في صياغة أخرى لحلم ٍ ربيعي، في أزمنة ما عادت االرصاصة العطشى فيها تجدي لريّ الكلمة العطشى ، إذ العالم يفقد روحه، دون أن ينهض ضميره على أصداء النداء المتكرر منذ بدء الخليقة ، على الصوت الذي اقتطع حباله لحنجرة الآخر ، أتت رواية " أنقاض الأزل الثاني " لسليم بركات، لتعيد صياغة تاريخ نستظهره ، ووجع ٍ زماني ٍ نتناقله ، يمتطي أبطال " أنقاض الأزل الثاني " الشريط اللغوي لرواية سليم بركات، دون أن يحملوا أكثر من أرومة وجع ، وأمان في صررهم الهاربة معهم ، ومع أحصنتهم ، ليجوبوا ملاجئ وطنهم، هرباً من مسقط رؤوسهم، وأحلامهم ، لئلا تذوق هي الأخرى قطران المرارة، كما ذاقت من قبل ،مدينتهم كارثة الحبال المتدلية من الأعواد في ساحة"جار جرا " .التشويق الذي اعتدنا أن نجده في النص الروائي لسليم لا ينقطع ، حتى لو طال هذا التشويق بياض صفحات عديدة ، ليدفع بوساطته سليم قارئه إلى لجة الارتباط بالأحداث ، كما ولو أن القصة سوف تكون لغزاً ، سيفكه القارئ بمفرده، من خلال قراءته لرواية الوافدين الخمس - الفارين الخمس من مهاباد ، هم الرئات التي تتنفس بها الرواية ، لأنها تعيد صياغة وجع ٍ كان، بطريقة خاصة .
بغال تترية على مشارف " كايي " خودان " ،والإرث الضائع !
يفر الملا نجدت ، جكر سيدا ، زينو ميفان ، شريف رندو، ووالي جناب من مهاباد، طمعاً بالملجأ الذي سيأويهم من مقاصل الشاه، ومشانقه ، وهناك، يضع الرجال الخمسة أحمالهم، قادمين من سفر بعيد، متهيئين لسفر أبعد ، هناك أيضاً تستريح مجريات الرواية قليلاً ،و بالتحديد، في سيدروك ، حيث يلتقي الرجال الخمسة ، بكريم بيرخان ، وهو وجيه تلك الأرض ، إذ ينزل أولئك الرجال إلى مضافته، بعد وفودهم إلى الضفة، وبحثهم عن طعام، ومأوى ، وقوم كريم بيرخان، يعملون على صنع اللبود، والسجادن والبسط، مع أهالي الضفة الشرقية ، الرجال الخمسة ملاحقون من قبل مجموعة من أتباع الشاه ، بعد انهيار مهاباد ، وإعدام رئيسها ، وفي هذا الملاحقة نوع من بيان لمهارة تلك المخابرات ، وملاحقتها للمطاردين ، ويتجلى هذا في شخص شهبور نظيمي، قياف آثار أولئك الأشخاص ، الذي أسند إليه أولاد جلال بزربادي مهمة اقتقاء آثار تلك الجماعة التي فرت من مهاباد ، بعد ان تم إعدام كوكبة من رجالها ، وحين لم يجد أولاد بزربادي زينو ميفان، وشريف رندو، بين تلك الرؤوس المتدلية من المشانق ، قرروا اقتفاء آثارهم ، وذلك تمّ بعون من رجال الشاه ،الذين أرشدوهم إلى الطريق التي سلكها أولئك الرجال مع بغالهم الخمسة ، والرواية مقسمة إلى ثلاثة أبواب ثانوية ، الباب الأول معنون ب بغال تترية على مشارف " كايي خودان " ،وفيها يتم الحديث عن قدوم أولئك الوافدين مع بغالهم؛ فارين من رجالات الشاه الذين لو وقعوا في قبضتهم ، لفعلوا بهم ما فعلوه بأقرانهم .
