ربما ذكُّرني الوردُ بنفسي،
ربما ذكَّرَ بي الوردُ رمالاً حُزِمَتْ كالنَّفسِ
قبل أن يُطلِقها البحرُ متاريسَ، ويأتي بسدودِ.
ربما ذكّرني البحرُ بإطراقتِه
حين أطرقتُ، وأفضى بي إلى ماءٍ طريدٍ:
كلُّ منفى صحوةٌ، فاكتملي
يا جهاتي بكمالٍ نزقٍ،
واكتملْ يا رعبُ؛ هل باركتَ أنقاضي برعبٍ ثَمِلِ؟
ربَّما. لا. يا حديداً
مُترْفاً كاللَّهوِ، لاهٍ بالحديدِ
باركِ الفلْزَ الذي يصحو على فِلْزِ الصَّلدُ لتاريخي إليهِ
وتداني ظلِّيَ اللاَّهي لكي يُلقي عليهِ
حفنةَ الريحِ التي ألْهمتِ الحيًّ بلاغاتٍ. كأنْ منْ ثمري هذا: رنينٌ صاعدٌ
في الجذرِ، أقدارٌ، وحمى حجرٍ. لا بأس، ماذا يا حديدُ؟
مَرَحٌ ينسجُ ميعادي، ويفلي، ويُعيدُ
فكأني هربٌ. قُمْ يا ظلامُ. اجتهدي يا شجراتُ
واقرأي يا ضربةَ السهل سفوحي:
طائرٌ هَذّبَ ينبوعي، وآوتني مهاة
فغذي يصحو وقد طوَّقهُ شرقانِ: هذرٌ، ووعيدُ.

آهِ كَم كان يعيدُ البرقُ ما أنسى، وينسى فأُعيدُ.

يا حديداً مُشرِْفاً مثلي على الحيِّ تُراكَ انبجستْ أيامُكَ الدِّفلى فغطَّيتَ مدى
الحيَّ، وألهمْتَ مديحي
أن يكونَ الساهرَ الممسكَ بالأنقاضِ؟ أن يُمْهِلَ ما لا تُمْهلُ الأرضُ؟ كريحِ
سَيُقادُ الماءُ في نهبٍ، ويعلو غامضٌ في كل عيد.
يا حديداً كالحديدِ
يا مدى بَوْحِ يسمِّى كلَّ بوح
فلتكنْ في غَمرِك الحلو صنوجٌ، ولأكنْ باباً إلى الصَّلْدِ الذي يُعطيكَ مجدَ
المعدنِ الحيِّ: سأرْفَضُّ كَلَمْعٍ، وسيأتي الأزلُ
هازلاً بعدي، وبعدي
ككتابٍ سوف يُسْتَقْرَا الغدُ المرتجل

يا حديداً كأنيني.
يا حديداً يقرعُ الحاضرُ شبَّاكَ النَّبِيينَ به.
ياحديداً بَعْدُ لم يُمْتَهَن
لَمدَيحٌ ليس يستنفدُ ما يجعلكَ الآن إلهيّا. جبيني لك، أو عذريَّةُ الماء الحصين.
يا حديداً... إيهِ، كم جذرٍ سيستوقدُ من جذركَ أعنابَ رفاهٍ،
وكَمِ الصاخبُ قد يستلُّ من وهْجكَ أقمارَ السكونِ.
لُعَبي كونٌ، فإنْ مرَّت بي الريحُ اقْتصِدُ بي في هبوبي
فَلِمنْ أمحو ثُرياَّ لهبي الهاذي، ومِلْكي، وشعوبي؟
ليْ يقينُ المُهلةِ الأكثر فضْلاً،
وليَ الأبقى مِنَ الفجر الأمين.
وحديدي أنتَ. هل يكْبُر بي إلاَّ حديدٌ؟

غير أني ممعنٌ في شأن يُغويه: شظايا حملتْ حلمي إلى تلك الشظايا، وتفجَّرتُ فأغلقتُ كتاباً كانَ. ما مثلي سوى الضربة إنْ رنَّتْ ترامي ضيِّقٌ، إنْ رَنَّ قبري في القبور اتَّسعتْ. صنجٌ هوايَ. ابتعدي ياريحُ.
أنقاضٌ تحثُّ البحر أنْ يجثو، ومهْدٌ يركضُ
بوليدِ الماءِ، فالأيامُ نَسْلٌ عَرَضُ.

