مختارات

الفرسخ الأول
?ترجمان الحيلة

هواءٌ من نَفَس الليل مسَّ شعلة السراج فوق المصطبة الحجرية، فتماوج ظلُّ القلم ذي النصل النحاس فوق السطور السود، الممتدة من فراغ الشهوات البيضاء إلى فراغ الشهوات البيضاء. تعلقت المعاني عناقيدَ ناضجةً بسهم الظلِّ، قبل أن يرفع دِلْشَادْ شَاهْنُور يده عن الورقة المختمرة بخيال صناعتها من عجين الذُّرة. نظر إلى السراج، ثم إلى الباب المطعَّم بخمس مرايا دائرية صغيرة من الداخل، ثم إلى النافذة الموصدة بعلوم أسرارها خلف ستارة القماش الكيكلادي الأصفر من نَسْج عذراوات جزائر إيجة: لا منافذ ليعبر الهواءُ المرصَّع بخرز الفرات البارد؟ إنها الشعلة، إذاً، تدور على أقفال الليل بمفاتيح الضرورات المُحتبسة في دورة النُّور ـ الدورةِ الموعودة بأهرامات من الحقائق التي تتأفَّف، أبداً، على مسمع الله، من كونها حقائق حتى الندم.
خاطب دلشاد الشعلةَ بلسان الطبائع الصامتة. وَعَدَها بزيت من كُلْية السَّمور يبتهج بنَفْحِه المحرورون، فهدأتِ الَّلجْلجةُ في كلام النار المُهذَّبة كنصلٍ ذهبٍ. عاد دلشاد إلى سطوره المنتفخة من كَرَم الحبر. عاينَ التوافقَ بين مراتب الشكل والغواية في ما يلي الشكلَ الحافظَ لجلال الصور. قلَّب المعاني وطابقَها أنفاساً، وحدوداً، ونواقصَ، كي يُصلحَ بين المتناظرات المتنافرات ويؤانس بين المُتحاذِر: كان يدقق، بالتناوب، في السطور التي يكتبها وفي سطور الكتاب المفتوح أمامه، كأنه يستنسخ الحركةَ الأبديةَ لأفلاك المتشابه المتنافر.
قرأ لنفسه، بصوت عال، سطوراً بالسريانية في الكتاب المفتوح، ثم قرأ لنفسه، بصوت خفيض، سطوراً دوَّنها على ورق عجين الذُّرة بالكردية. تنفَّس ملء رئتيه المتصلتين برئتي النشآت المكتملة في رماد الجوهر الدفين، والتفت إلى المرأة المستندة برأسها إلى كتفه اليسرى، من خلفه، كأنما تنصت إلى الأرق القديم في عضلة اللحم الشاهدة، منذ التدبير الأول لمتاهة العلوم، على أن الأعضاء اليسرى، في الإنسان، والحدود اليسرى في الكون القائم وجوداً أجساماً ومعاني، هي أقل شرفاً من اليمنى: "لماذا فضَّل الله هذه الجهة على هذه، يا دلشاد؟"، قالت أَكيْسَا وقد نقرت بإصبع يدها على جهتي ظهره. استدار دلشاد إليها في جلسته فوق البَلاس المنسوج من شعر أراويِّ جبل الكرد، الرطبة اللحوم من هبوب هواء بحر اسكندرونة الكسول. نظر في عينيها الطافيتين على غَمْر قلبه، وقبَّلها من فمها الشارد قبلةَ الممتنِّ للإثم الطاهر، فاستعاد فمُها صوابَه. تقلَّبت الحقائقُ مبتلَّةً تحت لسانيهما المتمرِّغيْن أحدهما في لوعة الآخر. انفصلا في الحيِّز الملْتَحم ـ حيِّز عناقيهما. "بقي القليل من هذا الكتاب. ستنتهي الترجمة"، قال دلشاد، فارتعدت عضلةُ الوقت في ثدي أكيسا الأيسر. أطبقت راحةَ يدها على عضده منذعرةً من فجاءة التصريح الصلب كغدرٍ. "لم تخبرني من قبل"، قالت بلسان الحيلة المُعطَّلة.
"أخبرتك مرتين"، قال دلشاد المُعلَّق من خياله إلى خياله.
"نسيتُ"، ردت موبِّخةً، بانكسار المُحاصَر، نفْسَها المُنشغلةَ عن أحوال الوقت. تداركَتِ الفراغَ العاقل، المنصت إلى انعتاق هواجسها من قيد النسيان: "ماذا نفعل إذا أنهيتَ الترجمة؟".
تراخى دلشاد. تراخى عصبُ الحيلة فيه: لماذا غفل عن إيقاظ نفسه، ذاتها، على صليل الوقت الذي بدأ يتقاصر من مهلة الترجمة؟ سنة وثمانية شهور. السطور السريانية في مخطوط "المُختَصَر في حساب المجهول"، المنسوخ بحبر من سُخام شجر الخوخ ودم ضفدع الرمل المسموم بلدغ العقرب، تتراجع أمام نَسْخها بالسطور الكردية. المعاني تتصافح وتتعانق. والرغيف، الذي عجنه دلشاد بيد الماهية الصغرى للضرورات، ينضج على نار اللغتين الموقدة من حطب المسكون الأليف: لقد سلَّم الزمن جرابَ نقوده من شرفة السريانية إلى العدَّاء في خيال الترجمان. "أخبرتكِ مرتين يا لسان لوعتي ـ أكيسا. ستنتهي الترجمة. ماذا نفعل إذا أنهيتُ الترجمة؟"، قال مُعتَصراً من رئتيْ وجدانه.