في تلك الفترة التي سبقت قدوم الرجال الخمسة ، يقدم آل بابك وهم رعاة إلى الضفة الشرقية من نهر دجلة ، قاصدين الكلأ، والماء، حيث يقوم آل بيرخان بمقايضة المنسوجات باللبن، والحليب و....مع آل بابك ، وآل بابك، يمثلون نسيجاً من مجتمعهم الكردي ألا وهو " الكوجر " أي الرحالة ، ونزول ذلك القوم بالجوار من آل بيرخان ، ينم عن المساحة المباحة لذلك القوم بالتجوال فيها باعتبارهم أبناء قوم واحد ، ومن حقهم أن ينعموا بخيرات المكان، والجوار، كما يحق ذلك لساكني المكان ، كنوع من عُرف يقرّه أولئك الكوجر .
يلتفت سليم بركات في رواياته إلى جوانب هي مهمة، وحساسة في حياة الكردي، الآن ، منها مسألة الأغوات الأكراد، الذين كانوا أول من يهشم فكرة ومفهوم الدولة ،بل وفكرة الحلم الكردي ، باعتبارهم دائماً يفضلون مصالحهم الشخصية، على مصلحة الآخر\ الأنا ، ومصلحة الآخر هنا هي مصلحة الأكراد، بشكل عام ، فينعمون، بالحياة، والمال، والنساء ، ويتناسون ، أو ينسون، مسالة لم ّالشمل ، والصراعات التي تمت بين هؤلاء الأغوات ، هي التي أدت إلى إضعاف الأكراد دوماً ، فترى هذا الكردي يخون في مرحلة حساسة جداً أخوته الأكراد ، وتارة يغافلهم هو لينعم وحده بالسيادة! ، طرح- الكاتب - شيئاً من هذا القبيل في روايته " الفلكيون في ثلاثاء الموت ، الكون " أما في روايته هذه فيطرح مسألة الإرث الغنائي والفلكلوري الكردي الضائع ، الذي لم يتم جمعه فترى جزءاً منه يضيع في هذا الجزء الكردي ، وجزءاً آخر منه يضيع في ذاك الجزء ، وليت لسليم ان التفت إلى مسألة سرقة التراث مع أن زمان صدور الكتاب حدثت فيه أمور كثيرة من هذا القبيل ، ولكنها لم تأخذ هذا الصدى الذي يعرف الآن حيال سرقة التراث الغنائي الكردي من قبل الآخر| الآخر ، فالسلطة هي التي تمنح الحقوق ، وليس الزمان ، والكردي محروم من تلك الحقوق التي تمنحه حق الدفاع عن ذلك التراث الذي تبقّى والذي يُسرق شرعاً ، دونما حق السماح حتى بالدفاع عنه .
التنافس الذي تم بين مغنيي رستم بابك، ومغني كريم بيرخان ، هو الجمرة التي أحرقت الخيوط التي أ عًدت وتعد لحياكة الحلم الكردي ، حيث حياة الأغوات ملأى دائماً بالصراعات ، ولأجل رغبة مجنونة- فهم - مستعدون لإفناء كل العشيرة ، لا عجب!، أن نجد هذه الرغبات النرجسية- في دركها السفلي - موثقة من قبل سليم، وهو من فَقِه جيداً، كيف كان لهذه الرغبات والشخصيات أثرها الجاد في تقويض أي حلم .
