طه خليل
(سوريا)

ما يزال الشاعر والكاتب سليم بركات يشرع في كتابته في الأجواء والعوالم الكردية وتبدأ روا يته "معسكرات الأبد" بمشهد لصراع عنيف بين ديكين "رش " و"بلك " ومن خلال سرد الكاتب لحيثيات ووقائع هذا الصراع يحدد لنا في الوقت نفسه، القطعة الجغرافية التي ستدور عليها أحداث الرواية فيما بعد: وفي دورانهما المتحفز، كانا يتركان أثارا خشنة في الطين الخريفي على الهضبة المشرفة على الجسر الذي يصل السهل الكبير بالبلدة المتناثرة شمالا، في آخر حقول القمح المشطورة بالطريق الأسفلتي، المتعرج كخاطرة لن تستكمل. ص 7.
يرصد الكاتب في روايته هذه، كما في روايتيه السابقتين "دفقها، الظلام" و "الريش" حياة عائلة كردية، في مدينته "المتناثرة شمالا": قامشلي، حيث يؤرخ من خلالها لحياة شعب منسي في الشرق (الشعب الكردي). يؤرخ لوجوده "الأثنوجيوغرافي " في تلك الأرض المباحة لما يهيئه لها الآخرون دائما.
عائلة " موسى سوزان "، أو بالأحرى بناته الخمس: " هدلة، بسنة، جملو، زيري، ستيرو" وحفيدته "هبة " (ابنة هدلة وأحمد كالو)، ست نساء يعشن في منزلين بعد مقتل والدهن ووالد تهن "خاتون نانو" ومعهما زوج هالة ووالد هبة "أحمد كالو".بأيد مجهولة في مكان قريب من الثكنة العسكرية الفرنسية. (تقع أحداث الرواية في أواخر أيام الوجود الفرنسي في المنطقة ). من الصعوبة - كما أعتقد - حصر أحداث الرواية هذه بملخص قصير، كما تعودنا أن نفعل حين الكتابة عن رواية ما، وهذه أحدى المزايد التي تميز كتابات سليم بركات - لاسيما في روا يته هذه وروايته "أرواح هندسية " - من قبل - فالأحداث والاستطرادات تتراكم من خلال استلها مات وبوليدات، توجدها مصائر "واقعية - فانتازية !" لكائناته الروائية أعانت هذه الكائنات بشرا أم حيوانات، أم نباتات أم طيورا، أم أمكنة وكل كائناته الروائية هذه حائرة، وقلقة، تقدم على الشئ، ثم تنفر منه لشئ آخر! وبذلك فان أية محاولة تصنيفية يقوم بها الدارس لعمل سليم بركات هذا، هو ضرب من الخيال !. فهو في
كتاباته محارب عنيف، عدته لفة هائلة في ثراء مفرداتها، وجمله اللغوية هي بمثابة فيالق عسكرية تتوزع على كل أطراف الرواية، وهو يوجهها، ويقودها بخيوط دقيقة وقوية، يستمدها من تاريخه الشخصي، ضمن نطاق الحياة الكردية، وطقوسها المباحة لأقدار و" مهازل " تاريخية.
ولكن الكاتب لا يستغل، قطعا، تفوقه "الاستراتيجي" اللغوي هذا لاستيهام القارئ، وجره لعوالم لا معنى لها على الصعيدين الفني الحسي والمعرفي، كما يفعل بعض كتاب (الرواية الشعرية ).
حيث تستهويهم "اللعبة"، فينسون أشخاص الرواية وأقدارهم، ومشاغلهم ويستمرون في عملية التسول اللغوي الى حد الوصول الى الثرثرة اللغوية، أيا كانت درجة ومستوى البناء اللغوي لديهم، لكن سليم بركات يربط أرجل شخوصه باللغة، ومهما بعدت به المسافات اللغوية فانه يظل يقدم إلينا حالة وصورة الشخص الذي يرسمه في ذهننا، ودون انقطاع.
وعلى الرغم من أن الكاتب يقسم روايته الى فصول عديدة: (الموازين والسلالم، المياه وحرائقها، كمائن الفراغ، أحلاف الغيم، القيامة ). فانه لا يبدد من آلية تسلسل الأحداث، بل إن هذه العناوين بحد ذاتها هي إضافات أخرى لحالة الانطواء والعزلة في نفوس أشخاصه، أولا.
وثانيا: تأكيد للغة استبطانية تدعونا للدخول في عالم روا يته (السحري) إلا انه عالم موجود لكنه معزول، وبعيد عن متناول أيدي الباحثين وعلماء الأجناس والجغرافيات، وربما هذا ما يستدعي من الكاتب أن (يغال ) في تقديمه لكل هذه التفاصيل، والدقائق في الحياة اليومية لأشخاصه، لاسيما النساء، فلهن دائما، الحضور الأكثر، والأخصب في كتاباته.
والآن ليس لي إلا أن أوجد خطوطا رئيسية، تسير عليها الأحداث في " معسكرات الأبد"

  1. أحداث ترسمها بنات موسى سوزان، وحفيدته هبة.
  2. أحداث تحركها شخصيات موسى سوزان، وزوجته
    خاتون نانو، وصهرهما أحمد كالو، ومن ثم حين يعودون أشباحا بعد مقتلهم.!
  3. أحداث يقوم بها ضيوف طارئون، " مكين وأختاه: نفير وكليمة "، ومعهم "حمال الأمتعة والأقفال يدعونه بـ، " الكلب".!
  4. أحداث تتعلق بأعمال الحامية الفرنسية فوق الهضبة وفي المنطقة بشكل عام.
  5. أحداث يشترك بها الديكان "رش " و "بلك " وثلاث إوزات، وكلبان "توسي وهرشه ".
  6. أحداث متفرقة تتعلق بانتفاضات (انتفاضة الشيخ سعيد آغا الأقوري) وبدو.. وغجر.. وهداهيد والسائق نعمان حاج مجد لو، وحارس النهر جاجان بوزر، وطيور و..

ومن خلال هذا الترسيم، أو الفرز (القسري) يمكن لنا الآن أن نتحدث عن البنية، أو الهيكلية التي تقوم عليها الأحداث الروائية في "معسكرات الأبد":
بعد أن يزوج موسى سوزان ابنته هالة _ "أحمد كالو" ينضم هذا الأخير الى العائلة، تاركا والديه وأخرته، وما أن يعلن سعيد آغا الأقوري عن انتفاضته المزمعة ضد الوجود الفرنسي حتى يقرر موسى وصهره أحمد الالتحاق بها، فيذهبان الى بلدة "عامودا:" للانضمام الى رجال الأقوري؛ لكنما الانتفاضة تنكسر ويتشتت شمل المنتفضين، بين قتيل وجريح وفار، كيف لا، وهم يحار بون بالي، وبعض الأسلحة البدائية، على ظهور الخيل والبغال، جيشا قويا يستخدم الطائرات، والمدافع وفي آخر معركة بين الطرفين، يفر الأقوري باتجاه الحدود نحو كردستان الشمالية
(في تركيا). ليختفي من الأحداث، بعد مصير مجهول ويعود بعد فترة شبحا، يشارك الأشباح الأخرى في تحريك أقدار الآخرين على " قيد الحياة ".
أما موسى موزان وصهره أحمد كالو فينجوان من الموت، ويعودان الى "البلدة المتناثرة "، كي يقوما بعمل آخر، وهو فتح ساقية أو مجرى مائي من النهر الصغير المار بالقرب من الهضبة محاولين إيصال هذا المجرى الى بيت غامض، تخفيه أشجار الترتب، حيث ينبعث من أساسات هذا البيت دوي هائل كصوت الطاحون، وحين يسأل أحمد كالو عن هدفهما من هذا العمل اليومي الشاق، يرد عليه موسى سوزان قائلا: لابد من مياه يا أحمد، لابد عن مياه ليبقى مختبئا هناك، مشيرا بيده الى المنزل غربي الجسر. ص 103.
وهذا المختبئ هو "المخلوق الناري" كما يسميه الكاتب، وكما يصفه موسى لصهره، ولذلك فعليهم أن يوصلوا المجرى بأساسات هذا البيت ليتبرأ جسم المخلوق هذا: ويظل المخلوق الناري مختبئا في ذلك البيت المهجور، وكأنه القدر الأخير لشعب كامل، يخفي آخر أثر منه كي لا يلفيه المتسلطون وقد قرروا أن يلفوا ويمحوا كل ما يدل على معالم وهوية هذا الشعب. ص 104.