في بلدة كوماجينا المنتصبة على هضبة من رمل ما بعد الطوفان الثالث ـ طوفان الخسف الذي أصاب وادي قره صو، شرق الفرات الأعلى، نحر دلشاد شاهنور ثلاثة ديكة نقية الخُصى، لم تُسَافِد دجاجاً بعد، على باب مكتبتها المشهود له، في ميزان المتخاطبين بلسان البرزخ، أنها عقل بستة آلاف عينٍ هي مخطوطاتها المنظورة، وتقابلها ستة آلاف عين أخرى هي نظائرُها الحرَّةُ من العلوم المستورة. وقد خُلِعَ بابها الخشب المزين بتعاريق الحديد وفْق الخيال البيزنطي، ونُصب عليها بابٌ آخر من الإرث السابح على نداء الكمال ـ نداءِ العصمة الإسلامية، منذ تخلى سينودس خلقيدونية عنها لعجزه عن تدبير القائمين على شؤون النداء الإرثوذوكسي. بقايا سينودس خلقيدونية؛ ممثلون عنه؛ بعض المنتظرين نهاية التكليف كي يعودوا من أرض قسطنطينوبل المفقودة إلى ماوراء سور البحر، هم الذين رهنوا المكتبة إلى سراي بلدة كوماجينا. نقلوا مخطوطات اللاهوت الستة آلاف إلى دير ساموتراكي، على مداخل بحر مرمرة، وأبقوا المخطوطات الأخرى، المشرفة من حبرها على علوم المجاهل الأرضية، وغرائب العقل التائه في أمور التاريخ ومصادفات العِلل. نامت المكتبةُ على رمل حقائقها المدوَّنة بالأخبار الجسورة، والمَلولة، والنبيهة، والساهمة، والمُلْغِزة، والأليفة، والغريبة، ستَّ سنين. تعاقبت ثلاثة أجيال من سحالي الصخور الرملية على خيال صمتها، وهي تدوِّن، بألسنتها الدبقة الطويلة، أحاديثَ الوقت، المتأفِّف من شقاء الإرث الزمنيِّ، على أغلفة مخطوطاتها الخشنة، المصنوعة من رُقعٍ جلْدٍ، حتى اليوم الذي انقلبت فيه مجازاتُ الصمت إلى غزوات للصوت من مكنسة العرْفَج الموصولة بقضيب طويل من الخيزران: "أيُّ عقل أنتنَّ، يا براهين الغبار؟"، قال جِرْجُو للسحالي، وهو يمشط سطورهن على الجدران فيتساقطن على الكتب، وعلى الأرض ممزَّقاتٍ في جلودهن الرقيقة. جرجو نيقو قاديشا ـ الشيخ الأعجف، حملتْهُ رحلةُ النقائض في أرض الأناضول إلى كوماجينا. سريانيٌّ نصبتْهُ مجامع الكنائس الصغيرة، في قرى إقليم أنطاكية، كشافاً باسم الدورة الألفية للأسرار المنظومة في أشكال الحروف البيزنطية، يتحرى التورياتِ الحيَلَ، ويفكُّ الكيفيات المموّهةَ في صناعة أخبار الكميات عند رهبان نهر كوروتاس، المولعين باستنباط الألغاز من علوم "روح القدس". حمل ورقة عليها ثلاثة عشر ختماً إلى الباشا الشارد العينين في السراي، فلم يقرأها الباشا. وضعها على منضدته وساءله: "ما تريد؟"، فقال: "المكتبة، يا سعيد الشأن. أنا سرياني لا تفوتني ألاعيب الإغريق". هشَّ له الرجل ذو الإصبعين السبابة والوسطى المصفرَّتين من لفافات التبغ: "المكتبةُ في إدارتك. حبذا لو أضفتَ إلى مخطوطاتها سيرة السيدة غولبَدَنْ بَيغُم، ابنة الإمبراطور بابر. لها سطور عند أجدادي"، قال، فهزَّ جرجو رأسه منتشياً من غمامة الفوز: "سأضيف إلى المكتبة سيرة أبيها أيضاً، لو شئتَ، وسيرة أختها وأخيها"، فابتسم الباشا ثانيةً. أومأ إليه أن يجلس على كرسي فجلس الشيخ الأعجف، المعتمر طربوشاً يحفظ للعقل فراغَهُ الدافئ. "إلهام صوناي، أختي، عندها أشعار في أصناف الفراشات. لو تستنسخ منها أربع نسخ للمكتبة باسم لامليْنْ هانم. نعم. لاملين هانم أفضل من إلهام صوناي".
نحر دلشاد شاهنور ثلاثة ديكة على باب المكتبة. وضع قدمه اليسرى على جناحَيْ كل ديك وحزَّ بمديته قصبات الهواء المذعور. نطقت قلوبُها بأسرار المتعيِّنِ الصريحِ المُشْكل، وتلاسن الريشُ بكلمات الأفعال اللازمنية: "هذه هبةُ خيالي لك يا سيد قاديشا. أنا حيوان أعجم من صنف الطير الذي لا يطير، فاجْعَلْني ناطقاً"، قال الرجل الذي يرتدي قفطاناً أصفر فوق بنطال أسود، ويعتمر غطاءً أسود أيضاً، من نَسْج إقليم ميرسيْن، يحيط به طوق مجدول من الحرير خالطتْهُ شرائط ذهبية، فرد جرجو: "قبلتُ هبتك، يا ابن الأصل الناطق"، قالها بكرديِّة أهل الجبل.
ثلاثة ديكة، بأرواح ترفرف في الأرجاء اللامسكونة من خيال الوجود المسكون، كانت صلةَ لسانه الكردي باللسان السرياني، تحت رقابة جرجو نيقو قاديشا المتساهلة. حملها دلشاد معه، حيَّةً في قفص من غصون الكينا ـ شجرةِ البراعات الناقصة، وقد طُليت قضبانها بالأصفر والأخضر لونَيْ الرِّقية الخفية لجبْهِ داهية العين. كلَّمها، بلسان خياله الذي يتذوق طلْعَ نبات العرفج، عن سُنن العلوم التي تتفتق كبزر اليقطين بين أسنان الترجمة: "المعاني شطرنج، وزَّع التدبيرُ المُحيِّرُ كلَ حجر من حجارتها على لغة". سمَّى كل ديك باسم سهل من سهول كركميش بين الفرات الغربي وجبل الكرد: "فلتكن أرواحكن الناجية من أية مؤاخذة في السماء ميزانَ روحي في تقدير الهبات بلا خوف. أنا ذاهب إلى السيد قاديشا كي أستنسخ أثرَ المفقود الأزلي". ولمَّا بلغ عتبة المكتبة أنزل القفص عن ظهر بغله. نادى الشيخَ الأعجف بلقب الكياسة والفضل من وراء الباب ذي الوشم النافر بالحرف العربي في صورة "القلم"، فخرج إليه جرجو حاسرَ الرأس. نُحِرَتِ الديكة تحت بصريهما المتوافقين في رسْم امتنانيهما. وطَّد الدمُ تكليفَ العقل بلا حدود.
