كنتُ إذا أوشكتُ على جنة الكتابة، ألجأ الى القراءات النادرة المناسبة للحظة الفراديس تلك، وكان شعر سليم بركات في مقدمة ما اقرأه لكي يشحذ ذهابي الفاتن نحو النص. كنت أجد في شعره تلك الطاقة الغامضة التي تنبثق في داخل الروح مثل برق أليف لتضئ مخيلة الصورة وكنوز اللغة الشعرية. لا، ربما كان شعره أيضاً مثل جوقة الملائكة تأخذك خفيفاً في هودج غير ملموس في سبيل غير مرئي نحو جنة الجمال. وقتها، كنت أشعر بأن ثمة تعويذة تشفع لي في حضرة الآلهة.
ولم أكن وحدي.

كان سليم بركات، من بيننا، هو الأجمل، الأكثر فرادة بلغته الباهرة وصورته الشعرية الفاتنة. ففي جماليته الجديدة التي اقترحها، مثل البراكين، على التجربة الشعرية العربية، خطوة نوعية وضعتنا جميعاً، بدرجات متفاوتة، في حضرة أسئلة التميز الحاسمة. فلم يعد من السهل، برفقة تجربة سليم بركات، الوقوف لاستقبال واستعادة تراث الجيل السابق، ثم اللهو وقضاء الوقت بالتنويع على إعادة انتاج نصوصهم، بوهم الإضافة والتجاوز. لم يكن ذلك كافياً ولا جديراً. فقد كانت ورشة الشعر في أوجها، والعنفوان على أشده.

آنذاك، والتجارب الجديدة في حمأة البراكين، لابد من التأمل العميق لما كانت تحققه تجربة سليم بركات. فبرغم السكوت الغامر من جميع أطراف المشهد، كانت للغته ومخيلته ولرؤاه سطوة العشق السري الجدير بالمأخوذين بالنثر الماثل والشعر الوشيك.

لقد كان التميز البارع، الذي ابتكره سليم بركات لكتابته منذ اللحظة الأولى، هو الشرط النقدي الصارم الذي جعله النموذج العصي على التقليد (بلا فضيحة)، وهو الأفق السجالي الرصين، الذي رشح عدداً لا بأس به من تجاربنا لأن تكفّ عن فعل التقويض المجاني، وتستعد، مدججة بالموهبة والمعرفة، لأن تذهب، بأقصى حرياتها، الى آفاق البناء الشعري، حيث ما من تجربة شعرية جديدة تقدر على إقناع المستقبل، ما لم تضع تراثها الكثيف في ورشة الإبداع، وتحسن تشغيل أدواتها في فعل تشييد صارم من أجل بناء نظامها الخاص وصقل أسالبيها ولغتها بالعمل الجاد، المسؤول، المنخرط في الأحلام بوسائط الحياة. حيث يأتي الشاعر ناهضاً بلغة نشيطة المخيلة، بهية السمت، تطرح الجمال والجلال والجرأة في الكون دفعة واحدة.

كان سليم بركات، طوال الوقت، يفعل ذلك بالضبط. ولحسن الحظ أنه لم يكن يفعل ذلك وحده. ففي مشهد التجربة الشعرية العربية الجديدة، ثمة أقران له ساهموا، بدرجات مختلفة من المسافات (الفنية والتاريخية) محققين منجزاً مهماً، هو الآن ما يجعل الكتابة الشعرية العربية تقف، بثقتها الرصينة، في سياق شعر العالم، وتقرأ الكون مع كائناته وبطريقة تمنح الإحساس الإنساني بأن أحداً لا يستطيع أن يذهب الى العالم بغير لغته، مثلما لا يستطيع الشخص أن يذهب للمستقبل وحده.

من هذه الشرفة أحب أن أرى الى تجربة سليم بركات، بوصفه أحد أبرز الذين يصوغون نصوصهم بلغتهم العربية، مغتنين بالجماليات الكامنة في عبقرية اللغة، غير مفرطين في الثروات المكنوزة فيها.

كنت دائماً أضع سليم بركات في شرفة كتابتي. أصقل به جوهرة مراصدي. وأرى به المستقبل. أتعلم منه درس العشق المتطرف للغة. هذا العشق الذي سوف يتيح لي دائماً الزعم بأن اللغة هي الشئ الحي الذي يشعر بك ويشغف بحبك ويقدر لك ذلك الحب، ليأخذك نحو الأقاصي في مراتب تضاهي مراتب العشق الصوفي.
وليس أمام الذين تحفظوا، ولا يزالون، على التفجر اللغوي الهائل في نصوص سليم بركات، إلا أن يتوقفوا، بالدرس والتأمل، لاكتشاف جماليات التعبير الشعري التي منحها هذا الشاعر الفذ للغة العربية، وهو الصنيع الحضاري النادر الحدوث منذ عقود طويلة في الشعرية العربية. فلو أن تجربة سليم بركات في سياق لغوي غير العربية، لكانت تجربته الآن موضوعاً للبحث العلمي في المجامع ومعامل علماء اللغة،غير أن فقر الثقة الفادح الذي تتميز به ثقافتنا العربية، ازاء مواهب مبدعيها، سوف يجعل سليم بركات وأحداً من أكبر مبدعي الهامش العربي، وهو هامش اختاره الشاعر نفسه، زاهداً، مكتفياً بعشقه الجميل لكتابته، وربما لأنه ، في ذلك الهامش، خصوصاً، سوف يتحرر من السلطات التي تستعصي على العد في المشهد العربي.

من هذه الشرفة، أيضاً، أثق كثيراً في أن تجربة سليم بركات الإبداعية ستظل موضوعاً متاحاً لأكثر من جيل، غنية بالمعطيات، مفتوحة على الأفق، قادرة على منح الشعرية العربية طاقة عميقة من العمل الرصين : موهبة ومعرفة.

***

في (جهة الشعر)،
نشعر بالاطمئنان الحميم لمستقبل الشعرية العربية، في ضوء عدد من التجارب العربية الجديدة، ستكون تجربة سليم بركات في طليعتها.
سليم بركات، الذي أردنا أن نعبر له هنا عن محبتنا العميقة، وتقديرنا الكبير، للإضافات النوعية الى تجربتنا الشعرية، ومنحنا النموذج الفذ لمعنى الإخلاص الفني للكتابة، وهو المتخفف الأكبر من كل أشكال الممارسة الأدبية خارج الكتابة، المنهمك المتوحد في مشغله الشعري، كما في مشتله المنزلي.

يا صديقنا الأحب،
لك الأصدقاء في (جهة الشعر) وجهة القلب، يضعونك وردة في عروة القميص، يطرحونها في كأس نبيذهم القديم، يذهبون بها الى مواعيد حبيباتهم. ولا يعودون يذكرون شيئاً أجمل من الحب.

في (جهة الشعر)،
نتذكر بك المستقبل فيما :
                 كل داخل سيهتف لأجلك،
                 وكل خارج... خصوصاً.

*********

أقرأ أيضاً: