حاوره: كاظم جهاد

كاظم جهاد* ينتبه القارئ بعد الفروغ من قراءة روايتك الثانية "أرواح هندسية"، إلى أنْ ليس في هذا العمل ـ ومن هنا سخرية العنوان ـ من هندسة واضحة، فالعلاقات متشابكة، والعوالم متشظّية، وصورة المتاه هي أول ما يتبادر إلى الذهن. هل هذا نابع من إرادة في تكسير بنية الرواية التي لا تزال تكتب في العربية بـ "وضوح" لا جنون فيه ولا هدم؟ أم هو انعكاس لفوضى العالم الذي تصوّره الرواية: معيش بيروت أثناء الحرب؟ أم لكلا الأمرين معاَ.

ـ من يستطيع الاقتراب، كتابةً، من حربٍ أهلية انغلقت على عبثٍ هائل، دون اللجوء إلى ما يوازي العبث نَصَّاً؟ لقد كان أمامي خياران حين كتبتُ "أرواح هندسية": إمّا اجتزاء بضع حوادث، وبضع علاقات لبناء الرواية، على نحوٍ واقعي في الأغلب، أو تحويل العلامات الكبيرة في سياق حرب لا مثيل لها إلى رموز تتيح للنص إضافاته، وتتيح له لعبته. وقد اخترتُ الشكل الثاني، لأن أية مقاربة واقعية في اتجاه الامتداد الفاحش من التدمير الروحي في لبنان ستبدو ساذجة، ضحلة.
وكان من أسباب اختياري للمنحى الرمزي هو "تعميمٌ" كتابيٌّ لكلِّ حرب ممكنة أيضاً، قَدْرَ طاقتي، لذلك تفاديت ذكر المكان تماماً، ودفعت بالعلاقات إلى ما يشبه الاحتيال المُتَبَادَلَ بين الإنسان والغيب، كأنّما يهيئ أحدهما للآخر، بالتناوب، فرصةً ضائعة. وأنا لن أدّعي هنا أنني حاولت، عن قصد، "تكسير" بنية نمطية في الرواية العربية الراهنة، لأن الواقع في كثافته كفيل بإثارة نسقٍ كتابيٍّ خارج على القانون، لكن معظم كتّابنا يعمدون إلى فرض "القانون" في عنف فادح، على الكتابة، لتستقيم لطمأنينة المعرفة الأكثر شيوعاً بحكمتها البلهاء، فتتشابه المصائر، وتتقاطع المحاورات إلى ما لانهاية له.
وبما أن الواقع، حتى الأكثر وضوحاً في لحظات مّا، هو متاهة بامتيازٍ، كان على روايتي أن تجاريه لتخلق مبرّراً لهذا التشظّي الذي لا يُستّنْفّد. وأنا أعجب لمن يرى "المعطى الخارجي" من مصائر، وكياناتٍ، متجانساً فيستمر في الكتابة. لأن "المُتجانسَ" حسابيٌّ، ومهمّة الكتابة هي تشريد المعلوم، لا تأبيده.

* تحيَّر النقاد كذلك من هذا الرجل الذي يكبر مع هشاشة في رأسه تظل "تكبر" معه، الذي تفاجؤنا به الرواية. هل ثمة هنا، ما وراء الفنتازيا الجميلة، كناية عن هشاشة أساسية يحملها الكائن معه منذ البداية، أو هشاشة كامنة في الواقع المصور نفسه، تظل تتسع وتترصد اللحظات الأساسية عن التجربة؟ هل هنا توظيف لمُعطى بيوغرافي فعليّ؟ كيف تنظر في عملك الروائي، والعمل الروائي بعامة، إلى جدل الفنتازيا والواقع، الذي يظل، أي الأخير، حاضراً في الرواية ولو على صورة واقع "مُحَوَّل"؟