"ماذا ألهمك، يا دلشاد، أن تقصدني لتتعلم السريانية؟". ساءله الشيخ الأعجف، المُمْتَحنُ بعلوم الحروف والأنساق، فردَّ الرجل المُقبل على تحصين خياله الناطق باللغات: "المعذرة، يا سيد قاديشا، لو ساءلتك لماذا تعلمتَ التركية، والكردية، والعربية، والفارسية، واليونانية؟". حسر الشيخُ عن رأسه الطربوشَ الذي لم يتوارثه عن الأسلاف. أبقى يده على النَّسج القُمعيِّ الأحمر: "أحببتُ تقبيل الدنيا بأكثر من فم". تنفَّس دلشاد التوريةَ بحياءِ المُعْجِب، فتداركه الشيخُ ممازحاً: "تصوَّرْ لو أن لك خمسة، أو ستة من هذه"، وأشار إلى ملتقى فخذيه، فاضطرب دلشاد خجلاً. ضحك جرجو، وألقى عليه ثلاثة أبيات من الشعر السرياني اختضَّ فيها القافُ المكتنز كخنوص راكض. "لن أترجمها لك"، قال. "لا أريد لكَمرتك أن تنخسف إلى باطن صَفنكَ".
ثلاثة آلاف بيت من الشعر المكنون في رطانة السحر أُلقيتْ على مسمع دلشاد، في إقامته سنةً تحت سحاب الأزل السرياني. يتلقى من جرجو أنباءَ حروب المعاني، وحصارِ التوريات للتوريات، وأحابيلِ الحروف، وتاريخ الخطط المجازية لتوليد الأشكال المنطوقة من خيال السكون المنطوق، وتراشق الإعراب بأقدار العقل، وهزائم المفردات أو غَدْرِ بعضها ببعض. حمل جرجو قلبَ دلشاد إلى عاصفة وحدته شيخاً أعزبَ بلا نسل يريد أن يُنجب فيه ـ في قلب دلشاد ـ سيرةً طالما أرادها بلا بداية؛ بلا نهاية: "ولدتُ في كتاب عن تاريخ الماء. لا أتذكر نَفْسي إلا ماءً. ليس لي لحم أو عظم بعدُ. عليَّ جلْد يحيط بسحاب كثيف. وأنا، كلَّما أتقنت لغةً جديدة، عدتُ إلى هيئتي الأكثر إنحلالاً؛ إلى هيئتي الخفيفة في كتلة الظل الرطب. سترافقني يا دلشاد في عودتي بك إلى خوفي الأول من أن أدخل متاهةَ الحروف فلا أرجع قط". ابتسم: "من يدري؟ لعلَّني لم أرجع قط"، قال متردداً في النظر إلى خرزة يقينه.
الريحُ الرسولةُ دحرجت على لسان دلشاد بزرةَ المجهول الشبيهة بحَبِّ الكزبرة. سال لعابهَ من طهو النطق التركي، فتردد على التكية النقشبندية في بلدة نزيب، حتى حشد لنفسه، وهو يافع، سلالَ البذور النقية في خيال الكلمات. حفظ أربعة آلاف بيت وبيتين من أشعار المثنويين، الهائمين بسُبُحات الغروب الأعظم في الخلجان الجافة من بحر الأناضول المفقود. طلب قلبُهُ الاستزادة فأوفده أبوه سينو شاهنور إلى أخواله من آل هِمَّت الدين في حلب. جمع هناك اللغةَ العربية من كتاتيب الوراقين. عاد إلى بلدته سياسيل المرفوعة على جُرفٍ من بقايا الطوفان الثالث، ليوثِّق العقدَ الذي نَظَمه بأشعار الهواء في حنجرة الفرات الأعلى. قسِّم خياله، بالتساوي، على لغته الكردية، واللغة التركية، واللغة العربية، حتى غدا، وهو في مطلع شبابه بَعْدُ، إمامَ الملتمسين شفاعةَ تحرير العرائض إلى الوُلاة، وتسطير المآثر السَّنية للأنساب، وتجريد المَطالع الأكثر مبالغةً للرسائل المحمولة في سروج السعاة إلى محطات القطار بين أورفه وأنطاكية.
ظلَّ قَدَرُ لسانه واضحَ التدبير، يهيئ له في دُوْر السرايا، من أرض اسكندرونة وأضنة، تكليفاً مدفوع الأجر بالليرة العثمانية، عن تدوينه لنَقْل المُلْكيات، وتصريف شؤون المواريث في الأضابير المطوَّقة بخيوط القنَّب، حتى اليوم الذي أتاه رسول من الأمير مهران إيفارْدَرْ، سليل تاريخٍ يهتدي معصوب العينين إلى تزويد الأَنساب بكمالها. جمع دلشاد قلبَهُ المُثارَ وعدَّةً من حوائجه في صرَّتين على ظهر بغل، ثم تتبَّع الرسولَ إلى بلدة كَلاس، بين كركميش على الفرات وجبل الكرد. رمى حجرَ القراءات التسع من خياله على زرابية الغيب المزوَّقة يتسقَّطُ غايةَ الأمير من الإيفاد في طلبه. قلَّبَ خريفَ الحقول ورقة ورقة على ضفاف الجداول الثمانية والثمانين في مسالك السفوح الجنوبية لهضاب الشرق المُعشبة: "ما الذي قادك إليَّ، يا سيد إيفاردر؟". ذلك ما كان مكتوباً على لوح الحظوظ الموزَّعة على خياله بميزان اللاتعريف. ولما صافح دلشاد الرجلَ الشيخَ، ذا الحقائق المحزومة حول خصر قفطانه كلقبه الأميري، بدت المسألة صغيرة كسِفاد العصفور: "لَفَتَ عقلي خبرُك في شؤون اللغات".
سمع دلشادُ الكلماتِ عاديةً، مقرونة بالحاصل الذي جمَعَه بدأبه في اقتياد الخيال المتعدِّد للكلمة الواحدة إلى مآدب الألسن. لكن مهران فاجأه قليلاً بسؤال لم يتحوَّط له: "لماذا لا تتعلم السريانية، يا دلشاد؟". ترقرق الصوتُ كثيفاً إلى سمعه. "السريانية؟"، رد دلشاد بحروف تتمطَّى. "ماذا أفعل بالسريانية، يا سيد إيفاردر؟".
"في كوماجينا مَنْ يعلِّمك السريانية. آمر مكتبتها جرجو" قال مهران.
"ولماذا أتعلم السريانية؟"، عاد دلشاد إلى سؤاله بصوت شرَّده تدابيرُ جواب مَّا.