ولأني... أين من آنٍ أحاذي جمهراتِ الرعبِ كي يشتغِلَ الرعبُ بأقداري.
أرعبُ بعدُ؟ أمهلتُ الشظايا
ساعةً، قلتُ: استعيذي
جسدي عُرساً، فيضي بالهدايا.
ولأنيِّ ... ليت يا الآنُ أغنيك كحبرٍ غمَّستْ أقلامها الأسماءُ فيه.
ليتَ... ما هذا بيته
بلْ نبوءاتٌ تقلَّبْنَ على مخدَعيَ المائيِّ فاستشرفتُ في الموت هوايا
وتزيّنْتُ بأسراري التي تغسلني
كشهيدٍ، وحملتُ الجسدا
غافلاً عما تهاوى منهُ، مشَّاءً به، مُتَّئِدا.
ولئِنْ أسرفتِ الأجرامُ في نهبيَ، فالأشياءُ تعدو
بي، وترفو الريحُ ذاك البدداٍ

يا حديدي، أنتَ، يا الهذا بثدييكَ على أفواهنا
سنروِّيكَ، التقطْ أثداءنا:
كلُّ موتٍ سلةٌ مثقوبةٌ،
كلُّ غيبٍ درجٌ ينزلهُ الغيبُ إذا ما ابْتعدا
فكأنْ دورةُ هذي الروحِ لا تعرفُ إلاَّ موجَنا
وكأني - يا الهباءُ الثَّمِلُ،
يا ثمالاتي التي تُهرقني
مثلَ حِبْرٍ غمَّسَتْ أقلامها الأسماءُ فيه،
وارتداهُ الأزلُ-
موشكُ أن أبعثَ الأنقاضَ في هيئة ما ليس بأنقاضٍ، واسترسلَ في نجوايَ: طينٌ مدني. طينٌ أساطيري. بحرٌ قال ما لمْ يقُلِ الشعبُ. "ألا تعترفين الآن؟ ماتت-يا فتاتي - أمَّهاتُ النبعِ، ماتَ التَّيْتّلُ الأخضرُ. شمديْنُ تهاوى مرةً أخرى على باب الحكاياتِ. عروشٌ وملوكٌ بقيتْ. تعترفينَ؟ اعترفي مثلي بتاريخٍ غشتني سوْرةٌ منهُ فلم ألمحْ سوايْ.

كان تاريخاً هنا،
واقفاً كالكلب قدَّامَ السرايْ
كان تاريخاً، وقدْ زيَنتُهُ -
أو توهَّمتُ - بشعبٍ، فإذا البحرُ سلاحي ويدايْ
وإذا المنفى الذي يُشهرني يُشْهرني
مِزَقَاً في رمحه العالي. فتاتي اعترفي". لا. موشكٌ أنْ أُغْرِقَ البحرَ بمدحٍ.
موشكٌ أن يفتفي الماءُ رغيفي كعصافيرَ، وأبنائي يشدُّوْنَ الصَّواري
بقلوعٍ، أو يرجُّونَ المجاذيفَ التي ضمَخها
عَبقٌ من غديَ الفاتحِ. عودي كحصارِ
يا غواياتٍ رميتُ القلبَ في خوذاتِها،
وتغاويْتُ. ألا يجمعني
غيرُ منفايَ؟ ككلبٍ يقفُ التاريخُ إذ يُشْهرني المنفى الذي يُشهرني
وأنا العَنْدمُ، بل ريحانُ ما ينبضُ في هذا الغبار
فالمواعيدُ مواعيدي، وما من خبرٍ إلاَّ تناهى خيطُهُ من كفني.

... والحديدُ العذبُ ينسابُ. أَعُمْرُ ياحديد؟
هزَّني السرَّوُ قليلاً، هزَّني الشُّوحُ، وأَلْوى
حلميَ الصفافُ فانداحُ النشيدُ:
كمْ رعتني القنبلةْ
كيتيم؛
كمْ بكتْ حولي العماراتُ بكاءَ السنبلهْ
واستظلَّتْ بي متاريسٌ، وآواني البعيدُ.
أأبٌ، إبنٌ أنا
للمسافاتِ؟ أمِ الحاضرُ غمدُ الزَّلْزَلْة؟

صعترٌ بابي. رأيتُ الماءَ في هيئةِ سيفِ
كُلَّما أهوتْ به كفُّ عليّْ
عُدْتُ، في النشأَة، ميراثاً من الزّهْر الحييُّ.
غير أني حين أهوي بسيوف الماء تنهارُ بلادي:
ضربةٌ تُحيي بلادي،
ضربةٌ أُخرى تُمْيتُ.