أما بنات موسى موزان وحفيد ته هبة، فيحركن الأحداث عبر خيوط خفية وهمهمات (نسائية ) لا سيما حين يرقدن في أسرتهن استعدا، وهيلنوم، إذ يستعدن تفاصيل اليوم والعالم من حولهن وينسجنها بخيالاتهن المريرة ويثرثرن عن أشياء يتداخل فيها الواقعي بالخيالي والأسطوري باليومي، وهبة هي الأحر حضورا في مسرح الأحداث، صبية فضولية بالمعنى الشمولي والأكبر، تبحث عن أي شيء وفي، كل شيء وهي لم تر طائرة من قبل، ولا السينما، ولا السفن، إلا ما سمعته من خالتها "ستيرو" وهي تصف لها صورة لسفينة "نوح " التي رست على جبل "جودي" هذا الجبل الذي يقع في الطرف الآخر من الحدود القريبة من منزلهن (في كردستان تركيا ) وهبة هي الرسول الأكثر سرعة في نقل أخبار المستأجرين لمنزلهن الغربي، لأمها وخالاتها، بل أنها ترافق أبدها وجدها أثناء عملهما اليومي، في حفر الساقية تلك، كما وأنها تحاول مع المستأجرين، فيما بعد الوصول الى ذلك البيت - حيث المخلوق الناري - وقد صار هذا الأمر يعنيها، دون أن تعرف لماذا وكيف ؟ وكان جدها موسى موزان يشرح لها الكثير عن ذلك البيت، والمخلوق الناري؟ وتدفعها رغبة غامضة ؟ ذات مرة أن تقوم بعمل ما ضد هؤلاء الجنود الفرنسيين، بعد مقتل والدها وجديها: وقد حاذت هبة آخر مركبة تشكل مؤخر القافلة، وهي لم تكن غير " جيب" عسكرية: تقل جنديين ؟. وهما يلويان عنقيهما صوب هبة الراكضة، التي لم تفارق عيناها وجهيهما.. وبغتة توقفت الفتاة عن الركض.. لتستل حجرا مل ء قبضتها وتتابع بعد ذلك ركضها صوب الجيب من جديد... فيما لاح للفتاة، للمرة الأولى، شبح بندقية مركونة الى فخذ الرجل.. فخففت من هرولتها، ثم أرخت يدها المرفوعة بالحجر وتوقفت في منتصف الطريق الإسفلتي تشيع القافلة ببريق في عينيها لم يكن غضبا، بل هو لهفة الى المضي في لعبة تؤجل مرحها.. وقد أرخت هبة بعد ذلك قبضتها عن الحجر دون أن تسقطه. ص 68- 69.
والنساء الخمس، إذن، يؤجرن المنزل الغربي لضيوف طارئين، دخلوا البيت أثناء غيابهن وحين عدن من التقاط الحشائش قرب النهر - الذي يحرسه جاجان بوزر، من قدر خفي - تفاجأن بوجود هؤلاء في منزلهن ! (مكين وأختاه نفير وكليمة، و مخلوق حمال الأقفال والأمتعة، وكانوا يدعونه "الكلب ")!! وبعد مداولات ونقاشات يحسمن الأمر ويؤجرن المنزل لهؤلاء الذين يحملون معهم الكثير من الخرائط والرقائق والمعادن والأقفال، وكأنهم " بعثة للآثار" ويبدو أنهم قد أتوا من كردستان الشمالية (في تركيا)، وفي الليلة الأولى، يدفع الفضول ببنات موسى لاكتشاف سر هؤلاء الضيوف، فيرسلن هبة تحمل لهم طعام العشاء، ومن ثم تستطلع أخبارهم، وحين تدخل غرفتهم تجد أن كل شي ء قد تبدل، وكان مكين يجلس قبالة "الكلب" ينظر كل منهما في الآخر وبينهما قطع الحديد والأقفال في حين كانت كليمة متكئة بمرفقها على وسادة وأمامها رقعة جلدية مستطيلة عليها رسوم وخرائط عليها إشارات وخطوط ومربعات، تقول كليمة لهبة التي جلست تتفرس معها في الرقعة الجلدية: هذا جلد مرسوم عليه بيتكم.. وفي الأسفل.. هذا هو الجسر، تعرفين ا، "تعرفين" يستطردت وهذا مؤكدة:هر، "تعرفين الجسر؟"، فتمتمت هبة مؤكدة: تنزله إوزاتنا كل يوم، وهذه هي الهضبة أضافت كليمة.. ثم نقلت بصرها مسافة صغيرة: "هذا..." وتضيف هذا موقع الجن !
- أتعنين الجن حقا؟
-"الجن !" رددت كليم العبارة ضاحكة وهي تبدي استغرابا كأنما لم تتفوه باسم تلك المخلوقات قبل برهة ثم غمزت هبة بإحدى عينيها: "الجن ؟" لابد أنها تسكن هذا المكان " وطأطأت فاختفى وجهها في الظل الذي انسدل كقناع عليه: إلا
تسمعين الصخب ؟. ص 34.
وبعد أن تشير لها كليمة على الخريطة وتشرح لها الأماكن موضعا إثر موضع بدأت الأسئلة المؤجلة عن ذلك البيت، الخفي بين شجرات التوت:
- لابد أن أحدا زار هذا البيت.
فردت هبة دون مقاومة: "أبي كان يزوره مع جدي".
- أبوك وجدك، قالت كليمة دون أن يكون في نبرتها أي تساؤل، فكرت هبة: " أبي وجدي من زمن بعيد".
وحين تعود هبة من عندهم، تبدأ أمها وخالاتها بالأسئلة عن المستأجرين، إلا أن هبة تتردد في الإجابات الكافية لفضولهن ؟ وعندما يكتفين بما عرفنه من أخبار الضيوف، يقررن النوم إلا أن هبة لم تستطع النوم: بل ألقت فكرها الى مكين الذي بدا لها - حين نظرت إليه لمحا، في جلسته قبال "الكلب " - قريب الملامح الى شخص ما، لم تتأكد ذاكرتها أنها رأته بل توجسته. وقد عمدت "هبة " الى مقارنة غير مفصلة بين "مكين " وأبيها "أحمد كالو" فتشتت حكمها.. بينما قربت هبة رأسها أيضا من وسادة أمها لئلا تسمع همسها خالاتها:
- أكانت لأبي غمازتان ؟
غمغمت "هدلة " حروفا غير مفهومة... كانت أبعد، قليلا، في فكرها، من أن يصلها سؤال هبة الصغير. وهو سؤال لم يصل - بالطبع - مسامع الكلبين "توسي " و "هرشة " المتكومين داخل فجوة في سور الخرنوب، ولو وصل مسامعهما لما حرك فيهما ساكنا ص 52.
وسليم بركات له الشأن الأكبر مع هذه الجهة، في كتاباته فالجغرافيا هي من الشواغل الهامة في هذه الكتابات، وللمكان سلطته الأقوى على الدوام، المكان بكل حيراته، من طيور ونبات وحيوان وإنسان. وله فلسفته الخاصة في تناول المكان : "إنها النعمة أن يردك المكان " وصمت برهة يتأمل وجه صهره المشتت في ظل نقابه : "نحن لا نرى هذا الذي نواه " قال ذلك مقتربا من صهره الشاب المغلوب على أمر أسئلته الخفية : "المكان هو الذي يرانا، يا أحمد" وكأنما استدرك الجملة التي كانت مدخلا ال محاور تهما، فتمتم على نحو من يقنع شخصا، بكلام فيه يقين أخير: "حين يتغير المكان.. حين.." وتطلع من حوله مستجليا دائرة كبيرة من ذلك المدى الترابي:"نغادر هذه الهضبة، حين تتغير هذه الهضبة." ص 130- 131.
وفي مكان سابق يقول على لسان موسى: "حين نعرف شخصا ما، نعرف المكان أيضا"، ص 81 والكتابة عن المكان لا تأتي كتحصيل حاصل ؟ بل نجد المكان يؤثر بالحدث الروائي ووحدة السرد مع العلاقة القوية بشخوص الرواية من جهة، ومن جهة ثانية _"المكان وكائناته "، ثمة صلات عاطفية مكتومة أو معلنة يفصح عنها الكاتب بوضوح، فهناك عراك دائم بين الديكين "رش " و "بلك " وكأنهما الصدى الخافت أو الصورة الغامضة لبشر البلدة المتناثرة جميعهم وثمة كلبان "توسي"، و" هرشة " وإوزات ثلاث وهداهيد ودجاج وغربان تمر مسرعة من فوق الهضبة وهي تحدق بعينيها الى أقدار الأرض، ويفتتح - كما قلت -
روا يته بعراك الديكين هذا العراك الذي هو على الأغلب نذير حادث أو حوادث تقع، لكائنات حية، أو لا مرئية، حيث تشارك هي الأخرى في الأحداث (الأشباح العائدة ): والأرجح أنهما - كديكين لا ينطقان - لن يفسرا ذعرهما قط لأحد، إلا أن عيني شبح "خاتون نانو" كان في مستطاعهما رصد القلق العارم للطيرين، الذي هو مؤشر كل مرة على حدوث ما يحدث بين فترة وأخرى منذ الأزل أسفل الهضبة. ص 219.
والكتابة التاريخية هذه لا تأتي - كما قلت - ضمن سياق تاريخي محض، أو وصف لمشاهد من حياة آفلة، أو على شاكلة وصف سياحي! بل هي بحث عميق في ماهية ووجود هذه الهوية البشرية التي ينتمي إليها، فشخوص رواياته مكسورة، ومقبلة دوما على مصائر تراجيدية، وهناك على الدوام إحباط نهائي لكل البطولات الخرافية التي تقدم عليها هذه الشخصيات، ولعل هذا يعود الى ذاكرة الكاتب الطفولية، فالبقعة الجغرافية التي عاش فيها الكاتب طفلا، هي بقعة مريرة، عنيفة ومتوحشة. أطفال يضعون نبات الخشنة في أنوفهم لتسيل دماؤهم ويتباهون بالذي تسيل دماؤه أكثر! هكذا أراد لهم الكبار، أن يقوموا بما عجزوا عنه، من قبل.
وهذه العودة الدائمة الى الطفولة لدى الكاتب، هي بمثابة اقتصاص وثأر من ذاك التاريخ كله فماذا كانت تفعل تلك المداحل والآلات على الهضبة في "معسكرات الأبد" ؟ لم يجرؤ أحد على إجابة كان يعرفها الكثيرون، ولا العمال كانوا ليسألون عن غاية ما يقومون به: إنهم بتحديد بسيط لم يسألوا عن غاية عملهم، إذ حسبهم - كما قيل لهم - أن يمعنوا في جعل السهل المترامي مستويا كظهر جندب، قبل رصفه بحجارة تفرغها الشاحنات أكواما ينهالون عليها بالمطارق حتى تتشظى رقيقة ثم تأتي المداحل فتسويها بالأرض. ص 136.
