حاوره: نوري الجراح

نوري الجراح

* لديك اهتمام بالغ بالحيوان يطبع جانباً كبيراً من شعرك، اهتمام بالحيوان كقيمة وموضوع قابلين للمعالجة الفنية من أوجه لا يتحول فيها الحيوان إلى رمز، وينسحب هذا على مجموعتك الشعرية الجديدة "بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح".
ما الذي يفرض عليك هذا الميل؟

إنها لفتة في قولك إنني لم أحول الحيوان إلى رمز. لا أحب تكرار طرائق بديعة اتبعها مقفع "كليلة ودمنة" إنني أراه كما ينبغي أن أراه، شاغلاً حيزاً من الهواء الإنساني (والإنسان، بدوره، يُشْغل حيزاً من الهواء الحيواني)، لا كطبائع، بل ككائن.
كنتُ قد أنجزتُ مجموعة كاملة عن الحيوان شعراً، كأنما أنا في صدد أمر يغاير "حيوان" الجاحظ، لكن حقيبتي التي ضاعت في أحد المطارات خذلتني إلى الأبد، ولم ينجُ غير القليل الذي كنت نشرته في العام 1982، فضمنته مجموعتي الجديدة.
الحيوان هو فراستي. الحيوان طفولتي كلها * ذلك السحر الشيطاني الذي لا ننجو منه.

* تبدو ذاكرتك الأولى * ذاكرة الطفولة هي المعين الأكثر تدفقاً لكتابتك الشعرية، ويبدو شعرك غير مهتم بالمضارع من مكان وزمان، واشتباك بينهما للبشر. هل أنت، عملياً، مع كل تلك التنقلات في الجغرافيا، ساكن في مكان أوّل، هو الطاغي الحاضر في المخيلة، وهو أهم مصادرها؟

كلنا أسرى الطفولة التي هي أسيرةُ عماء غريب، حتى لكأن الطفولة هي الضربة المُحْكمة التي تتلف الزمن المقبل كله. لكننا، كمكابرين في ترتيب وعينا الثقافي، والاجتماعي، بهوى الاستعراض الصاخب، نقرر أن ننجو من الطفولة فلا نقع إلا على كهولة الحنين.
لستُ مدعياً لأسترسل لك في "فحوى" غير موجود لمكان ما، وزمان ما، تستطيع أن تتقرّاهما بيديك في شعري، فأنا أعرف أنه متاهة المتعة التي لا ينبغي البحث فيها عن رجوع أمين. والطفولة كأكثر الشهوات قرباً من الشعر بحماقتها، ولا توازنها، وجسارتها، هي التأسيس الأحمق لهيكل "الكلام" هذا، الجسور، الطائش الذي يدعى شعراً.
والجغرافيا التي نقودها وتقودنا (هي بالمسافات، ونحن بالحنين) ليس لها أن تغيّر يا صديقي، بل أن توجه السهم أكثر صوب البيان الذي كان عليك أن تقوله، ذات يوم، دفعة واحدة، وها أنت * أنا، نقوله متقطعاً في الأسئلة.

* ثمة من يرى في شعرك صنعة طاغية، هي راقية، لكنها تطغى على شعريٍّ هو متاهة المتعة الوهج والانفلات اللذين يتبديان في شعرك قويين؟

إذا كان الوهج والانفلات يبدوان قويين في شعري، فأين الصنعة إذن؟ هذا تحريض المذاهب العربية حين لا تقوى على القراءة. فليتعلموا القراءة. ليستدلوا على الفضيحة؛ لينفتلوا في نصوص "منفلتة".

* جئتَ من أرض وبيئة لم تكن اللغة العربية هي الوحيدة السائدة، ومع ذلك فإن ولعاً شديداً بهذه اللغة، ومقدرة على الاشتغال عليها يفصح عنهما شعرك. ما تعليل ذلك؟

أجبتُ مرة على ازدواجية اللغة هذه، ككردي لم يتعلم العربية إلا في المدرسة.
لقد عرفتُ معنى أن تكون المفردة شيئاً مغايراً لما تصوره المخيلة. فالريح بالعربية قد يعني الضحك بالكردية. مخارج الحروف، هنا، وهناك، قد تعني مخاطبات فكية، أو تداعيات كالحمى.
لا بأس. قد أسترسل كثيراً في شرح ذلك. لكنني، في اختصار، كنتُ أمام تحدٍّ في استخدام هذه اللغة، فجاهدتُ أن أستخدمها في مغامرة الخائف من امتحان، بينما تعامل الكثيرون باطمئنان معها، وهي لغة لا تستسلم للمطئنين، لذلك يرى بعضهم صنعة في ما أكتبه. وما أكتبه هو نصف "الطلاقة"، أو ربعها.