"عندي لك ما تختبر به يقينَ لسانك"، قال مهران.
"أتعني أن أترجم عن السريانية؟"، ساءله دلشاد.
"نعم" ردَّ مهران.
أرخى دلشاد عنقه على وسادة الهواء الخفية. تلمَّس ببصره إشارةَ العقل المتعرِّق من أحمال المخاطبات الصغيرة بينه وبين مهران:
ـ لماذا لا تعهد بالترجمة إلى ذلك السيد ـ آمِرِ مكتبة كوماجينا؟
"أريد كردياً يعيد المعاني تائهةً مثله"، قال مهران. عاين دلشاد غمامةَ المرح في عيني الرجل المحتفظ في خزانة نَسَبه بلقبٍ جرى إلى وريده من سلالة ناصر الدين محمد بن شهاب الدين الأيوبي، الذي بسط التاريخُ الثناءَ الأزرقَ عليه في مَيّافارقين ـ قاعدة بلاد ديارْبَكرْ. تنفَّست القرونُ على وجه دلشاد فاستنشق دلشاد الخمائرَ المُبْتَكرَةَ بنقائض المعقول:
ـ الترجمة مطابَقَةٌ بين المعاني. أثرٌ على مقاس الأثر، يا سيد إيفاردر. وأنا لست تائهاً، في الأرجح. قد أخذُلك.
"لن تخذلني"، قال مهران. "كل كردي موعود، في قِسْمة من حياته، بجهة تائهة". ولمس كتفَ حامل اللغات. "انظرْ حولك"، أضاف، فنظر دلشاد من حوله مُخْتَطَفاً من صحوته الشفيفة إلى اللغز الشفيف في توريات مهران.
"ماذا ترى؟"، ساءله الشيخ الخارج من خزانة لقبه الأزرق، فرد دلشاد:
ـ أرى بيتكم الكريم.
"أنت ترى مالا أراه، يا دلشاد"، قال مهران.
قيَّد دلشاد ميزانَ الأحكام الذهبيَّ بقيد شروده في لسان الشيخ، المتأدِّب على فطنة التاريخ ذي الخزائن المقفَلة. تأرجح خيالُه خفيفاً في نعاس التقدير: "من أين تريدني أن أبدأ، يا سيد إيفاردر؟"، قال، فردَّ حاملُ اللقب الأزرق: "نبدأ، أنا وأنت، من السريانية. تعال. اجلسْ إلى جواري هنا، على أريكة السيدة شَهْنَاز أرطغرل شاه. كًرديَّة توضأت بدم حمَام الزَّاجل كي يرجع بعلها التركماني إليها مهما كثرت أسلابه من نساء التتار، لكنه هجرها، فسلخته بعد خنقه، وكستْ عيني الفهد المنجور على خشب عارضة هذه الأريكة بجلد صَفَنه". أمسكَ بسبابة دلشاد وتقرَّى بها بؤبؤي الحيوان النافرين. سحب دلشاد يده، في حياء ونفور معاً؛ تسربت إلى إصبعه ليونةٌ وخزتْ خيالَه.
في ميناء اسكندرونة تفتقت بزرةُ النداء السرياني في القطاع الثامن من عقل مهران. سقطتِ البزرةُ عليه من أرقام الحساب المتطايرة من دفاتر جباة المكوس. كان حاملُ اللقب الأزرق يستخلص عربةً من التي تجرُّها الجياد، صُنعت في سردينيا من ائتلاف النحاس المعتلِّ من رفاهية الفلزِّ الخالص، وخشب القيقب المعذَّب بكمال النار. مسَّ جلدَ المقعد الأحمر، والبطانةَ المخملَ للقبَّة التي تُطوى من مفاصلها الأقواس المخططة بأزرارٍ ذهبٍ تعكس السماءَ مدوَّرةً في شرودها. "عوفيتم"، قال للعمال التسعة، الذين حملوها إلى ظهر محفَّة كي لا تمسَّ عجلتاها الأرض، في طريقهم من زحام الميناء إلى قطار ملاطيَهْ. تنفَّس الهواءُ. كُتِبَ ما يستذكرُهُ الغيبُ من لوحه المرئيِّ فقرأ مهران سطرَ امتنانه للحظوظ الساهرة عليه من فَلَك إرثه. دفع لجباة المكوس ورقاً عريضاً نقلتْهُ صناعةُ النقوش والرسوم من مرتبة النشارة الخشبية إلى مقام المعدن النفيس. عدَّ الجباةُ الورقَ النقد بالحاصل الذي يحوِّل اللون بين رسم وآخر إلى كمٍّ من الماهيات الجليلة كوجوه السلالة العثمانية، المتطلعة بعيون لاتخطئ إلى المجهول المروَّض في أقفاص الأقاليم. بلغ الصدى السرياني لألسنة الجُباة، وهي تحصي الأعشار حشداً حشداً، مسمعَ مهران: أرقامٌ غزلانٌ تقافزت من العِلْم المستور إلى الغيب المكشوف. "لماذا تعدُّون بالسريانية؟"، ساءلهم حامل اللقب الأزرق، فردَّ عريفُ الكشوف المكوَّمةِ في فوضى أيامها، والسجلات المقيَّدة بسلاسل من ذهول اللامرئيِّ: "الرقم وحشي، نَفُورٌ وحَذِرٌ، لكنه يأنس إلى مناداته بأسماء الصِّور"، قال بلسان تركي.

الرقم حيلةُ اللاتقييد في علوم المحسوس؛ وواسطتُه إلى عِلْمه بذاته هي لفظُ الإطلاق بلا عمقٍ، أو بُعْدٍ، فكيف قيَّده عريفُ المكوس السريانيُّ بقيد الهيئة، واللون، والحركة، التي هي منزلة الصِّور في خيال العين وخيال العقل؟ الرقم حدٌّ وحيِّزٌ؛ حَصْرٌ، وضَبْطٌ، ومراوغةُ فكر لاستدراج الكليِّ إلى متَعيِّنٍ أسماءٍ هي كنايةُ غيابه: تجريد الرقم بلا أمل في شكل، أو لون، أو أثر من آثار الماهية، كأنه غيبوبةٌ تُكنَّى بها مَلَكاتُ اليقظة، فيستعير منها الإنسيون حقائقَ الكمِّ الموقوفة على أشياء العالَم وأشياء العقل. فكيف خرجت اللغةُ السريانية على ناموس البزرة التي أنجبت خيالاً على هيئة اللاخيال؛ البزرةِِ المتجرِّدة من غذاء الأَبعاد الثمانية ـ أبعادِ الجسم ولوازمه الحُرَّة الناطقة، والصامتة؟ للرقم أسماء الصور. هذا ما فهمه حامل اللقب الأزرق من عريف المكوس على باب البحر الأشعث من كثرة لهوه بالأرخبيلات المسكونة. السريانية!! ها؟. لغة التحقيق في علوم المُهْمَل ـ يقول المُنَزِّهون خواصَّ المُسْتَغْلَقات؛ وذلك، تحديداً، ما طرب له القطاعُ الثامن من عقل مهران، فرقص خياله من أول مساء البحر بإسكندرونة، حتى فجر الحدائق المحروسة بالبوغانفيل في كلاس.