ـ النقّاد هم آخر من يتحيرون، لأنهم راكنون، من أوّل السَّطر، إلى "قِيافَةِ" علومهم، وهنا أعني العرب تخصيصاً.
هذا حُكم عامّ أريد أن أفتتح به جواباً في معرضٍ آخر. أما الكائن الذي تقصده بسؤالك ـ أعني "بيكاس" في فقهاء الظلام" ـ فهو ليس الهشاشة تحديداً، بل سؤال المعرفة الأكثر بطشاً في اختزال نفسها.
"بيكاس" هو الإشكال القّدّريُّ الذي يُفتنني في الكتابة، ويُفتنني في "فكرة الموت". "بيكاس" ليس شخصاً محيّراً قط، لأنه هو هذه البرهة التي "يختلق" الكائن فيها فكرة الزمن، بالقياس إلى حضوره الذي يتيح للزمن أن يكون سياقاً.
أنا، نفسي، بدأت ببعض الحيرة مع "بيكاس"، لكنها لم تكن حيرة من الشخص ذاته، بل حيرة النص برمّته. وهي حيرة كتابية لا علاقة لها بالبحث عن "الغرائبي"، وذلك أمر يستهوي أعماقي، لأنني أضع نفسي، دفعةً واحدةً، في مركز الإشكال؛ في مركز المصير المُقْلِق، ومن ثم أشتغل، طوال الرواية، على مؤالفة "الغامض" حتى يغدو دليلاً حقيقياً إلى معرفة ما هو واضح.
هكذا كان "بيكاس" يُحتِّم، في "فقهاء الظلام"، أن يضع كل شخص آخر نَفْسه في مواجهة أعماقه، بالغيب الذي صار جزءاً هائلاً من سلوكها، ليتآلف مع الحياة على أنها صورة من صور "الإشكال الباعث على اليقين". وهكذا كان "أ. دهر" في "أرواح هندسية" لعبةَ مصير مُفْتَضَحٍ تقرِّر لنفسها مساراً إحتيالياً، في لحظة مّا، فإذا "الّلامرئي" مرئيٌّ حائرٌ في الذي جرى. وإذا هو كمرئيٍّ يتخفّى، فجاءةً، في صورته داخل المرآة ليغدو لا مرئيا يشرف على مصيره الذي لم يستطع "الّلامرئيون" إنجازه، وهُم الموكّلون بذلك طوال الرواية.
الرواية، عندي، هي ابتكار المأزق. ولم أتوهَّم قط أنها شيء آخر خارج ذلك. وفي هذا السياق "بيكاس" هو مأزق. غير أنه "مأزق غير مصَنَّف" في الحكم النقدي، لذلك يتحايل النقد على نفسه بإحالة "اللاتصنيف" إلى "الفانتازيا".
أ "بيكاس" شخص غريب، بالمعنى المعياري؟ ثم، ما هو "الغرائبي"؟ بالقياس إلى أيّ "واقعي" يتحتّم التصنيف؟
إن "بيكاس" هو درس معرفيٌّ لفهم الواقع. و"جدل" الواقعي والغرائبي ليس إلاّ سيرورة التَّفارُقِ ليستأنفَ "الشّاملُ" خاصِّيَّتَهُ.

* لوحظ في رواياتك ـ وهذا امتياز بالطبع، وإلى ذلك فهو أمر طبيعي ـ أن الشاعر فيك لا يتخلى قط عن حضوره عندما يأتي إلى الكتابة الروائية. إن صفحات كثيرة تكون مكتوبة شعراً، ولوحظ كذلك أن الروائي لا ينسى هو الآخر نفسه في قصائدك المُطوّلة الأخيرة. هناك (كما في "مهاباد" "ومجازفة تصويرية") حضور للوصف ـ وصف العناصر ـ وللسرد ـ سرد مشاعر ولحظات ــ يصار إلى توظيفها في الكتابة الشعرية. ولضخامة المجازفة في "المزج" بين نوعين مهما كان ما نراه من ضرورة للمزج بين الأنواع، فإن الشعراء ـ الروائيين طالما عمدوا إلى بعض التحوّطات لدى ممارسة مزج كهذا، ممتثلين، ربما، إلى حقيقة أنه "ليس بالشعر وحده تُكتب الرواية"، وأنه "ليس بالسرد وحده يُكتب الشعر". ما تحوّطاتك أنت بهذا الصدد؟

