مختارات

سيحملون معهم، هذه المرة، دجاجاتهم، وخرافهم، ووشمهم الكردي إلى أوروبا. والأعراقُ المرفَّهة سيُحمِّل أحدُها الآخرَ تبعة السيل البشري في شتاء العالم . ثم ماذا؟ مجرد شتات ذي أرومة شرقية، نزح به طغيان الجيوش وطغيان الفاقة إلى المشهد، الذي ينبغي إبقاؤه نظيفاً.
لا أحد ينجو من التدليل عليه شريكاً في الغدر، من قُمْ إلى البيت الأبيض. وعدوا الكرديِّ بإخوة في الدين وأهانوه في لغته. وعدوه بنصر أمام القانون بعد الإطاحة بالطغيان ثم أبقوه في حصار المجهول. وعدوه بعدالة تعيده شريكاً في مصيره الضائع وأغدقوا الأسلحة على مطارديه.
لم تكن ـ ولن تكون ـ الإطاحة بنظام العراق في خيال المنتصرين للكويت. هم أتوا ليعيدوا العراقَ إلى الكهف ويبقوا على المدخل، مرفَّهين باستنزاف قارة النفط خِراجاً بعد آخر ينفقونه على صيانة البارجة وصيانةَ جسد الجندي الغربي. كوفئ الكردي، الذي هلَّل لخلاص مزعوم، كما كوفئ العراقي الآخر: أُعيدَ ـ هو ـ إلى متاهة التناحر في الفراغ، وأعيد شريكه إلى صدَّام. عُزِّز أملهما بحصار محبوكٍ من الجوع، وأُسدِلت الستارةُ الشفيفة على المكان الممزَّق.
ساحة الكردي كيقينه: للأرض تسع جهات، ستصل من إحداها إغاثة الكيان. وقد وصلت، حقاً، إغاثةُ القتل. إيران الطائفية لن تؤاخي في الله حركة قوم من الجوار لهم من عِرْق روحهم نسلٌ في إيران. ستهديهم ـ كعادتها في إبرام الهداية ـ زُمَراً من لحى المُفْتِيْنَ بمعصية كلِّ مختلفٍ. وهي لن تحب في الزمر، تلك، الإسلامَ إلاَّ بقدر ما يحيل إسلامَها إلى تمزيق للمطعونين أباً عن جد. وسترفد الخرابَ بسلاح كثير، ومستطلعين من قَيَّافِيْ الموت.
ستدخل تركيا المشهد من باب "احتواء" الفراغ، الذي مهَّده لها، كسرير الزوجية، غربٌ يحمل ميزان العطَّارين، وستعصف بالمكان حملةً بعد أخرى، تتعقَّب بها متاهةً من ابتكار كيانها الغامض: قارورة غربية فيها زيت إسلامي، يحملها طاهٍ إلى مطبخه المغلق الستائر، المعتم الآنية. وهي، باستعراضها روحَ الكرديِّ كحقل للرماية، ستطالب الغرب بالمكافأة المقبولة عن دورها الشرطيِّ أمام جدار الشرق، ودورها الشرطي الآخذ بزمام الأمور المنفلتة من عقال الإهمال الغربي، وتخبُّط سياساته، في كردستان مفرَّغةٍ من بسطة القانون الواحد.
ستدرك تركيا أن الإحجامَ الغربيَّ المقصود، والمخطط له، والمتفق عليه، عن إلهام الكرد إدارةً قويمة بعد فراغ كردستان من صدام، هو مكافأة غير ظاهرة. وستعمد ـ بدلال ـ إلى تمويه المكافأة بصفة الإخفاق: تركةٌ من الفوضى تقوم تركيا باحتوائها. هذا ما ستقوله في عَلَنِ شأنها، وظِهارة أمورها.
المكافأة مموَّهة في حرص صارخ. فإضافةً إلى التعمُّد الغربي عدم رفْدِ "التجربة" الكردية بمقومات إقتصادية، وإدارية، ومشورة وتخطيط معقولين، يبقى السلاح الألماني من أركان ترسانة الشريك في الأطلسي، والتغاضي الأمريكي، بإطلاقٍ، عن حقوق الإنسان ومتفرِّعاتها الخرقاء البلهاء في كنف ابنتها المدلَّلة، والمضيِّ بها إلى تحالف متين الصناعة مع إسرائيل تدبيراً لزعم هويتها "المصدومة" من الشرق المظلم. وإذا تدبَّر الفكر براهين أوفى، سيرى في الرفض الأوروبي لدخول تركيا حلف اتحادها غذاءً نقياً يستقيم به جسد النظام برمَّته، ويصلح اعتلاله. فكلَّما دفعت بها إلى ركن ناءٍ، في السياق الدَّوريِّ لمناقشات العضوية، وجدت تركيا نَفْسها ناهضة بدعاوة المظلمة، فيتَّفق على تلك الدعاوة الجنرالُ والشارعُ المعمَّم، وسارت إلى الانتقام من شعب يريد سيرةً بلغته وهي في حلٍّ من متوجبات الهوية الأوروبية في شرعة القانون.