نرى في العادة تسلل الكاتب إلى لاشعور شخصية بطله ، ليحدثها ما يرغب بأن تتحدث به، ته الشخصية في الإطار العام لطبيعة الشخصية ، أو ما يريد هو أن يعلنه على لسان تلك الشخصية ، بيد أن الرواية المتكئة على التاريخ ، وأبطالها، وتعدد شخصياتها، لم تدع المجال لسليم بالغوص في أعماق شخصياته ، لتأتي الرواية إلينا دون أن يتم الغوص في أغوار شخصياته ، وسبر أنفاسهم ، ربما بحسب تصوراتنا المسّبقة ، لذلك وجدنا في سياق توترات بؤر الرواية، أن مجمل الكلام كان يأتي من خلال حديث الشخصيات إلى بعضها ، وليس كمناجاة على لسان الشخصيات ، فترى شخصياته في حالات كثيرة واصلة إلى مرحلة من الهذيان ، لأنها محرومة من هذه المناجاة ، أو البوح الداخلي ، وسليم هنا، يتيح لها الحديث،و كيفما يحلو لها . ربما ذروة مراحل هذه الهذيان، نجدها من خلال كلام المغني جميل فاركو الأعمى إلى ابنه علي حين يطلب منه أن يضاجع زوجته ، ليغدو صوته حلواً إذ يقول له :" النكاح يرقق الصوت " ، وفعلاً يقوم غالابن بمضاجعة زوجته سيكانو لهذا الغرض الذي دلّه عليه والده ، ليمكّنه من الغناء في مجلس كريم بيرخان ، وبحضور ضيوفه الخمسة .
يصطاد سليم دائماً المكان من المنظور الحرج ، ويميل إلى كشف فسيفسائه حتى يُتاح للقارئ الجلوس مع الشخصيات ، والنهوض معها ، لينوّم القارئ إثر إغفاءة الشخصيات، ويوقظه مع إيقاظ الشخصيات على الفراش نفسه، الذي نامت عليه شخصياته ، و على تلك الأسرة، والشراشف واللحف التي تغطوا بها ، لذلك فان القارئ يجد في أحايين كثير صعوبة في التواصل مع نص سليم الروائي فهو يوغل في اصطياد المكان ، والمكان كثيراً ما يكون افتراضياً لا أساس لوجوده ، إذ إنه و لبراعته في تصوير المكان، يدفع بالقارئ أن يخال و في أحايين كثيرة أنه ينقل صورة واقعية، لأشخاص واقعيين ، ومكان واقعي ، وهنا تأتي ثمرة العمل الروائي ناضجة ، في أن يعيش القارئ أجواء الرواية ، ويعيش المكان ، ويتنفس اللحظة ، ولعل قمة التصوير المكاني \اللامكاني أتى في روايته " أرواح هندسية " التي لا يبدو فيها المكان إلا مجرد بناء من الكلمات ، عمارة كلامية ،فحسب ، ويجد القارئ في الرواية-ذاتها - عجزاً عن التواصل مع زمكان يرسمه سليم .
الحدث الروائي يكون ناجحاً حين يكون استثنائياً ، وهذه الاستثنائية مملوءة بدلالات الواقع ، وحين تكون الأحداث في اللاواقع يحدث شيء من النفور إزاءها ، و النفو-هنا -يكون، بمعناه الكامل ، والكاتب لذا معني بنشأة الشخصيات، وميلادها ،لا صناعتها ، إن موت أي واحد منها، في غير ،طار الموت الطبيعي ، يحدث خللاً في نسيج القصة ، حين يشاء الكاتب أن تموت شخصية ، ويحدث الخلل أيضاً حين يستقدم الكاتب شخصية ما إلى عالم القص، دون مقدمات تمهيدية ناجحة، وناجعة، لدخول الشخصية فلك الرواية .
ومادامت الرواية تطرح فكرة فيها استثناء من الواقع ، فينبغي أن يكون لشخصياتها أيضاً استثناءاتها ، ولكن هذا الاستثناء ،ينبغي أن لا يخالف المتعارف عليه في إطار العلاقات الاجتماعية العامة ، أو الطرح بشكل هادئ ومتأن ، الخلاف الذي احتدم بين آل رستم بابك ، وبين آل كريم بيرخان ، يبلغ أوجه حين يقدم كريم بيرخان بتحريض من ضيوفه الخمسة، وخاصة المغني زينو ميفان على إرسال مانو ساروخان معلم القرية وجكرسيدا العارف بالطرق ، إلى هكار ورشت بتليس وميرسين ووان ومدن كردية أخرى، لأجل أن يأتي هؤلاء بكلمات أغان جديدة، مدونة ليغنيها علي ابن جميل فاركو الأعمى، في إطار التنافس مع مغني رستم بابك ، وهنا تفوح النكهة الملحمية في الرواية التي ترافق أحداث الرواية ، وترافق شخصي مانو وجكر وعلى أحسن نحو .
