في شعره يكتب سليم بركات فهرست الكائن، يحشد أسماء النباتات والحيوانات والجماد والبشر، يؤلف علاقات أسطورية بين كائناته مقيماً عالماً مدهشاً نضراً كأنه عالم البدايات. وهو يتكئ في ذلك على معرفة عميقة بأسماء النباتات والحيوانات والجماد وإطلالة على الكلام الخارج من القاموس ليسمي الأشياء بأسمائها. كأنّ الشّاعر، الذي يُكثر من الاتكاء على تجارب طفولته وصباه، يؤلّف كوناً جديداً ويعيد تشكيل لحظات الطفولة والصبا الهاربة.

إن شعر سليم بركات، منذ البدايات، هو إعادة تأليف للماضي الشخصي للشاعر، ووضع هذا الماضي في سياق أسطوري أو شبه أسطوري، حيثُ تبدو الحكايات التي يرويها الشاعر، أو المشاهد التي يمثلها بالكلمات، مغسولة بماء البدايات بمعناها الكوني الأسطوري.

شعر سليم بركات عصي على القراءة، من هذا الباب، وهو أيضاً لا يُسلم قياده  للقراءة النقدية لأنه بلا مركز. إنّهُ كتلة منفلتة من سياق الجاذبية الشّعرية السائدة. ومن هنا، على الأرجح، صعوبة مقاربته نقدياً. فالنقد في العادة يرتاح للجاهز والمنضوي في سياق، الملموم في إطار، سهل التّصنيف. وبما أنَّ سليم غريب اختار أن يغرّد مبتعداً عن الأسراب الشعرية السائدة، فإن شعره لا يعطي مفاتيحه للكتابة النقدية التي نادراً ما أولته اهتماماً كبيراً خلال ما يزيد على ربع قرن. لقد احتفي به كروائي حين أصدر روايته "فقهاء الظلام"، كما احتفي به من قبل حين أصدر سيرة طفولته "الجندب الحديدي" وسيرة صباه "هاته عاليا هات النفير على آخره". لكنه، كشاعر، ظلَّ قليل الحظوة في بلاط النقد العربي المعاصر الذي آثر البحث عن العجائبي والغريب في كتابة سليم بركات الروائية دون أن ينتبه الى أن الرجل كان قد بذ بذور العجائبي و الغريب المدهش في كتابته الشعرية قبل رواياته. إن الموتيفات الأولى لشخصيات سليم بركات وحبكات رواياته مقيمة في قصائده، في شعره الذي يحتفل بالسّرد ويطلع من أرض الحكايات، ويهتم بالوصف ويرسم لقارئه ملامح شخصيّاته "الشعرية".

يمكن أن نفهم اهتمام النقد العربي، في الوقت الراهن، بسليم بركات روائياً على خلفية صعود الرواية العجائبية ورواية الواقعية السحرية خلال ربع القرن الأخير، بتأثير من ترجمة الروايات الأمريكية - اللاتينية. وروايات سليم تلبّي هذا الاهتمام. إنها تمثّلُ نماذج تطبيقية مدهشة توفّر للنقاد العرب مضرب أمثلة ووسائل توضيحية تبيّن للقراء كيف تشتغل عناصر هذا الشّكل الروائي الوافد، للوهلة الأولى، من أميركا اللاتينية، لكنه في الحقيقة مقيم في حكايات "ألف ليلة وليلة".

أما شعر سليم بركات، الذي يبدو حافلاً بالغرابة والإدهاش وإقامة كيانات وعوالم أسطورية، فإنه منفيٌّ من مملكة الاهتمامات النقدية العربية، مقصيٌّ نحو الأطراف والهوامش، لأنه، ببساطة، لا يلبي احتياجات هذا النقد، ولا يُسلسُ قياده  للمفهومات النظرية السائدة حول الشعر وكيفية انبناء عناصره.

إن شعر سليم بركات، صوره ومجازاته وتراكيبه غريبة، وعالمه محتشد بالتفاصيل والمنمنمات والحكايات الفرعية. إنه شعر بلا مركز، لا يلتمُّ في بؤرة، لا يعود إلى منبع، بل ينداحُ مبتعداً عن نقطة انطلاقه؛ وتلك نقطة ليست لصالحه في الشعرية السائدة في النقد العربي المعاصر. إن الشعر المقبول عربياً، الذي يحقق شعرية عالية وينتسب بجدارة إلى الطبقة العليا في عمارة الشعر، هو الشعر المبني الذي يلتمُّ حول مركز أو بؤرة توحّده، الشعر الذي يعالج ثيمات محددة ويقوم بتوسيعها ومدّ حدودها، لكنه يظلُّ وفياً لها على مدار التجربة الشعرية وتعرّجاتها. وهذه شروط لا نعثر عليها في شعر سليم بركات الذي يُفضّل التوسّعَ وتفتيت البؤرة التي انطلقت منها القصيدة، والتباعد عن المركز، وإيجاد "حبكات" شعرية موازية خائناً بذلك شروط الشعرية العربية السائدة. إنه يقترب من عالم الرواية بخطى حثيثة دون أن يتخلّى عن الكثافة التي يتمتّع بها النوع الشعري، مقيماً في منطقة وسطى بين الشّعر والرواية. ولعل هذا ما دفعه لينتج بغزارة في إطار النوع الروائي حيث يلتقي الشّعر بظلّه المديد في نصوصه الروائية، ويؤثّر عميقاً في بناء أحداث رواياته وطريقة بنائه شخصياته الروائية.

عالم سليم بركات الشعري متواشجٌ مع عالمه الروائي الذي يرتبط بخيوط البناء والشخصيات والموتيفات المتكرّرة مع قصائده التي نعثر في ثناياها على أبيات وجمل شعرية تسربت إلى شعر شعراء من مجايليه، وحتى إلى شعر شعراء سبقوه إلى الكتابة الشعرية.

إنّه شاعر مؤثِّرٌ بطرق سرّية، بالجملة الشعرية العربية، بقدرته غير العاديّة على إقامة عوالم أُسطورية من كِسَر حياة الطفولة والصبا، واعتماده قصيدة تفاصيل لا تتخلىّ عن كثافة الشعر وميتافيزيائه، فاتحاً الباب لكتابة نوعين من القصائد: قصيدة تفاصيل عارية من تلك النّبرة العالية التي سادت في قصيدة السّتينات، وقصيدة سردية تحتفل بالشّخوص والأحداث وتحكي حكايات من دون أن تتخلّى عن طرائق الشّعر في تكثيف العالم وإعطاء نبرة كونية، ونبويّة للخطاب الشعري. شعر سليم بركات يقيم بين هذين الشكلين من أشكال الخطاب الشّعري العربي المعاصر.

عن (القصيدة) /1