كانت اللغة السريانية تحت يدي مهران، قبل النداء الذي تفتقت بزرته في ميناء إسكندرونة ـ ميناء الخليج المُتكتِّم على أحاديث القيَّافين في متاهات البرزخ الإغريقي: حَوَت مكتبة أبيه، التي ورثها مع أخته شَبول فأخذت نصفها إلى عفرين، ما يخرج عن تدبير اللسان في الفهم. طبٌّ، ومنطق، وشرائع مأهولة ومهجورة، وكيمياء، وفَلَك، وهندسة، باليونانية، والفارسية، والتركية، والعربية، والهندية؛ وترجمات بالسريانية عن فلسفة أهل العقل المسحور ـ عقلِ الوصف الكامل لآلات النفصان؛ وصحائفُ لها حجوم الأبواب تحوي خطوط مِلَل الصين المطوَّق بحجارة الشُّهُب، التي نفخ عليها الغيهبُ من جهات الكلب الأكبر في دخوله برج القوس، فتساقطت أشجاراً سوداء، وأنصافَ أسماكٍ سوداء، وتماثيلِ فِيَلةٍ وأحناشٍ.
لم يتوسَّط قلبُ مهران لخياله بين اللغات إلاَّ ما اتَّصل منها بالوجدان المُعَذَّب في سطور التاريخ، حيث يبني الغَدْرُ الممالكَ والدول، ويهدمها الصَّلاحُ؛ ويقدر السَّلبُ والغَصْبُ أن يعيدا صناعةَ الأقدار وِفْقَ رغبة الرحمة. إلتفتَ بعضلة الاعتبار فيه إلى التركية، والعربية، وبعض الفارسية. لكن مكاشَفات الرقم، على ألسنة جباة المكوس السريانيين، أعاد إلى بصر أعماقه صورةَ المخطوط الذي دوَّن عليه أبوه زازا إيفاردر بالكردية، تحت عنوانه السرياني، ترجمةً بالقلم الفحم: "المُخْتَصر في حساب المجهول"، مع تعليق مُخْتَطَف من خوارق اللسان الحَذرِ، وتوريات الخوف من العبث بالحدود المصكوكة من معدن المحظور: "حين يبلغَ بكَ العدُّ إلى الشيطان يتضاعف الرقم الذي أنتَ فيه. نصف ذلك الرقم هو الأزل. وحين يبلغ بكَ العدُّ إلى الله يُختزَل الرقم الذي أنت فيه من تلقائه. نصف الرقم المُختزَل هو الأبدية".
"نبدأ من السريانية، يا دلشاد"، قال المتكئ على خزانة لقبه الأزرق، وسرد عليه، باختصار في تحديد الجهات والوقت، أنه أبلغ الباشا الشارد العينين في كوماجينا بقدوم دلشاد، عسى يشمله آمرُ مكتبتها بسخاء الصبر، وسعة الصدر، والسلوك بالحروف السريانية إلى الترويض والاستئناس باستدراجها من ناموس حقيقتها إلى الإقامة في حقيقة لسان آخر، منعكسةَ الهيئات في ماءِ المعنى الواحد. "خذْ ثلاثة ديكة نقيَّة الُخصى، لم تمسَسْها برهةُ سِفاد بعدُ. السفاد يورث الكائنَ خيالَ الشكِّ". أخذ دلشاد الديكة، في قفص، وهي تتجادل، باهتزازٍ من أعرافها، في شؤون السديم الذي ترجع إليه روح الحيوان. نُحرَتِ الديكةُ على عتبة باب مكتبة كوماجينا. تلاقحتِ البرازخُ وتسافدتِ الحدودُ المحجوبَة ببلاغة الدم وفصاحته.