ـ كانت الرواية، في نسيجها الملحمي، منظومة شعرية، تاريخياً. وكانت الحكاية الشعبية مزيجاً من السرد النثري الذي تتخلله مفاصل من الشعر للإحاطة بـ "بيان المعنى". ثم انقسمت العائلة إلى "أنواع"، والأنواع إلى "خطابات" بصرية، وسمعية، وتدوينية.
لقد عُمِدَ إلى تصنيف النوع الأدبي بحسب تخصّصاته، وهذا أمر حكمته الذائقة عبر قرون ليست كثيرة، وكان في ذلك ـ كتجربة معرفية ـ حصرٌ للخطاب ضد "الفوضى". لكن اقتران التصنيف، راهناً، بكيفية أسلوبية واحدة، لتمييز نوع عن آخر، أمر مُقْلقٌ. وما أفعله أنا ـ دون ادّعاء ـ هو إعادة بعض الحرية إلى هذا النَّسق التعبيري: فالسّرد بوساطة النثر الموصِف غير كافٍ للإحاطة بالقلق؛ للإحاطة بالغامض الذي يُشْكِل على الشعور فتتجاهله الرواية العربية. كما أن التقريرية المفرطة تُحَتِّم، بالضرورة، تجاهل السياق المنطقي لبرهات الواقع الداخلي للشخوص، وتضع الوقائع البسيطة والمُركَّبة في موشورٍ لونيٍّ واحد. فلماذا تقنين التعبير، إذاً، ونحن دعاة "مزج" الأنواع لتتآلف في "حرّيةٍ أخرى"؟
غير أنني أوضح أمراً هنا، وهو أن "الشِّعري"، الذي يصاحب البناءَ المُتخيَّل لديَّ، هو برهاتٌ محضة في السياق الكبير، ولا أُشغل نفسي به إلاّ بالمُقتضى الذي تُشغِلُ الرواية به نفسها.
هذا من جهة، أمّا ما يخصُّ شعري فلي أن أبرِّره بالمرافعة ذاتها. فنحن، في مجمل خطابنا النظري، نخصُّ بشكل أو بآخر على "المجازفة" التعبيرية (لا أعني التجريبية هنا)، المتصلة بالدّواعي المرَّة لحركة التكوين البلاغي، ثم نبدو ـ فجاءةً ـ حذرين من نصٍّ غير حذر.
لقد مرَّ الشعر الجديد، نفسه، بمحطات بلاغية كثيرة، في شارع كبير، منذ الخمسينات وحتى اليوم. فمن قصيدة التفعيلة ذات البيان الرومانسي، إلى الرمزي الأسطوري، إلى الوصفي، إلى البنائي الجامع، إلى الاختزال اللفظي، إلى التشكيلي البصري، إلى الحرّ من التفعيل... الخ.. الخ. فلماذا لا ندع لسيرورة أخرى أن تحكم بناء هذا الشعر حُكماً باذخاً؟
أنا لستُ من هواة الاختزال التعبيري، وذلك مشروع لي بالقدر المشروع نفسه الذي في "الصفحات البيضاء" من النصوص الأكثر مجاراةً للصمت. وأريد، كلّما كتبت قصيدة، أن أستنفد الشهوة البصرية لدي، والحركة المقتدرة لأعماقي؛ أن أتّسع حتى محاصرة نفسي ذاتها.
ولمّا كانت رغبة كهذه، عنيدة جارفة في مسارها البلاغي، تعصف بروحي، فلي أن أعصف بالشعر حتى المقْتَلِ، وذلك لا يهمّني.
في بساطةٍ: لستُ حذراً قطّ في شعري، مادمتُ غير معنيٍّ بحدود فيه. ولستُ حذراً في الرواية أيضاً، مادامت تتِّسع أكثر لكمالها المُحيِّر.

* نجد في مجموعتك الشعرية الأخيرة "بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح" تجاوزاً لقصيدة النثر والشعر الحر (التفعيليّ). كيف يبرر هذا التجاوز نفسه؟ بِنَفَس كل قصيدة وطبيعة تجربتها؟ هل يشفّ هذا عن اعتقاد بوجود تجارب معينة، أو عوالم يصلح نوع شعريٌّ لعكسها دون آخر؟ كيف تنظر إلى الوضع الحالي للشعر الحرّ كما يعكسه النتاج المكتوب فيه، في السنوات الأخيرة؟ الملاحظ أن أسماء قليلة جداً ما تزال تمنحه دفقاً شعرياً حقيقياً، أما ما يتبقى فنمطية وتكرار، ورومانسية ثقيلة بخاصة. وبالمقابل، فهناك توجّه متزايد نحو قصيدة النثر، التي لا تخلو هي الأخرى من مآزقها. ما رأيك في هذا كله؟