يا بلادَ الرعب كم كنتُ وحيداً.
يا بلاد الرعب كمْ أسرفتِ في قتلي فأمسى قلبُكِ الأبكمُ كالجرح وحيداً.
أأبٌ، إبنٌ أنا
للمسافاتِ، فلا أعرفُ إلاَّ خشبَ المنفى حديدا؟.

فليكُنْ. أغلقتُ تاريخي كما يُغْلِقُ حوذيٌّ على الإسطبل، واسترسلتُ في نجوايَ: بيتي كانَ في الحيِّ كبيتٍ، يردُ المُتعبُ ظلاً في كراسيهِ، ويُلقي رأسه للشرفةِ البكماءِ كي تمزجَ بالأهداب غيماً، وعماراتٍ يلوح الأفقُ في أهدابها نهْباَ لفأس المعدن العاري. وبيتي كان بيتاً في حصار الروح، آواني من العُزلة، آوى الليلَ من فجر جحيميٍّ. وكانتْ قبَّراتُ الطين ترميه بأعشاشٍ من الدمع، ويصطادُ الفراغُ العابثُ الأشياءَ من اسمنتِهِ.
وأنا في سَمْته
آيةٌ كالنَّردِ، أُلقي بي إلى الأعماق حيثُ العُمْقُ صوتي.
كان بيتي رحلةً كالظمأ الحلوِ وكانْ...
أين بيتي؟
كسرَ الكأس على هذا المكانْ
واغْتَلى حتى تشظَّى
فالندامى حجرٌ من حولِه، الآن، أساساتٌ تهتَّكْنَ فعرَّيْنَ البيانْ.

سوفَ أستوفيكَ يا بيتُ من الأقدارِ كالفاتحِ يستوفي الجباياتِ. سأستوفيكَ باباً أزرقاً، سقفاً من القصديرِ، أدراجاً جُماناً:
] ستكونُ المكتبهْ
قربَ هذا البهو، والمدفأةُ
في جدارٍ ربما يعلوهُ رَسْمٌ قَدَريٌّ،
أو تصاويرُ حديدٍ. وهنا الزاويةُ
سوف تزَّيَّنُ بالنَّبتِ. وقربَ العتبةْ
بعضُ سجادٍ، وفوق النافذهْ
تتدلىَّ سُترٌ ملتهبةْ...[.

سوف أستوفيكَ يا بيتُ. أما منْ حجرٍ
يهتدي بي، ويهديني إلى تأويليهِ الصاخب للبحرِ. أما مِنْ حجرِ؟
حمل البحرُ مرايايَ إلى أقدارهِ،
ورمى بالسَّفرِ
مثل عنقودٍ الى دالية الرملِ. أرَمْلٌ سوف يهديني إلى تأويله الصامتِ للبحر؟
اشتعلْ ياربُّ، هذي "خلدةُ" الدِّرع. نبيُّونَ يجسُّنَ خراف الموج في "خلدةَ"، أنقاضٌ تعيدٌ السِّيرةَ الكبرى لِخَلْقٍ ذاهلٍ. بْوحٌ نحاسيُّ. مرايا.
حملَ البحرُ مرايايَ إلى أقدارهِ،
فجثا كالطفلِ يستلُّ من الرمل رُؤايا:
]خُفَّ. ذا تيسٌ حديديٌّ. تعمَّدْ ببريقِ القاذِفِ
واعبرِ الشاطئَ كالبهو إلى ضوءٍ بلاطٍ،
حيثُ يقتادُ الملوكُ الأَرضَ تحت السَّعفِ[.

مثلَ عنقودٍ رمي البحرُ بأيامي، فألقيتُ إلى البحرِ بجمْعٍ مترفِ:
أُبهَّيُّونَ، حِرابٌ ثَمَّ، أشكالٌ كما نُخبٍ سماويٍّ تهامَسْنَ بهِ
أمهاتٌ لم يُردْنَ البحرَ إلاّ خاتماً
وتوشَّحْنَ وشاحَ الوقتِ، فاسْتَدْنَينْ وقتاً عَدَما
فإذا ساءَلْتَ: هل من جهةٍ؟
قُلنَ: آتتنا جهاتُ الروحِ خبزاً عَنْدما.

