌ منها بينَ خصلات شعركَ. وهاتِ القوسَ قُزَح، ذاكَ، المائلَ على صدّارَتِكَ المذهَّبَةِ. هاتِهِ.. هنا، على المنضدةْ. لا، لا تكنْ شاحباً، ولنتفاوَضْ كسيِّديْنِ، فمعي ما تريد. اجلس أمامي، وضعْ على المنضدة ذلك البهاءَ الذي أتْعَبَ مديحي؛ والمسافَةَ أيضاً، مسافة الغضبِ المؤطَّرَةَ كصورةِ جَدٍّ.. هاتِها، وهاتِ المساءَ المتدلِّي على صدرِكَ كربطة عُنُقٍ. وافتحْ أزرارَ سترتك لأرى ما تبقى. نعم نعم: نجمةٌ مختبئةٌ، وبقايا معركةٍ؛ مسرحٌ وبلابلُ نائمةٌ فوقَ سيفٍ.. ضعها كلَّها هنا، كلَّها، وكذلك الحريقَ الذي لم يبدأ بَعْدُ. لا تَكُنْ شاحباً، فمعي ما تريد. من "الضباب المُتَّزِن كسيدٍ" 1984 *** الحديقة بآلاتِ الزهرِ الرَّهيفةِ، وسلالمِ الشجرات، يُبدعُ الصَّخبُ نقشَهُ الأكملَ على خَزَفِ نشيدي. والورقةُ تهمسُ الورقةَ؛ العشبُ يشتغِلُ على لهبهِ ومُجونِه؛ السماءُ التي تحاكي الطلَّ، من فوق، تَزِنُ بِفِادِنِها الغيبَ الماثلَ كحائطٍ؛ وحروبٌ في نسغِ كُلِّ شيء. غفوةٌ كنهارٍ مقذوفٍ من شرفة الجيلِ تستبدُّ بي. غفوةٌ تصلني بالأرض وتحجبُ جهاتِها.. والحديقةُ لي: بضربةٍ؛ بستةِ أيدٍ تُخْني عليّ بالضربة تتشظى الحديقةُ معي، أو تنفلتُ كسنجابٍ، وأنا أمدُّ يديَّ بالبندق والَّلوز: صديقتي، يا شرارةَ الحدائق كلِّها؛ يا حديقة المساءِ المطحونِ الذي ينثرُ على خوذتي، بالغي قليلاً في مديحك لي، وارفعي المكانَ الى بركانِه، والذُّباباتِ البيضاءَ الى الروحِ، فما مِنْ ماءٍ سيخبرني بالذي يُخبرُهُ الماءُ؛ ما مِنْ رسولٍ سيُمْلي عليَّ رسالةَ البرعمِ الأسير وعرباتِهِ الناجية. خياميَ كلُّها، أيتها الحديقةُ، خياميَ كلُّها؛ نبعي المتكئ على عصاي، وجَبَلي الذائبُ كفضَّةٍ يصكُّ الغمامُ عليها صورةَ الغابة؛ هالتي، ووتري المقطوعُ الذي يسقط منهُ سهمي الى مَقْتَلي؛ رسولي، وثوري الذي يطحنُ الشجرةَ بعظامه الخضراء؛ مكاني، ومصابيحي، ومائدتي التي ترفع الصِّحافَ الى ضلالة البهاءِ... كلُّها تتكئ على البابِ، وروحي تقرأ الورقةِ المستظِلَّةَ بأنين الشجرات. بآلات الزَّهر، بك أيتها الحديقةُ الضائعةُ في جهات يدي، سأمسكُ الرَّسنَ الأقوى، ناظراً الى ما ينحدرُ من الصَّرخةِ العاليةِ، فلي موعدُ الجذورِ، واحتدامُ البعيد. وإنْ نسيتُ شيئاً من مباهجِ الوداعِ وهسهسات مهاميزه، فسيدركني الظلُّ الرسولُ، أو النبضُ الرطبُ لثمرةٍ سقطتْ في المياهِ؛ إنْ نسيتُ؛ إنْ نسيَ الوداعُ شيئاً من مجوني الذي قَسَّمَ الشجرةَ بين جهاتها. هكذا كُلٌّ سيدركُ الذي لم يفتْهُ. كلٌّ سيُدْرِكُ المُدْرَكَ، وينسى بطشَ الذي فات. بآلاتِ الزَّهرِ تتواطأ الأرضُ على نَفْسِها. من "منزل يعبث بالممرَّات" 1984 *** الفجيعة يهٍ يتها الأدراجُ الواهنةُ التي لن أطأها. إيه أيها المكانُ الذي يتسلَّقُ الظهيرة كغبارٍ مفجوعٍ. إيه نَفْسي نَفْسي نَفْسي: بعصيانٍ واحدٍ، وضربةٍ واحدةٍ، ستأسرُ الهرطقةُ هذه الممراتِ، وسأبقى حيث يبقى الحاضرُ الخجولُ، هنا، تحت القوسِ المشتعلِ بفكاهةٍ مرصَّعةٍ، جاذباً وتري لأرمي سهمَ الفضيحة، فإنْ أصبتُ ترامى المكانُ وديعاً يبسطُ المواريث كطُنْفُسٍ، وإنْ نبا الرَّميُ عدتُ إليَّ بعصيانِ الشجرِ كلِّهِ، والظلالِ كلِّها، ناظراً، ثانيةً، إلى الأفقِ الذي يجمعُ السهامَ لسطوتي النَّبيلة. كنبيلٍ، إذاً، ينبغي أن أروِّضَ المشهدَ الذي روَّضَ الجسارة. كنبيلٍ سأدلقُ صِحافَ الفاكهة من الأعلى، هاتفاً بخليلاتي: دَوِّنَّ هذا؛ دَوِّنَّ ذهبي المَذْرُوْفَ على قرونِ الجليدِ، وارفعنَ خَمالاتِ الريشِ لألتَقي وهجَ الأجنحة، فأنا شبكةُ المديحِ التي يتخبَّطُ فيها عُقَابُ المديح. نذوري، هذه، إلهي. نذوري، وهباتي، شكيمتي وطبعي المتدحرجُ كتينٍ إلى هاوية الفاكهة. بِيْدَ أني أشمُّ الفخاخَ بين جسور المدينة وزَرَدِ البحيراتِ، إلهي؛ وأتقرَّى بيديَّ عناقيدَ اللهب الراكضِ من قوس إلى قوسٍ، كأنَّ بي تواطُؤَ الحجرِ على خلودِ الهباء، وشُرُوْدَ الجُسُورِ عن نفيرِ الجُسورِ. بنفيرٍ واحدٍ، أو بشُرودٍ واحدٍ، إذاً، سأطوِّقُ الشتاءَ المتمدِّدَ على الرابية، هناك، حيث الأعمدةُ التي يدورُ من حولها أطفالُ صديقي بمعاطفهم السميكةِ؛ سأطوِّقُ المغيبَ المُتَقَلِّدَ صولجاناتِ ضبابهِ ومراثيهِ، وسألجئ الهارب من نعيم الحجر؛ سألجئ الحجرَ هَيْأةً وسديماً، قارعاً بالأناملِ قرعاً خفيفاً على زجاج المساء المُعسْكِرِ ببهلواناته وراء البِركةِ الفارغةِ. لا، سأدفعُ البركةَ يميناً، والأعمدة شمالاً، فاتحاً لهواي ممرّهُ العدميّ: دَوِّنَّ هذا، دَوِّنَّ هذا يتها الخليلات: عاصفاً يبدأ الشَّكلُ، عاصفاً ينتهي. عاصفاً يبدأ المكانُ، عاصفاً ينتهي. وأنا أحَرِّضُ التماثيلَ، على قممِ الأعمدة، أن تطلقَ قُمْريَّها الجريحَ من شِبَاكِ الحجر. غير أني سأتلو الحجرَ جناحاً جناحاً، وسأتلو البحيرةَ خلف الرابية طعنةً طعنةً، موشكاً - وأمسكُ نَفْسي - أن أضرِّجَ الغدَ كله بهبوبٍ يشوبهُ الزَّعفرانُ. موشكاً أنْ أقتحم الهياكلَ بالهياكلِ، والأدراجَ بالأدراج، وحسبيَ الغوايةُ التي تُدَحرجُ قُفَفَ العُنَّاب برَكْلَةٍ من قَدَمها. دَوِّنَّ هذا، دَوِّنَّ هذا يتها الخليلاتُ، وأحطِنَ بي ليكون للخطواتِ ثِقِلُها الأكثرُ جهامةً في العصيان العظيم. هكذا، خفي ي ، يفاً سأمضي إلى فجيعةِ الملوكِ، هكذا سأنثرُ بهاري على كلِّ مائدةٍ، وأرفعُ الأرضَ بكلاّبات النحاسِ إلى هَيْأتي. وسأتلو، بعد هذا، النوافيرَ الصامتةَ في فناء القصر على الرابيةِ؛ سأتلو الشّعاعات الخفيَّةَ التي تدفع عُجُولهَا الى النشيد، كأني الطلالُ تشقُّ عن دروعِها الظلالَ، عجلى، تتدانى، أو تتدانى نَفْسي ممرَّاً ممرَّاً، وزينةً زينةً، سأتلو نفْسي أمامَ الحفيفِ المُفْتَضَحِ للحجرِ، إلهي؛ فليأذَن الجليدُ لي بأنين تتأرجحُ أثداؤهُ بين التماثيل وبين المياه. وليأذن المغيبُ لي بسهمٍ أفَوِّقُهُ ولا أرميهِ، ليأذَنْ لي بذهولٍ من المشارفِ هذه، ساهرٍ كبجعةٍ تضربُ الفراغَ بمنقارِها الذهبيّ. من "منزل يعبث بالممرَّات" 1984 *** المنعطف الثاني من "أفروديتي ستريت" عَلِّق الليلَ، عَلِّق الليلَ كقُبَّعتكَ، ونادِ حوذيَّيكَ النهارَ، الواقفَ، في انكسارٍ، لصقَ عربتكَ الفارغة. تسعونَ درجةً تحت النعناعِ، وثلاثونَ فوقَ القُرُنفُل. تسعونَ درجةً تحت رحمةِ العضلِ الذي يتهدّلُ، رويداً رويداً، من فضيحةِ الخليَّة، ومداهماتِ الأمسِ بأطفالٍ يشبهون النداءَ الكهلَ لغدٍ كَهْلٍ، فاقتربْ، أنتَ الذي تُعَلِّقُ الليلَ كقبعتكَ، وتحدِّقُ طويلاً في النهارِ، حوذيَّكَ، الواقفِ لِصْقَ عربتكَ الفارغة، ولا تناديه. إقتربْ أيها المُبَشِّرُ بقيامة العنب، ودينونةِ الريح؛ اقتربْ بدهاقِنَة يصفونَ المساء المختبئ، في كلام الحديقة، ويتبادلون لفافاتِ التبغ المشتعلة تحت الغبار الأليفِ الذي غَطَّيْتَهُ بهبوبكَ الأليف، وأنسَ مسافاتِكَ المرتبكةَ، ومساءَكَ الذي انزلقَ فأسندْتَهُ، فهويتما، معاً، في بلاغةٍ تتخطَّرُ بمسائِها الأنثويِّ. تسعون درجةً، أنت، في النَّدى، أيها الدليلُ الى