* ما الذي يميز مخيلة الشاعر الحديث عن مخيلة شاعر إتباعي؟

إن المخيلة ليست ملك زمن، بل ملك السياق الشيطاني للتأليف أنبوياً كان أم جحيماً، والأمر، في حسابه التاريخي، هو المقدرة على نسج خطاب مغاير، يفتح باباً من الأبواب الموصدة التي لا تحصى في الأفق الإنساني.
ليس هناك من "حديث"، "ولا من يحزنون". ثمة سياق إبداعي يفضي بعضه إلى بعض. ثمة "مهارة" في التدليل على النعمة التي يتصف بها كلام الإنسان من مبدع إلى آخر، وهي نعمة ليست للتصنيف الصحافي المحدث.

* ما الذي يفسّر تقصير النقد عن تناول ما استجد شعرياً، خلال السنوات العشر الأخيرة؟ هل أدواته قاصرة، أم ثمة أسباب أخرى؟

الصحافة.. الصحافة. النفط. العملة الصعبة. ما الذي يطعم أطفال الناقد، الآن، وأمه، وأباه؟ كانوا يكتبون النقد ليصيبوا حقيقة صغيرة في المسار الأدبي، قبل ظهور النفط كقائد للإبداع، ثم كفروا بالصفحات الكثيرة، والتحليلات، والمصادر التي تكلفهم جهداً بات اختزاله واجباً، فانتهى النقد.
ولماذا لا؟ ناقد صحافي مبتذل، في صحيفة ما، يستحصل بعموده الفارغ، شهرة، وجاهاً، وحظوة، وألقاً، وتأثيراً، أكثر من ناقد ينتحر بكبده، ثم أين هي المجلات الثقافية الحقة، التي تستوعب جهد النقد المشغول؟ الأنظمة تكتفي بالمديح الصحافي السريع في عصر الفضاء العربي. وداعاً أيتها البنيوية العربية التي ساقت الإنشاء إلى الإنشاء.

* يفصح شعراء كثر، اليوم، عن تبرم بالآباء الشعريين. وفي الملف الذي تنشره "الحوادث" حول قضايا تتعلق بقصيدة "النثر" عبّر شعراء عن ذلك. هل تعتقد أن "ثورة مضادة" قائمة ضد مفهوم "الأب"؟

إذا كان ثمة شيء من هذا القبيل فهي ثورة نصف محقة، لأن "الآباء" الروحيين للقصيدة الجديدة يتنكرون لآبائهم أيضاً، ومن شابه أباه فما ظلم. ومن جهة أخرى أظن هذه الأبوة قائمة على نصف الحقيقة، لأن من بدأوا ما يدعى "القصيدة الجديدة"، بسبب الفارق الزمني الذي لا يد لنا فيه، ينكرون على من بعدهم القيام بأي جهد للحراثة (الحراثة وليس الحداثة).
آباء مقصرون، وأبناء قاصرون، و"الشعر على الله".
أما ملف "الحداثة" الذي لم أقرأه في "الحوادث"، ففي اعتقادي أنه ملف للبحث عن مذاهب الريح، لأن الخوض في غير الموجود هو ترف "عيال".

* ثمة استقطابات شعرية من روادٍ يجمعون حولهم الطبالين. كيف تنظر إلى المسألة؟

سيجد الطبالون لأنفسهم أعمالاً أخرى (مع اعتذاري للموسيقيين الطبالين)، لأن مهمات "الآباء"، الذين يحيطون أنفسهم بالصغار، هي اللعب بشطرنج مفضوح، والكل يعي ذلك. وعلى أية حال باتت المسألة إلى انقراض، بعدما تفتت "المراكز" الثقافية، وتقتت الأمكنة، والهواء.

* كيف تفرق بين شعر حديث وغير حديث؟ أم أن الأمر مجرد وهم؟ ما تجربتك في مجموعتك الجديدة؟

نحن في حاجة إلى إسطرلاب، وتجربتي في مجموعتي الجديدة هي ما ينبغي أن يحدثني شخص ما عنها.

* كيف تقيم العلاقة مع المكان؟ أحسست أن عناوين قصيدتك "منعطفات… الخ" (التي تتضمنها مجموعتك الأخيرة) حجة، وليست ضرورة..

أظنك تعني أنها "إيهام" للتدليل على مكان واقعي. وهنا تبدو لي واحداً من "بحّاثة" الأدب الواقعي في القصة، فكيف بالشعر. وفي اعتقادي، أيضاً، أنك لم تقرأها، لأنها تخص أمكنة الأعماق، لا شوارع نيقوسيا التي هربتَ، أنتَ، منها.
المكان، يا صديقي، هو صنيعة الشعر، بكائناته وترابه، مادام أسير اللغة (والشعر لغة) التي لا تفصح إلا عن مجونها. لكن، لو قيض لك، في الواقع، أن تمر ب* "المنعطفات.." التي كتبتُ عنها لرفعتَ حاجبيكَ دهشاً من واقعية قصيدتي، وشاعرية المنعطفات.

مجلة الحوادث،
9 / 10 / 1987