مصيدة نينو سارين :
يبدأ كل من جكرو ومانو الرحلة لجلب كلمات الأغاني ، و في هذا المشروع الملحمي الذي طرحه سليم على لسان شخصياته ، يحمل دلالات بعيدة ، وغير مباشرة ، على امتداد الكرد على جغرافية ذات مكان واسع ، وحرية لا تتنفس بهاء هذا المكان ، فما الذي يعنيه أن يغني- شخص ما- ما يغنيه قوم آخر في مدن بعيدة ؟ بالتأكيد، الدليل، هو الانحدار من أصل واحد، والاشتراك في تراث، وتاريخ، وثقافة واحدة .
يتجه هذان الشخصان باتجاه كردستان تركيا ، لجلب الأغاني ، وكذلك جلب كتاب كتاب " كمائن وتضاعف" الذي دون فيه كثير من الأغاني ، وهما في الطريق على هذه المدن يصلان إلى جبل الجودي ، حيث يقصد الإثنان قرية" سورا" وهي قرية يقطن فيها ابن خالة والد جكرو ، ويعمل هذا في مسلخ للضفادع ، حيث تقطع الأفخاذ، وتوضع في الخل، ومن ثم ترسل على المطاعم، في المدن الكبيرة ، لتباع هناك في المطاعم ، اصطياد سليم للمكان وتصويره، يجعلنا نعيش أجواء القصة ، بل أن نكون أحد أفرادها ، حيث يقوم بتصوير مدخل القرية ، وأجواء حاراتها في منتهى الدقة، وحين يصف منزل جكجكان نرى أنفسنا نحن مع جكرو ومانو، واقفين أمام المنزل ،إذ يقول : " سور حجري واطئ ، متهدم في بعض أنحائه . بيت عال ، من طبقتين عليهما سلم خشبي عريض . زريبة مسقوفة . شجرة دردرا ضخمة، بجذع تهالك نصف أغضائه على الأرض ، كأنما شطره سيف ..........."، ولتقريب الصورة أكثر، يقوم بشرح عملية سلخ الضفادع واصطيادها، ليقرب القارئ أكثر، والمهنة هذه مزاولة في سورا، أي الاقتراب من كل شيء، ليغدو كل شيء في إطار القريب والمعلوم. ففي انتقال الحدث من مكان إلى آخر، يقوم بفكّ النقاب عن المكان، وتقديم صورة كلامية عنه.
هناك يتعرف مانو وجكرو على نديم صفوت ميرسين ،وهو وجيه تلك القرية ، وكلمات الغاني عنده مدونة بكرة ، ليجد الاثنان ضالتهما عند ذلك الشخص ، هناك مسألة أخرى ،هي التعريف بالشخصيات حين دخولها، أو ظهورها العمل الروائي لديه، حيث يقوم بتقديمه في الزمن الذي كان غائباً عن الأحداث، ولربما يوغل أعمق، فنراه يسرد حياة تلك الشخصيات ، فيتوقف العمل حينها عند الشخص، الذي يخصه سليم بالوصف، وتنقطع أحداث الرواية، لنراها تعود فجأة ، وتتتابع الأحداث هكذا، إلى حين وفود شخصية أخرى، ليعطيعها سليم الحق الذي أعطاه لمن سبقه ، وليعطيه حقه من الكلام والسرد، ما سيعطيه للشخصية التي ستليه في الحديث عنها ، وهذا عام في رواياته كلها.