دَسَاكِرِهِ. *** المنعطف الأول في "مكاريوس ستريت"، يميناً، قرب "وينبي" اجاتٌ ناريةٌ، وشبَّانٌ في سُتراتٍ دون أكمامٍ. وأنا فرحانُ، هكذا، دونَ أكمامٍ في قميصي، كأنَّما أمضي إلى ما فاتني من لعبةٍ كنتُ أتقنُها؛ كأنَّما أمضي إليَّ، دون شِعْرٍ، أو بلاغةٍ مما يَنْسُجُ الألمُ الحلوُ؛ هكذا، إلى ما فاتني فأغضى لأنَّهُ فاتني. وأنا شاعرُ هذا كلِّه: شاعرُ السماء الثانية التي تنهبُها العجلاتُ؛ شاعرُ الدَّراجةِ الناريَّةِ، والقمصان التي لا أكمامَ لها؛ شاعرُ الصفيحِ المذهَّب، والمقابضِ التي تتشبَّثُ بها الأيدي الأكثرُ غضباً. وللعضلِ، أيضاً، مُثُوْلُهُ في الذي سأدوِّنُ بأقلاميَ المعدنية. وسأفسحُ قليلاً للسِّبَاب ذاتِ الطَّعم المراهق؛ سأفسحُ - في الذي أدوِّنُهُ - مساءً لي، معافى كألف مصباحٍ أماميٍّ في الدّراجات الناريَّة. أما هؤلاء المحددون كمُطْلَقٍ غُفْلٍ، بقفازاتهم، وأزرارِهم الكبيرة كالنَّقدِ المَسْكُوك، فسيكونُ لهم رِفْعةُ الفراغ في كلِّ حِبْرٍ، وحُنوُّ الفوضى على الأبدِ المُنْتَهَك. اجاتٌ ناريَّةٌ. قلبٌ ناريٌّ. وأنا ذاهبٌ إلى ما فاتني. *** المنعطف الألف بعد الصاعقة التي تشبثت بي خلُ هذا البيتَ وأنا ألقي بعظامي الى المدفأة. سأدخلُ هذا البيتَ متشبثاً بالمكانِ الهاربِ، وبالقبر الذي يؤازرُني بكمائن الياقوت، وبالنمورِ الخضراءِ، الصّاعدةِ قوسَ الظلامِ المُبَارَكِ إلى شهواتي. سأدخلُ هذا البيت من بابه العاشر، وفراغهِ الأملسِ كدرجاتِ العتبة الثلاث، مقسِّماً حلوى الأمس شطائر كالأيدي، رافعاً يديَّ بمراوحِ الموتِ إلى الأزلِ المَحْرُورِ في قيوده، إليَّ، إلى شركائي وهم يقذفون بأسرَّة النهارِ من شرفاتهِم العاليةِ، ضاحكينْ تحت الأقنعةِ الرحيمةِ، ولألأةِ الأعماقِ التي ينفخُ فيها القياصرةُ الحمقى. سأدخلُ هذا البيت. سأدخل هذا البيتَ بي. سأدخل هذا البيتَ برهائني الألف. سأدخل هذا البيتَ بالأعاصير التي لم تُنْهِها الكتابةُ. سأدخل هذا البيتَ بشرودِ التراب، وجهامَة النُّطَف. سأدخل هذا البي ي ي تَ، مُطْرِقاً كجَدٍّ يُخفي عنهُ أحفادُهُ حذاءَهُ الأخيرَ. سأدخلُ هذا البيت، دونَ سلام، متَّجهاً إلى المدفأةِ كي ألمَّ عظامي. من "منعطفات ظهيرة من ريش..." 1985 *** المنعطف الخامس، شمالاً، الى مساكن لا أرها هياكلُ أبنيةٍ جديدةٍ. بنَّاؤونَ. طواويسُ شهوةٍ، وعواصفُ من شجرٍ يتحرَّى مَقْتَلَةَ الريحِ، و بنَّاؤ وو ووونَ، لا يتقنونَ من هندسة الظهيرةِ غير عَرَقٍ يتحدَّرُ الى الأحزمة الضيّقة، والسراويل. هياكلُ زبدٍ في بَطَرٍ المَشَابِكِ الحديديةِ، وطواويسُ في الأبعدِ، الأبعد، المتناظر بكمائنه الياقوتِ، وعواصفُ من شجرٍ -من فداحةِ شجرٍ- تتحرَّى المَقْتَلَةَ الأكثَر ثُبوتاً في الذي دوَّنته الجهاتُ بحبرها الدَّبقِ: ريحٌ. كذا يرشحُ الخبرُ. ريحٌ، ومَقْتَلَةً في الريحَ، و بنَّا ؤوونَ، تتساقطُ من لهاثهم أدواتُ قياسٍ، وورقٌ مُسَطَّرٌ، وسطورٌ من حسابٍ وذهبٍ. نه المنعطفُ الخامسُ، شمالاً، حيثُ الهدهدُ الكوكبيُّ بين براثِن النِّعمةِ وأنيابِها. من "منعطفات. ..." 1985