ثلاثة آلاف بين من الشعر أُلقيت على مسامع دلشاد، تحت غمامة الإرث السرياني. ليس لدى سَحَرةِ تدوين النَّظْم المُسْتَغْلِق، أو المُبيِّن، ومثله من أناشيد الليل والنهار، ترجيحٌ للعدد المُحصى من سطور مرثاة "خراب أنطاكية"". بعضهم قدَّرها بعشراتٍ تسعٍ، وآخرون بعشراتٍ مائةٍ غير منقوصة، إلا جرجو نيقو قاديشا، الذي عدَّها ثلاثة آلاف بيت وبيت واحد أكلت الأرَضةُ عجزَه، فآثر إسقاطه من المرثاة لغرابة ما تبقى من صَدْره: "البقاءُ الذي يمزِّقُ ذلك كلَّه"، متحسِّباً للأمر بعذرٍ قويٍّ: "يا دلشاد، هذا البيت منحول. إسحاق الأنطاكي لا يشير بلفظ واحد إلى الزوال. الأشياء تتقوَّض، لكنها تبقى على صورة وجودها المحظوظ في عقل عناصرها. الوجود المحظوظ هو ما يكون امتنانَ الهيئة لأبعادها المرئية المعقولة في نسقٍ مُرْضٍ. الهندسة تفعل ذلك. الرياضيات تفعل ذلك. أعني الرياضيات. نعم. تجريدُها مرئيٌّ. دَعْكَ من هذا، وتعالَ إلى اسحق الأنطاكي. إنه لا يشير إلى الزوال، فلماذا يُقْحِمُ البقاءَ في الشطر الأخير من مرثاته؟. ها؟"
تسرَّبت إلى مرثاة اسحق الأنطاكي أبيات عن ظلال شجر النارجيل في كوماجينا ـ ظلال الشجر الباكي بدموع الفلسفة على أفكار الثمر القًلِقة. لم يدبِّر لها جرجو تبريراً. ربَّما مرَّ اسحق بأرض كوماجينا، في لحاقه بخيال الأعمدة وهي تنهار تحت ثقل السِّحر الزمني: الأعمدة الذهبية؛ التماثيل المطوَّقة الأرداف بأحزمة الوجود المرتخية؛ الأبهاء الناطقة بلسان الرخام؛ الآنيةُ الجِرارُ المنقولة بأقلام الخزف عن عقل اللون. من معاقل السهول الملتوية حول نهر العاصي حتى قلعة أَعزاز المحمومة من ريح السلجوقيين، نثر اسحق لوعتَه على بساتين التاريخ، كلِّ بستان بحسب ما حوى من مراتب أنطاكية ـ فردوس النهب المتعاقب بين أمم الغضب، حَمَلةِ بيارق الشموس، والنسور، والآساد، وأنصاف الأقمار، والصلبان، والنجوم. قراءة في الوَدَع كانت أنطاكية؛ تجمعها يدٌ وتبعثرها يدٌ، فتجتمع لها حظوظ الحدائق مرَّةً، وحظوظ المدافن مرة. روم، وفُرْسٌ، وعرب، وصليبيون، وعثمانيون، بتعاقب مُنْصف للمجهول المحيِّر، والمعلوم المبذِّر، يضاف إليهما زلزالُ القرن السادس بعد معجزة الحَبَل السماوي ـ زلزالُ المشادة المدبَّرة، بإتقان، بين الله والوجود: "أيها المساء الذي تحمل على ظهرك، كالأتان، ريحَ الفَسَاد الذي إمتلأ به جوف البَيْض". كذا صَكَّ الأنطاكيُّ معدنَ شفقته على طباع الصيرورات، في البيت المًشرف من سطور المرثاة على حقائق الليل والنهار، المدوَّنة بانفجار العناصر الترابية غيظاً ـ عناصرِ تأويل الغيب المحسوس مثل فُساء الظربان. وقد ألحقَ جرجو بمطلع فقرة الزلزال من عمود المرثاة بيتاً آخر، باعتراف وحيد منه، ابتغاء "ترميم" المعنى ـ كما يقول ـ بهيكل من المجاز الذي لابدَّ منه ليصير الشِّعر إشراقاً من عصيان الكلمات للكلمات، ومن طاعة الكمال للعبث: "أيها المساء الكلب، اللاهث، الذي يقود الإنسان الأعمى إلى هاوية النُّور"، جازماً أنه أراد "النُّورَ" رمزاً لبراعات العمران، وترف الزخرف والنَّقش.
كانت شمس الربيع، الموشومة برُقى الفَلَكِ الرابع ـ فَلَكِ الخصائص الأزلية، منعكسةً، في الهزيع الأول لمغيبها، على الجدول الصغير الذي لم يترسب من دم الديكة الثلاثة، حين غمس دلشاد ريشة قلمه المثقوبة في سائل الحياة، ودوَّن تاريخَ قدومه إلى كوماجينا على صفحة من دفتره المجلَّد بلوحين رقيقين من قشر البلوط المضغوط بعد نقْعِه في لبن الخيل. جرجو، نفْسُه، مَهَرَ الصفحة برَسْمِ إبهامه تأكيداً للرهان على سباق دلشاد مع المكان المطلق السراح كعلوم البدء. وقد كانت الشمس ذاتها ـ شمس الربيع المختمرة في حقول الهندباء والناردين، هي المنعكسة، في الهزيع الأول من الصباح، على بِرْكة دم الديك الروميِّ المذبوح على عتبة باب مكتبة كوماجينا، حين غمس دلشاد ريشة قلمه فيها ليدوِّن يوم رحيله عن بساتين جرجو المستورة بحجاب من أشعار سَلفه الحزين اسحق الانطاكي، بعد سنة وشهر واحد من الإقامة في برزخ الحروف السريانية: "أستاذ قاديشا، ضعْ صورةَ إبهامك المغموسة في الدم على طرف منديلي هذا، الذي مسحتُ به أربعة آلاف مجلد. لن أغسل عنه الغبارَ الناطق"، قال ملتفتاً بعنقه إلى شجرات الميموزا الأربع في الساحة المفتوحة، جنوباً، على مقابر الغرباء المجهولين. تحت الشجرات كان الشيخ مراد حاج كوزلي متكئاً بظهره إلى جُرن حجري، معفَّرَ الهيكل، من عمامته حتى قدميه الحافيتين، بالهبوب الخامد لزهر الميموزا ـ زهر الولادة العسيرة لغمامة اللون الأصفر من رحم شقيقتها البيضاء. "إنه ينازع"، تمتم دلشاد. مَهَرَ جرجو طرف المنديل بإبهامه: "منذ ولد وهو في أمره هذا. سينازع حتى في الجنة" قال سليلُ الهدنة الأبدية للخيال السرياني.
تحت شجرات الميموزا أنهى الشيخ مراد رحلةَ جسده الصائم، الذي انتقل به من شجر الكينا إلى شجر التين، ومن شجر الكستناء إلى الأكاسيا. انجلى لعقله الممهَّد بالزخارف الذهبية ـ زخارف التأويل السالك محموماً بين التيه والندم، أن التكْفير، الذي قالت به أممٌ من أحزاب الوعيد بلانهاية، تكْفِير مبتور. فما طاول من الأحكام أطفالَ الزنادقة بتكليفهم شُبهاتِ الآباء، ينبغي التوسُّع فيه على المطابقة بين المادة العضوية والإرادة. فالأغذية تولِّد للجسم ما يصحُّ به توليدُ الفعل: "التفاحة، على الشجرة، هي غير ما هي وقد انهضمت في أحشاء الزنديق"، قال كوزلي. التفاحة إمَّا شرٌّ أو خير، لكننا لا نعرف منزلتها على الغصن. لا بأس. ما يجري في التفاحة يجري في اللحم، والكراس، والعدس. الفهرست، الذي حوى أسماء النَّبت، والبزور، انتهى في فضل ختامه بالمنيِّ. أخذت الحيرةُ بلجام المقايسات في إشراف كوزلي الشيخ من حقل التَّكْفير العاطر على آلات الحقِّ ـ آلات صَقْل المغاليق، وترميم الأَقفال: "المنيُّ شُبْهة"، قال. نَحْوِيُّو الرموز، والمواثيق المؤكَّدة المفقودة، في أنحاء من جبال أمانوس، لم يناهضوه ولم يُمالئوه. تركوا لأسبابِ اجتهاده أن تبقى معلَّقةً إلى باب الوحي من وجه، وإلى باب الكَسْب والتحصيل من غرائب الأحكام، من وجه آخر. فاشتد بالشيخ كوزلي نزوعه إلى تفريع المُشُكِل من المُشْكل: "الماءُ شبهة. الماء غذاء الشرِّ في الزنديق"، قال. قُرئتْ عليه كرامات الماء في الأحكام، فأكَّد جوازَ النَّسْخ من العلماء الأقطاب: "لا كرامة للماء بعد انكشاف المحذور من علَّة عنصره. انكشف الماء لي، وأنا قطبٌ"، قال، ثم أسلم جسدَه للجفاف الطاهر، صائماً، ينقل طبائعَ الرطوبات، في الخلية، من حال ذهول إلى حال ذهول، حتى تبعثرت مقاديرها في رُسوِّ الغيبوبة به تحت شجرات الميموزا، حيث ألقى دلشاد ببصره وهو يستعيد منديله المذيَّلَ بتاريخِ الظاهر من جرجو نيقو قاديشا.