يتردد كل من مانو وجكرو على مجلس نديم ،يتبادلان فيها أطراف الحديث ، ويؤكد له نديم خلالها بأن لا حاجة له في أن يكمل السفر على أراض أخرى، فهو سيجعلهما يدونان كل ذلك على ما يحملان من دفاتر وثياب، وحتى " أجنحة الذباب " التي سيرافقهما ، أثناء تردد الاثنين على مجلس نديم ، إذ يبقيان في استضافته لأيام ، ويتردد في هذه الأيام قاوون الشيخ على المجلس ذاته ، وحين يعلم بان الضيفين قدما لجلب كلمات الأغاني، يسمعهما-بدوره- شيئاً من كلمات الأغاني التي في حوزته ، بيد أن نديم يعرف جيداً شخص قاوون، ويعلم أن لا قدرة له على نظم كلمات وأشعار بهذه القوة ، فيخبره بأن كلمات الأغاني هي لابنة أخته نينو سارين ، وهي قد طلبت منه ألا يشي باسمها إلى الضيفين . يعجب الضيفان كثيراً بكلمات تلك الأغاني، ويبقيان هناك، ليدونا مزيداً من تلك الأشعار التي يحملها إليهم قاوون الشيخ ، دون أن يعلما أبداً أن فتاةً هي التي تنظم تلك الأغاني ،والذي أنشدهم كلمات أغان تحمل في داخلها لوعة المحب واحتراقاته إذ تقول :" لست لأحد ، بل لي / ما تفعله هنا بقلبك المتدثر بريش وسادتي ، لا تفعله في مكان آخر / ما تضيئه جوارحك ، هنا /، من نقش روحك لا تضيئه في مكان ِآخر " ماهم أنه رصد من خلال عدم تدوين أغاني تلك الفتاة ، عدم تدوين الأغاني لكثيرين مثلها ، وهناك تكمن المأساة التي تكلف، وكلفت الكرد ضياع جزء كبير من تراثهم ، ليس لأن نينو سارين وحدها من تنظم كلمات الأغاني ، ولكن لأنها ليست وحدها من لم يتم التدوين لها .
زوج نينو سارين يقوم باصطياد الوعول والطرائد في جبل أراكس ومناطق جبلية أخرى ، يحرص سليم أن تكون نهاية الفصل نهاية تطرح أسئلة ستجيب عنها الصفحات التي ستليها، أو ان يفسح المجال للقارئ بان يتابع هو نفسه الأحداث ، ولكن تكمن الصعوبة من حيث أن لا قدرة لأحد على تصور النهاية التي سيرسمها سليم لشخصياته ، يأتي كل الأشخاص الذين رافقوا سربست - زوج نينو سارين - على الصيد أما هو فيتغيب لذهابه مع بعض الصيادين الذين تعرف عليهم إلى مهاباد ، وتصل غنائمه - قرون الوعول - والمتاع والأغراض التي جلبها بعد أن بادلها كما بقية الصيادين بالوعول التي اصطادها ، ويأتون فقط من تلك الوعول بقرونها ، كدلائل على قوتهم ، ويعلقونها على بوابات منازلهم ، في اللحظة عينها التي يغادر كل من الضيفين سورا ، يلتقون بشخص قادم إلى القرية ، ملامحه دالة على أنه قادم من السفر أو الصيد بيد أن القارئ يعرفه جيداً حيث سبق أن تعرف على ملامح سربست وصفات حصانه ، أما الضيفان، فلم يتم لهما الاستماع إلى ذلك الحديث أو حتى قراءته .
محاكاة العدم ، وعرم الموتى :
زينو ميفان، وأصدقاؤه، الذين هم في ضيافة كريم بيرخان في أرض سيدروك ، لا يزالون ملاحقين من قبل آل بزربادي ، يعاونهم رجالات الشاه ، مع أن جماعة خمسة الأشخاص مع زينو ميفان والفارة من مهاباد ، قد جاهدت في أن لا يبقى لها أي أثر ، بيد أن شهبو نظيمي قياف الآثار ، بذكائه وفطنته لا يدع مجالاً لتلك الجماعة من الإفلات من المصيدة ،على الرغم من كل التوخيات ليتجنبوا ملاحقة رجالات الشاه لهم ، والتكثيف في نص سليم لا يزال قائماً ، إلى حين ينتهي القارئ من الكتاب، فيضعه جانباً، وكأنه أمام فك مجموعة من الألغاز ، ومتابعة الأخبار على النحو الذي يقدمه ، سليم ، مستخدماً الأساليب التي يراها أنها الأجدى ، وأنها التي سوف تجذب القارئ إلى نصه بقوة أكثر وأكبر .