"الاحتواء"، هذه اللفظة المنذورة من كاهنة القصاص لسمت العالم، في حِلٍّ من اختصاصها حين يتعلق الأمر بهوية إنسان مهدورة. الظلم لا يُحتوى. يُنتقد الظلمُ انتقاد رفع العتب عن ضمير عاتب، لكنه لا يُحتوى. باستطاعة الاتحاد الأوروبي "اختطاف" تركيا من مأزقها القَدَريِّ باحتوائها في المنظومة، حيث سيتطبَّع الجسد بمصل الرقابة الصارمة من هيئاتها، وستتكيَّف شراينيه وأوردته مع متوجبات الشراكة المنصوص عليها في العقد المُلزِم. لكن حيلة إلقاء التبعة في "تأجيل" "الاختطاف" على كتفي التاريخ اليوناني غير المتصالح مع فكرة فقد القسطنطينية المفقودة، تبدو منهوكة الحبك والحوك. هلموت كول سيصرِّح بنصف الحقيقة في إعلان العائق: "تركيا مسلمة". وسيبذل مستشار المفوضية الأوروبية فان در بروك جهداً أخلاقياً في تصحيح سياق المعنى: "في أوروبا أحد عشر مليون مسلم". النصف الآخر من الحقيقة منقسم على نفسه في الانحياز إلى كول أم إلى فان بروك. وفي العماء المتهتِّك هذا تبزغ شمس الكرديِّ محمولة، كحصاد القش، على رؤوس بنات اليأس وأمهاتهن، اللواتي تلدن النَّهبَ الخصبَ في صراع البقاء للأصلح، على الأرض المنكوبة بفراغ طاحن.
يتساوى في هذا الشلل الأخلاقي أن لا أحد على حقٍّ، أو يتدبَّر صناعة شيء من الحق. لكن نصف الملامة سينصبُّ على أحزاب كردستان المتناحرة. ذلك حقٌّ، إنما هو حقٌّ خائر، منهوك. فما الذي كان منتظراً من الكردي المُعفى من شراكة الحضور؟ وبأي جسارة يُراد من مُنْتَهَب مثله أن يكون المَثَل الأنقى في ترتيب العافية لهواء كردستان الممزَّق؟ "التجربة الكردية" نبتت نبتاً ضعيفاً في أرض صخر لا يُحصد. لم تقيَّض للكرديِّ الإقامة في فسحة من الطمأنينة الضرورية لاختبار مَلَكة التحصين نُظُماً وعلاقات. خيالٌ متوهِّم "أنجزَ"، في البزوغ السريع للأمل بانهيار صدَّام، مَعَاقلَ بلا أبواب في الركون إلى الوعد الغربي بالحماية، التي ستتخلخل فيما بعد، ويرجع حرس الجمهورية الدموية إلى "الأرض الحرَّة".
"حماية" في مقام اللفظ. حماية "متصالحة" مع جدوى بقاء السلطان المُهدِّد. حماية بلا تأهيل المحميِّ بفرصة تحصين ذاتية عبر توفير مقوِّمات العيش، بإدارة دعائم الصناعة الصغيرة، وإعفاء "المحميَّة" من الحصار، الذي ستكون أرباح المنتفعين من الثغور الجمركية فيه شرارةً لإعادة المتوهِّم إلى صوابه. كما أن "المحمية" ذاتها، بالخلل المتأصل في الحماية ومعناها المعلَّقين على حبال الغسيل العسكري في انجرليك، ظلت ذات ثغور أكثر يفد منها رُسُل الجيران بوعود ما بعد "الوضع الطارئ". إيران، ونظام بغداد، وتركيا "انصهرت" معاً في اشتغالها الدؤوب على تقويض أيِّ ظاهرٍ كياني قد ينعم بسياق يميز كردستان بـ "رفاهية" الحقِّ الإنساني في وجودٍ عادلٍ عن المحيط المستبدِّ، بقسوة تنطلق ذراعها إلى ما وراء بحار العالم للبطش بـ "المارقين" العصاة.
الأسباب ناضجة كعنب تشرين الثاني كي تتقوَّض نوازع بناء كيان، لتنوب عنها نوازع "حفظ النوع": تركيا خارج الرقابة بتدبير أوروبي، شاءت أم أبت. إيران في محلِّها من الإعراب الإقليمي بمصالحها، والحرس الجمهوري عائد إلى "المحمية" غداً. فماذا ينبغي أن يصنع الكردي بحقيقة تحيط برأسه كقناع الكسندر دوماس الحديدي، في عراء له لفْحُ المُهْل؟. كل فرع، أو فخذ، أو ضلع، يلقي بنفسه إلى حماية وليٍّ كاذب مذ صار وجوده مُلْهِماً لقرائح الفُتيا العربية، والعجمية، والتركية، باستيلادِ مغانمَ لعقل الشرع. هاربٌ من هنا، وهارب من هناك. هاربٌ من بغداد إلى طهران، وهارب من طهران إلى بغداد، وهارب من هناك إلى دمشق. مثلث يحيله مجنَّداً في ابتزاز نظام لآخر. وليس لحاله، إذا تمرَّد، إلاّ استقلالَ قارب بلا شراع إلى محيط المياه.

أقرأ أيضاً: