قبل سنوات, تسنى لي ان ازور معرضا للنحات السوري جميل قاشا, في صالة أنيقة من صالات دمشق الفنية. بعدها كان لنا لقاء مع الفنان نفسه, تناول فيه بداياته الاولى , وتطور تجربته لاحقا . تحدث عن كيفية تعامله مع الصخر الذي يغدو على يديه موضوع إبداع لا يقاوم , ينتشل الزائر من ردهات الفكر اليومي, ويلزمه بالتأمل .
أذهلني المعرض حقيقة. وفوجئت بتحول الصوان الى كائن هلامي, طيع, يستجيب لنفس الصانع (لا أقول الخالق أو المبدع, لان جميل نفسه كان غير مدرك لطبيعة العلاقة الإبداعية بينه, وبين أحجاره, حينما طرحت عليه السؤال) فتكون حصيلة تلاقي العلتين المادية والصورية بيان مرئي, يلامس المرئي في المشاهد الذي يكتشف في لحظة جذب صوفية, مدى جمالية الأبعاد, وجلال الأرواح المتمردة على الوهن, والسذاجة والقبح الوجداني.
من بين ما اذكر من حديث الفنان الجميل, انه في أحيان كثيرة يسمع أنين الحجر تحت الجلخ, لكنه لا يبالي في البداية, ليتعالى الصراخ احتجاجا على الصورة المفروضة. الصانع يريد موجودا يتطابق ورؤاه, لكن الرؤيا قد اخطأت الهدف, ويتحول الصراخ الى عويل, ليتوقف العمل, أما إذا تحقق التماهي, وتم بلوغ النسب الأزلية, فحينئذ يرمي الصخر قناعه, ويعلن عن حضوره الأصيل, المتمثل في آيات جميل قاشا التي تزيل الغشاوة عن أعين الناظرين .
لا أعلم ما إذا كان هناك تواصل مابين جميل قاشا, وسليم بركات. كما أنني اجهل تماما ما إذا كان احدهما قد سمع بالآخر, أم لا ؟ مع أنهما يرتبطان بعلاقة المواطنة مع البلد ذاته. كل ما في الأمر أنهما بالنسبة لي يمثلان صنوين أثيرين، يؤكدان ان عصارة الحياة تستطيع الاستمرار, على الرغم من كل التقيحات التي أنهكت الدواخل, حتى العفن .
بين سليم بركات وجميل قاشا قواسم مشتركة, في مقدمتها المنبت الريفي الذي يفرض على صاحبه الإتيان بالخوارق إذا أراد ان يكون له موقع ما بين جمهور العواصم التي تقرر في مناطقنا المصائر, والأقدار, بدءا من رزق العيال, وانتهاء بعمر العباد.. وما بينهما. كما ان العصامية المطلقة, علامة فارقة تميز الاثنين, فالواحد منهما اوجد بذاته في بيئة كانت (وما زالت في بيئة سليم على وجه التحديد) تدار فيها الأمور بإيماءات مشفرة, لا يفك رموزها إلا نفر ممن أدركوا قواعد اللعبة, وامسكوا بالناصية, وما إدراك ما الناصية !
وأخيرا نأتي الى التزام العناد, وتحمل شعائره المرهقة, ولا كيف كان السبيل الى استنطاق الحجر , والكشف عن مكنوناته الحبيسة, واستشفاف أبعاد علته الغائية. هذا عند جميل. أما مادة سليم, الذي سأتوقف عنده في هذا المقال, فهي اقسي من الحجر. مفردات هجرها أهلها نتيجة عجز تسلل الى البواطن. أسماء أعشاب, وحيوانات تجهلها كتبنا المدرسية, وذاكرتنا المعطلة لم تعد تجد سبيلا أو وسيلة لاستحضارها حتى بلغة الأم. مصطلحات تخص علوما لم يعد أصحابها في حاجة إليها, بعد ان ارتضوا الأمية الثقافية عنوانا لرسالتهم. أحداث غير منتهية. مواقع جغرافية محرم على الفكر ارتيادها. حسابات فلكية لا يفقهها سوى من قارب سدرة المنتهى. لامرئي مجسم يبرز رافعا الحجاب عن شبكة الخطوط الخفية, فتغدو الدهاليز جميعها مستباحة, ويختلط الأمر على كانط وأشياعه, بعد انم تلاشت الحدود وامتزجت العوالم .
كردي صعب المراس, يجسد ببيان نادر ديمومة تمثله روح الأسلاف المغرمة بالممتنع, يرفض منطق الاستحالات الذي غدا راهنا, عنوانا لعملية خلق قسرية, غايتها كائن مستلب الشكل والمحتوى, يستعذب دونية الذات, وجبروت الآخر.
أدب سليم بركات يفوح منه عبق الطين المقدس, كائنات معفرة بالطين تسكنه, وتقتات منه, تسير في الطرقات والسهول الطينية, تتحدى الزمن المحسوب, تلوذ بعالمها الخفي, انتظارا لانبعاث, أو مقدم احدهم, عله يمكنهم من إقناع الآخرين بامتلاكهم الذاكرة, وغريزة حب البقاء .
كائنات لم تعرف منذ البداية ان سفرها سيكون ضخما, مضمخا بالقاني هكذا، فطالبت كالآخرين من الآخرين. وسعت مثلهم, لكنها غلبت على أمرها بفعل تضافر الوشائج الحميمة بين الآخر القريب, والآخر البعيد, فتقوقعت على ذواتها, علها تصل الى الأسرار الخفية .