شهبور نظيمي يقف على مشارف كايي خودان ، ويقترب من سيدروك ، وهناك - أي في سيدروك - تختفي آثار تلك الجماعة ، مما يدل أنها نزلت سيدروك ، والأمر الذي جعل شهبور نظيمي يعود من الطريق التي سلكها خطاً، هو اعتماده على روث البغال ، فالطيور التي تنزل على ذلك الروث يدل أنها تحمل في داخلها موادّ تؤكل كبعض النبات، الذي لم يهضم وأطعمة أخرى لم تفتت كاملاً ، والروث الذي وجدوه ماكان ليحمل ذلك الدليل، أي ما يؤكد أنه لخمسة بغال في سفر لأصحابها ، ولم تتذوق الزاد ، ومدى تصلب هذا الروث، كان يطابق مدة الأيام التي اختفى فيها زينو وشريف وأصدقاؤهم عن أنظار أولاد بزربادي الذين كانوا في مقدمة الملاحقين لأولئك الأكراد الفارين من مهاباد كونهم ، قطعوا كعب قدم والدهم لئلا يركب الحصان ، بعد أن عينه الأكراد مسؤولاّ عن البريد ، ولكنه قام بخيانتهم ، وكان يسرب الأسرار إلى الحاميات الإيرانية القريبة ، فبتر كعباه كجزاء على فعلته تلك ، لذلك طلب أولاد جلال بزربادي : زاده ورامي وفيروزي من رجالات الشاه السماح لهم بملاحقة تلك المجموعة الفارة بعد عن قدمت لهم معلومات بسيطة عن أولئك الفارين من الجمهورية إبان وقوعها .
سليم صوَّر جيداً المؤامرات التي تمت على هذه الجمهورية ، وكيفية توقف الدعم السوفياتي لها مقابل النفط الذي ستقدمه لهم إيران ، فبعد ان توقف هذا الدعم من كافة النواحي الماديو والبراغماتية والمعنوية ، تمكن الشاه من العودة في الاستيلاء على الجمهورية ، مع أن الأراضي الاذربيجانية كانت في العملية نفسها، أي ان الدعم السوفيتي لم يتوقف لها ، وظلت في حماية السوفييت ، وبالتالي لم يسنح للشاه بإعادة السيطرة عليها ، صور التآمر الذي تم على الأكراد في تلك الحقبة ، وباعتبار الرواية تعيد نسج التاريخ على نحو أدبي، فلا بد أن لا يسرف الكاتب في سرد التاريخ بشكل يطغى على أحداث الرواية ، وهذا الذي تم فعلاً .