والجانب الآخر الذي أود التطرق له فهو الجانب الشعري في الرواية، وأقول "الجانب الشعري" والواقع أن الرواية عند سليم بركات هي رواية شعرية، أكيدة، وهو ذو حساسية عالية في قضايا الوعي الجمالي اللغوي وكثيرا ما يقودنا - وعيه هذا - الى قراءة صفحات عدة في الرواية كقراءة شعرية فحسب، لولا أنه يعيدنا سريعا الى الحدث الروائي، أو الزمن الذي تلفيه هذه الكتابة الشعرية، وبذلك فالزمن في الرواية هو على الأغلب منداح وتدويري ويتم التعامل مع الزمن من خلال علاقته بكل شخصية على حدة، ففي الزمن الذي كانت "هبة " تهرول وراء الجيب العسكري، كان في الزمن نفسه، تقوم الأشباح العائدة من موتها بمشاغلها والكاتب يشير الى هذه المسائل الزمنية خلال سرده للأحداث، وهذه الإشارة من جانب الكاتب تأتي مقابل الزمن الملغي أثناء الكتابة "الشعرية " والتي هي إحدى ضرورات الحبكة الروائية المحكمة لديه، ومن هنا يمكن القول: إن هناك مستويات عديدة في اللغة الشعرية التي يسوغها الكاتب ويكتب بها روايته، إذ أن المستوى الأول والأهم
_ يه كما أرى هو ذلك النزوع أو الميل الشديد والعنيف نحو لتكثيف اللغوي، حيث ينزاح "المباشر" أو "الوضوح" و"الإنشاء لمدومي" الذي يقع فيه غيره من كتاب هذا النوع من الرواية. لحظة التخيل للحظة هي التي تدفعه لهذه اللغة الشعرية، أو لمجازية، ولا بأس من أن تكون الرواية هي الأخرى تحمل على صفحاتها ذلك الأفق المفتوح على نصوص مفتوحة على مدى مخيلة القارئ، ولم لا يكتب "الرواية بعدة الشعر، والشعر بعدة الرواية ": ليس غاية الكاتب في النهاية الاختلاف: والذي يميز اللغة الشعرية دي سليم هي أنها بمثابة الفعل المساعد لتفجير المعنى، حتى وإن كانت هذه اللغة لا تستخدم ز غير المكان الذي حدده "الأسلاف" أكثر اللغة مجاز، وليست حقيقة، كما يرى ابن جني.
ولهذا أيضا قد يصعب على الكثيرين اكتشاف ما يسمى _(المحلية ) في هذه الأعمال، رغم إنها تكاد تضج وتتفجر:لتصدقها الشديد، بذاك العالم، الواقعي والوحشي والمجهول _لنسبة للآخرين، بل واقعية سليم و(محليته لم هما منبع لغرائبية لديه، إذ يجهل القارئ المكان الذي يكتب عنه ومنه لكاتب، فمن يعتقد أن "جاجان بوزر" الذي لا عمل لديه إلا تراسة ماء النهر، ليلا ونهارا، أو مطاردة الغيوم، هي شخصية ن أبناء أفكار الكاتب، فهذه مشكلته في فهم (الواقعية لمريرة، أو حتى الواقعية الاشتراكية ) وليست مشكلة الكاتب.!!
والحقيقة أن هذه الشخصيات (الأسطورية لم ربما كان غلبها على قيد الحياة، ما تزال في تلك البلدة "المتناثرة شمالا" - قامشلي - وهذا الواقع (السحري ) يبتدعه الكاتب، ليبهر به لقراء، وهو لم يصنعه بكل تأكيد، بقدر ما هو من صنع " دول " "أنظمة " أرادت له أن يكون هكذا، فكان. وسليم بركات يدخل هذا (السحر المرير) بلغة هي من حقه أن يتخذها (سلاحا) يقتص من كل الأحداث والغرائبيات التي عاشها هناك. ومثلما افتتح الكاتب روايته بعراك الديكين " رش " و "بلك " فهو ينهي لرواية بهما وكأنهما الشاهدان الوحيدان، يتعاركان على حقيقة مخفية، ومخيفة، هي حقيقة ذاك " الشمال " الذي يتجه إليه مليم بركات كلما فرش أمامه سجادة الكتابة، ليكتب.
يتحدث في آخر سطوره عن الديكين: "كانا دون صوت في عراكهما هذا، على غير عادتهما التي درجا فيها على الصياح الاستعراضي الكثير...ما ريشهما فلم يكن ريشا ذلك اليوم بل هالات من شحوب الغيم تمس جسديهما وتنفصل، تتمزق وتلتحم، وهما يتدحرجان دائريا على الطريق الإسفلتي المنحدر شمالا صوب الجسر الصغير الذي لا عمر له. وحين جاوزا الجسر انحدرا غربا، من الحافة العالية للطريق، ليغيبا بين شجرات التوت. ص 270".
وبعد، قد يجد القارئ نفسا ينزلق هو الآخر "شمالا" ويتجه صوب شجرات التوت، التي تخفي ذلك البيت الغامض، حيث لمخلوق الناري، وهناك، حين نصل الى سؤال يمكن لنا أن نلقيه على شبح أكيد، متبق من آثار ذلك المخلوق الذي رحل الى جهة..المياه ؟!

نزوى