من القلائل الذي نجو من ممالك الآلهة، ليستطيع أن ينشئ لنفسه ملكة أفاقين. ملكٌ مهمّتهُ الوحيدةُ الاستدعاء والاستحضار لمشاهد وموجودات يتوهّمُ فقدانها، فلا يهدأ لهُ صوتٌ! كأنّها مطابقة حديثة بين الحال والمقال، ولربما كان أفصح تجلّياتها إثباتُ هويَّة لغويّة عبر صراع خارجيٍّ لم يكن طوع إرادته؛ يشبه ذلك فقدان للمكان، واطمئنانٌ لامتلاك مساحة تعبيرية مجترحة من صلابة البلاغة وتهويماتها، هكذا قد لا يستطيعُ أحد طردهُ أو منافسته أو حتى مجاورتهُ.

كأنه بذلك لا يُريدُ أن يكون شاعراً إلا لكي يستطيع استحواذ وجوده المهدّد باتهامات ملتبسة. لذا هو دائماً يطرحُ على شعريّته هذا القلق الأجوف عن كيفية التماهي بحضور الشقيق الذي لا يني يُغيّبه! وهو لذلك يبدو أكثر تعلّقاً بسمات إرثه واشتقاقاته، بل وبكيفيّة تأوّهاته وصرخاته المتتالية منذ أقدم السّياط التي لم تزل ترنُّ على جسد العربيِّ، ومن في حكمه.

بهذا المعنى ليس الشعرُ عنده قلقاً وجودياً بقدر ما هو تعبيرٌ أو وعاء لألم أرسخ. بل إن المملكة التي يُشيّدها ليست سوى فسحة مسيّجة بأصداء الذات المتفجّعة، وبما يُرضي طغيان سطوتها اللغوية المطابقة لأحوال الضحيّة التي تتلبّسها. لكنْ، أيضاً، بمفارقة أساسيّة، كأنْ تكون هذه الأحوال هي وحدها من يفتت منظومات الشاعر ويعيد صياغتها بانسراحات واقتضابات تحدُّها قوةُ السّياط وتراخي المشهد وبعثراته . . .!

. . . . . . . . . . . . . .
سليم بركات أشاد للشعر العربي مملكة سوريّة خالصة بهندستها وحجارتها، وحتّى بعمّالها. وأنت كشاعر حين تدخل هذه المملكة، للمرة الأولى، سوف تدهش، وإذا ما عاوت ذلك ثانيةً سوف تعجب، وحين تستوعب أبعادها المعمارية والفنية سوف تستمر في قصدها مستمتعاً بمهارة تودُّ لو تمتلكها، لكنْ سوف يكون من حسن حظّكَ أن لا تحاول ذلك، ليس لأنّكَ سوف تفشل، وإنما لأنك قد تصاب أنت، أيضاً، بداء الثعالب!

عن (القصيدة) /1