"المُخْتَصَر في حساب المجهول" هو المخطوط المُسْتَنْسَخ، الذي وضعه الأمير ذو اللقب الأزرق، بين يدي الخيال المُمْتَحَن بدورة المطابَقات اللامتجانسة ـ خيال الترجمان في المنزل الثالث من عقل دلشاد. كانت الغرفة، المخصصة لإقامته، بارتفاع خفيف عن السور الجنوبي من دار مهران، تطل بشباكها المطوَّق بحجر أصفر، نافرٍ، على حقل شجيرات اللاَّذن ـ شجيرات الميثاق المائِّي، المحاصَر دائرياً بطريق مرصوف حتى سوق كلاس الكبير. "الترجمة ماءٌ"، قال مهران حين قاد ترجمانه من البوابة المشرفة على نهر نُوْهْ آفْ، عبر الممر المسقوف برقائق القرميد ـ خزفِ المكنون المشوي فوق نار العلوم، إلى الغرفة المنفصلة بتمامها عن هيكل الدار العالي. "نحن ندعو هذا النهرَ نُوْهْ آف، والأتراك يدعونه يَلْدِزْ". نبعٌ ـ سُرَّةٌ في جسد الظاهر المؤجَّلِ سَفحَ معادنَه الدَّهرية في الأخدود المتفرِّع عن انهدام وادي قره صو، فقطع كلاسَ من ثلثها الغربي. على ضفة المجرى الشرقية بنى زازا إيفاردر، والد مهران، دارته طبقتين فوق نجدٍ منحدر باتجاه الماء. جعل عينَ البوابة ـ المطعَّمة الخشب بأصداف تتبدل ألوانها في المغيب، اجتُلبَتْ من حرش الدَّلْبوث في جزيرة ساموس المهجورة ـ على سطور النشيد، المحفورة هَمْساً، في لوحِ نوه آف الشفيف. أزاميلُ الزبد الرقيقةُ ابتكرت حروفَ الظاهر الخفيِّ معروضةً بكمالٍ على خيال زازا. "هلاَّ رفعتَ الماءَ سُوْراً حول بيتي؟"، قال الرجل للمعماريِّ الأصمِّ، المنحدر من سلالة فَنيَ نصفها بسموم الزئبق، في توبيخها العلومَ المقصِّرة عن تحويل الزئبق إلى تبرٍ، فردَّ الأصمُّ برطانة فيها نبرٌ من صوت طيور القُوق: "ألا يكفيك سورُ السماء، يانقيبَ البَرِّ؟".
كانت الغرفة ـ المنفصلة عن مجرَّة الدار ذات المداخل الثلاثة، المتفرِّعة عن الصحن الحجري الذي يلي البوابة ـ منذورة، في الأصل، لآلة زازا الخشبية، الضخمة: ألواح واسطوانات، قبَّان، مروحة، أمشاط مستطيلة مثبتة في تجاويف أفقياً، ملاقط، حوض تحت الألواح غير عميق، عتلة ذات مقبض تُدار باليد. آلة من قديم الإنشاء الصيني لورق الرسوم، حملتْها الجمال القاجارية أجزاءاً إلى بخارى، ثم حملتها بغال صحراء الملح إلى قزوين، ثم حملتها القوارب في فروع الأنهار إلى بحيرة وانْ، ثم لهثت بها عربات حمير الأناضول البيضاء إلى نبع كلاس. نُصبت الأجزاءُ هيكلاً كهيكل الوقت، ودُهنت بزيت زيتون رودس الأسود فالتمع بالعافية خيالُ الخشب الساهرُ، منذ بزرة نشأته الأولى، على تكليف حقيقته بصناعة الكاغِد.
تحصَّلت لزازا علومٌ صغيرة في مهنة انتقال العجين إلى ورق، بمخالطته الورَّاقين في أورفا. لكنه آثر اعتناقَ المجازفة بالخمائر في صيرورتها غذاءً لصناعة المخصوص، وابتكار السريِّ. وقد خذلته الخمائرُ حيناً، وأعانته حيناً: إما يتفتت الورقُ من مقادير أخلاطه اللامتجانسة، أو يخرج نبيلاً بجوهرٍ ليس إلاَّ من خصائص الجسارات. كان زازا يخرج بمحصول من ورقة أو ورقتين في شهر، بمقاسات لا تتعدى أشباراً قليلة، يوقفها على أهل الخط، وسادة الرسوم من الكرد. فإذا عادت الأوراق إليه معتنقةً خيالَ المقادير الكبرى والصغرى للأَشكال، متعْتعةً من غَزَل اللون، وهَبَها لباشوات من آل زنكي في معرَّة النعمان، وآخرين في أَعزاز.