يا فراغاً غنمتهُ الروحُ كُنْ
هندسيَّاً يا فراغُ.
خرجتْ أنقاضُنا من سرِّها،
وتجلى الأبدُ الثرثارُ قِرُطاً هزَّهُ في الغيمْ زاغُ.
يا فراغاً جفلتْ منه عذاراهُ، استَبقْنا يا فراغُ:
إنَّهُ طاووسنا الرمليُّ في "خلدةَ". أرضُ الأرضِ. ميثاقُ مياه. ثَبَجٌ كالجوهرِ
الغاضب. غمْرٌ مَرحُ
فتشَّبثْ يا مدى الله بأكفان وميضٍ:
كلُّ ذعرٍ يرتدي الآن دروع الفجر، والبحرُ الذي يلهثُ بَحر شبحُ.

]كان في "خلدةَ" متراسٌ من الأفق،
وفي الأفق سرايا من مداراتٍ توزَّعْنَ القُبَلْ:
شفةٌ تنقضُّ كالليل على حَلْمةِ هذا البرِق،
أيدٍ تخطفُ الصخرَ كأقراصِ عسلْ.

كان في "خلدةَ" ما كان: امنحيني سُتْرتي،
وحذائي،
وسلاحَ التوأم الأكبر،
هاتي بالجسارات كرُمانٍ ودُلي -
كي تَمسّ الذَكر البحريَّ في المكْمَنِ - عذراءَ الأزلْ[.

يا فراغاً...
منجنيقاتٌ تدكُّ الفجر بالنرجسِ، والحلمُ حديديٌّ: هنا رأس كبيروتَ على
صحنٍ ترابيٍّ، مدارٌ، وسلالٌ أحملُ الشرقَ على ظهري بها:
]هل تلصَّصْتَ عليّْ
يا إلهي، من كُوى الطين، وأرخيتَ الغبارَ المرمريّْ
فوق ثدييَّ الذُّكوريَّينْ؟[. أطفال هنا،
أجمعُ الأشلاء حتى أتخطاَّها إليّ
فأرى جسميَ ينبوعاً، يكادُ البحرُ أن يلمس من ذُعرٍ بقايا شفتيّ.

خبئيني يَتُها الأقمارُ في سُنْدسِ هذا الغضبِ المُوصَدِ. خبِّىءْ أيها الرملُ لهاثي في متاهاتكَ، فالموجُ مضئٌ، وعلى "خلدةَ" أهدابٌ كأهدابي إذا ما انغلقَتْ
رفعٍ الماءُ خياماً لجيوشي فوق ثدييه: ]إلهي
غُض طرفاً عن أحابيلي، فإنيِّ كالمتاهِ
أغسلُ الفجر كما الخوذة حتى أتغاوى
قربَ هذا الموت[... آهٍ يا محاريثَ غمامٍ ورفاهِ
شفِّفي الأبعدَ، فالأبعدُ أعضائي التي أسْلَمْتُها
للأساطيرِ، وفي "خلدةَ" تيْهٌ وثَمَلْ
ومرايا يتخطَّى البحرُ آمادَهُ فيها
موشِكاً ان يُمْسكَ الشَّكلَ، ويصطاد الجبلْ[.

خبئيني يَتُها الرَّوعةُ في رملٍ، حديدٌ نَفَسي
ولنبضي زَبَدُ
ساحَ في قلبٍ من الآجُرِّ مَكْبُوبٌ عليه الزَّردُ
فإذا كاشفتُ حرباً بمغاليقي استجارتْ
بحروبٍ، وانبري كلُّ شرُقٍ يَردُ.

هكذا عينايَ، واحْلولى غدي.

عجِّلي وابْتَرِدي
شُهُبَ الماءِ بذوبٍ من حديدٍ عسلٍ،
وخرابٍ عَسَلٍ؛
عجلي وابتردي.
لحصاري سرُّهُ،
ولنهبي من جساراتٍ تطاوَلْنَ كسرٍ و سرُّهُ،
ولأبعادي حفيفُ الأبدِ.
فليكنْ ما كانَ. شقَّتْ عن مراياها الثواني ظلَّ هذا العدم الضاحك، شقّتْ موجةٌ أثوابها، وانحسرتْ ظمآى. (على "خلدةَ" رفٌّ من قطا ضلَّ سهولَ الأرضِ. هلْ "خلدةُ" أرضٌ خسرتْ هذا الفضاء الرحْب كي تربحَ من شوقٍ قطاها كفضاءٍ؟).
لا تكن يا موتُ مثلي عاكفاً في قلمٍ يسْطُرُ، والحبرُ حديدٌ.
لا تكنْ يا موتُ مثلي عاكفاً في ذهبٍ ينثرهُ الموتى على النبع الجحيميِّ. هنا "خلدةُ". (رفُّ من ذباب الأزل ارْفصَّ عن الجرحِ السماويِّ). هنا "خلدةُ"
قُمْ يا غضبُ؛
قُمْ بكهَّانِكَ، أعلى من حنينٍ،
مالئاً كفَّيكَ بالعنبر والماسِ، ترابيَّا، تعضُّ الشُّهُبُ
نارَها الخرساء من حولك. قُمْ يا بحرُ، قُمْ
صَنماً بعد صَنَمْ
وشعوباً أيقظْتها زُرقهُ الَمْدحِ الذي نَمَّ به المُرْتَقَبُ.

... وحديد. رُبَّ سربٍ من غزالاتيَ نقَّرْنَ على الموجِ الحديديِّ بأظلافٍ
حديدٍ، فتفَاجَّ البحرُ: ذُعرٍ. أيْكَةٌ من زبدِ الخَلْقِ. رمادٌ خرزُ
كلُّ ذا في صرخةٍ واحدةٍ،
ونفيرٍ يتشظَّى البوقُ من إعْوالهِ.
كلُّ ذا رمانةٌ فتَّقها الغامضُ؛ لا، ذا كَرَزُ
نثرتهُ القبضةُ الأشهى على ثديٍ... حديدٌ، أينَ مِنْ أحْوالهِ
هذه الرعشةُ في كفيَّ؟. (وا "خلدةُ" شُدّي رَسَنَ الرملِ قليلاً يحْفُن الرملُ مناراتٍ تناثرْنَ، وأشكالاً كَسَتْ أقدارَها بالبحر). عينايَ على البحرِ،
وأعضائي مضيقُ:

]سقطتْ شُرفتُنا
من عَلِّيينْ، وطارتْ جارتي
كدخانٍ. حمل الشارعُ عكَّازيْه للملجأ فاجتاحَ الحريقُ
ملجأَ الشارع. طفلٌ مَرَ بالبابِ، ومن خلفِهِ مرَّتْ أُمُّهُ
فَكَسَتْ أشلاءَها أشلاؤهُ.

سقطت شُرفتُنا
من لغاتٍ لم نكن نعرفها
سقطَ العالمُ من شرفتنا
في لغاتٍ لم نكن نعرفها،
فاستعانَتْ جارتي
بثُقابٍ وهي تُؤوي موتَهُ في موتها[

إنها أسماؤهُ،
ذا حديدٌ، وهي ذي أسماؤهُ:
من رمالٍ تصْهرُ الأعماقُ كالوقتِ فَماً
فيلاقيها بأثداءٍ تجلَّتْ حولها أثداؤهُ

يا لأسْماءٍ. أعيني ضربتي يا أمُّ في "خلدةَ". بأسٌ مثل بأسي يصعدُ الأدراجَ من مَكُمنهِ البحريَّ. بأسٌ يعقدُ الشاطئَ كالسُّتْرِة من أزرارهِ البيضاء. في "خلدةَ" يأ أُمُّ أَعيْني حجري الأبيضَ كي يهوي ثقيلاً، وأعينيني لأمضي نحو ريحانة هذا الماء آنَ الرملُ يَشَّبَّثُ كالأنثى بُخفَّيَّ، ويغدو النَّفَسُ
ضيِّقاً من حَيرةِ الروحِ. غداً تنبجسُ
ملءَ نافوراتيَ الأشكالُ حتى
يغدوَ الرملُ ظلاماً بجناحينِ؛ فمن يلتمِسُ -
في رمالٍ لم تَكُنْ - سطوتَهُ؟. الآن أن أو البحرُ. لا شاطئ، لا برَّ، غُدافٌ يصلُ
الموجَ بموجٍ، وسنونو
يحملُ الأفقَ إلى أعشاشنا
فأعينيني على الضَّربةِ يا أمُّ بموتٍ لا يخونُ.

]مضتِ الطائرةُ الأولى، وعادتْ أُختْها
حين طارتْ شرفتي
فنزلتُ الدرجَ الأبكمَ محمولاً على الذُّعْرِ، فسدَّتْ جارتي
ببقاياها عليَّ الدرجَ الأبكمَ: هاكُمْ ثَديها
لِصْقَ باب المصعد، الفخذَ هناكْ
في زوايا لم تعدْ إلاَّ زوايا،
وعلى السقف بقايا
من حذاءٍ شدَّهُ كالصِّمُغِ لحمٌ. وإذا ...
ماهَمَّ إنْ كان "إذا" أو كانَ "ذاكْ":
مِزَقٌ من كَبدِ الحاضرِ تحبو،
وملاكٌ أحمرٌ يلهو بأحشاءِ ملاكْ[..

