ابراهيم حاج عبدي
(دمشق)

("دلشاد، فراسخ الخلود المهجورة")

لا يمل سليم بركات في كتابته من التجوال في تضاريس أرض لم تمنح لساكنيها الكرد سوى الخيبة و الألم فكان تاريخا تراجيديا تنتهي فصوله دائما إلى العدم و هو مشرع أبدا على مجهول مخيف، بين هذا و ذاك يجتهد الشاعر و الروائي الكردي في تدوين الفجيعة المنبثقة من تلك البقاع رغم كونه لم يعش فيها سوى سنوات طفولته و صباه معترفا في أحد حواراته " أقر بأنني لا أعرف شيئاً يدعى منفى لأنني لم أكن، في يوم ما، أملك ما هو نقيض المنفى " ليبقى ما هو مؤكد بالنسبة له " أن لوالدي قبراً على تخوم مدينة القامشلي: هذا هو أنا " كما يقول.
بيد أن اختزال سليم بركات مرابع الطفولة و الصبا بهذه الصورة المجازية لا يمكن أن يقنع قارئه فهو لم يشأ يوما أن يفارق بيئته الأولى التي أثبت بأنه نهل من ألوانها و روائحها و طبائعها و طقوسها و مكائدها و لغتها حتى الثمالة لتستقر عميقا في ثنايا الذاكرة المتدفقة و الخصبة، دون شك، فرغم مغادرته لهذه الأرض باكرا إلى بيروت أولا ثم قبرص فالسويد (حيث يقيم الآن ) إلا أنه بقي منجذبا إلى ذلك العالم الصغير البسيط يفتش في متاهاته عن خرزه الملون و يصغي إلى أغاني الرعاة، و يصطاد القبرات في السهول، و يسطو على أعشاش الطير و يراقب صراع الديكة مشيدا لنفسه في غربته البعيدة منزلا من الحنين و اللهفة في تلك البراري الفسيحة و المحرضة على الخيال ـ كما تظهر كتابته ـ يهدم، ويفكك، و يلغي ليبني على الأنقاض مدونا بذلك أسطورته الخاصة في عالم الكتابة و دنيا المنافي طالما أن الوطن الوحيد المتاح هو الكتابة " فمن لم يعد له وطن تغدو الكتابة بالنسبة إليه مكانا للعيش " كما يعبر جوزيف كونراد الذي لعب دورا مماثلا بشروط و تقنيات و سياقات مختلفة.
و هو إذ يقوم ببناء هذا الوطن الافتراضي بالسرد فانه يتوسل في ذلك لغة عربية صافية جزلة و محكمة أدهشت الكثيرين من الكتاب العرب الذين تساءلوا في سرهم: أنى لكردي لم يعرف حرفا من العربية حتى السادسة ( سنة دخوله المدرسة ) أن يطوع اللغة العربية بهذا القدر من الرشاقة و المهارة و العمق حتى غدت هذه ( أي اللغة ) لا الحكاية هاجسه الأوحد في الكتابة ؟. ربما كانت اللغة قد شكلت، في مرحلة مبكرة، تحديا و امتحانا لطفل أهانته هذه اللغة في طفولته الغضة حين خرج من كنف الأسرة الكردية المقيمة في الجزيرة السورية و دخل المدرسة فسمع رطانة عصية على الفهم و النطق و الدلالة، فلم يقدر ـ هو الطفل ـ أن يستوعب هذا الانقلاب اللغوي و لم يستطع إدراك ما يجري من نكران للغة الأم ! شعر كأترابه من أطفال الكرد أن ثمة حيلة ينبغي عليه الحذر من الوقوع في شراكها، فاقتحم ـ بمقاييس طفولته الكردية البكماء ـ الأسوار العالية لهذه اللغة مقتنصا أسرارها و جمالياتها و ألوانها و مجازاتها و موسيقاها و سلاستها تماما كما يقتنص القطا المزركشة يعتني بها و يتباهى في تلك الأنحاء المنذورة "للطيش و الهباء" بتعبير الكاتب.
و رغم إيغاله البعيد في الإمساك بلآلئ هذه اللغة إلا انه ظل يمتح من نسغها و جذورها الأكثر عمقا حتى تجاوز الأمر حدود الأداة أو الحامل لقصيدة يكتبها أو لحكاية يقصها لتطال محتوى الحكاية ذاتها كما في روايته " دلشاد، فراسخ الخلود المهجورة " الصادرة أخيرا عن المؤسسة العربية للدراسات و النشر ( بيروت ـ 2003 ) و التي نتبين فيها تنويعات على هواجس اللغة و شراكها و الترجمة و أحابيلها لكنها و بنفس الوقت " قصة لوعة و، وقيعة، و خيانة مغتفرة، و إعادة ترتيب لتاريخ مجهول " كما يقول الغلاف الأخير للرواية.
في هذه الرواية ثمة حيوات غامضة و مصائر موجعة و شخصيات غارقة في مآزقها لا تني تبحث عن معنى لوجودها، إنها ثمانية فراسخ تمتد في الزمن أكثر من نصف قرن يسلكها سليم بركات للوصول إلى روح الكردي التائهة في الجهات و الأمكنة لتشكيلها من جديد حيث يرسل الأمير مهران ايفاردر في طلب دلشاد شاهنور ليترجم له الكتاب السرياني " المختصر في حساب المجهول " لمؤلفه جرجيس لوقا سالوحي إلى الكردية و حين يستغرب دلشاد الأمر على اعتبار انه لا يتقن السريانية يصر الأمير: " أريد كرديا يعيد المعاني تائهة مثله " فيرد دلشاد:لست تائها، ربما أخذلك، فيؤكد الأمير " كل كردي موعود في قسمة من حياته بجهة تائهة ".
و هكذا تبدأ الطقوس لتعلم دلشاد السريانية حيث يسأله المعلم السرياني قاديشا " ماذا ألهمك يا دلشاد أن تقصدني لتعلم السريانية ؟ " يرد مستغربا : " المعذرة يا سيد قاديشا لو ساءلتك لماذا تعلمت التركية و الكردية و العربية و الفارسية و اليونانية " فيرد قاديشا " أحببت تقبيل الدنيا بأكثر من فم " ليمضي دلشاد في تعلم كيفية تقبيل الدنيا بفم سرياني " كانت شمس الربيع الموشومة برقى الفلك الرابع ـ فلك الخصائص الأزلية منعكسة في الهزيع الأول لمغيبها على الجدول الصغير الذي لم يترسب من دم الديكة الثلاثة حين غمس دلشاد ريشة قلمه المثقوبة في سائل الحياة و دوّن تاريخ قدومه إلى كوماجينا على صفحة من دفتره المجلد بلوحين رقيقين من قشر البلوط المضغوط بعد نقعه في لبن الخيل ". ثلاثة آلاف بيت من الشعر لإسحق الأنطاكي ألقيت على مسامع دلشاد الذي تلقى من جرجو قاديشا ـ خلال أكثر من سنة ـ أنباء حروب المعاني و حصار التوريات للتوريات و أحابيل الحروف …و هزائم المفردات أو غدر بعضها ببعض " و قد كانت الشمس ذاتها ـ شمس الربيع المختمرة في حقول الهندباء و الناردين هي المنعكسة في الهزيع الأول من الصباح على بركة دم الديك الرومي المذبوح على عتبة باب مكتبة كوماجينا حين غمس دلشاد ريشة قلمه ليدون يوم رحيله …".
بهذه اللغة المنحوتة نحتا و المستمدة من مسالكها الوعرة ـ الرقيقة يسرد سليم بركات بضمير الغائب حكاية دلشاد مع الترجمة حيث يصعد سلالمها ليضع بين يدي الأمير ورقات الترجمة فيقرأها على جلسائه في بلدته كلاس لتبدأ المماحكات و التوريات و التحويرات و التأويلات. يعمل دلشاد في الترجمة أعواما يعشق خلالها أكيسا زوجة دينان مروض المسكوكات في البلدة و التي تنتحر في نهر (نو آف) بهذه الصورة: " من ثلوج الربيع الذائبة نسج نو آف خمارا لأكيسا فوق خمارها ( … ) ترقرقت دموع في عين الماء. بضع فقاعات شقت طريقها إلى السطح بنشيدها الخافت، و طفت على الرقراق المتماوج حفنة من بزر اليقطين تراخت عنها يد أكيسا "، فيتزوج دلشاد بتدبير من الأمير ابنة المرأة المنتحرة زلفو " المحاصرة بلون أمها " الأبيض التي تنجب له ابنة وحيدة هي زوزان إلى جانب ابنتيها دنيا و سافيناز من زوجها السابق الذي طلقها بتهديد ملغز من الأمير.
و حين تنتهي الترجمة و يموت الأمير مهران تبدأ رحلة الأسرة من بلدة كلاس إلى أورفا فإلى ماردين ثم نصيبين " المسرح السهل لعبور البغال بالآدميين و تواريخهم عبر أدغال العليق و الحور جنوبا " باتجاه الجزيرة السورية حيث " كان الحذر على تمامه من أي شيء يتصل بالكرد، بخيالهم أو لغتهم، أو أخبار أرواحهم. اسم ( الملا مصطفى ) البر زاني، المتسرب من رياح الجبال إلى السهول المتنسّكة و هي تردد أسماء الأنهار الجليلة، أقلق الحكومات بداعي يقظة الشر في ملة من أهل المكان لا يجدر بهم زعم امتلاك المكان أو التشارك فيه مع عرق الأمة الوافدة بشفاعة الفتوح، القمرية و الشمسية، من مصبات الرمال في الصحارى العريقة ".
تستقر أسرة دلشاد في مدينة القامشلي على الحدود التركية ـ السورية فيعمل دلشاد في تجارة الأغنام و يتعرض تعب السنوات في مجلداته الاثنين و الخمسين لطلقة من مخبر لم يفهم ما فيها فجرب مسدسه الجديد في أغلفتها و أوراقها ليكسب معرفة مدى قوة مسدسه، و هنا تكمن اللوعة كما أشار الغلاف الأخير أو هكذا ينتهي دوما القدر الكردي بفاجعة غير متوقعة فبعد أن يخبرنا السارد بمشقة العمل الذي يقوم به دلشاد و يشرع باب الأمل و يشعرنا بألفة تجاه هذا الكتاب قيد الترجمة نسمع و في الصفحات الأخيرة صوت رصاص طائش يخترق عذاب السنوات و صبرها، و يتخذ سليم بركات من هذا المكان الجديد، الذي سكنته أسرة دلشاد، ذريعة لتصفية الحساب فيتحدث عن الإحصاء الذي جرى في أوائل الستينات و فقد بموجبه حوالي مئتي ألف كردي جنسيتهم السورية بحجة انهم مهاجرون من تركيا و إلى الآن يعرفون بـ " الأجانب "، وكان ذلك الإجراء " محاولة لما ينبغي أن يكون عليه المكان: لا أثر لخطوات الكرد على الزمن فيه " أما من قدر له أن يخرج من هذا المصير (منتصرا ) فكان عليه أن يكون عربيا: "محظوظين كانوا أولئك الذين طهرهم التسامح، بعد نقل بذور نشآتهم من حقول اللوعة الكردية إلى السطر الأخير في نشيد التصنيف العارم: الأصل: عربي ".
لا يمكن للقارئ المجازفة باستخلاص حكاية بعينها أو مقولة محددة من الرواية و هذه ربما غدت هوية تسم مجمل أعمال سليم بركات فهي قبل أن تكون جوابا، سؤال حائر يهرب منه الكاتب بالغرق في لغة تدون تناقضاته و مفارقاته و مشاكساته لتختلط على القارئ الواقع بالمتخيل و الحقيقة بالوهم و الماضي بالحاضر، و الغرائبي بالمألوف فتغدو الكتابة، بهذا المعنى، ضربا من التمويه أو التخفي لما ينبغي إظهاره و تجليه و كأن الكاتب ينكفئ على ذاته التي لا تبوح إلا بالقليل فيما القارئ يلهث وراء هذا السراب اللغوي الفاتن و أساليب السرد المغوي.
و يمكن، بل يجب، القول بان الرواية في الوقت الذي لا تقول فيه شيئا محددا أو حكاية بعينها فأنها في الوقت ذاته تقول الكثير مما هو متناثر في صفحات الرواية بصورة لا يمكن التقاط خيوطها المتشابكة و المتداخلة فهي تعيد ترتيب التواريخ المجهولة و تقرأ مساحات الألم و الفجيعة التي رسمت ملامح و تضاريس الأرض التي ينحدر منها بركات و التي استوطنها شعبه منذ تاريخ موغل في القدم دون اعتراف من السلطنة العثمانية أو الجهورية التركية الحديثة.يسأل الباشا التركي أوزال بكبكيجوك، دلشاد ذات مرة " تقع أخطاء في الترجمة بين حين و آخر ألا توافقني ؟ " فيرد دلشاد " بلى.. وجودكم هنا خطأ في الترجمة ". و ثمة الكثير من الإشارات و الإيحاءات التي تنكأ جراح الكرد الذين لم يعثروا على مدى تاريخهم على أصدقاء سوى الجبال.
و الروائي إذ يستحضر كل هذه المآسي فإنما يستحضرها بقلب من ذاق طعم الخيانة مرارا و بلغة غارقة في صفائها و تعابيرها الجميلة مثل "..بللته بمرح عينيها " و "..ضحكت ضحك غمام " و " يغزلون بدخان لفافات التبغ خيوطا لإزار الهواء العاري "، و "..على وجهه عافية الألم "، كما يضمن الرواية فقرات و عبارات مقتبسة من الكتاب الذي يعمل دلشاد على ترجمته و هذه تقترب من النصوص الصوفية الغامضة و مكابداتها و تأملاتها، و لدى سليم بركات قاموسا هائلا يضم أسماء الحيوان و الطيور و النبات و الفاكهة و كلها مستمدة من جغرافية كردستان إذ يوظفها سليم بركات بجدارة قل نظيرها، انه يحيل الوطن ـ المكان بكل ما يحفل به إلى كلمات هي وحدها القادرة، في عرف الكاتب، على أن تجعله بعيدا عن النسيان و عصيا على التلاشي.

جريدة (الحياة)