ـ نعم. تجاور الشعر مع الشعر، لا أكثر. تجاورت قصيدة الإيقاع مع قصيدة اللا إيقاع. لكن لم يختلط النثر بالشعر. وأنا لم أستنكف عن كتابة بعض النصوص المُوقَّعة لسبب واحد هو ظني أنها لم تُستنفد بعدُ. وإذا توقّفتُ فعن اقتدار، لا عن تبجُّح يرمي إليه بعض من لم يعرفوا الأوزان قط، فصار الأمر امتيازاً فكاهياً.
إنني على يقين من أن التفعيلة باتت تحصر الجملة الشعرية في بلاغة قد تغدو نمطية بعد حين. لأن التعاقبَ الحسابيَّ للحروف ينظِّم المداخلَ والمخارج، ويُقرِنُ الكلمات مثنى في سياقٍ يمكن إحصاؤه. والحذر هو المطلوب راهناً، في استشرافنا للمستقبل. أما الخوف من التفعيلة فإجحافٌ.
غير أنني، باعترافٍ شخصيٍّ، محكومٌ كأيٍّ آخر ببعض الحنين الغامض إلى ماضٍ مّا، مخالف قليلاً لفهمنا النظري، والتطبيقي، الذي يعلّمنا أن السيرورة تعني اللاعودة إلى تكرار اللحظة، وهذا ما لجم بعض تعبيري في سياقٍ إيقاعيٍّ فأرسلتُه على عاهن حنينه، كأنما لا بدّ لي (كما لأيٍّ آخر يستذكر طفولته القاسية في هالة من السحر) أن ألتحم بالشق الآخر من ذاتي، قبل وداعٍ وشيك. أعني وداع الشقّ الذي نحمله طويلاً في أعماقنا، وهو المتّصل بالمرح الأعمى للحنين، وللوعي الأكثر فقراً قبل الامتحانات الكبرى للحياة، وفهم الصراع الإنساني، ومساراته.
من الطبيعي ـ للإجابة على الشق الآخر من سؤالك ـ أن تبقى حفنة صغيرة جداً، في مستطاعها مَنْحُ قصيدة التفعيلة بعض الألق، دون التغافل عن أن التوجّه الأكبر إلى قصيدة الّلا إيقاع (وليس قصيدة النثر، لما تحمل التسمية من تناقض فادح) لا يعني قط أن هنالك كثيرين يعطونها ألقاً أكمل. فهذه القصيدة، نفسها، تنحدر ـ بشكل ينتظمه حساب المُخيلة، والتواتر الثقافي من أثر الشعر في اللغات الأخرى ـ إلى سهولةٍ واضحة، فلا تتألّق إلاّ مع قليلين، كما في كل إبداعٍ حقيقيٍّ.

* على اعتبار أننا نتفق على هذا التعريف لقصيدة النثر بأنها "قصيدة الّلا إيقاع" (تعرف أنها تعمل بموجب إيقاع داخليّ، ولعلّك تقصد "قصيدة اللاوزن")، يهمّني أن نتوقف عند هذا العالم المُوازي الذي تنشؤه في "فهرست الكائن"، في المجموعة الأخيرة نفسها، عبر استبطان مصائر وعوالم حيوانيّة. لهذا تراث في الشعر العالميّ، نجد أحد نماذجه الجميلة في "مملكة حيوان" أبولينير. هل يمكن أن يتجنّب الشاعر هنا أن تندسّ في عناصر هذا العالم الموازي ردود فعل أو نظرات على العالم الآخر، أقصد العالم الإنسيّ، عالم البشر في تناقضاته المجنونة؟ هل جنون الشر وتعقيداته هو ما تريد رسمه، كما لو في تجويف، عبر صورة هذه "البداوة" الحيوانية التي يلخّصها، مثلاً، هذا الحلزون الذي "بيته معه، يمضي فيمضي بيته معه". هل هو بحث عن عزلة تأسيسية، كعزلة روبنسن في جزيرته، الذي يكتشف في غياب البشر، نشاطاً تواصلياً، بل وحتى إيروسياً، يحكم الكون كلّه، ويجمع الكائن بالنبات والحشرات، بالأشياء والأضواء والظلال؟

