="سلمىالشعراء الذين تحمل الذاكرةُ وهجهم الدائم، وموسيقى عباراتهم، وقولهم الشعري الأصيل قلة في أي عصر. سليم بركات واحدٌ منهم. ففي هذا الزمن الذي تشابهت فيه، إلى درجة مذهلة، عشرات التجارب الشعرية بحيث يصعب تمييز صوت هذا الشاعر من صوت الآخر، تفرّد سليم بركات بالعنصرين الرئيسيين في القصيدة: بأسلوبه وموضوعه، فلا تخطئه الذائقة النقديةُ لحظة، ولا العينُ الفاحصةُ. متميّز دائماً، مذهلٌ مقلقٌ أحياناً، وأحياناً يهمي بشعره بلسماً على نفسٍ ضاقت بالمبالغات والبطولات وبذلك السباق المتعب لخلق جديد يفجعنا بسذاجته أو بجموده، ببعده عن عفوية الرؤيا واستقلالية عملية الإبداع عن هندسة التصميمات العقلية. لستُ أتكلّم هنا كما تكلم سعيد عقل يوماً متحدثاً بلسان مالا رميه والرمزيين الفرنسيين، بل بمنطق الخلق الشعري الطبيعي في أي لغة وفي أي عصر.

هذا لا يعني، على الإطلاق، أن سليم بركات استسلم يوماً لما في العفوية السائلة من سذاجته. العفوية المنشودة هنا هي العفوية النابعة من اقتران الفن الأصيل بالحدس وحرارة التوهّج. ففي شعره صرامة الفن الرفيع وحذق التعبير، المقتضب والمسترسل في آن، عن التجربة الوجدية الكبيرة، كما نرى في قصائده القصيرة المبدعة التي تتحدّث عن الحيوانات مثلاً، عن الموضوع اللاشخصي المبستر الذي يؤنسنه بكلمات معدودة. ليس في شعره أي دعاية للذات أو تقديم لما يعتقده سواه من مزاياها. لا يطلق أحكامه كأنه إله قديم جاء خطأ إلى عصر يجاهد للوصول إلى حداثة الرؤية ولا ينجح. لم يحاول قط أن يخدع حساسية القارئ. بكلمة واحدة، لم يحاول قط، وهو المالك الأول لأدوات البلاغة والفصاحة جميعها، أن يفرض نفسه على جمهور عربي واسع ابتلى بالخضوع للكلمة البليغة ولو نطق بها الشيطان. حساس مرهف في شعره لا يكتبُ والعالمُ اليومي أمام عينيه، بل يحافظ على كبرياء الشاعر التي تحدّث عنها بدوي الجبل يوماً في استعراض كبير.

أنا أكتب من الذاكرة بعيدة آلاف الأميال عن مكتبتي وليس عندي من مجموعاته الكثيرة مجموعة واحدة تفتح لي أبواباً أخرى مدهشة أتحدثُ عنها. من الذاكرة، إذاً، وكلمات تلك القصيدة الآسرة عن حبّ حدث واستحال استمراره، لا تتركني. لا علاقة حبّ تدوم، لكن الشعر الرفيع يدوم إلى الأبد. "ديلانا وديرام" من أروع قصائد الحبّ في العالم. لا، أنا لا أتكلم فقط عن الشعر العربي، وما أغناه بقصائد الحبّ العظيمة، ولكني أتكلم عن الشعر العالمي، ما قرأته منه. إنها القصيدة التي تحتلّ الذائقة الشعرية وتوقظ التجربة العاطفية التي عانها أولئك المحظوظون في العالم الذين عرفوا معنى أن يحبّ الإنسان وأن يغامر وأن يغتاله الفراق القسري في الحياة أو الموت، معنى التجربة التي تستولي علينا فجأة وترعبنا بجمالها وتمتلكنا إلى الأبد ولا تتراجع عنا إلا بعد أن تضمن استمراريتها فينا حتى ساعتنا الأخيرة. إنها أعظم التجارب في العالم لأنها التجربة العشقية الوحيدة التي لا تعرف الملل أو الإرهاق أو تشاهد واعية ذلك التراخي البطئ عن بؤرة حيويّتها المتوهّجة، ذلك التلاشي التدريجي عن عنفوانها الأول.

قدرة سليم بركات على التنويع نادرة بين الشعراء في أي لغة. لقد كتب قصائد متعددة حول حيوانات الصحراء علاقة حبّ حميمة. من ينسى سنجابه الرشيق، الأمير ذي الذيل المرح؟ ترجمناه وأخذوه منا طوعاً وقسراً، ونشروه مرات عديدة، فتعلمه عدد من أطفال العالم، أما حيواناته المبتكرة فقد ذكّرتني بحيوانات بورخيس في كتابه "عجائب المخلوقات". كان بورخيس بدوره قد تأثر بدوره بالجاحظ الذي يذكره في كتابه بتقدير كبير.

هكذا تتعانق الثقافات وتؤكد وحدة الرؤيا الفنية عند الإنسان، وهكذا وبأسلوب سليم بركات الحديث المستقلّ نستعيد علاقتنا المنبته بشعرائنا القدماء، أولئك المبدعين الأوائل.

عن (القصيدة) /1