المنعطف الأول، إلى جهتي حين تحنُّ، طويلاً، إلى المكانِ، لا تَعُدْ إليه. حين تحنُّ إليَّ، طويلاً، اقتلني. ماذا ينبغي عليّ لأشرحَ المسألة؟ الملوكُ ذاهبونَ إلى نيسانَ؛ الشعوبُ ذاهبةٌ إلى نيسانَ، والأبد، الذي انحسرتْ عن كتفيهِ عباءةُ جدِّي، ذاهبٌ، معي، إلى نيسانَ. نيسانُ ذاهبُ معي. نيسانُ ذاهبٌ الى أبوَّتِهِ، وهو ينثرُ الودعَ على ما تبقى من جُسُورٍ وهزائمَ تتلفَّعُ بالبطولةِ الماكرة. وأنت، الذي تحنُّ إليَّ طويلاً، لا تقُلْ لنيسانَ عنّي ما يقولهُ الأنينُ، ولا تكشفْني بحبِّي هذا؛ بجسارتي المتناثرةِ هذهِ، على البهو الذي تَرَى في آخرهِ سريري، وتَرَى الوَرَثَةَ يشقُّون الوسائدَ بحثاً عن ممالكي. ولا تحمني بصرخةٍ، أو بحرابٍ كالتي شحذتْ نصالَها أراملُ الفجر، بل أوصدِ البابَ عليَّ وعلى نعشي المرصَّع بفروجٍ متلألئةٍ، وأنصِتْ من وعُمَّالِها المتشاجرين- إلى قناعي الذي أتركه على سريري، وأصعدُ الأصيصَ النحاسَ، الذي يتدلّى من السقفِ، ملتجئاً إلى حَرَم المعدنِ وأزْرِ نقوشه. من "منعطفات. ...." 1985 *** المنعطف الذي يصل "تشرشل ستريت" ب "نافارينو ستريت" الصناديق في كل مكانٍ. رافعاتٌ من مكائِدِ الحقولِ ترفعُ التُخْمة كغمامةٍ فوق الصناديقِ المتناثرةِ في كلِّ مكانٍ، حيثُ تغزو "التعاونية الاستهلاكية" رصيفَ الشارعِ ببطّيخها، وقُنَّبيطها، وخَّسِّها، وبازلاَّئها، وكَرَفْسِها، وقُثَّائِها، وقوارير الغازِ، أيضاً، المقيدةِ بسلاسلٍ، إحداها إلى الأخرى، كأسرى حربٍ في الجهةِ الثانيةِ من ظلالنا. ... والنساءُ يحتشدن؛ الفاكهةُ تحتشدُ، والفضولُ الأبكمُ لغبارِ الرصيف. خُذْ ما تشاء رخيصٌ هذا، ورخيصٌ ما يجاورُهُ. وتذكّر رصيدكَ في البنكِ الذي يكاد يتّصل بناؤهُ ب "التعاونية الاستهلاكية"، ففي ذلك ما يشغلُكَ عن صباحٍ مهزومٍ أمامَ ظهيرةٍ مهزومةٍ. ولا تنسَ الليلَ الذي سينزلُ ثقيلاً، كأنما يهبطُ من شجرةِ الكستناء، بصيارفتِهِ الغامضينْ، وجرائهِ المغسولة تَّواً بماءٍ فاترٍ؛ ثقيلاً سينزلُ على سطح بيتكَ، وسطحِ المبنى الذي يجاور بيتكَ، وسطح ما تبقّى من عالمٍ مسقوفٍ بمآتم مغرورقةٍ كعينيك. الصناديقُ في كلِّ مكانٍ: عنبٌ ورعبٌ. غدٌ ويَقْطينٌ. هزيمةٌ وجرجيرٌ. والنغمةُ، التي تتوسَلُ الى المارَّةِ، بطاستِها التوتياء، تغمزُ بعينيها، كأنَّما تمتحنُ المكانَ بِعَبَثٍ كالذَّهب. من "منعطفات. ..." 1985 *** ليَبْقَ معي فلْيبقَ معي الباقي. لِيَبْقَ المُثْخَنُ بالبداهةِ النحيلةِ كصديقٍ نحيلٍ. ولتبقَ الطَّرَقَاتُ الكثيرةُ على البابِ، فحسبُكَ، وأنتَ تَفتحُ، تفتحُ لبُراقِ المكيدةِ العذبةِ، بأعضائكَ التي تتهاوى شفقاً شفقاً، كأنَّما أنذرتْكَ الأرضُ للبسالةِ، وأغضى عنكَ الموتُ فأنت تستوفي حيطَتَكَ بحرسٍ مذهولينَ. ليبقَ الباقي. ليبقَ الذي تنتظرينه، أنت، يَتُها المتوسّلَةُ مثل الدُّلب إلى الأعالي الشعثاء. ليبقَ الذي تنتظرهُ يداكِ. لتبقَ الأقدارُ بحروفٍ لَمْ يُعَمَّقْ حَفْرُها على الصفيحِ المُهيَّأ لأزاميلِ العَبَثِ الشقراءَ. أأمتحنُ البقيةَ بكِ؟ أأمتحنُ بكِ الصَّخَبَ الخَشِنَ كذهولِ أبٍ يُقادَ إلى مَقْتَلِهِ؟ هي فداحةٌ تَحرمُ الغياهِبَ، والعنبُ يتحرَّى اللّمْسةَ التي نسيتِها فوقَ يدي. غير أنّي إنْ ذكرتُكِ ذَكَرْتُ الجدالَ بين المياهِ والألقِ، وتحيَّنْتُ الذي أنا فيه، بعد أن يكادُ يمضي بخطاطيفِ الذي مضى؛ تحيَّنْتُ الأليفَ في قدومهِ الثقيلِ بأثدائِهِ الثقيلةِ، مومئاً كرمادٍ ساحرٍ إليكم؛ إلى الفراغِ المُعَلَّقِ من رئتيهِ إلى شجرةِ التِّينِ، هناك، حيثُ الرماةُ المتألِّقونَ، والثعالبُ النائمةُ في اليواقيتِ، والعدَّاؤون من نَزْعٍ إلى نَزْعٍ؛ حيث الأسرى الموثقونَ بسيُوْرِ المَرَحِ؛ حيث الحكايةُ كلُّها، المُتَفَيِّئَةُ، في فَزَعٍ، إلى ساقِ الدَّلبُوْثِ. ليبقَ معي الباقي، إذاً، حتى أريكم تُيُوْسَ الرسالةِ التي يبلِّغُها الأكيدُ إلى الأكيدِ؛ لأريكمُ النبوءَةَ المتسلِّقَةَ كاللِّبلابِ، أبْهَاءَ الإسمنتِ، ضاحكاً من الموعدِ المُعْلَنِ للقادمين بأسرارِهم إلى الملهاة. وبي، أو بكِ، (لا فرقَ) سأمتحنُ السكينةَ المُنْكَبَّةَ، هنا، بأمشاطِها على تسريح الفاجع ذي الذؤاباتِ، متمتماً ما يتمتمُهُ المأمولُ المُطَوَّقُ بالفضيحة أمام بوّابَةِ الله، سكرانَ مما يُشغلني به القديمُ القديمُ، كأنني بكِ، أو بي، سأمهِّد الفجاءَةَ لاسترسالها حتى يَلْهَجَ الزعفرانُ بأسماء الريحِ، ويهديَ النُّحَامَ جناحيه إلى الخزامى. مُتَفَكِّراً بالمُتَفَكِّر فيَّ، يصلني الخشخاشُ بيَقيْنِهِ، ويزاحمُ الخَرْدلُ بأعضائي ما يزاحمهُ. والبقيةُ؟ بكِ، أو بي، لا فرقَ: يُنيْبُنا العَدَمُ عنه إذا يميلُ إلى عُزلةٍ، وتتلكَّأ الذُّرَةُ في سَرْدِنا على الظلال. بَلْهَ يقُومُ البنفسجُ بتوضيحِ ما خفيَ منّا، ويَؤُمُّ بنا العُلَّيْقُ البطرانُ ألَقَهُ الدَّفينَ. والبقيةُ؟ للقرنفلِ شَكُّهُ. للتوتِ شَكُّهُ. للقُنَّبِ، للحَلْبُوبِ، للدِّفْران، للتَّنُّوب والجُرَيْس، لنا، لليَحْمُوْرِ النازفِ على حجارةِ النبعِ، للقيامةِ التي تتهيأ بأقنعتِها القِطانيَّةِ، للدّعاميصِ الطافيةِ على الماء، للبتولا، للطاووس الساهرِ على الكلمةِ، القويِّ الخجول، للبَوَّاقِ ذي النَّفْخِ المالحِ، للبَقْس، للتَّنُّوبِ، للجاوَرْسِ، للحندقوق الهاذي، للفجرِ الذي يتلوَّى كالصِّلِّ قرب النعمةِ، لِلْبلاذِرِ، للكتّانِ، لليقينِ الراكضِ بجلاجِلِ الفراغِ، للغد شُكُوكَهُ. هكذا: شُكُوكٌ على مرمى القَهْقهةِ؛ شكوكٌ على مرمى الذَّهب. من "خزائن منهوبة" 1986 *** لكن لكن، ما الذي يفعلُهُ الموتُ هنا؟ ما الذي يفعلهُ الموتُ السكرانُ، ذو الدُّوار الأشدِّ، وهو يرمي بثيابِه الى الأرواح؟ ما الذي يفعله الموتُ المُسَطِّرُ بأقلامه على الفكاهةِ النائمةِ كورقةٍ مديدةٍ بين شعْرٍ نائم وأنينٍ يقظان؟ ما الذي يفعله الموتُ، شريكي، في هذه البرهةِ التي تتأصَّل بجذورٍ كجذور التينِ، وبراعمَ من شعاعٍ ينثرُ المغيبَ على أثداءِ شقيقاته؟ ما الذي يفعلهُ الموتُ، القادمُ بي الى هَذْرِهْ؟ ما الذي يفعله الموتُ الذي أضجَرَ الشهودَ بهَرْجهِ، وخرجَ مع الخارجين من الباب ذاته الذي يُفْضي الى الحياة؟ ما الذي أفعله بالموتِ، أسيري، وأنا الحائرُ في تدبيرِ زنانينَ مضيئةٍ تليق بأسرايَ وبي؟ فلتتمهَّلِ الحقيقةُ في اقترابها من القيدِ الذي أشدُّ به رُسْغي الى رُسْغِ الريحْ. من "أسرى يتقاسمون الكنوز" 1987 *** على حالِهِ في اتجااااااا هي أيها الخفيُّ، في اتجاهي أيتها الجهاتُ، عميقاً، قربَ الفضيحة الناعسةِ في فرائِها، هنا، حيثُ يخمِّنُ الطبَّالونَ مراتبَ الصوتِ، وتتناحرُ الأمومةُ بسكاكينَ من دُعابةِ الذَّكَر. في اتجاهي؛ في اتجاهِ ذلك كلِّه يدحرجُ أسرايَ مكايِيْلَهم. والمشهدُ على حالهِ: فتورٌ يمدُّ الحِبالَ لبهلواناتهِ. قنَّاصةٌ من الوردِ على الشرفات. أنبياءُ قربَ سور "سباق الخيل" يحذِّرون الشجرَ العالي. سنونو يروِّض أسلاكَ الكهرباء العاليةَ. صوتُ المغسلة ذاتها من وراء نافذةِ البيتِ الغربيَّ، ونَحْنحاتُ المقامرينَ وهم يسدلون الستارةَ، ليلاً، بين ربحٍ وآخرَ. والمساءُ الذي يدلُّ عليَّ جيادَه، كأنَّني السهَّرُ يفتحُ الخانَ الأوسعَ للمؤرَّقيْنَ بحمَّى يقينِهم. هكذا، الكلُّ على حالهِ: المجدُ المُبْتَهِلُ الى قيَّافِهِ الكسولِ؛ والقهقهةُ؛ والصيفُ؛ والجصُّ المتجمِّدُ على مدخنةِ بيت الجارةِ العانس؛ وزهراتُ الميموزا؛ والغبارُ المحرِّضُ إذ يلقِّن