لم يكن الشعر ما استدرجني إلى "سليم بركات، بل تقريظُ الكتب، ففي غفلة تُحيلُ المصادفات إلى مصائر، وقعتُ على عددٍ من مجلة "الحوادث"، وفي صفحاتها الثقافيّة شدّني عنوان "الفرويديُّ الماركسيُّ في المصح الأمريكي" وكان مراجعة لكتاب عن فيلهلم رايخ واليسار الفرويدي، بتوقيع سليم بركات.

أيّامها كان وصول الكتاب أو المجلة لنا، نحنُ أبناء فلسطين المحتلة (الجزء الثاني - طبعة 1967) أصعب من وصول السلاح، كنا نتسلّلُ إلى إخوتنا من أبناء فلسطين المحتلة (الجزء الأول طبعة 1948) والذين يدرسون في الجامعة العبرية لمساعدتنا في الدخول إلى المكتبة ل"نهب" ما يمكننا نهبه من ثقافة ما وراء النّهر.

واظبتُ على "الحوادث" بسبب سليم بركات، وتلمّستُ تحالفاً ثلاثياً يُغذّي قسمها الثقافي بنبضٍ حميم ودم حارّ وراعف، واستشراف واعد، أكبر من أن تستوعبه مؤسسة، وأخطر من أن يحتويه حزب، أو فصيل سياسي، هنا تعرّفتُ على طلال رحمة، إلياس خوري، سليم بركات، وهناك في القدس ورام الله ونابلس وغزّة قرأنا (أنا وأصدقائي) لهؤلاء، قرأنا بإعجاب، ورأينا أنفسنا امتداداً ما لهم، وبدأنا رحلة البحث "لتهريب" نتاجهم من خلف النّهر.

القصيدة الأولى التي قرأتُ لسليم، والتي لن أنساها، وقعتُ عليها مصادفة في مجلة "الشّرارة" التي صدر منها عددان، فقط على ما أعتقد، وكان يرأس تحريرها غالي شكري، كانت القصيدة بعنوان "الفصيلة المعدنية"، وكانت هذه القصيدة حاسمة في ما يخصُّ فهمنا لسليم، فها نحنُ بإزاء شاعر لا يشبه أحدٌ، ولن يستطيع أحدٌ التّشبّه به. ها هي المفردةُ تولّدُ موسقاها وتجاور غيرها لتبني جملة موسيقية ساحرة وعجيبة. لم يطل انتظارنا، حتى وصلتنا مجموعتان شعريتان له فقرأنا "كلٌّ داخل سيهتفُ لأجلي وكلٌ خارج أيضاً"، و"هكذا أبعثرُ موسيسانا".

هكذا استدرجنا سليم بركات إلى شعره، استدرجنا بذلك الإحساس الذي يتولّد لدى القارئ بلدائنية المفردة، تلين، في تشكّلها، كما لان الحديدُ لداوود، على صورة وعي عاشق للغة والتراث، هو وعي الشاّعر وعشقه.

سليم ينجح دائماً في تأسيس علاقة ثلاثية مرهفة وحساسة وأنطولوجية معقّدة بينه وبين المتلقّي، هي علاقة تؤدي إلى حال "بيغماليونية" معكوسة إن جاز التشبية، فتربط القارئ بغواية النص، وتثير فتنة التّملّك لهذا "المشاع" الغنيُّ، وتحاولُ أن تبقي المنتج الحقيقي للنّص "مغيّباً" في أبدٍ بروليتاريّ ثقافيّ وهّاج بثورة متّصلة.

أإلى هذه الدّرجة يمكن للنّص أن ينطق بمحموله، بحياته المقبل منها، بأسرار صاحبة ومفضوح عالمه، بالمأساة الكرديّة، مثلاً، ودائماً: أإلى هذا الحدّ نحنُ، من المحيط إلى الخليج، أكرادٌ؟!

نعم، نعم. حين قرأتُ "لشمدين، لأدوار الفريسة، أدوار الممالك" كنتُ أقرأُ مرثاة مبكّرة لزماننا. كانت كامب ديفيد تهيئ مسرحها بالمذابح، كانت مأساة مهاباد تعيد إنتاج نفسها في كلّ صقع، ثم ... ثم سناجق .. حكم ذاتيُّ في كلّ مكانْ، ولا فرق بين سنجقْ وآخر إلا بألوان العلم. وصنوج الأناشيد الوطنية، واخلع عليها ما شئت من صفات "الدولانية"، دولة، إمارة، مملكة، جمهوريّة، أوجمهوريات ملكيّة.. للبنين والبنات! (قريباً جداً) بالميراث!

وسأذكرُ، أيضاً، كيف استدرجتُ طلابي في جامعة بير زيت، وأثناء تدريس في قسم الدراسات الثقافية، إلى قراءة "هاته عالياً، هات النفير على آخره"، وعلى مدار أربعة فصول دراسية كانت هذه "السّيرة" مفتاح طلابي، أو بابهم، كما عبّروا لاحقاً، إلى عوالم الإبداعات الشّعرية الجدية، والانتباه إلى ثراء حيواتهم، وعمق دلائل التأمل.

ولا يزالُ سليم حجّتي على ممكنات المفردة العربية، ومبررات استمراري في الانفعال بالشّعر، دليلاً لنفسي روحاً وعقلاً، وأبتسم بيني وبين نفسي، الآن، وأنا أختم الكتابة إذ أنتبه إلى أنني لم أختر السّكنى في "ركن الشعراء" (Poets Corner) في غرب لندن، وجليسي "أنقاض الأزل الثاني"

عن (القصيدة) /1