قراءة سليم مغامرة حقيقية لا يمكن خوض غمارها بأدوات القارئ التقليدي, خاصة تثاؤبه المثير للشفقة. مغامرة تشحذ الهمم, وتفجر العوائق التي تحول بين المرء وانطلاقته الروحية, ليسعى جامحا من اجل إماطة اللثام عن المحرم المستور في ثنايا مستويات متداخلة من الوجود الواقعي, والميثولوجي غير المنظور, مرورا باللامرئي المستشف, والمتخيل الملغز, كل ذلك معبر عنه بلغة لن يستطيع فك رموزها, وقراءة بيانها, فضلا عن التمتع بجمالية صورها الأصلية, كل من اعتاد الوجبات السريعة زادا يستمد منه النسغ, وادعاء يتكل عليه في المجالس, أو يتمترس خلفه في المناسبات.
مضمون أدب سليم بركات أشبه بالمدينة الجبلية السحرية, التي لا يكتشف حضورها المفاجئ, إلا ذاك الذي تمهل, وتحمل مشقات الصعود إليها. أما من يفقد الأمل في منتصف الطريق, فالأجدر به ان يتقهقر الى السهل عله يجد هناك ضالته بين ذوي الرؤوس السود.
بقي ان نقول شيئا عن الحيز الذي يشغله سليم في فضاء الأدب الكردي. فما موقعه من التصنيفات التي تستند الى معايير تربط بين الإنتاج الأدبي, والانتماء القومي, على الرغم من تعسفية مثل هذا الربط في أكثر الأحايين. هل ما يكتبه يدخل في نطاق الأدب الكردي ؟ تساؤل لا يخص سليم وحده, بل يشمل مجموعة من الأدباء الأكراد الذين كتبوا, وما زالوا يكتبون: بالعربية, الفارسية, والتركية وربما باللغات الأخرى. إشكالية تبدو للوهلة الاولى زائفة, لكنها تستوقف وتثير النقاش بعد التناول والتمحيص. وهنا اذكر ان هذا الموضوع كان منذ سنوات احد محاور ندوة نظمها معهد اللغات الافرو-أسيوية في جامعة ابسالا - السويد. وقد كان الاتجاه العام في الندوة هو التشديد على ضرورة تحديد تخوم الأدب بلغة أهل القوم. فالأديب الكردي هو فقط من كتب, أو يكتب بالكردية. حينئذ دفعني عدم استساغتي ل فقط وأخواتها الى المشاركة في النقاش على الرغم من حاجز اللغة. ومن بين ما ذكرته هو ضرورة اخذ خصوصية الوضع الكردي بعين الاعتبار. فالتقسيم الجغرافي القسري, وسياسات التعريب, والتتريك, والتفريس, الى جانب قمع وإهمال لغة الأم وحشرها في الزاوية, جميع هذه العوامل بالإضافة الى غيرها, أدت بالكثير من المبدعين الأكراد الى استخدام لغات فرض عليهم تعلمها في المدارس, وهذه مسالة لا تخص الأكراد وحدهم من أمم الدنيا الواسعة, بل الأمثلة كثيرة في هذا المجال ,لكن المحنة تتمظهر لدى الأكراد بصورة أقسى, وأكثر تداخلا.
من يتشدد في اعتبار اللغة شرطا لا غنى عنه في عملية تحديد هوية الأديب, ينطلق من تخوف مشروع يطال مستقبل الأدب الكردي نفسه, ان لم نقل الأمة الكردية ذاتها, لأن اللغة, في ظل الوضعية المعقدة التي تعيشها هذه الأمة حاليا, تمثل ربما الركن الأهم من بين الأركان التي يستند إليها الوجود المستقبلي, الأمر الذي من اجله ارتأى أصحاب هذا الاتجاه المتشدد عدم المساومة نهائيا فيما يتصل بمسألة اللغة, وانسجاما مع هذا التوجه يخرج هؤلاء سليم وغيره من الأدباء الأكراد الذين لا يكتبون بلغة الأم, لأسباب بعضها مشروع كما هو ملاحظ, من دائرة الأدب الكردي, من دون ان يشغلوا أنفسهم بمصيرهم التالي, يجردونهم من مواطنة الأدب الكردي, غير آبهين بيقين استحالة حصولهم على حقوق مواطنة أخرى, طالما ان أدبهم يتمفصل حول الهم الكردي, ان لم نقل إنه هو هذا الهم نفسه.
سليم بركات يتماثل في وضعيته هذه مع المواطن الكردي المجرد من الجنسية السورية, يعيش في البرزخ الفاصل بين المنتمي ونقيضه. القائمون على الأدب الكردي تخلوا عنه كونه لا يكتب بلغتهم, والعرب الرسميون لم يعترفوا به لتحسسهم من فحوى وخطورة ما يكتب. ولكن ماذا عن إحداث فصل جديد في إطار الأدب الكردي نفسه, فصل يضم الأدباء الأكراد الذين يكتبون باللغات الرسمية السائدة بفرمانات في منطقتهم, اعتقد أننا بذلك نضع الأمور في سياق يمكننا من استيعابها بصورة أفضل, ويقطع الطريق أمام كثير من النقاش المتشنج, الكابح. والاهم من ذلك أننا بذلك نغني الأدب الكردي نفسه ذاته, ونعزز مكانته بين الاداب العالمية .
وفي انتظار قبول هذا الاقتراح, يظل سليم بركات قابعا في صومعته, يمارس طقوسه الحديدية, ,يمزج المحاليل وفق نسب سرية. فتتداخل العوالم, وتخرج الشخصيات من مكامنها, مخترقة دروب الوطن الخفي. كائنات تمثلت هي الأخرى في كينونتها العناصر الأربعة, ولكن بمقادير جديدة, لن يصل الى مغاليقها سوى من أوتي علما شموليا, يحيط بالتاريخ غير المسطر لمآس لم تتجاوز أحلامها دائرة المشروع .
عن حجلنامه، العدد الثاني.