الظهيرةَ أنينها؛ والتعبُ؛ والظلالُ؛ والمجادلَةُ المحبوكةُ كَعَظْمٍ؛ والهمسُ؛ والدغدغاتُ؛ والبدعةُ التي تُطقطقُ كمقصِّ الحلاّقِ؛ والسِّحْرُ؛ وانْشِداهُ الحادثةِ بوقُوْعِها؛ والقيامةُ؛ والنفيرُ الأبعدُ الذي يلي كلَّ شيء؛ والفتنَةُ الدائرةُ بخواتمها على أناملِ الموتى. فليتَّفقْ أسرايَ إذاً، على سلامٍ ما. فلأتَّفق مع المكانِ على زنازينَ تليق بأشباحنا. من "أسرى يتقاسمون الكنوز" 1987 *** هكذا هكذا: لا يقينَ، لا جسارةَ، لا خزَّفينَ، لا قلبَ يُلقي بظلالِهِ على الفكاهةِ، لا هبوبٌ، بل نفخٌ من فمِ الظلام. هكذا: هذرٌ خافتٌ وقبضةٌ تتكوَّر لتهوي. هكذااااا: خيانةٌ تتلمَّس - كورقةِ الدَّلبِ - غُصنها المائل. ووسطَ هذا كلِّهِ حَزَنْبَلٌ، وعرانيسُ ذرةٍ، وقفزٌ كقَفْزِ الكُنْغُرِ، وطُهاةٌ أيضاً، ونعيمٌ منهوبٌ، وحُليٌ، وقياثرُ، وقناديلُ بحرٍ بهلامٍ أنقى، ومجذِّفون بمجاذيفَ من عظامٍ، ولواحِمُ، وقرَّافاتٌ، وحجارةٌ للجَلْخِ، وسروجٌ، وموائدُ مموَّهةٌ بشرابٍ مموَّه، وأكبادٌ، وزيزانٌ ضليعةٌ كالظهيرةِ في اقتسام الجهاتِ، وبنادقُ، وورَّاقونَ، وعَدمٌ قيَّافٌ؛ وسطَ هذا أنينٌ يحنو على القَهْقَهة. من "أسرى يتقاسمون الكنوز" 1987 *** القطيعة سأقول لنفسي اخْتَرِ المشهدَ الذي على حالهِ، فالذين يوقظونني في الأحدِ الميِّتِ، في الخميسِ الميتِ، في السبت الميت، في الثلثاء، في البدايةِ والنهايةِ الميتةِ، يبتسمون محيِّينَ من شرفةِ البناءِ الذي لم يكتملْ سقفهُ القرميدُ؛ البناءِ الفاجرِ، المتحجرِ الهواءَ بخصيتَيْهِ الغبراوَيْن. هكذا، يوقظونني بأنَفَةٍ كأنني سأشهدُ القطيعةَ التي يؤجِّجونها. هكذا، كأنَّ الذي يمزّقُ قلبي يمزِّقُ الحدائقَ أيضاً. لكنني يقظانُ في المدى الذي توقظُ الآلهةُ فيه ما يُغيظُها؛ يقظانُ، مُمْتنٌ للفِتنةِ الأقوى؛ يقظانُ كدهاءِ المشهدِ المحمولِ على جناسٍ كبير. وثمتَ، هناك، كمائنٌ في الألقِ، كمائنٌ كمثلي، حيث أرتجلُ الغدَ ذا العربةِ الصلصاليةِ، مغامراً بالنَّثْرِ المسكونِ الذي لا يُؤاتي، وبالبلاغةِ اليقظى من ارتجاجِ العجلاتِ على الحبرِ، صارخاً بي: لا تفتحِ المساءَ على مصراعيهِ، ولا تقدِّمِ الليلَ بتعريفٍ الى أشقائِكَ الضاحكينَ، فالنهارُ لن يؤكِّدَكَ بثرثراتهِ؛ لن يؤكِّدَكَ ضوءٌ، والمصابيحُ الكبيرةُ نعاسٌ يقظان. فلا تمتحنوا اليأس: خدعةٌ هذا الهواءُ الذي يُصرِّفُ بأسنانهِ، والنحيبُ المتصاعدُ، فراغاً بعد آخر، نحيبٌ يضلِّلُ المشيِّعيْن. ولا تمتحنوني؛ لا تمتحنوا أسرايَ بمشافهاتٍ كبيرةٍ؛ لا تمتحنوا الموتَ الذي يسرق الريحَ من فِخَاخِنا. إنها القطيعةُ. إنها القطيعةُ. من " أسرى يتقاسمون الكنوز" 1987 *** النقوش سأرفعُ هذا الحديدَ، إذاً، على الخشبة القوية التي تهتزُّ تحت قدميَّ القويتين.سأشهدُ امتحانَ العَضَلِ وامتحانَ الهواء، حين تتَّخذُ الشرايينُ النافرةُ أهْبَتَهَا وهي تمهِّدُ للدَّم عُذْرَتهِ وفجورَه. سأرفعُ هذا الحديدَ بحكمةِ الحديد. سأقسِمُ أن الحديدَ المرفوعَ على يديَّ هو الغدُ مغسولاً في رئةٍ كرديّةٍ. هكذا أُلقيَ بي في اللعبة. هكذا أَلقيتُ باللعبةِ الى ما يُشْغِلُني، لأعتكفَ كالنَّجارِ على تقدير الزوايا في الملهاةِ، عادياً بالصَّريرِ الذي يُمهِّدُ للأقفالِ كي تَرَى، وبالفتنةِ التي توحِّدُ الأنقاض. فلْيحضرِ الرُّسُل كلهم، بالألمِ المُتْقَنِ كريشةٍ، كي يحدِّثوا الحياةَ حديثَ المُراهِنِ، ولينقسموا حين يرْوٌونَ، لأن النعمةَ تُصغي بآذانٍ طائشةٍ، ويدوِّن الحاضرُ الأنينَ بثرثرةِ مُطَلَّقَاتِهِ، لا بكلام الشهود. ولتكنِ القفزةُ عاليةً، والركضُ في مُنْخَفَضٍ عالٍ؛ ولتكنِ الملائكةُ تحت القوس، في المدخلِ الشماليِّ للحقيقةِ، مرتديةً معاطفها التي لها، وهي تقضمُ البُندق، ريثما تُبلِّغُ المرئيَّ -شِفاهاً- أنَّ الفكاهةَ سستخيَّرُ غِلمانها، وسيخرج الحاضرون من الحلبة بالأباريق التي لم يترك عليها الموتُ شيئاً من نقوشِهِ الحيَّة. من " مهاباد" 1988 *** عتَّالون ما هَمَّ: هُمُ العتّالون يرفعون الجوعَ الى الشاحناتِ، بخطىً تتسلَّقها السلالمُ، ويقطفُونَ الحروبَ من شجرات التوت. هي الحروبُ تتسلَّقُ الشاحناتِ هاربةً بالأنينِ السوريِّ الى العتّالين ايصعدوا أقوياءَ الى الحروب القوية. وأنا والشَّمالُ عاكفان على آجُرِّنا الدّامي بصباحاتٍ كأزاميلَ رقيقةٍ، ننقشُ بها ما ينقشُهُ العاديَّونَ على آجُرِّهم الدَّامي. شاحناتٌ في كلِّ مكانٍ: هذا ما أرويهِ للحكايةِ التي تُروى بتعبٍ يُروى. شاحناتٌ في كلِّ مكانٍ، ككثافاتٍ تتألَّقُ في ضجيجها؛ كمديحِ الشَّكْلِ لنفسه؛ كاغتصاب يمهِّدُ للظِّلِّ أن يطيحَ بالجهاتِ. شاحناتٌ كقلبي، في شمالٍ كقلبي، وأنا أتوطَأ مع الريح إذْ تعلنُ السهولُ شِقَاقها، وأتقرَّى بيديَّ المعرفةَ، تلك، النشوى بالذي يحلجُ السنينَ بين يديها، وهي تنظرُ المقاديرَ تدخلُ بملاعقها التي ستغْرفُ بها المقادير كالحساء. من "تدابير عائلية" 1989 *** كما أنتَ وابقَ -كما أنتَ- وحيداً، في الفتنةِ التي تجعلُ الليلَ خلودَكَ الزائلَ؛ في الفتنةِ التي ترفعُ معطفَكَ المُمَزَّقَ الى منكبيك كلَّما ابتردْتَ في الحريق. واتبَعِ الشاحناتِ ذاتها الى كلِّ مكانٍ، إليكَ؛ الى الشقاءِ الأخضرِ، الذي يرسمُهُ قَلَمٌ أخضرُ مَسْروقٌ من فكاهةِ العنبِ، حاملاً تينَكَ البهلوانَ؛ عِنَبَكَ البهلوانَ؛ قَمْحَكَ المُمْعِنَ في تفسيرهِ الذّهبيَّ، كأنّما تمهِّدُ الحقولُ لكَ بإنشاءٍ يُكْتَبُ فتلبسُ لها الريحَ، ويؤوِّلُكَ الليلُ تأويْلَهُ النورانيَّ فيُغمى على النهارِ بين يديك. أتَطَأ، بعد هذا، قَدَمَ النهارِ في رجوعك من ألقِ الليل، الذي يبهرُ عينيك؟ أتَطَأ النهارَ - شركَكَ النائمَ على الرصيف الذي يعبره العتّالون من الشمال الى الشمال؟ حَيِّهِ، أنتَ؛ حَيِّ الشَّررَ القابِضَ على ذكراكَ بيدين من ظلامٍ وضّاءَ، وافتحْ للشهواتِ أن تتشمَّمَ، كالهِرَرَةِ، إبطيَّ المساءِ وأضلاعَه الرطبة. فأنت تستعيد الشمالَ حفنةً حفنةً حين تقيسُ الأرضَ بشهواتِكَ، وتقيسُ الهواء بالقُبَلِ، عريقاً كفجرٍ، عريقاً كماءٍ، كفكرةٍ كنهبٍ، كفراغٍ، كطَلْقةٍ تُرْدي؛ لأنك تصغي الى الشاحنات الأنيسة متهاديةً الى الصيف الذي ينام على وسادتك مُذْ تَعَرَّفَتِ اليقظةُ عليك في حُلْمها. واتبعني فراشةً فراشةً، كضجرٍ حالمٍ؛ زاهداً، فأجْرُكَ المياهُ أجرُكَ المياهُ. واستَعِنْ بالمصادفةِ المحبوكة من القُنَّبِ، فالغبارُ -شقيقُنا- لا يتكَتَّمُ على الكنوزِ التي تحاصرُ الموتَ، ولا يتكتَّمُ الألمُ على الشمالِ الذي يجرُّهُ القطار من حنينٍ الى حنينٍ، كأنَّ مجداً ما ينقرُ بأنامله على المنضدةِ في سوقِ العتّالينَ، وهو مستسلمٌ للقرنفلِ يلقي عليهِ نُعاساً كالتحيَّةِ. من " تدابير عائلية" 1989 *** قطيع الغضب قطيعُك قطيعُ الغضب أيها الموت. هروبُك صاخبٌ في كلام يُنْسَى أيها الموت. شَفَقُ النعمة عليك؛ شَفقُ النعمة الذي تكسره شجرات الأكاسيا العالية، أيها الموت. وأنت في المُهْمَل، الذي تتعثّر الأرضُ بجماله، أيها الموت؛ في خطوة الظلام المنسية على عتبة الفجر؛ في الفجر الذي لم يستفقْ بعدُ؛ في اليقظة الكسولة للكمال الكسول، هناك، حيث تُلقي بمتاعك الثقيل على القارعة، وتنسلُّ الى الكمائن أيها الموت. وبُستانيُّ أنت، غاضبٌ من أجْرِك، تُبيْحُ للورد أن يسرق من الموتى رقادهم، أيها الموت.