لم تبق نُخالة شعير، أو حنطة، أو جاوَرْس، أو ذُرة، أو لوبياء يابسة، إلاَّ روَّضها زازا على الملاسة بعد حَذْفِها رقائق حَسَنةً بتدبير خمائرَ من أحماض الصمغ، يترسَّب منها الجوهرُ كَيْفاً، والكيفُ جوهراً، في الحوض الذي تتخذ فيه العجينةُ خصائصَها النهائية كورقة ينشِّفها بمروحة قصب الغُدران. طَحَنَ نِقْيَ نبات الأخيون، ووَزيْم النخل، ومزجهما بدقيق صَدَف الحلزون النهري ـ حلزون لسانِ الحقائق الرطبة، ثم جفف الخَلْطَ في ساعة المغيب من ستة أيام في أيَّار العاقل، وأعاد عَجْنَه بعصارة حَبِّ القُرطم، فاستخلصَ الورقَ الأصفر الصالح لتدوين الحِكَم الهندية بالحبرِ البُنيِّ ـ حبرِ اللون الملجوم. نقعَ القطن، مُسْتخرَجاً من جوزه الأخضر قبل نضوجه، في نشارة شجر السرو، وأضاف إليه صمغَ الغار مع حمضِ الحصرم، فاستخرج الورق الرماديَّ الذي يغري باستراق البصر، عبر اللونين الأحمر والأسود، إلى العَدَم مُظلَّلاً بحروف أهل الحبشة، التي شاعت في الوشم. ولمَّا استنفد زازا كيمياءَ النِّسَب العضوية في معاجينه، نزح به خيالُ المحظور إلى تدوين أَحكامٍ في ما يتوجب تخطيطه على جلد الآدمي، بحسب جلْد كلِّ عضو فيه:
"جلد الظَّهر يصلح لنقش أشرعة المراكب. الظَّهرُ خليجُ الإنسان، ومابين تَرْقوَتيْهِ ريحٌ".
"جلد الصدر، مع حفظ الحلمتين فيه، يصلح لنقش النمور تتصيد الحمارَ الوحشيَّ. الصَّدرُ بريَّة الإنسان، ومابين الثديين آثارُ عميان قنَّاصين بالسَّمع وبالشمِّ".
"جلد البطن يصلح لنقش الأسماء الكبرى ـ أسماء الأفلاك الأرضية المتصلة بأسرار العنب. البطن آلةُ الإنسان في تمكين المُطْلَق من العثور على أغذية الجوهر".
"جلد العانة يصلح لنقش نبات البرسيم. العانةُ حياءُ العقل من النظر إلى نَفْسه يرعى في حقول جيرانه الثلاثة: الخيال، والتيه، والمحظور".
"جلد الردف يصلح للدمغ بختم المَكْس الأزرق ـ مَكْسِ الزجاج والخزف. ردفا الإنسان سِيرَتُه".
"جلد الفخذ يصلح لنقش الإسطرلاب. فخذ الإنسان عِلْمُ جسده".
"جلد الرقبة يصلح لرسم الخنفساء بالحديد المحمَّى. الرقبة حماقةُ الجسد في الإشراف على الفَناء المهرِّج".
"جلد الجفن يصلح لتدوين الرقم التاسع. الجفن علامة الحجاب في الإنسان".
"جلد الغُرْمُول والصَّفن، من غير فصلٍ، يصلح لنقش بيت من الشعر في خصاص الموت. الغرمول والخصيتان من آلات الخوف".
أهمل زازا، في سِجلِّ الجلد المدوَّن بحبر من مرارة الوَرَل، ذِكْرَ الذراع، والساق، والعَضُد، والرأس خَلاَ الجفنَ فيه. لكنه استفاض في ما يصلح له جلدُ ظاهر القَدَم مع استبقاء الأصابع الخمس: رَسْمُ الفَلَك على صورة زرافة بخمسة أعناق؛ أو الديك بخمسة رؤوس؛ أو تخطيط كلمة "الخسارة" سبع مرات تلحقُها تعريفاتٌ فيها إطراء، واستحسان، وتفخيم، ومَلاَحة، واستِعْذاب: "رِبْحُكَ من الخسارات لا حَصْر له؟ إِخْسَرْ أكثر تَزْدَدْ ثراءً". :الخسارةُ يقظةٌِِِ. الربحُ إغفاء". "الخسارة لذَّةُ الربح".
في الغرفة تلك، المشرفةُ بشبَّاكها الجنوبي على حقل شجيرات اللاَّذن، تماوجت كلمات الأمير ذي اللقب الأزرق في خيال دلشاد: "الترجمة ماءٌ". ربما كان الندى المنتشر من أنفاس نهر نوه آف على فضة الحياة، حول دار مهران، يستدرج العلومَ إلى النظر في منشأِ الحساب الأزليِّ ـ الماءِ شُعلةِ الرقم الأول؛ رقمِ المُمكنات. لكن مخطوط "المُخْتَصَر في حساب المجهول" بدا على شَكل كثيب في صحراء من الريح لا من الرمل، عليه أثر من أصابع الوَرَل ـ سادن الجفاف الناطق بأسماء المجهول الأربعة: العِلْم؛ النسيان؛ البداية، والمقدور. ربما أطلقت تورياتُ الأب زازا إيفاردر ذلك الوَرَل من كمين سطوره "حين يبلغ بك العدُّ إلى الشيطان..إلخ. حين يبلغ بك العدُّ إلى الله..إلخ"، ربما. رأى دلشاد الأثر الخفيَّ للحيوان الزاحف في مجاهل الحرف السرياني. قلَّب الورقَ الخشن بأنامل تتقرَّى ممحاةَ السرِّ. قرأ اسم المؤلف: جرجيس لوقا سالوحي: "هذا كتابُ الأَعيان المنتظرين أن يلدَ أحدهُم من عقل الآخر وهم يلعبون الشطرنج".
"بقي القليل، يا أكيسا"، قال دلشاد، في مساء الخريف المرصَّع بخرز الفرات. "ماذا نفعل إذا أنهيتُ الترجمة؟".
وضعتْ أكيسا شفتيها المملَّحتين من فَصْفَصة بزر اليقطين على زاوية فمه اليسرى. تذَّوق بلسانه خيالَ لسانها المشتغل على توليد الحواسِّ السبع ناطقةً بشهواتها. قامت إلى النافذة الشمالية ـ نافذةِ الجهة العجولة: أبعدت ستارةَ النقوش الجبلية بإصبعها مقدارَ فِتْرٍ ترصد ساحة الدار. "سنجد حلاً"، قالت من غير أن تنظر إليه. تراجعتْ عن النافذة: "سأذبح هذه البلدة فرداً فرداً على ركبتي إذا أنهيتَ الترجمةَ. الانتهاء منها مُلْكي، وحدي، ياعِرْقَ كبدي يا دلشاد"، قالت، متجهة إلى الباب الذي فتحه لها الشاب. رمتْه بحفنة من بزر اليقطين، وانسلَّت.