ـ عوالم الحيوان هي عوالم المخيلة البشرية الأولى، وصداه في الشعر العالمي أقل، باعتقادي، من صداه في الأقاصيص، من شعب إلى آخر. ولا ننسى، بالتأكيد، آثار ذلك في المعتقدات الدينية وكتبها، وكذلك في التصنيفات السياسية الأولى كحكايات ابن المقفع، وفي "طبيعيات" الجاحظ، وفي الشعر القديم حيث الحيوان جزء لا يتجزأ من الطبائع الإنسانية. وقِس على ذلك الفلسفة في "منطق الطير" والتماهي الأكثر بعداً في التاريخ الخرافي الإنساني مع الحيوان: الملائكة موصوفة بأجنحتها؛ الشياطين بالقرون والأذيال؛ والبُراق، مثلاً، هو التحديد الأكمل لسطوة المخيلة في التحرّر من المكان، عبر وسيط من حيوانات كثيرة: رقبة أسد، قوائم جواد، الخ...
والحيوان، ببعض اليقين الشخصيّ، هو حريّة أقصى تتوفّر للكائن، لأنه موسوم بغريزته المطلقة التي تعود بالمعرفة ـ كسلطةٍ وتقنين ـ إلى صِفْرها.
والحيوان هو الشعر، في خاصِّيَّته التي تنفلت، قليلاً، من القانون المُحدِّد لـ سلوك اللغة" و"سلوك الفعل". وأنا لم أتَّخذه، بصفته هذه، مدخلاً إلى "إسقاطٍ" يتخفى في قناعه حضورٌ أنسيٌّ. ولم أشأ حكمةً من وصفه، كما لم أشأ مقاربةً تتحصَّن بالرمز.
لقد مضيتُ، قدر ما أستطيع، إلى ما اعتقدته جوهراً حيوانياً هو كثافتُه وفِتْنَتُهُ. مضيتُ إلى "الحيوانيِّ" دون اتّكاءٍ على ما هو أنسيٌّ فيه، فأنا غير معنيّ بالمفارقة.
ربما تكون المقارنة، هنا، بين ما أفعله وما يفعله روبنسن كروزو في محلّها من حيث التناقض تماماً، وليس التوافق. فكروزو حاول قدر المستطاع أن يأسر "البدائي" من حوله بتوظيفه توظيفاً معرفياً لم ينقطع قط مع "حضارته". و"جمعة" (كرمز فطري) يغدو، يوماً بعد آخر، أكثر تماهياً مع روبنسون، و"معرفة" روبنسن؛ أي ينقطع مع "حيوانيته" الأولى التي كانت على تماس صارخ مع الحرية كانفلاشٍ غريزيٍّ.
لم أبحث عن تعريف للحيوانيِّ في "فهرست الكائن"، أو تقديمه إلى اللغة بخاصيّةِ توظيفه معرفيَّاً: تركته حرّاً في اللغة قَدْرَ استطاعتي، ليتماهى مع شكله الذي لا يوصف كاملاً، ومع يقينه المحبوك ككَيْدٍ من الله.

* هناك في "مهاباد" نوع من التوازي، بل من التَّرافُق، بين صورة شعب يُقاد إلى مجزرة، وبين البطل صاحب "الزانة"، الذي يَعِدُ نفسه، والجمهورَ، بالقفز "حيث لم يصعد أحد". وعبر مسيرته، التي يحتكم فيها إلى "زانة مكسورة" وإلى "إله مكسور"، يُسْمَع عويل التاريخ، أي أن مسيرة الجماعة المسوقة إلى القتل تُستعاد عبر عناء الراكض. هل في الأخير كناية عن الفنان، وعن وطن يُعاد تأسيسه عبر.. الكلمات؟ أيمكن القول أن اللجوء إلى استعارة معقّدة ـ بالمعنى الثريّ للكلمة ـ هو وحده الكفيل بإنقاذ القصيدة فن تفاؤلية مباشرة لا يكون الشاعر شاعراً إلا بتجاوزها؟

ـ صاحب الزّانة الماراثوني هو صورة أملٍ مّا. لكن قدره قدرٌ متحايل بتسليمه إلى "زانة مكسورة" ليكسب الرهان. وأنا وجدت فيه، تحديداً، دأبَ شعب مطعون، وممزّق أيضاً، مسيرته ملآى بالخيبة، وألمه مفتوح على مصراعيه.
نعم. إنها استعادة الكارثة في سيزيف آخر. لكنني لم أحاول في "مهاباد" تأسيس وطن في اللغة، بل بحثت عن العويل المتّصل في سيرة الكرديّ، دون إعوال على النّبر الذي تتصّف به تفاؤليات الشعر الملتزم. فالذي أراه، في الواقع، لا يقرّبني إلاّ من صورة شتاتٍ أكبر، وغدرٍ أعمَّ، وتقتيل أكثر فداحة. فأية حقيقة تستطيع، في الشعر، أن تقدِّم نفسها خارج لهاث العدَّاء؟
وفي "مهاباد"، عبر الاستعارة المعقَّدة كما تصفها ـ وأنت محقّ، لم يهمني قط أن "أنقذ" القصيدة من "تفاؤليات" بعض الشعر، بل أن "أغرقها" في الذعر الذي يجعل الحياة مفتونة بخساراتها.

مجلة اليوم السابع 30/ 10/ 1989

عن موقع تيريز،