كم تشبَّثْتُ بأعضائي التي سالتْ كماءٍ،
فإذا تجرفُ أعضائي يديّْ
وإذا بالهاويْه -
حيث عمرٌ من فراشاتٍ - تقودُ الأُبَّهيّْ
صوبَ رعبٍ حاصرَ الحاضرَ بي.

أأنا الرعبُ؟ مديحاً هاتِ يا رعبُ، بغالاً ومحاريثَ، فإني دافعٌ "خلدةَ"
كالطاووس في غابةِ هذا الزبد الشمسيِّ. ما الغابةُ؟ أقواسُ قُزَحُ
تقرعُ البابَ، ولكني أسيرُ الخدر الآتي من البَأْس، وقلبي ذهبٌ، عُمريَ بوْحٌ
ذهبيّْ.
أعْتِقِ الحاضرَ بي..
أعْتِقِ الحاضرَ بي،
يا نشيدي، واعْبرِ الماءَ إلى هذا المَرَحْ.

كم تشبَّثْتُ بأعضائي التي سالتْ كماءٍ،
فإذا يجرفني الماءُ إلى "خلدةَ": وارملاهُ حُثَ الضربةَ الأَبْهى لتبقى الآن أبْهى،
واختمِ الرعبَ بختمٍ أشقرٍ، فالأفقُ سَيَّافٌ، وهذا الظلموتُ الحيُّ يعدو
كَسُلُوقيٍّ على الشاطئ. وارملاهُ أحْكِمْ رِمْيَةَ الراكضِ من نرجسِه الأرضِ
إلى حُلْم المياهْ.

]مَضَتِ البارجةُ الأولى، وعادتْ أختُها
فتلقَّاها العُراهْ
بحديدٍ لينِّ كالروحِ[ هل كان الإلهْ
أزرقاً يا ماءُ يحضرُ هذا الهَرْجَ محمولاً على ثيرانه الزرقاء؟ كمْ هرطقةٍ توَّجَتِ
البحرَ فأجفلنَ مرايايَ يرابيْعُ استطارتْ من ضبابِ البحرِ. عهدي... أيُّ
عهدٍ لكَ يا ماءُ؟ مديحي أشقرٌ كالصَّاعقِ. الشَّاطئُ جَرْسُ الهمسةِ الأولى لحربٍ هرولتْ ثيرانُها بالرملِ، بالأرضِ التي تُشهِرُ من رملٍ سيوفَ التَّرفِ.
أيُّ عهدٍ، وأنا ابنُ الخَزَفِ
أتقرّى الروحَ ف تأويلها
فأراني كالجهالاتِ مُضاءً بغدٍ مُرتجفِ؟
وأراني... من يرى الحاضر مُرْخىً فوقَ ثدييهِ كَشَعْرٍ ثُمَّ لا يستلُّ مِشْطَ
الأُفْق؟ بطُّ زبدٌ حوليَ؛ ديكٌ وإوزّاتٌ من الماء، دجاجٌ حجريُّ الريشِ، سُورٌ
وسياجاتٌ: أنا مزرعةُ الله، سترعى عشبي الأرحام كالماعزِ، غيمٌ وخنانيصُ
دمٍ زرقاءُ ترعى جسدي الأزرقَ. واليومَ الرُّعَاةُ
سوف يقتادون ماضيَّ ككبشٍ
بأتان الحاضرِ المُجْفَلِ. لُمِّي يا حياةُ
زردي المنثورَ، لُمِّي خُوَذَ الموجِ التي بعْثَرْتُها
بجناحيَّ، فريشي ورقٌ يغسلُه ماءٌ أجَاجٌ ثُمَّ يَسْتَدْرِكُهُ الماءُ الفراتُ
وأنا.. أين أنا؟
أغمضَ المنفى جفوني فتفتَّحُتُ متاهاً ليسَ يُحكى:
كلُّ منفى يُسْلِسُ الغيبَ الذي يقتادُهُ
نحوَ حبري، وإذا الحِبر تشكَّى
رَسَتِ الريحُ ببطشٍ، أضحكَ الماءَ وأبْكى.

]في حزامي قنبلهْ
تتدلَّى،
وعلى سطح العماراتِ سماءٌ تتدلىَّ
مثل إحليلٍ من الضوءِ، فيا هذا المدى
لا تلُمني إن توسّطْتُ عذاريَ بوَمضٍ وشظايا
ضمَّخَتْها عذْرَةٌ كالآي تُتْلىَ.

في حزامي قنبلهْ
جعلتْ زمْزَمَة القُبْلَةِ أعلى[.

واحديداهُ...

]تهاوى جاريَ الأعرجُ قربَ الدَّرجِ
فتراكضتُ إلى أطفالهِ
عَلَّني أوصدُ بابَ البيتِ كي لا يلمحوهُ
غير أني لم أجدْ ذلك البابِ سوى أقفالِهِ
وسكونٍ يتمرأى في حُطامٍ لَزِجِ[.

من أنا أمسكتُ أنقاضي كفانوسٍ، فدارتْ حوليَ الأيامُ في أسمالها تقرأ ما
يسقطُ من خوخٍ وتينٍ. حاضرٌ بي حاضرُ الفِلْزِ. حديدٌ يتعرَّى. من أنا؟
فانوسيَ الرملُ أضاءتْهُ مياهٌ. وامياهُ انحسري عن خصيتيّْ
هذهِ الأرض فروجٌ
وأنا السَّهمُ النَّبيّْ.
ليَ منفاي، فمنْ أين بلادي سوفَ تستحضرُ منفاها؟. عويلٌ يضربُ الشرقَ
بغضنٍ مرمريُّ.
والمسافاتُ التي أغلقْتُها
بغباري، تفتحُ الماء عليّْ
فإذا بي هجرةٌ يودِعُها البرقُ بيوتاً وعذاري
وإذا بي... واحديداهُ ارفعِ العاصمةَ، الآن، إليكْ
بخطاطيفٍ من الشعْرِ، وبعْثَر هذه الأقدارَ كالقمحِ عليكْ.

واحديداً من دُعاباتٍ وهمسٍ،
واحديداً يُؤكَلُ، الآنَ، على مائدةِ البحرِ، حديداً غافلاً عن شهوةِ الغيبِ؛
حديداً كابتهالِ الشجري الأعمى الى الكاهنةِ العمياء في خُضرتهِ؛
واحديداً ثرثرَ التاريخُ في حضرِتِهِ
بكلامٍ صَدِئٍ،
رافعاً نجوى من الملح ومن قهقهةِ الرملِ إليهِ؛
واحديداً ضمَّ في شهوتهِ
جُندبَ الفجرِ، اختطِفْنا بيدٍ زرقاء، كُنْ عيدَ نباتٍ، وادفعِ الحاضرَ كاليقطينِ
يَدَّحْرَجِْ حَثِْيثاً من غدٍ لاهٍ إلى لاهٍ سواهْ.

]كنتُ في ذاكَ المتاهْ
كابن آوى.
كنتُ ما تقتلهُ اليابسهُ الجذْلىَ، وتُحييْهِ المياهْ
لم يكنْ لي غيرُ منفايَ صدىً يُرْجِعني
صوبَ أعضائي، وكانتْ تتهاوى
شرُفاتٍ شرُفاتٍ،
وزُقاقاً فَزقاقاً، حجراً بعدَ حجرْ.

إيه، مثلي كَمْ تغاوى
مَطْلِعاً في غضبٍ،
أو عُصاراتٍ بها يهذي الثَّمرْ[.

وغواياتي غواياتُ مديحٍ.

مَرَّ بي الشاطئُ، مرَّتْ موجتانِ،
مَرَّ بي البحرُ، ومرَّ الأفُقُ الصَّلدُ على بغلٍ جُمانِ.
مَرَّ بي قَدٌّ فراغٌ، والورائيُّ الفراغُ،
مرَّتِ الأرواحُ، والآلهةُ، الأعمقُ من أعماقنا.
مَرَّتِ النَّفْسُ التي تُوْهِمنا
أنَّ للرعبِ فُروجاً كالمكان.
مَرَّ درعٌ فتهيَّأتُ وحيداً كحضورٍ يُغْلِقُ الأعماقَ، والفَرْجَ السديميِّ على صوتٍ مَنيٍّ،
وتهيأتُ أباريقَ من الآجُرّ دارَ لخزفيُّ البرقُ في البهوِ بها
فالسُّكارى مُدُنٌ أسى تفرٌّ.
وأنا أٌرْجِعُ ما فَرَّ إلى خَنْدقهِ:
خندقِ الرعبِ، وأمحو فيجاريني الَمَرُّ.

ليس بعدي من يَكيلُ البَعْدَ في ميزانهِ.

كنتُ هذا،
كنتُ حقلاً، وشذى زهر نحاسيٍّ، نحاساً، وحساسينَ من الزئبقِ. كنت البرهةَ الكبرى لِظلٍّ، وغُدافاً يخرقُ العُذرةَ. كنتُ...
كيف مزقتُ المواثيقَ، وجئتُ
بمواثيقَ من الصَّعْتَر؟ يا "خلدةَ"، يا أحشاءَ أحشاءٍ، ويا بوقَ غدي
أمهلي عاصمتي، واقتطفيني
كَبداً عن كَبِدِ.
واجمعيني، بعدذا، كي تجمعي الَّلأْلأَةَ الزرقاءَ للحاضرِ، كي تكتملَ الدورةُ
في هذا الحديد الحيِّ. يالَلحيِّ، أهرقتُ هباتي تحت ثدييه المسائْيينِ، أهرقتُ
المساءا.
فوق ثدييهِ؛ الْتمستُ العَبَقَ الضوئيَّ من غيبٍ لكي يمنحهُ
عَبَقَ الهَرْجِ المُضاءا:
]أيها الهَرجُ الذي يخلقُ من لحمٍ سحاباً،
وشموساً من لهاثِ الذَّكَرِ؛
أيها الهَرْجُ الذي يجري على أفلاكهِ
من مكانٍ لمكانٍ حَجَرِ
لا تلامسْ شهوتي بينَ شِبَاكِ الشَّهواتِ.
قلتُ للحاضرِ أغْلِقْني على "خلدةَ" فاستوقفني قربَ النَّباتِ
فجذوري في عَلاءٍ عَبِقٍ
ولأوراقي ائتلافُ الجُرُزِ[

كنتُ هذا،
كنتُ ما يجمع من ماءٍ نسيج السَّهرِ
ويسوِّي الرَّملَ في قيديَ ماءا.

كنتُ... يا لَلْحيِّ، أوثقتُ إلى أعضائِه
قهقهاتِ الأزلِ. استدْنيتُهُ حتى يراني في غِوى أشيائِهِ
وتهتَّكْتُ، فجاءا
لاعقاً تاريخَهُ الأغبر كالخصية؛ كوَّرْتُ على خصيتِهِ
نارَهُ الخنثى، وأجريْتُ الخياناتِ مَذِيَّاً في مطاويهِ، فأرغى خُيَلاءا.
... لا تسلِّمْهُ، إلهي، لسوايْ
وأنا أُرْجِعُهُ لهواً غبياً، وهباءاً.

قلتَ: "لا تغضبْ"، إلهي.
قلتَ: "هذا خَلْقيَ الأصْفى"، فقعَّرْتُ مدايْ
تحت ما يسقطُ من زيتونهِ
غير أني حين حاصرتُ حصاري،
وتتبَّعتُ إلى "خلدةَ" أجراسَ هوايْ
رَجعَ الحيُّ إلى ملهاتِهِ،
والمكانُ الصلدُ أفضى بي إلى ملهاتِهِ،
فإذا البحرُ سلاحي ويدايْ.

]أطْلِقِ القاذفَ، أطْلِقْهُ، وفجِّرْ هذه الأمَّةَ في مضجعها؛
فَجِّر البابَ الذي أوصَدَتِ الأمَّةُ دوني.
أطْلقِ القاذفَ يا طفلُ على الماءِ الكَمِينِ.
أطْلِق الأرضَ كتيسٍ، وتجمّعْ في هبائي
غاضباً من أزلِ الله، ومن شعبٍ تسامى بالفكاهاتِ، ومنيِّ
فأنا آلفتُ ما كانَ أمامي وورائي
بخيوطٍ، وصدىً رَثَّ على النَّوْلِ المُسِنِّ.

أطْلِقِ القاذفَ، يا طفلُ، وعُدْ بي لِكَميني
حيثُ تستشرفني الريحُ، وتُلقي
دِرْهَمَ الحِيِّ إلى الريحِ وشحَّاذِ السكونِ[.

يا حديداً مُتْرفاً كاللَّهوِ، يلهو بحديدي
صَدِئَ الليلُ من الهَولِ، وما زلتَ شهيّاً كَنَشيدِ.

********