ومن خلال علاقة العمل الروائي والتاريخ ، نرى سيف الدين القنطار في مقاله المنشور في دراسات اشتراكية العددين 182-183 يرى أن الشخصيات التي يستقدمها الكاتب إلى عمله الروائي هي التي تتحمل مهمة نجاح الرواية ، ومهمة نقل الواقع بوجهه الصحيح ، وهذا يحتاج إلى جهد مضاعف إذ يقول : " العلاقة بين العمل الروائي والتاريخ عرضة لسوء الفهم ولنقص في إدراك قوانين العقل وضوابطه ، وقياساً على ذلك نستطيع تمييز القراءات الصحيحة والخاطئة ، فالروائي يحق له أن يضفي على شخصياته وعي عصره وهمومه . ويتمثل أبطاله بعضاً من الروح العامة للزمن الذي كتبت فيه الرواية "
مكان الرواية يتأطر حسب اختيار الكاتب وليس حسب شخصية بعينها ، والمكان أيضاً يخضع إلى المعادلة نفسها ، فنراه يسلط الضوء على أماكن يتوزع فيه الكرد ويتقاسمون فيها خبز الأحلام وماء الغد وملح اليوم ، فنرى أن أحداث الرواية تبدأ من سيدروك وكايي خودان، بعد أن يعطينا الصورة التي يريدها وعلى نحوما يختاره ، وبين ثتايا روايته يقوم بتقديم وجه مهاباد المكاني والزماني أيضاً ،وسليم يعتمد على تقنية ربط الأحداث من الماضي والحاضر بعضها ببعض عن طريق السرد والذكريات ، ومن ثم يقوم بالانهماك مجدداً على تضاريس الرواية، ليتابعها، بعد أن يكون القارئ قد قطع معه الشوط الزماني، لأنه من المحتمل أن تعود أحداث الرواية في بداية أي جملة، أو وسطها ،أو نهايتها، ولا يخضع لأي قانون، سوى حبكة سليم بركات ، ثم يقوم بتسليط الضوء على جبل الجودي ومضايقه ، فسورا القرية التي يقصدها مانو وجكرو تعرض بشكلها الأدق. الانسجام الذي تم بين المكان والزمان بلغ أوج صوره من خلال تصوير أجواء سيدروك أو سورا في إطار زماني معين ، خضع فيه المكان لسطوة الزمان المعصرن ، وحرص على أن تكون الوحدة قائمة ، حتى من خلال استخدام البغال في الأسفار، وكذلك من خلال الثياب التي كانت في ذلك الوقت، حيث ان بصمات تلك الحقبة كانت قد تركت على فضاء تلك الأمكنة والأرياف، فلم يتخلوا بعد عن الجلباب ، ولم يرتدوا بعد البنطال ، وهذا دليل على الانسجام بين زمن الروائي وبين الزمن العام ، المكان الروائي هو سيدروك بحكم أن الأحداث التي تغير مجرى الرواية تقع فيها ، أما المكان العام فهو مهاباد وسورا، لأنه بمجرد انتقال أهل سيدروك- جكرو ومانو - منها لا يعود الكاتب إلى الحديث عنها .
يقوم سليم بتحديد العمر الزماني لشخصياته ، حيث يقوم رامي وفيروزي وزاده بزربادي مع النفر المكون من-تسعة عشر شخصاً بمراقبة أجواء سيدروك ، وفي الليلة التي يعزم فيها أولئك الخمسة على الفرار ، تتقدم تلك المجموعة الإيرانية من تخوم سيدروك ، بعد أن يضفي سليم طابع التشويق عيها من خلال استفسار المترجم زاهدان نوري لابنة مانو ساروخان عن غريبين حلا في القرية ضيفين، فترد الكبرى بأنها لا تعرف شيئاً، أما الصغرى ، فتعلن عن وجود ضيوف خمسة ، وبهذا الشكل يقترب النفر الإيراني من القرية ، ويتأكدان من ذلك من خلال غناء زينو ميفان، وفي اللحظات التي يودع فيها النفر الكردي كريم بيرخان وجلساء مجلسه ، تقوم تلك الفرقة بإطلاق النار فيسقط والي جناب ، وإبنا كريم بيرخان ، وكريم بيرخان نفسه ، وهوار حاجي وسرعو ، وجميل الأعمى وابنه علي وشريف رندو وحميد داهي ....وفي الأخير يقتل زينو ميفان الوجبة الأدسم لهذه الملاحقة ، الذي استلقى على الأرض، ليوهمهم بأنه ميت ، فتقتله الجماعة وهو ملقى على الأرض ، ولا ينسى سليم بركات الحديث عن جوناثان هاولد ، الباحث الثري في تلك المنطقة الذي فك أسرار الفتحات الثلاث في هضبة كايي خودان ، ولكنه توفي قبل أن يعلنها ،ويدفن هناك لتلاقى روحه وأرواح الإغريق، الذين غزوا تلك الأرض مع أرواح آخر الوافدين إلى السماء مرتدين الموت ، خالعين عن أجسادهم الحياة .