ولا تحمل أضاميم الزَّبد الى أيٍّ، ولا تتنفَّس كما يتنفَّس المُشيِّعون. وتغمض عينيك حين تسمع ضربةَ المعول التي تتقاسمها الحقيقةُ مع الغبار، أيها الموت. حروبُك تُؤكل كالفاكهة؛ حروبُك العظامُ والعنبُ؛ حروبُك الرهيفةُ من حماقاتٍ ينسجُها الزّهر في مرآته أيها الموت، وغَدُك غدٌ يستأجر الحقيقةً كحمَّالٍ لأمتعة الغيب. آه يبكي الحديدُ بين يديك بعينين من ذهبٍ. ونهارُك ساهرٍ على شمسه أيها الموت. يقظتُك نائمة في دِفْئِها، ووداعٌ أكملُ يضلّلُ أعضاءَك بعضاً عن بعض، ويُقيم معك، في الوحدة ذاتها، كضيفٍ دمثٍ، أيها الموت. يحْسبُك الدّرَّاق من سُكَّره، والضوءُ من حِيَلِ الضوء أيها الموت. وأنتَ بسُحُبٍ تعتنقُ مذاهبَ الجهات كلها، دافعاً بالمجرّات كأسرى ترسف في أغلالها الأمينة، أيها الموت. والنواعير كلُّها لك. النعيم المُرْبِكُ لك. بروقُ الصباح المُشْبَعةُ برائحة الشاي لك. ولكَ الزَّهر المُمْتَحَنُ، والقوافل العابرة من كردستان الى المديح. لك خزائن الملح، والأهراءات المنتصبة على تخوم القيامة. لك الحجر الذي يفطمه الجبلُ، وجزيةُ النقائض. لك ممحاةُ الزّنبق تمحو الرائحةَ في سطور السَّرَّاقين، والمساءُ المتبرِّج بأصباغ الريح. لك قلق الفجر وهو يروي الحكايةَ بضيائه المُتلعْثِم؛ قلقُ الحكاية وهي تروي الفجرَ ذا الجبين المعصوب من نوبة الحمّى. وتقول، بعد هذا، لنَفْسِك ما تُسِرُّهُ الى نَفْسِك، وللحياة ما يُشْغِلها بجواميسها القوية، وعذابها القويِّ كثِقَةٍ. على رَسْلك، أيها الموت: من شاهقٍ تُذَرْذِرُ الثلوجُ نيرانَها على المرايا، ويجازفُ النهارُ بالليل الذي يزوِّرُ الأختامَ. من "تصانيف النهب" 1992 *** يا لَشغفي يا لَشغفي بالليلِ العدَّاءِ، الصلصاليَّ، ذي النقوشِ، الشَّرِهِ في مأدبةِ الأشكال؛ الليلِ العادل، المقلِّدِ أسلافَهُ الرُّواةَ، المُعْدي، يكمِّمُ الدَّهرَ رهيناً كالمغاليق؛ الليل الذي بحوافرَ من سكونٍ يَنْجُرُ الأثرُ الأقوى على كماتِ الرمال؛ الليلِ الحلاَّج، كاتم النشيد الناقص، الليلِ، ذاكِ، مرئياً على صِقَالةِ الخُدعة، أميناً كالشُّبهات، يبوِّبُ الظلالَ تبويب الورَّاقيْنَ؛ الليلِ كما هو، على هناتِهِ، طريحاً فوق فراش الحبرِ، مُلْهَماً أن يتبدَّلَ في الممرِّ الأمين، حيث الأفلاكُ تتحرَّى كمائنَ اللهِ، وتتبرَّج المغاليقُ في مرآةِ الكُلِّيِّ. من "اللوح / إغماءات الكليِّ" 1996 *** الأرض ها هي الأرضُ الكلبةُ تنفضُ عن فروها بلَلَ الأنقاضِ؛ الأرض الكلبةُ، المتقوِّسةُ في كَسَلها المرمريِّ. لا نجاةَ. الأرضُ الكلبةُ ذاتُ النباح المُعْشب؛ المتدليةُ الأعراق كلسانٍ؛ ذاتُها هيَ. لا نجاةَ. تُسْتقصى في الدَّويِّ الأشدِّ، مطحونةً شعيراً وفولاً. الأرضُ الكَمَأةُ؛ العناقُ المزبدُ، مشدودةً كَكَمَرَةِ الفَحْلِ، كباسليقَ، كَقناءٍ موتورٍ في قوس الكهولةِ الحالمةِ. ذاتُها هيَ، الأرضُ الشَّهْقَةُ في ارتطام الأُنثَيَيْنِ بالمِذْرَيَيْنِ، المتواثبةُ دَكَاً دَكّاً فوقَ صدوع الأبدية؛ مبراةُ الوخْزَةِ الثانيةِ؛ الفضولُ المفضوحُ من حوافهِ. الأرضُ العِظَةُ، الصريرُ الخافتُ للمزلاجِ الدَّمويَّ. هيَ ذاتُها؛ أعيدوها الى الخالدِ الدَّمويِّ. من " لدائن" 1996 |